تسجيل الدخول

كُتَّابُ الوَحْيِّ كُتَّابُ الوَحْيِّ:
كُتَّاب: جمع كاتب، والكاتب عند العرب هو العالم، ومنه قوله تعالى: {أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41]، والوحي في اللغة: إعلام الغير بشيء في خفاء.
واصطلاحًا: إعلام الله تعالى لنبي من أنبيائه. وهو من خصائص الأنبياء والرسل، ويكون مباشرةً كما في تكليم الله موسى على الجبل، أو بواسطة الملائكة الذين يحملون التعاليم الإلهية إلى من اصطفاهم الله من خلقه وهم الرسل، وقد جاء ذكرُ الوحي في الديانات الثلاثة؛ اليهودية، والمسيحية، والإسلام، ويعتبر القرآن الكريم هو الوحي المنزل على النبي صَلَّى الله عليه وسلم باللفظ المنقول عنه بالتواتر حفظًا وكتابة، ويعتبر إعجاز القرآن إثباتًا لنبوته عليه السلام.
وقد اتخذ الرسول صَلَّى الله عليه وسلم كتَّابا للوحي، منهم من كان يكتب في بعض الأحيان، ومنهم من كان منقطعًا للكتابة، ومتخصصًا لها، وكلما نزل شيء من القرآن الكريم أمرهم عليه السلام بكتابته مبالغة في تسجيله، وزيادة في التوثيق والضبط والاحتياط لكتاب الله تعالى، حتى تُظاهر الكتابةُ الحفظ، ويعاضد النقشُ اللفظ، وكان هؤلاء الكتّاب من خيرة الصحابة، وكان عليه السلام يدلهم على موضع المكتوب من سورته فيكتبونه فيما يسهل عليهم من العسب ــ جريد النخل ــ واللخاف ــ الحجارة الرقيقة ــ وقطع الأديم ــ الجلد ــ والرقاع من الورق والكاغد الصَّحيفَةُ ــ قيل: تُتَّخذُ من بَرْدِيٍّ يكونُ بمِصْر ــ، ثم يوضع المكتوب في بيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولم ينقض العهد النبوي إلا والقرآن مجموع على هذا النمط.
وكتب لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عدد من الكتّاب وصل بهم بعض المؤرخين إلى ستة وعشرين كاتبًا، ووصل بهم البعض الآخر إلى اثنين وأربعين كاتبًا منهم في مكة: علي بن أبى طالب، وعثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وخالد بن سعيد بن العاص، وعامر بن فهيرة، والأرقم بن أبي الأرقم، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومى، وجعفر بن أبي طالب، وحاطب بن عمرو، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الله بن أبي بكر.
وأضيف إليهم في المدينة: أبو أيوب الأنصارى، خالد بن زيد، وأُبيُّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومعاذ بن جبل، ومعيقب بن أبى فاطمة الدوسى، وعبد الله بن عبد الله بن أُبّي بن سلول، وعبد الله بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وبريدة بن الحصيب، وثابت بن قيس بن شماس، وحذيفة بن اليمان، وحنظلة بن الربيع، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح.
وزاد بعد الحديبية: أبو سفيان صخر بن حرب، ويزيد بن أبى سفيان، ومعاوية بن أبى سفيان، وخالد بن الوليد، وجهم بن سعد، وجهم بن الصلت بن مخرمة، والحصين بن النمير، وحويطب بن عبد العزى، وعبد الله بن الأرقم، والعباس بن عبدالمطلب، وأبان بن سعيد بن العاص، وسعيد بن سعيد بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن العاص، وشرحبيل بن حسنة، والعلاء الحضرمى.
هذا وقد أضحى في المدينة لكل كاتب اختصاص تقريبًا، فكان يكتب الوحي: علي بن أبى طالب، وعثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وأبيُّ بن كعب، ويكتب للملوك والأمراء: زيد بن ثابت، ويكتب للمعاهدات: علي بن أبي طالب، ويكتب لحوائج الناس: المغيرة بن شعبة، ويكتب المدانيات في المجتمع: عبد الله بن الأرقم، ويكتب الغنائم: معيقب بن أبي فاطمة الدوسي، وعندما كان يغيب أى كاتب من هؤلاء، كان يكتب حنظلة بن الربيع، لذا عرف بالكاتب.
ومن أشهر هؤلاء بل هو إمام الكتَّاب وسيدهم: زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن البراء: لما نزلت: {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ادع لي زيدًا وليجئ باللوح والدواة والكتف أو الكتف والدواة"، ثم قال: "اكتب: لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ"، وفي الصحيح كذلك أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما اختاراه لجمع القرآن وكتابته؛ قال زيد رضي الله عنه: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه.
قال ابن حجر رحمه الله: نعم قد كتب الوحي لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جماعة غير زيد بن ثابت، أما بمكة فلجميع ما نزل بها لأن زيد بن ثابت إنما أسلم بعد الهجرة ــ أي أن جميع ما نزل قبل الهجرة كتبه كتاب آخرون غير زيد الأنصاري المدني الذي أسلم بالمدينة ــ وأما بالمدينة فأكثر ما كان يكتب زيد ولكثرة تعاطيه ذلك أطلق عليه: "الكاتب بلام العهد"، وقد كتب له قبل زيد بن ثابت: أبيُّ بن كعب؛ وهو أول من كتب له بالمدينة، وأول من كتب له من قريش بمكة: عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وممن كتب له في الجملة: الخلفاء الأربعة، والزبير بن العوام، وخالد، وأبَّان ابنا سعيد بن العاص بن أمية، وحنظلة بن الربيع الأسدي، ومعيقيب بن أبي فاطمة، وعبد الله بن الأرقم الزهري، وشرحبيل بن حسنة، وعبد الله بن رواحة". ومن كلام ابن حجر هذا يتبين لنا كثرة عدد من كتب للنبي صَلَّى الله عليه وسلم.
وقد اعتنى النبي صَلَّى الله عليه وسلم بكتابة القرآن كاعتنائه بحفظه، فلم يكتف النبي صَلَّى الله عليه وسلم بحفظ القرآن واستظهاره، بل جمع مع حفظه في الصدور حِفْظَه في السطور زيادةً في التوثق والضبط والاجتهاد، فكان القرآن ينزل شيئًا فشيئًا، وكلما نزل شيءٌ قرأه النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وعلَّمه أصحابه، وبلغ من عناية النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالقرآن مبلغًا عظيمًا أنه كان يحثهم على كتابته، فعن عُثْمَانُ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ وَهُوَ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّوَرُ ذَوَاتُ الْعَدَدِ، فَكَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ دَعَا بَعْضَ مَنْ كَانَ يَكْتُبُ فَيَقُولُ: "ضَعُوا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا" وَإِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآية يَقُولُ: "ضَعُوا هَذِهِ الآية فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا""، وكان نزول القرآن على غير الترتيب الذي نقرؤه الآن في السور الكريمة، بل كان ذلك الترتيب من بعد النزول بعمل النبي صَلَّى الله عليه وسلم بوحي من الله تعالى، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لهم كما نُقل: "ضعوا آية كذا في موضع كذا"، فتكون بجوارها متسقة متلاحقة المعنى مترابطة متناسقة اللفظ تلتقي بها كأنها لقف معها، وكأنهما كلام واحد قيل في زمن واحد أحدهما لاحق والآخر سابق، وكأن المتكلم قالهما في نفس واحد من غير زمن بينهما يتراخى أو يتباعد، وذلك من سر الإعجاز، ولا غرابة في ذلك لأن القائل واحد؛ وهو الله سبحانه وتعالى العليم الخبير، ولذلك كان ترتيب القرآن الكريم في كل سورة بتنزيل من الله تعالى، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يعرضون على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما لديهم من القرآن حفظًا وكتابة كذلك، ولم ينتقل الرسول صَلَّى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا والقرآن كله مكتوب مسطور بالأحرف السبعة غير مجموع في مصحف واحد، ولذلك قال الزركشي: وإنما لم يكتب في عهد النبي صَلَّى الله عليه وسلم مصحف لئلا يفضي إلى تغييره كل وقت، فلهذا تأخرت كتابته إلى أن كمل نزول القرآن بموته صَلَّى الله عليه وسلم، والأدلة على كتابة القرآن في عهد النبي صَلَّى الله عليه وسلم كثيرة منها:
قوله صلَّى الله عليه وسلم: "لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن ومن كتب عني غير القرآن فليمحه"، وقول الصديق لزيد بن ثابت: "إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك كنت تكتب الوحي لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم". وعندما نَزَلَ قوله تعالى: {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية، جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَأْمُرُنِي إِنِّي ضَرِيرُ الْبَصَرِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الآية {غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ} الآية، فَقَالَ النَّبِيُّ صلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ائتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ أَوِ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ".
وتُوفي رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم والأمة الإسلامية قد حفظت القرآن واستظهرته وكتبته بالطرق والوسائل الموجودة لديها، وكانت هذه الكتابة ملحوظًا فيها أن تشمل الأحرف السبعة غير أن بعض الصحابة كان قد كتب منسوخ التلاوة وبعض ما هو ثابت بخبر الواحد، وربما كتبه غير مرتب، ولم يكن القرآن على ذلك العهد مجموعًا في صحف ولا مصاحف عامة، ولم يجمع القرآن يومئذ في مصحف واحد أو مصاحف للأسباب الآتية:
لم توجد الدواعي لجمعه كما وجدت في عصر أبي بكر وعثمان، فالمسلمون بخير والحفاظ بكثرة، وأكثر الناس يعولون على الحفظ أكثر من الكتابة، وأدوات الكتابة لم تكن متوفرة بالصورة الكبيرة.
أن القرآن لم ينزل مرة واحدة، بل نزل منجمًا في خلال ثلاث وعشرين سنة، ولو كُتب لكان عرضة للنسخ والتغيير والتبديل، وهذا فيه من العناء والمشقة ما فيه، قال الزركشي في "البرهان": فثبت أن القرآن كان على هذا التأليف والجمع في زمن النبي صلَّى الله عليه وسلم، وإنما تُرِك جمعه في مصحف واحد لأن النسخ كان يَرِدُ على بعضه، فلو جمعه ثم رفعت تلاوة بعضه لأدى إلى الاختلاف واختلاط الدين، فحفظه الله في القلوب إلى انقضاء زمن النسخ، ثم وَفَّق لجمعه الخلفاء الراشدين.
كانت الآيات الكثيرة تنزل من السور الكثيرة المختلفة على حسب الدواعي بلا ترتيب ثم يعلم الترتيب فيما بعد، فلو كتب أولًا لاحتيج إلى كتابته ثانيًا، وفي ذلك من المشقة ما فيه.
المشتهرون بكتابة الوحي من الصحابة:
والذين اشتهروا بكتابة التنزيل بين يدي النبي صلَّى الله عليه وسلم هم:
عبد الله بن سعد بن أبي السرح القرشي العامري أول من كتب للنبي صَلَّى الله عليه وسلم بمكة، حيث لم يكن بها أحد يعرف الكتابة سوى نفرٍ قليل، وقد اتخذه النبي صَلَّى الله عليه وسلم كاتبًا للتنزيل في أول الأمر، فربما أملى عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فكتب: عَلِيمٌ حَكِيمٌ، فيقرأه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فيقول: "كذلك الله"، ويقرّه، فَافْتُتِن عبد الله بن سعد وقال: ما يدري محمد ما يقول، إني لأكتب له ما شئتُ هذا الذي كتبت يوحَي إليّ كما يوحَي إلى محمد، وخرج هاربًا من المدينة إلى مكة مرتدًا، فأهدَر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فجاء إلى عثمان بن عفّان، وكان أخاه في الرضاعة، فقال: يا أخي، إني والله قد اخترتك على غيرك، فاحبِسني ها هنا، واذْهَبْ إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فكلّمه فيّ، فإن محمدًا إن رآني ضَرَبَ الذي فيه عيناي، إِنَّ جُرْمي أعظم الجُرم، وقد جئتُك تائبًا، فقال عثمان: بل اذهب معي، فقال عبد الله: والله لئن رآني ليضرَبنّ عنقي ولا يناظرني، قد أهدر دمي، وأصحابه يطلبونني في كل موضع، فقال عثمان: انطلق معي، فلا يقتلك إن شاء الله، فلم يُرع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلا بعثمان آخذٌ بيد عبد الله بن سَعْد بن أَبِي سَرح واقِفَيْن بين يديه، فأقبل عثمانُ على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أمَّه كانت تحملني وتمشيه، وكانت ترضعني وتفطمه، وكانت تلطفني وتتركه، فَهَبْهُ لي، فأعرضَ عنه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وجعل عثمان كلما أعرَضَ النبي صَلَّى الله عليه وسلم عنه بوجهه استقبله، فيعيد عليه هذا الكلام ــ وإنما أعرَضَ عنه النبي صَلَّى الله عليه وسلم إرادة أن يقوم رجل فيضرب عنقه لأنه لم يؤمِّنه ــ فلما رأى أن لا يقوم أحد، وعثمان قد أكبّ على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقبِّل رأسه، وهو يقول: يا رسول الله، تبايعه فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نعم"، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "ما منعكم أن يقوم رجل منكم إلى هذا الكلب فيقتله"، أو قال: "الفاسق؟!" فقال عباد بن بشر: ألا أومأتَ إليّ يا رسول الله؟ فوالذي بعثك بالحق إني لأتبع طرفك من كل ناحية، رجاء أن تشير إليّ فأضرب عنقه، وقيل: أن الذي قال هذا أبو اليَسر، وقيل: عمر بن الخطاب، ولعلهم قالوه جميعًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إني لا أقتل بالإشارة"، وقائل يقول: إِن النبي صلَّى الله عليه وسلم قال يومئذ: "إِن النبي لا تكون له خائنة الأعين"، فبايعه رسول الله صلَّى الله عليه وسلم على الإسلام، وجعل عبد الله بعد ذلك كلما رأى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يفرُّ منه، فقال عثمان لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي، لو ترى ابن أم عبد الله يفر منك كلما رآك، فتبسَّم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم قال: "أو لم أبايعه وأؤمنه؟" فقال: بلى، أَيْ رسول الله، ولكنه يتذكر عظيمَ جُرمه في الإسلام، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله"، فرجع عثمان إلى عبد الله بن سعد فأخبره، فكان يأتي فيسلم على النبي صَلَّى الله عليه وسلم مع الناس بعد ذلك(*)، وهاجر عبد الله، وشهد فتح مصر، واختط بها، وكان صاحب الميمنة في الحرب مع عمرو بن العاص في فتح مصر، وله مواقف محمودة في الفتوح، وأمَّره عثمان على مصر؛ ولما وقعت الفتنة سكن عَسْقَلان، ولم يبايع لأحد، ومات بها سنة ست وثلاثين.
عثمان بن عفان بن أبي العاص القرشي، ثالث الخلفاء الراشدين، تزوَّج ببنتي النبيّ صلَّى الله عليه وآله وسلم واحدة بعد أخرى، وقيل للمهلب بن أبي صفرة‏: لم قيل لعثمان ذا النُّورَين؟ قال: لأنه لم يُعلم أنّ أحدًا أُرسل سترًا على ابنتي نبيّ غيره، وقالت فاطمة بنت عبد الرحمن: حدثتني أمي أنها سألت عائشةَ وأرسلها عَمُّها، فقالت: إن أحدَ بنيك يقرئك السلام، ويسألك عن عثمان، فإن الناس قد شتموه، فقالت: لعن الله مَنْ لعنه، فوَالله لقد كان قاعدًا عند رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم وجبرائيل يُوحي إليه، وهو يقول له: "أكتب يا عثيم"(*).
وُلِدَ رضي الله عنه بَعْدَ الفيل بست سنين على الصحيح، وَزَوّجَه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم رُقَيّة، ثم أم كلثوم بعد وفاة رقية، فماتت عنده أيضًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لو كان عندي ثالثةٌ زَوّجتُها عثمانَ"(*)، وروى علي بن أَبي طالب قال: سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلم يقول: "لو أَن لي أَربعين بنتًا زَوَّجت عثمان واحدة بعد واحدة، حتى لا يبقى منهن واحدة"(*). يقول الذهبي: "هو أفضل من قرأ على النبي صَلَّى الله عليه وسلم". وقد شاء الله عز وجل أن يستقر المصحف على هيئته الخالدة على يده رضي الله عنه، وتوفي سنة خمس وثلاثين.
علي بن أبي طالب بن عبد المطلب القرشي الهاشمي، هو أَول هاشمي ولد بين هاشميين، وُلِد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح، فَرُبّي في حِجْر النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولم يفارقه، وهو رابع الخلفاء الراشدين، وهو أَوّل خليفة من بني هاشم، وروى ابن عبّاس قال: لعليٍّ أربعُ خصال ليست لأحدٍ غيره: هو أول عربي وعجميّ صلَّى مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زَحْف، وهو الذي صبر معه يوم فَرَّ عنه غيره، وهو الذي غسله، وأدخله قبره‏. وكان رضي الله عنه ممن كتب للنبي صَلَّى الله عليه وسلم أكثرَ التنزيل، كما كتب له كثيرًا من العهود وعقود الصلح، وتوفي رضي الله عنه سنة أربعين.
أُبيُّ بن كعب بن قيس الأنصاري الخزرجي، أول من كتب للنبي صَلَّى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة، وكان أُبيّ يكتب في الجاهليّة قبل الإسلام، وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأمر الله تبارك وتعالى رسولَه أن يَقْرأ على أُبيّ القرآن، وقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلم: "أقْرَأُ أُمّتي أُبيّ"(*)، وقال أنس: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأُبَيّ بن كعب: "أُمِرتُ أن أعْرض عليك القرآن"، وقال بعضهم: سورةَ كذا وكذا، قال أُبي: وقد ذُكِرْتُ هناك، وقال بعضهم: سمّاني الله لك؟ فقال: "نعم!" فَذَرَفَتْ عيناه! وقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "فبفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون". وكان رضي الله عنه يكتب ما يأمره به الرسول صَلَّى الله عليه وسلم من الكتب والرسائل، وهو سيد القراء توفي سنة ثلاثين.
زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي، كان أكثر الكتاب ملازمةً للكتابة؛ حيث لا عمل له غير ذلك، ولكثرة تعاطيه ذلك خصه البخاريُ في صحيحه بتسميته "كاتب النبي صَلَّى الله عليه وسلم"، وكانت راية بني مالك بن النجار يوم تبوك مع عُمارة بن حزم، فأخذها رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم، ودفعها إلى زيد بن ثابت، فقال عمارة: يا رسول الله، بلغك عني شيء؟ قال: "لَا، وَلَكِنَّ القُرْآنَ مُقَدَّمٌ، وَزَيْدٌ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ مِنْكَ"(*)، وروى خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه قال: لما قَدِمَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة أُتِي بي إليه فقيل: يا رسول الله، غلامٌ من بني النجار قد قرأ ست عشرة سورة، فأمَرَه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم أن يتعلّم كتابَ يَهُود، وقال: "إني لم آمنهم أن يبدلوا كتابي" قال زيد: فتعلمته في بضع عشرة ليلة (*). وكان زيد بن ثابت يتعلّم في مَدَارِس مَاسِكَة، فَعلم كتابَهم في خمس عشرة ليلة حتى كان يَعلم ما حرّفوا وَبَدَّلُوا. وروى ثابت بن عُبيد، عن زَيد بن ثابت، قال: قال لي رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم: "إنه تأتيني كتب من أناس لا أحِِبّ أن يقرأها كل أحد، فهل تستطيع أن تَعَلَّمَ كتابَ العِبرانية" أو قال: "السُّريانية؟" قلت: نعم، فتعلمتُها في سبع عشرةَ ليلة (*). وقال زيد بن ثابت أيضًا: دخلتُ عَلَى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يُمِلُّ في بعض حوائجه فقال: "ضَع القَلَمَ على أُذُنك فهو أَذْكَر لِلْمُمِلِّ"(*)، وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أعلمهم بالفرئض زيد"(*)، واختُلف في وقت وفاةِ زيد بن ثابت؛ فقيل: مات سنة خمس وأَربعين، وقيل: سنة اثنتين وأَربعين، وقيل: سنة ثلاث وأَربعين، وهو ابنُ ستٍّ وخمسين سنة‏، وقيل: ابن أَربع وخمسين، وقيل: بل تُوفِّي سنة إحدى أو اثنتين وخمسين‏، وقيل‏‏ سنة خمسين، وقيل‏ سنة خمس وخمسين، وصلَّى عليه مَرْوان.
معاوية بن أبي سفيان القرشي الأموي، أَسلم معاوية هو وأَبوه وأَخوه يزيد وأُمه هند في الفتح، طلب أبوه من النبي صَلَّى الله عليه وسلم في فتح مكة أن يجعله كاتبًا بين يديه، فكان بعد ذلك ملازمًا للكتابة بين يدي الرسول صَلَّى الله عليه وسلم في التنزيل وغيره، وروى مسلمةُ عن رجل: أنه رأى معاوية يأكل فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لَمِخْضَد ــ اَلْخضْدُ: شدَّة الأكل ــ ثم قال: أما إني أقول هذا وقد سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "اللهم علّمه الكتاب ومكّن له في البلاد وقِهِ العذاب"(*). وتُوفي رضي الله عنه سنة ستين.
هؤلاء ستة كُتَّاب للتنزيل كتبوه بصفة رسمية بين يدي الرسول صَلَّى الله عليه وسلم وكانوا يضعون ما يكتبون في حجرات النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولا يعني هذا أن الوحي لم يكتبه غيرهم، فقد كتبه غيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم كأبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وغيرهم، ولكن هذه الكتابة كانت لأنفسهم دون تكليف من الرسول صَلَّى الله عليه وسلم، وبعد أن بينَّا أن القرآن الكريم كتب في عهد النبي صَلَّى الله عليه وسلم، يمكننا أن نقرر بأن القرآن الكريم لم يستظهر في عهد الرسول صَلَّى الله عليه وسلم فحسب، بل دُوِّن كاملًا، وهذا التدوين اتصف بصفات أبرزها:
أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلّا والقرآن الكريم كلُه كان مكتوبًا، كتبه كُتَّاب خاصون بهذه المهمة، وبتوجيهات منه صَلَّى الله عليه وسلم لهم.
أن أمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم بكتابة القرآن الكريم كان عامّا، ولم يكن يجمعه في صحف؛ ولهذا لم يكن مجموعًا في مكان ومصحف واحد، قال زيد بن ثابت: قُبِضَ النبيُ صَلَّى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء.
أن كتابة القرآن الكريم تمت على أدوات متنوعة وغير متجانسة مما جعله غير مرتب ومحصور بين دفتين.
أنه لم يكن مرتب السور، لأنه كتب أولًا بأول على حسب نزوله، وترتيب القرآن الكريم ليس على حسب النزول بالإجماع، مع العلم أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم لم ينتقل إلى الرفيق الأعلى إلّا بعد أن علَّم الصحابة بترتيب القرآن الكريم سورًا وآيات، حتى صاروا يقرؤون القرآن الكريم كاملًا مرتبًا على نحو ما أمر به صَلَّى الله عليه وسلم بتعليم من جبريل عليه السلام للنبي صلَّى الله عليه وسلم في كل عرضة يعرض فيها القرآن على الرسول صَلَّى الله عليه وسلم.
عناية الصحابة بالقرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
تدلنا الرواياتُ التي وردت حول وقعة اليمامة وحديث جمع القرآن الكريم على مدى العناية والاهتمام من الصحابة رضوان الله عليهم بالقرآن الكريم، فكان حفظ القرآن الكريم شعارًا لهم في وقعة اليمامة، حيث كانوا يتنادون به، ويشجعون أنفسهم أمام قوة عدوهم بعبارات تدل على حفظهم للقرآن الكريم، ومن العبارات التي وردت على ألسنتهم عندما حمي الوطيس قولهم: "يا أصحاب سورة البقرة"، وقول سالم مولى أبي حذيفة للمهاجرين عندما خشوا أن يؤتَوا من قِبَلِه: "بئس حامل القرآن أنا إذًا" وقول أبي حذيفة: "يا أهل القرآن: زينوا القرآن بالفعال"، كما نلحظ فزع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما علم بكثرة القتلى من القراء، وخشي أن يشتد في مواقع أخرى ويكثر القتلى منهم فيذهب كثير من القرآن، ودار حوار بينهما حول كيفية العمل، والحال ما وقع، ثم استدعى الخليفةُ أبو بكر الصديق زيدَ بن ثابت رضي الله عنه وأمره بجمع القرآن الكريم فدلَّ ذلك على مدى اهتمامهم بالقرآن الكريم حيث جعلوه من أولويات عملهم، بعد أن تناقش الجميعُ في الأمر، وانتهوا إلى ما انتهوا إليه، فهذا الحرص من الصحابة رضوان الله عليهم لم يقتصر على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بل تعداه إلى ما بعد وفاته صَلَّى الله عليه وسلم.
سببُ تردد أبي بكر الصديق في قبول عرض عمر رضي الله عنهما بجمع القرآن:
روى البخاري أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تردد - في أول الأمر - في قبول عرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجمع القرآن الكريم؛ ولعل السبب في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه ظن أن جمع القرآن الكريم كله في مصحف واحد بدعة في الدين، فخاف أن يحدث فيه ما لم يفعله الرسول صَلَّى الله عليه وسلم أو يأمر به، ولذلك قال رضي الله: "كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال ابن بطال: "إنما نفر أبو بكر أولًا، ثم زيد بن ثابت ثانيًا، لأنهما لم يجدا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فعله، فكرها أن يحلا أنفسهما محل من يزيد احتياطه للدين على احتياط الرسول، ولكن عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أخذ يقنع أبا بكر بصواب الفكرة، وأن في هذا الأمر خيرًا، ولم يزل به حتى اقتنع بأهمية ذلك، ولذا قال أبو بكر: "فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك"، وبنفس الاقتناع اقتنع زيد في آخر الأمر حيث قال: "لم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما"، وقال ابن حجر: "وقد تسول لبعض الروافض أنه يوجه الاعتراض على أبي بكر بما فعله من جمع القرآن في المصحف فقال: كيف جاز أن يفعل شيئًا لم يفعله الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام؟ والجواب: أنه لم يفعل ذلك إلاّ بطريق الاجتهاد السائغ الناشئ عن النصح منه لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقد كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم أذن في كتابة القرآن، ونهى أن يكتب معه غيره، فلم يأمر أبو بكر إلاّ بكتابة ما كان مكتوبًا، وإذا تأمل المنصف ما فعله أبو بكر من ذلك جزم بأنه يعد من فضائله، وينوه بعظيم منقبته لثبوت قوله صَلَّى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها"، فما جمع القرآن أحد بعده إلاّ وكان له مثل أجره إلى يوم القيامة، ومن هنا يتبين أن عمل أبي بكر رضي الله عنه لم يكن بدعة في الدين، ويكفي دليلًا على ذلك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على استحسان عمله، ومشاركتهم فيه، وقد عبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك بقوله: أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، إن أبا بكر كان أول من جمعه بين اللوحين.
سبب جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
من خلال الأحاديث الواردة في جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه يتضح لنا أن سبب جمعه يعود إلى خوف الصحابة رضوان الله عليهم من ذهاب شيء من القرآن بذهاب حفاظه باستشهادهم في المعارك أو موتهم، فكتابته مجموعًا في مصحفٍ واحدٍ فيه أمان وحفظ له مما قد يحصل في المستقبل، ويدل لهذا ما أفصح عنه عمر رضي الله عنه بقوله: "إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن" فذهاب بعض القراء قد يعني ذهاب الآخرين، فبهذا العمل أمكن تدارك الأمر منذ بدايته.
منهج جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
حينما اقتنع الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بجمع القرآن الكريم، أمر عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت رضي الله عنهما بالبدء بهذه المهمة، وسارا وفق منهج محدد بالاعتماد على مصدرين معا هما:
الأول: ما كُتِبَ بين يدي النبي صَلَّى الله عليه وسلم.
الثاني: ما كان محفوظًا في صدور الرجال.
ويدل لهما قولُ زيد بن ثابت في الحديث الذي أخرجه البخاري: "فتتبعتُ القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال"، فقوله: "من العسب واللخاف" دليل على المكتوب، وقوله: "صدور الرجال" دليل على المحفوظ، وأما الكتابة فيقصد بها أن يكون كُتب بين يدي الرسول صَلَّى الله عليه وسلم، أما ما كان بأيدي الصحابة من القرآن المكتوب، فكان يُطلب من الصحابي الذي يتقدم به أن يُشهد على أن هذا المكتوب كتب بين يدي النبي صَلَّى الله عليه وسلم، أو رُوجع على قراءته، أو سمعه وأقره، ويؤكد هذا ما قاله أبو بكر لعمر وزيد رضي الله عنهم: "اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه"، كما يدل عليه ما أخرجه ابن أبي داود، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قال عمر: "من كان تلقى من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد شهيدان". وليس المقصود بالشهادة هنا على قرآنية المكتوب، فقرآنيته بلا شك ثابتة متواترة بحفظ المئات من الصحابة، وإنما على أنه كتب بين يدي الرسول صَلَّى الله عليه وسلم، فكما هو معلوم كان للصحابة رضوان الله عليهم مصاحف خاصة بهم كتبوها في بيوتهم لأنفسهم.
قال أبو شامة موضحًا ذلك: لم تكن البينة على أصل القرآن، فقد كان معلومًا لهم كما ذكر، وإنما كانت على ما أحضروه من الرقاع المكتوبة، فطلب البينة عليها أنها كانت كتبت بين يدي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وبإذنه على ما سمع من لفظه، إذًا فالمقصود الشهادة على كونها مكتوبة لا كونها محفوظة، وهكذا كان منهج الجمع.
عدم الاكتفاء بما سمعاه من رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، وعدم الاكتفاء بما كتباه وقت نزول الوحي، وعدم الاكتفاء بما حفظاه، والطلب من الصحابة الآخرين بما حفظوه وكتبوه على أن لا يقبل هذا المكتوب إلاّ أن يأتي صاحبه بشاهدَيْ عدل يشهدان على كتابته بين يدي الرسول صَلَّى الله عليه وسلم، ويطابق ما هو محفوظ في صدورهم.
مدة جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
استغرق جمعُ القرآنِ في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه قرابة خمسة عشر شهرًا حيث بدأ بعد معركة اليمامة التي وقعت في أواخر السنة الحادية عشرة أو أوائل الثانية عشرة، وانتهى قبل وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وكانت في الشهر السادس من السنة الثالثة عشرة، وتم ذلك جمعًا وكتابة قبل وفاته رضي الله عنه، ويدل على ذلك قولُ زيدِ بن ثابت كما في الحديث الذي أخرجه البخاري: "فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله".
سمات جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
اتسم جمعُ القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق بعدة سمات، من أبرزها:
أن كتابته قامت على أدق وسائل التثبت والاستيثاق، فلم يقبل فيه إلاّ ما أجمع الجميع على أنه قرآن وتواترت روايته.
أنه جمع في مصحف واحد مرتب الآيات والسور.
موافقته لما ثبت في العرضة الأخيرة.
اقتصاره على ما لم تنسخ تلاوته، وتجريده مما ليس بقرآن.
اشتماله على الأحرف السبعة التي ثبتت في العرضة الأخيرة.
إجماع الصحابة على صحته ودقته، وعلى سلامته من الزيادة والنقصان، وتلقيهم له بالقبول والعناية، حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، فإنه أول من جمع بين اللوحين".
فهذه السماتُ اجتمعت في الصحف التي جمعها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وإن وجدت مصاحف فردية لدى بعض الصحابة كمصحف علي بن أبي طالب، ومصحف أبي بن كعب، ومصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم إلا أنها لم تكن على هذا النحو ولم تحظ بالتحري والدقة والجمع والترتيب، والاقتصار على القرآن، حيث كانت متضمنة تعليقات وشروحًا وأدعية ومأثورات كتبها الصحابة لأنفسهم، فهي خاصة بهم وباستطاعتهم تمييز القرآن من غيره، أما غيرهم فقد لا يستطيع ذلك.
جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن شهاب أن أنس بن مالكٍ حدَّثه أنّ حذيفة بن اليمان قدِمَ على عثمان،َ وكانَ يغازي أهلَ الشام في فتح إِرْمينية وأذربيجان مع أهل العراقِ، فأفزَعَ حُذيفةَ اختلافُهم في القراءةِ، فقالَ حُذيفة لعثمانَ: يا أميرَ المؤمنينَ، أدركْ هذه الأمّةَ قبلَ أن يختلِفُوا في الكتابِ اختلافَ اليهودِ والنصارى، فأرْسَلَ عثمانُ إلى حفصةَ: أن أرسلي إلينا بالصُّحف ننسخُها في المصاحفِ ثم نردُّها إليكِ، فأرسلتْ بها حفصَةُ إلى عثمانَ، فأمَرَ زيدَ بن ثابت، وعبدَ الله بن الزبيرِ، وسعيدَ بن العاصِ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وأخرج ابن أبي داود من طريق أبي قلابة أنه قال: لما كانت خلافةُ عثمان، جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يتلقون فيختلفون، حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين، قال أيوب: لا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبًا، فقال: أنتم عندي تختلفون وتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافًا وأشد لحنًا، اجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوه للناس إمامًا.
من خلال الروايات السابقة وغيرها يتبين لنا أن سبب جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان يمكن إرجاعه إلى ما يلي:
رفع الاختلاف والتنازع في القرآن الكريم، وقطع المراء فيه، وذلك باعتماد القراءات المتواترة التي يمكن أن يُقرأ بها القرآنُ الكريم.
حماية النص القرآني من أي إضافة أو نقص نتيجة وجود عدد من المصاحف بأيدي الصحابة حيث اشتملت على ما ليس بقرآن كالشروح والتفاسير، أو لم يُكتب فيها بعضُ السور لعدم حاجتهم لكتابتها مع علمهم بأنها من القرآن.
منهج جمع القرآن الكريم في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه:
حينما عزم عثمانُ بن عفان - رضي الله عنه - على جمع القرآن الكريم وعيّن اللجنة التي تباشر هذا العمل حدَّد لها خطوات العمل الذي يمكن إيجازه بما يلي:
اعتباره الصحف التي جمعها زيد بن ثابت - رضي الله عنه - في عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أساسًا في نسخ المصاحف، حيث أمر عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بإحضارها من حفصة بنت عمر أم المؤمنين حيث قال لها: "أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك.
إشراف عثمان بن عفان - رضي الله عنه - المباشر على الجمع حيث كان يتفقد اللجنة باستمرار، ويتعاهدهم على الدوام. أخرج ابن أبي داود بإسناده عن كثير بن أفلح أنه قال: "وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه".
رجوع اللجنة إلى الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فيما يحتاجون إليه للتأكد من كتابته وكيفية ذلك. روى البخاري أن ابن الزبير ــ أحد أعضاء اللجنة ــ قال: قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} (البقرة: 240] قال: قد نسختها الأخرى، قلت: فلِمَ تَكْتُبُها؟ أَوَتَدَعُها؟ قال: يابن أخي لا أغير شيئًا من مكانه".
استيثاق اللجنة مما يكتبونه، وبخاصة فيما تعددت فيه القراءة حيث كانوا يسألون مشاهيرَ الصحابة عن كيفية القراءة به، لا عن قرآنيته، فإن ذلك عرف في جمع أبي بكر، لأنه - رضي الله عنه - أراد أن تُكتب المصاحفُ في مجموعها على جميع القراءات التي قرأها الرسول صَلَّى الله عليه وسلم؛ ليقضي على الفتنة التي حدثت بين المسلمين، بسبب جهلهم هذه القراءات.
أن الكتابة تمت بشكل يجمع ما ثبت من الأحرف السبعة في العرضة الأخيرة على أن يكتب بدون تكرار الكلمات، واتفقوا على رسم الكلمات التي بها عدة أوجه بطريقة يجعلها محتملة لأن تقرأ بكل تلك الأوجه، وقد ساعد على ذلك عدم التشكيل، وعدم التنقيط. قال ابن الجزري المتوفي سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة: "وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلَّى الله عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام، متضمنة لها لم تترك حرفًا منها، إلى أن قال: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه، لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له"، ثم قال: "فكتب الصحابة المصاحف على لفظ لغة قريش والعرضة الأخيرة، وجردوا المصاحف عن النقط والشكل لتحتمله صورة ما بقي من الأحرف السبعة".
عند اختلاف اللجنة في كتابة كلمة فإنهم يكتبونها بحرف قريش، حيث قال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - للرهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم". فالمقصود بالاختلاف هنا من حيث الرسم والكتابة، لا من حيث الألفاظ والكلمات، ويدل عليه قوله "فاكتبوه" فيكون المعنى: إذا اختلفتم أنتم وزيد في رسم كلمة، فاكتبوها بالرسم الذي يوافق لغة قريش ولهجتها.
نشر عثمان بن عفان رضي الله عنه المصاحف في الأمصار:
بعد أن تم العمل بنسخ المصاحف، أعاد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - الصحف إلى حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها، وأمر بتوزيع المصاحف على الأمصار؛ ليقضي على التنازع والاختلاف في قراءة القرآن الكريم، فأرسل إلى كل مصر من الأمصار بمصحف من المصاحف التي نسخت، واحتفظ عنده بمصحف سمي "المصحف الإمام" وقد وقع الاختلاف في عدد هذه المصاحف:
فقيل: إنها ثمان نسخ، ذكر ذلك ابن الجزري عن عثمان قال "فكتب منها عدة مصاحف: فوجه بمصحف للبصرة، ومصحف إلى الكوفة، ومصحف إلى الشام، وترك مصحفًا بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفًا - الذي يقال له الإمام - ووجه بمصحف إلى مكة، ومصحف إلى اليمن، ومصحف إلى البحرين".
وقيل: إنها أربع نسخ، قال أبو عمرو الداني: "أكثر العلماء على أن عثمان لما كتب المصاحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية واحدا: الكوفة، والبصرة، والشام، وترك واحدًا عنده، ولم يكتف عثمان - رضي الله عنه - بتوجيه هذه المصاحف إلى تلك البلدان، وإنما اختار حفاظًا يثق بهم فأرسلهم إليها ليقرئوا أهل البلد المرسل إليهم مع ملاحظة أن تكون قراءته موافقة لخط المصحف.
فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمصحف المدني.
وبعث عبد الله بن السائب المتوفي سنة سبعين مع المصحف المكي.
وبعث المغيرة بن شهاب المتوفي سنة إحدى وتسعين مع المصحف الشامي.
وبعث أبا عبد الرحمن السلمي المتوفي سنة اثنتين وسبعين مع المصحف الكوفي.
وبعث عامر بن قيس مع المصحف البصري.
حرق الصحف والمصاحف الأخرى ورضا الصحابة عن ذلك:
بعد أن أرسل عثمان - رضي الله عنه - المصاحف التي تم نسخها إلى الأمصار، أمر بما سواها مما كان بأيدي الناس أن يحرق، كما في حديث أنس الذي أخرجه البخاري: "فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق". وقد استجاب الصحابة كلهم لذلك، وقاموا بحرق مصاحفهم، حتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فإنه بعد أن امتنع في أول الأمر رجع طواعية لما علم صواب ذلك، وأن مصلحة الأمة فيما فعله عثمان، وقد أشار إلى ذلك ابن أبي داود في كتاب "المصاحف" حيث عقد له بابًا سماه "رضاء عبد الله بن مسعود لجمع عثمان رضي الله عنه المصاحف"، وأخرج أيضًا عن سويد بن غفلة قال: " قال علي حين حرق عثمان المصاحف: لو لم يصنعه هو لصنعته". وأخرج أيضًا عن مصعب بن سعد قال: "أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف، فأعجبهم ذلك، وقال: لم ينكر ذلك منه أحد.
وجاء في "المصاحف"، عن سويد بن غفلة أنه قال: "والله لا أحدثكم إلّا شيئًا سمعته من علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - سمعته يقول: "يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلّا خيرًا في المصاحف وإحراق المصاحف، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلّا عن ملأ منا جميعًا". ثم قال: قال علي: والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل، ونقل أبو شامة، عن البيهقي في جمع عثمان: "وذلك كله بمشورة من حضره من علماء الصحابة - رضي الله عنهم، وارتضاه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه، وحمد أثره فيه"، وهكذا استطاع عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بهذا العمل الجبار أن يزيل جذور الخلاف، ويجمع الأمة عبر كل العصور - منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم وحتى عصرنا الحاضر - على التزام المصحف الذي أجمعوا عليه، وحمد له المسلمون ذلك العمل، قال الزركشي: "ولقد وفق لأمر عظيم، ورفع الاختلاف، وجمع الكلمة، وأراح الأمة".
خبر هذه المصاحف:
اعتنت الأمة الإسلامية بهذه المصاحف العثمانية؛ فاتخذتها أصولًا يؤخذ منها، وأئمة يقتدى بها في كتابة المصاحف جيلًا بعد جيل، أما عن هذه المصاحف بذاتها فقد ذكر بعض الرحالة والمؤرخين عن رؤيتهم لبعض منها، فيحدثنا ابن جبير المتوفي سنة أربع عشرة وستمائة في رحلته إلى الشام عندما زار جامع دمشق حيث ذكر أنه رأى في الركن الشرقي من المقصورة الحديثة في المحراب خزانة كبيرة فيها مصحف من مصاحف عثمان، وهو الذي أرسله إلى الشام، كما أشار ابن بطوطة المتوفي سنة تسع وسبعين وسبعمائة. إلى رؤيته له في رحلته إلى الشام، كما رأى النسخة نفسها ابن كثير الدمشقي المتوفي سنة أربع وسبعين وسبعمائة. حيث قال: "وأما المصاحف العثمانية الأئمة، فأشهرها اليوم الذي في الشام بجامع دمشق - عند الركن، شرقي المقصورة المعمورة بذكر الله - وقد كان قديمًا في "طبريَّة"، ثم نقل منها إلى دمشق في حدود ثمان عشرة وخمسمائة، وقد رأيته كتابًا عزيزًا جليلًا عظيمًا ضخمًا، بخط حسن مبين، قوي، بحبر محكم، في رق أظنه من جلود الإبل. فبعضهم يرى أنه احترق عندما احترق الجامع الأموي، يقول محمد كرد علي في حديثه عن الجامع الأموي: "حتى إذا كانت سنة ألف وثلاثمائة وعشر سرت النار إلى جذوع سقفه، فالتهمتها في أقل من ثلاث ساعات، فدثر آخر ما بقي من آثاره ورياشه، وحرق فيه مصحف كبير بالخط الكوفي، كان جيء به من مسجد عتيق في بصرى، وكان الناس يقولون: إنه المصحف العثماني، وبعضهم يرى أنه نقل إلى إنجلترا.
وفي مصر الآن مصاحف أثرية، يقال إنها مصاحف عثمانية - في المسجد الحسيني، ودار الكتب المصرية - ولكن يستبعد ذلك لوجود زركشة وزينة ونقوش فاصلة بين السور، وعلامات لبيان أعشار القرآن، ولا شك أن المصاحف العثمانية كانت خالية من كل هذا، ومن النقط والشكل، وعلى أي حال فإنَّ فقد هذه المصاحف لا يقلل من ثقتنا بما تواتر، واستفاض نقله من المصاحف، ثقة عن ثقة، وإماما عن إمام، وسواء أوجدت هذه المصاحف، أم لم توجد، فإنا على يقين بسلامة القرآن الكريم من الزيادة أو النقصان.
وهكذا سجلت الأمة الإسلامية بحفظها القرآن الكريم في الصدور والسطور منذ نزول القرآن الكريم في عهد الرسول صلَّى الله عليه وسلم، ثم بصنيع أبي بكر، ثم بصنيع عثمان بن عفان رضي الله عنهم، مزية ليس لأمة غيرها، نقلوه عن الأصل المكتوب بين يدي رسول الله صلَّى الله عليه وسلم، ومقابلة ذلك بما حفظوه في صدورهم، وبذلوا فيه كل عوامل الدقة والاستيثاق، فجاء كاملا، محفوظا، عزيزا، تحقيقا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. وقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ. لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 ــ 42].
خلاصة البحث:
وأقل ما يتيسر للمتطلع أن يلاحظ الواقع التاريخى منذ قيامه صلَّى الله عليه وسلم بتبليغ القرآن، وإقرائه، وإقراء الصحابة بعضهم لبعض، وهكذا نجد السادة عثمان بن عفان، وعلى ابن أبى طالب، وأبى بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبا موسى الأشعرى، وأبا الدرداء، وممن جمعه معاذ بن جبل، وأبو زيد، وسالم مولى أبى حذيفة، وابن عمر، وعتبة ابن عامر، وعرضه على بعض هؤلاء أبو هريرة، وابن عباس، وعبد الله بن السائب، والمغيرة بن شهاب المخزومى، والأسود بن يزيد النخعى، وعلقمة بن قيس، وأبو عبد الرحمن السلمى، وأبو العالية الرياحى، وكان عند أبى الدرداء نيف وستمائة وألف يتعلمون القرآن، على كل عشرة منهم مقرئ.
وبناءً على ما سبق يمكننا القول: إن جمع القرآن بمعنى كتابته وقع ثلاث مرات مشهورة في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلم وصحابته رضى الله عنهم من بعده:
المرة الأولى: كانت بإملاء النبي صلَّى الله عليه وسلم وكان يأمر الكاتب أن يقرأ ما كتب حتى يُقَوِّمَ ما قد يكون من زلل في حرف، ومن ذلك أن النبي صلَّى الله عليه وسلم لما أمر بكتابة قوله تعالى: لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله. وكان ابن أم مكتوم الأعمى حاضرا يسمع فقال: يارسول الله فما تأمرنى؟ فإنى رجل ضرير البصر، فنزلت مكانها: {لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95].
المرة الثانية: في عهد سيدنا أبى بكر رضى الله عنه لما كثر الشهداء من القراء في موقعة اليمامة فخشي ضياع شيء من القرآن بموتهم فتألفت لجنة برئاسة زيد بن ثابت واستحضروا ما في بيوت زوجات النبي صلَّى الله عليه وسلم وما مع الصحابة، واستشهدوا على ما جاء به كل واحد أنه كتب بحضرة النبي صلَّى الله عليه وسلم.
المرة الثالثة: في عهد سيدنا عثمان بن عفان لما اختلف المسلمون في القراءة وكاد يُكَفِّر بعضهم بعضا وهم في غزوة أرمينية، بل وقع خلاف أيضا عند سيدنا عثمان فكان لابد من جمع ما أجمعوا عليه من القرآن وترك ما اختلفوا فيه، فتألفت لجنة برئاسة زيد بن ثابت أيضا وكتبوا مصاحف مشتملة على قراءات موزعة فيها: مثل {وَسَارِعُوا} [آل عمران: 133] في مصاحف مكة والكوفة والبصرة وبدون الواو في مصاحف الشام والمدينة، وبذلك اتخذ الناس في القراءة بمعنى أنهم أجمعوا على صحه ما عندهم فلا يخطئ بعضهم بعضا فالجميع على صواب، وقام الناس بالنقل من هذه المصاحف لأنفسهم، وبقيت هى وما نقل منها إلى أن دون علم الرسم واحتوى على وصف ما فيها تفصيلا.
ونخلص من هذا أن مسألة جمع القرآن تمت بوسائل متنوعة منها:
الطريقة التي كان ينزل بها الوحي:
وهي أن ينزل على هيئة تكون أدعى إلى حفظه وضبطه، فقد سئل الرسول صلَّى الله عليه وسلم عن كيفية نزول الوحي إليه فقال: "أحيانا يأتيني مثل صلصة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني، فأعي ما يقول".
مدارسة المَلَكِ النبَّي القرآنَ:
وكان ذلك في رمضان من كل سنة، يأتيه جبريل في كل ليلة من ليالي رمضان يعرض على رسول الله صلَّى الله عليه وسلم القرآن، وقد عرض عليه القرآن مرتين في العام الذي قبض فيه، كل هذا حرصا على حفظه ومراعاة لصحة لفظه.
كتابة الوحي ومقابلته:
فقد اتخذ الرسول إلى جانب ذلك كُتّابا يكتبون له الوحي أولا بأول، ويراجع ذلك هو بنفسه، حتى يطمئن إلى صحة ما كتب.
قصر الكتابة على القرآن:
وذلك في بادئ الأمر، حيث نهى رسول الله صلَّى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن كالحديث والتفسير لئلا يختلط القرآن بغيره، فكان يمنع أصحابه أن يكتبوا عنه شيئا غير القرآن، فلما اطمأن إلى رسوخ القرآن وسلامته من الاختلاط بغيره، أذن لهم في الكتابة.
الحض على تعلم القرآن وتعليمه:
فقد كان النبي صلَّى الله عليه وسلم يحث أصحابه على تعلم القرآن وتعليمه، وحفظه وتحفيظه، ويقدم أكثرهم أخذا للقرآن في إمامة الصلوات، وقيادة الجيوش، بل الحاجة داعية لحفظه فهو الكتاب المفروضة قراءته في الصلوات، وتنفيذ أحكامه وآدابه في ضروب الحياة.
قوة الحافظة التي عند العرب:
كان العرب يتمتعون بحافظة لا يكاد يعزب عنها شيء، خاصة وأن القرآن جاء في براعة من الأسلوب، ورفعة من البيان مما يجعله أحرى لحفظه، والاهتمام به، حتى كثر آخذوه: صدرا وسطرا، فحفظه الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والحضري والبدوي، ثم تعاهد الصحابة بعد موت النبي صلَّى الله عليه وسلم كتاب ربهم وديوان شريعتهم بالحفظ والعناية، وتجلى ذلك عبر حادثتين عظيمتين:
الأولى: في عهد الخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين كثر موت حفظة القرآن بسبب الحروب، فخشي هو ونفر من كبار الصحابة ذهاب القرآن بموت حفظته، فأمر بجمع القرآن وذلك بجمع كل ما كتب عليه من الأخشاب والجلود ونحوها من وسائل الحفظ آنذاك، وكذلك ما كان محفوظا في صدور الرجال، وتم جمع القرآن جميعه مكتوبا في مكان واحد يشرف عليه الخليفة وخلفاؤه من بعده.
الثانية: في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث كان القرآن - إلى ذلك الحين - يقرأ على لغات العرب توسعة من الله لهم، فلما أدى هذا الاختلاف في اللغات إلى التنازع والاختلاف بين المسلمين جمع الخليفة المسلمين على لغة واحدة هي لغة قريش أم قبائل العرب، ونسخ من ذلك عدة مصاحف عمّمها على الأقاليم والأمصار.

الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال