تسجيل الدخول


الزهري

الزُهْريُّ، واسمه: محمد بن مُسلم بن عُبيد الله:
يُكنى أبا بكر، وقال محمد بن عمر: ولد الزُّهْري سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان وهي السنة التي ماتت فيها عائشة زوج النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأمه عائشة بنت عبد الله الأكبر بن شهاب، وقالُ الزّهري: نشأتُ وأنا غلام، لا مال لي مُقطعًا من الديوان، وكنت أتعلم نَسَب قومي من عبد الله بن ثعلبة بن صُعَيْر العدويّ، وكان عالمًا بنسب قومي وهو ابن أختهم وحليفهم، فأتاه رجل فسأله عن مسألة من الطلاق فَعَيِي بها، وأشار له إلى سعيد بن المُسَيِّب، فقلت في نفسي: ألا أراني مع هذا الرجل المُسِنّ يعقل أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مسح على رأسه وهو لا يدري ماهذا! فانطلقت مع السائل إلى سعيد بن المسيّب فسأله فأخبره، فجلست إلى سعيد وتركت عبد الله بن ثعلبة، وجالست عُروة بن الزُّبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث حتى فَقِهت، فرحلت إلى الشأم، فدخلت مسجد دمشق في السحر فأمَّمت حلقة وِجاه المقصورة عظيمةً، فجلست فيها، فنسبني القوم، فقلت: رجل من قريش، من ساكني المدينة، قالوا: هل لك علم بالحكم في أمهات الأولاد؟ فأخبرتهم بقول عمر بن الخطّاب في أمهات الأولاد، فقال لي القوم: هذا مجلس قَبِيصَة بن ذُؤيب، وهو جائيك، وقد سأله عبد الملك عن هذا، وسألنا فلم يجد عندنا في ذلك علمًا، فجاء قبيصة فأخبروه الخبر، فنسبني فانتسبت، وسألني عن سعيد بن المسيّب ونظرائه فأخبرته، قال: فقال: أنا أُدْخِلُك على أمير المؤمنين، فصلى الصبح، ثم انصرف فتبعته، فدخل على عبد الملك بن مروان، وجلستُ على الباب ساعة حتى ارتفعت الشمس، ثم خرج فقال: أين هذا المديني القرشي؟ قال: قلت: هأنذا، قال: فقمت فدخلت معه على أمير المؤمنين، قال: فأجد بين يديه المصحف قد أطبقه وأمر به يُرفع وليس عنده غير قَبيصة جالس فسلمت عليه بالخلافة، فقال: من أنت؟ قلت: محمد بن مسلم بن عُبيد الله، فقال: أوَّه، قوم نَعَّارُون في الفتن، قال: وكان مسلم بن عُبيد الله مع ابن الزُّبَيْر، ثم قال: ماعندك في أمهات الأولاد؟ فأخبرته، فقلت حدّثني سعيد بن المسيّب، فقال: كيف سعيد، وكيف حاله؟ فأخبرته، ثم قلت: وحدّثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، فسأل عنه، قلت: وحدّثني عُروة بن الزُّبَيْر، فسأل عنه، قلت: وحدّثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فسأل عنه، ثم حدّثته الحديث في أمهات الأولاد عن عمر بن الخطّاب، قال: فالتفتَ إلى قَبِيصَةَ بن ذُؤَيب، فقال: هذا يُكتب به إلى الآفاق، قال: فقلت لا أجده أخلا منه الساعة، ولعلّي لا أدخل بعد هذه المرة، فقلتُ: إن رأى أميرُ المؤمنين أن يَصِلَ رحمي، وأن يفرض لي فرائض أهل بيتي ــ فإني رجل مُقطع لا ديوان لي ــ فعل. فقال: إِيهًا الآن! امض لشأنك، قال: فخرجتُ والله مؤيسًا من كل شيء خرجتُ له، وأَنا والله حينئذٍ مُقلُّ مُرْمِلٌ، فجلست حتى خرَج قَبيصة فأقبل عليَّ لائمًا لي فقال: ماحملكَ على ما صنعتَ من غير أمري ألا استشرتني؟ قلتُ: ظننتُ والله أن لا أعود إليه بعد ذلك المقام، قال: ولمَ ظننتَ ذاك؟ تعود إليه، فالحق بي، أو قال ائتني في المنزل، قال: فمشيتُ خَلف دابته، والناس يكلِّمونه حتى دخَل منزله، فقلّما لبث حتى خرج إليَّ خادم برقعةٍ فيها: هذه مائة دينار قد أمرتُ لك بها، وبَغلة تركبها، وغلام يكون معك يخدمك، وعشرة أثواب كسوة، قال: فقلت للرسول ممن أطلب هذا؟ فقال: ألا ترى في الرقعة اسم الذي أمرك أن تأتيه؟ قال: فنظرت في طرف الرقعة فإذا فيها تأتي فلانًا فتأخذ ذلك منه قال: فسألت عنه، فقيل: ها هو ذا، هو قَهْرَمَانِهِ، فأتيته بالرقعة فقال: نعم فأمر لي بذلك من ساعته، فانصرفت وقد رَيَّشني وجبرني، قال: فغدوت إليه من الغد وأنا على بغلته، وسرجها فسرت إلى جانبه فقال: احضر بابَ أمير المؤمنين حتى أوصلك إليه قال: فحضرتُ للوقت الذي وعدني له فأوصلني إليه، وقال: إياك أن تكلمه بشيء حتى يبتدئك وأنا أكفيك أَمْرَه، قال: فسلمت عليه بالخلافة فأومأ إليَّ أن اجْلِسْ، فلما جلستُ ابتدأ عبد الملك الكلام، فجعل يسائلني عن أنساب قريش، وهو كان أعلم بها مني، قال: وجعلت أتمنى أن يقطع ذلك لتقدمه عليَّ في العلم بالنسب، قال: ثم قال لي: فرضت لك فرائض أهل بيتك، ثم التفت إلى قبيصة فأمره أن يثبت ذلك في الديوان، ثم قال: أين تحب أن يكون ديوانك مع أميرالمؤمنين ها هنا؟ أم تأخذه ببلدك؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين إنا معك، فإذا أخذتَ الديوان أنت وأهلُ بيتك أخذته قال: فأمر بإثباتي وبنسخة كتابي أن يوقع بالمدينة، فإذا خرج الديوان لأهل المدينة قَبَضَ عبدُ الملك بن مروان وأهلُ بيته ديوانَهم بالشأم، قال الزهريّ: ففعلت أنا مثل ذلك، وربما أخذته بالمدينة لا أصد عنه، قال: ثم خرج قَبيصة بعد ذلك، فقال إن أمير المؤمنين قد أمر أن تُثبت في صحابته، وأن يُجرى عليك رزق الصحابة، وأن ترفع فريضتك إلى أرفع منها، فالزم باب أمير الؤمنين قال: وكان على عرض الصحابة رجل فظّ غليظ يعرض عرضًا شديدًا، قال: فتخلفت يومًا أو يومين، فَجَبَهَنِي جبهًا شديدًا فلم أعد لذلك التخلف، وكرهت أن أقول لقبيصة شيئًا في أول ذلك، ولزمت عسكر عبد الملك، وكنت أدخل عليه كثيرًا، قال: وجعل عبد الملك فيما يسائلني يقول: مَن لقيتَ؟ فجعلت أسمي له، وأخبره بمن لقيت من قريش لا أعدوهم، فقال عبد الملك: فأين أنت عن الأنصار؟ فإنك واجد عندهم علمًا، أين أنت عن ابن سَيِّدِهم خارجة بن زيد بن ثابت، أين أنت عن عبد الرحمن بن يزيد بن جارية، قال: فسمَّى رجالًا منهم، قال: فقدمت المدينة فسألتهم وسمعتُ منهم ـــ يعني الأنصار ـــ وجدتُ عندهم علمًا كثيرًا، قال: وتوفي عبد الملك بن مروان، فلزمت الوليد بن عبد الملك حتى توفي، ثم سليمان ابن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك، فاستقضى يزيد بن عبد الملك على قضائه الزُّهْري، وسليمان بن حبيب المحاربي جميعًا، قال: ثم لَزمتُ هشام بن عبد الملك، قال: وحج هشام سنة ست ومائة، وحج معه الزُّهْري، فصيَّره هشام مع ولده يعلِّمهم، ويفقِّههم، ويحدّثهم، ويحجّ، معهم فلم يفارقهم حتى مات بالمدينة.
وقال مَخْرَمة بن بُكير: لقيت ابن شهاب وأنا أذهب إلى مصر وهو مقبل من الشأم ببعض الطريق فرأيته يصلّي في مِمْطر ليس عليه رداء، وقال الزَّنجي: رأيت الزُّهْري يصبغ بالسواد، وقال مالك: رأيته يُخضِّب بالحِنَّاء، وقال المُنْكَدِر بن محمد، قال: رأيت بين عَيْنَي الزُّهْري أثر السجود، ليس على أنفه منه شيء، وروى إبراهيم بن سعد، عن أبيه، أن هشام بن عبد الملك قضي ديْن ابن شهاب ثمانين ألف درهم، قال: وسمعت أبي وهو يُعاتب ابن شهاب في الدَّيْن، ويقول له: قد قضى عنك هشام بن عبد الملك ثمانين ألف درهم، وقد عرفت ما قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في الدَّيْن، قال ابن شهاب لأبي: إِني أعتمد على مالي، والله لو بقيت لي هذه المَشْرُبة ثم مُلئت إلى سقفها ذهبًا أو ورِقًا ـــ قال إبراهيم: أنا أشك ـــ ما رأيته عوضًا من مالي، قال إبراهيم: وهما إذ ذاك في مَشْرُبة.
وروى عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه، قال: كان الزُّهْري يقدح أبدًا عند هشام بن عبد الملك في خلع الوليد بن يزيد، ويعيبه، ويذكر أمورًا عظيمة لا ينطق بها، حتى يذكر الصبيان أنَّهم يُخضِّبون بالحِنَّاء، ويقول لهشام: ما يحل لك إلاَّ خلعه، فكان هشام لا يستطيع ذلك، للعقد الذي عقد له، ولا يسوءه ما يصنع الزُّهْري رجاء أن يُؤلِّب ذلك الناس عليه، قال أبو الزِّنَاد: فكنت يومًا عند هشام في ناحية الفُسْطاط، وأسمع ذَرْوَ كلام الزُّهْري في الوليد وأنا أتغافل، فجاء الحاجب، فقال: هذا الوليد على الباب، فقال: أدخله، فأدخله، فأوسع له هشام على فراشه، وأنا أعرف في وجه الوليد الغضب والشر، فلما استُخلف الوليد بعث إليَّ وإلى عبد الرحمن بن القاسم، وابن المُنكَدِر، وربيعة، فأرسل إليَّ ليلة مُخليًا بي فقدّم العشاء، فقال لي بعد حديث: يابن ذكوان، أرأيت يوم دخلتُ على الأحول وأنت عنده، والزُّهْري يقدح فيَّ؟ أتحفظ من كلامه يومئذٍ شيئًا؟ فقلت: يا أمير المؤمنين أذكر يوم دخلت، وأنا أعرف الغضب في وجهك قال: كان الخادم الذي رأيت على رأس هشام نقل ذلك كله إليَّ وأنا على الباب قبل أن أدخل إليكم، وأخبرني أنك لم تنطق فيه بشئ، قال: قلت: نعم، لم أنطق فيه بشئ يا أمير المؤمنين، قال: قد كنت عاهدت الله تعالى لئن أمكنتني القدرة بمثل هذا اليوم أن أقتل الزُّهْري فقد فاتني.
أُخْبِرْتُ عن عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، أنَّ أبا جبلة كان أسلف ابن شهاب الزُّهْري ثلاثِين دينارًا في منزله، فقضاه بعشرة دنانير فقال له: أتخشى أن يدخل علينا في هذا شيء؟ فضحك الزهري وقال: هذا حقك قضيناك، وهذه جائزة أجزناك بها، وقال شيخ من أخوال الزُّهْري من بني نُفاثة من بني الدِّيل: أخدم الزُّهْري في ليلةٍ خمسَ عشرة امرأة كل خادم بثلاثين دينارًا ثلاثين دينارًا بعينه، العشرة خمسة عشر، وقال سفيان: وكان الزُّهْري يُعرض عليه الشئ، قال: وجاء إليه ابن جُريج فقال: إني أريد أن أعرض عليك كتابًا، فقال: إن سعدًا قد كلمني في ابنه وسعد سعد، فقال لي ابن جُريج: أما رأيته يَفْرَق منه، فذكر حديث أبي الأحوص فقال له سعد: ومن أبو الأحوص؟ قال: أما رأيت الشيخ الذي بمكان كذا وكذا؟ يصفه له، قال سفيان: وأجلس الزُّهْري عليّ بن زيد معه على فراشه، وعلى الزهري ثوبان قد غُسلا فكأنه وجد ريح الأشنان، فقال: ألا تأمر بهما فيُجَمّرا، وجاء الزُّهْري عند المغرب فدخل المسجد، ماأدري طاف أم لا؟ فجلس ناحية وعمرو مما يلي الأساطين، فقال له إنسان: هذا عمرو، فقام فجلس إليه، فقال له عَمْرو: ما منعني أن آتيك إلا أني مُقعد، فتحدثا ساعةً وتساءلا، وكان الزُّهْري إذا حدث قال: حدّثني فلان وكان من أوعية العلم.
وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن وُهيب قال: سمعت أيوب يقول: ما رأيت أحدًا أعلم من الزُّهْري، فقال صَخْر بن جُوَيرية: ولا الحَسَن؟ وقال عبد الرحمن بن مهدي: عن حمّاد بن زيد، عن بُرْد عن مكحول قال: ما رأيتُ أحدًا أعلم بسنة ماضية من الزُّهْري، وقال عبد الرحمن بن عبد العزيز: دخل عبيد الله ابن عمر، ومالك بن أنس على الزُّهْري، وعيني الزُّهْري بهما رطوبة وهو منكبّ، على وجهه خرقة سوداء، فقالا: كيف أصبحت ياأبا بكر؟ فقال: لقد أصبحت وأنا مُعْتَلّ من عيني، فقال عبيد الله: جئناك لنعرض عليك شئيًا من حديثك، فقال: لقد أصبحت وأنا مُعْتَلّ، فقال عبيد الله: اللهم غفرًا، والله ما كنا نصنع بك هذا حين كنا نأتي سالم بن عبد الله، ثم قال: عبيد الله، اقرأ يامالك فرأيت مالكًا يقرأ عليه، فقال الزُّهْري: حسْبك عافَاك الله ثم عاد عبيد الله فقرأ، قال عبد الرحمن: فرأيت مالكًا يقرأ على الزُّهْري.
وقال الواقدي: ورأيت أيوب يعرض عليه العلم فيجيزه، وكان منصور بن المُعْتمِر لا يرى بالعراضة بأسًا، وما رأيت مثل الزُّهْري في وجهه قط، وما رأيت مثل حمّاد في وجهه قط، وقال الزُّهْري: مسَّت ركبتي ركبة ابن المسيّب ثماني سنين، وقال الواقدي: حج عمر بن عبد العزيز وأنا معه فجاءني سعيد بن جُبير ليلًا وهو في خوفه فدخل عليَّ منزلي، فقال: هل تخاف عليَّ صاحبك؟ فقلت: لا، بل ائمن.
وروى الزُّهْري أن رجلًا قال لعمر بن الخطّاب: ألا أكون في منزلة من لا يخاف من الله لومة لائم؟ فقال: إما أن تليَ من أمر الناس شيئًا فلا تخف من الله لومة لائم، وإما أنت خِلو من أمرهم فأكبّ على نفسك، وأمر بالمعروف وانهَ عن المنكر، وروى الزُّهْريّ أيضًا أَنّ هشامًا استعمل ابنه أبا شاكر واسمه مَسْلَمة بن هشام على الحج سنة ست عشرة ومائة، وأمر الزُّهْري أن يسير معه إلى مكة، ووضع عن الزهريّ من ديوان مال الله سبعة عشر ألف دينار، فلما قدم أبو شاكر المدينة أشار عليه الزُّهْري أن يصنع إلى أهل المدينة خيرًا، وحضَّه على ذلك، قأقام بالمدينة نصف شهر، وقسَّم الخُمُس على أهل الديوان، وفعل أمورًا حسنة، وأمره الزُّهْري أن يُهِلَّ من مسجد ذي الحُلَيْفة إذا ابتعثَتْ به راحلته، وأمره محمد بن هشام بن إسماعيل المخزوميّ أن يُهِلَّ من البَيْدَاء، فَأَهَلَّ من البيداء، ثم استعمل هشام بن عبد الملك على الحجّ سنة ثلاث وعشرين ابنه يزيد بن هشام بن عبد الملك، وأمر الزُّهْري فحج معه تلك السنة، قال: وقال عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك بن أنس، عن الزُّهْري، قال: جَالَستُ سعيد بن المسيّب عشر سنين كيومٍ واحد، وقال الزُّهْري: سمرتُ مع عمر بن عبد العزيز ليلة فحدّثته فقال: كل ما ذكرت الليلة قد أتى على مسامعي ولكنك حَفِظْتَ ونسيتُ.
وروى عبد الرحمن بن أبي الزِّناد عن أبيه قال: كنت أطوف أنا وابن شهاب، ومع ابن شهاب الألواح والصُّحف، قال: فكنا نضحك به، قال: وقال الزُّهْري: لولا أحاديثُ سَالَتْ علينا من المَشْرِق نُنكرها لانعرفها، ما كتبتُ حديثًا ولا أذنت في كتابه، وقال الزُّهْري: مااستعدتُ حديثًا قطّ ولا شككتُ في حديث إلاَّحديثًا واحدًا فسألتُ صاحبي فإذا هو كما حفظته، وروى إبراهيم بن سعد، عن أبيه، قال: ما أرى أحدًا جَمَعَ بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما جَمَعَ ابن شهاب.
وقال سُفيان بن عُيينة: قال لي أبو بكر الهُذلي: ـــ وكان قد جالس الحسن وابن سيرين ـــ احفظ لي هذا الحديثَ لحديثٍ حدّث به الزُّهْري، وقال أبو بكر: لم أر مثل هذا الزُّهري، وقال مُطَرِّف بن عبد الله اليساري: سمعت مالك بن أنس يقول: ما أدركت بالمدينة فقيهًا محدّثًا غير واحد، قلتُ: مَن هو؟ قال: ابن شهاب الزُّهْري، وقال صالح بن كيْسان: اجتمعت أنا والزُّهْري، ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السُّنن فكتبنا ما جاء عن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: ثم قال الزُّهْري: نكتب ما جاء عن أصحابه فإنه سنّة، قال: فقلتُ أنا: لا، ليس بسنّة لا نكتبه، قال: فََكَتَبَ ولم أكتب فأنجح وضيَّعْتُ.
وروى يعقوب بن إبرهيم بن سعد عن أبيه، قال: قال أبي: ما سبقنا ابن شهاب من العلم إلاَّ أنا كنَّا نأتي فَيَسْتَنْتل ويشد ثوبه على صدره ويسأل عما يريد، وكنا تمنعنا الحداثة، وروى مَعْمَر عن الزُّهْري قال: كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدًا من المسلمين، وقال مَعْمَر: قيل للزُّهري: زعموا أنك لا تحدث عن الموالي؟ فقال: إني لَأُحَدِّث عنهم، ولكني إذا وجدت أبناء المهاجرين، والأنصار أتكئُ عليهم فما أصنع بغيرهم، قال مَعْمَر: وكنا نرى أنَّا قد أكثرنا عن الزُّهْري حتى قُتل الوليد بن يزيد فإذا الدفاتر قد حُملت على الدواب من خزانته يعني من علم الزُّهْري، قال: وقال الزُّهْري: إن كنت لآتي باب عُروة بن الزُّبَيْر فأجلس ثم انصرف، ولو أشاء أن أدخل لدخلت، إعظامًا له.
وكان الزُّهْري ثقة كثير الحديث، والعلم، والرواية، وقال شُعيب بن حرب: قال مالك بن أنس: كنا نجلس إلى الزُّهْري، وإلى محمد بن المُنكَدِر فيقول الزُّهْري: قال ابن عمر: كذا وكذا، فإذا كان بعد ذلك جلسنا إليه، فقلنا له: الذي ذكرتَ عن ابن عُمر مَنْ أخبرك به؟ قال: ابنه سالم، وقال الوليد بن مسلم، عن سلمة بن العَيَّار سمع الزهري يقول: ماهذه الأحاديث التي لا أزِمَّة لها، ولا خُطم، وقال سفيان بن عُيينة: قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحدًا أبصر بحديث من الزُّهْري، وقال محمد بن عبد الله بن أخي الزُّهْري: سمعت عمّي ما لا أحصي يقول: ما أبالي قرأت على المحدث، أو حدّثني كلامًا أقول فيه حدثنا، وقال عبيد الله بن عمر: رأيت ابن شهاب يُؤتى بالكتاب من كتبه فيقال له: يا أبا بكر هذا كتابك، وحديثك نرويه عنك؟ فيقول: نعم، ما قرأه ولا قُرئ عليه، وقال: مَعْمَر: وسمعت إبراهيم بن الوليدَ ــ رجلًا من بني أميَّة ــ يسأل الزُّهْري، وعرض عليه كتابًا من علم، فقال: أحدث بهذا عنك يا أبا بكر؟ قال: نعم، فمن يحدثكموه غيري؟، وقال الزُّهْري: نُخرج الحديث شبرًا فيرجع زراعًا ـــ يعني من العراق ـــ وأشار بيده إذا وغل الحديث هناك فرويدًا به، وكان الزُّهْري في أصحابه مثل الحكم بن عُتيبة في أصحابه يروي عنه عُروة، وسالم الشئ كذاك.
وقال الواقدي: وأتيت الزُّهْري بالرُّصافة فلم يكن أحد يسأله عن الحديث، فكان يُلقي عليَّ، وقال مَعْمَر: أول ما عُرف الزُّهْري أنه كان في مجلس عبد الملك بن مروان فسألهم عبد الملك، فقال: من منكم يعلم ماصنعت أحجار بيت المقدس يوم قُتل الحسين؟ قال: فلم يكن عند أحد منهم من ذلك علم، فقال الزهريّ بلغني أنه لم يُقلب منها يومئذٍ حجر إلاَّ وُجد تحته دم عَبِيط قال: فعُرف من يومئذٍ.
وقال محمد بن عبد الله بن أخي الزُّهْري: كان عمِّي الزُّهْري قد اتَّعد هو وابن هشام إن مات هشام بن عبد الملك أن يلحقا بجبل الدُّخان، فمات الزهري سنة أربع وعشرين ومائة قبل هشام بن عبد الملك بأشهر، وكان الوليد بن يزيد يتلهَّف لو قبض عليه. وكان الزُّهْري قد قدم في سنة أربع وعشرين ومائة إلى أمواله بثلبة بشَغْبٍ وَبَدا، فأقام فيها، فمرض هناك فمات، فأوصى أن يُدفن على قارعة الطريق، ومات لسبع عشرة ليلةً من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وهو ابن ست وستين سنة، وقالا الحسين بن المتوكِّل العسقلاني: رأيت قبر الزُّهْري بأدامي، وهي خلف شغْب وبَدَا، وهي أول عمل فلسطين، وآخر عمل الحجاز، وبها ضيعة الزُّهْري الذي كان فيها، ورأيت قبره مُسنَّمًا مُجَصَّصًا.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال