فضلُ العشرةِ المبشرينَ بالجنَّة
فضلُ العشرةِ المبشرينَ بالجنَّة:
إنَّ أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه صَلَّى الله عليه وسلم، ولإقامة دينه، وقد أثنى الله عز وجل عليهم، ورضي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عنهم، وثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم، وثناء رسوله صَلَّى الله عليه وسلم، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل ولا تعديل أكمل من قول الله تعالى؛ فقد نظر الله في قلوب العباد فوجد قلب محمد صَلَّى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فاصطفاه، وبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فوجد قلوب الصحابة أطهر القلوب فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه، وقد وضع الله عز وجل أصحاب رسوله الموضع الذي وضعهم فيه بثنائه عليهم من العدالة والدين والإمامة؛ لتقوم الحجة على جميع أهل الملة بما أدوه عن نبيهم من فريضة وسنة، فصَلَّى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، فنعم العون كانوا له على الدين في تبليغهم عنه إلى من بعدهم من المسلمين، وقد أثنى رسول الله عليهم في أحاديث كثيرة، وخص منهم صفوة بشَّرَهم بالجنة وهم في الحياة الدنيا، فكانوا مثالًا لأهل الجنة في الدنيا، وترجم المؤرخون لهؤلاء بهذه التسمية: العشرة المبشرون بالجنة، وقد اجتمع لهؤلاء من الفضل ما لم يجتمع لغيرهم، فقد التقت أنسابهم بنسب النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وقد نظم محمد بن أحمد بن خلف رحمه الله هذا في أبيات من الشعر فقال:
صــــــــــلاة ربـــــــــي دائمـــــــــــًا والطيـــــبـــــين البررة علـــى النبي المصطفى وآلـــــــــه والعشــــــــرة
فآله من فاطـــــــــم ومــــــن أخـــــــــيه "حيـــــــــدرة" و"شيبة الحمد" لهم أصل أطـــــــاب الثمرة
وبعدهــــــم "عثمان" من "عبـــــد منــــاف" الخيرة ومن "قصي" لحق "الزبير" مـــردي الـــكفرة
"سعد" المفدَّى من "كلاب" و"ابن عــوف" آزره "صديقنا" و"طلــحة" من "مــرة" ما أشـهره
"فاروقنا" مــــــن "كعبـــــــهم" "سعيد" يقــفو أثره و"عامــــر" الأمين من "فهر" كمـــــال العشرة
وقد جاء لكل واحد منهم إثبات صحبته لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وإن تفاوتت مراتبهم في المحبة، روى ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ قال: "أبو بكر"، قلت: ثم من؟ قال: "عمر"، قلت: ثم من؟ قال: "عثمان"، قلت: ثم من؟ قال: "ثم علي"، فأمسكت، فقال: "سل يا عبد الله عما شئت"، فقلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك بعد علي؟ فقال: "طلحة، ثم الزبير، ثم سعد، ثم سعيد، ثم عبد الرحمن بن عوف، ثم أبو عبيدة بن الجراح"، وهو غريب، والصحيح حديث عمرو بن العاص قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: من الرجال؟ فقال: "أبوها"، قلت: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب"، فعد رجالًا. وفي رواية: بعثني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، وفي القوم أبو بكر، وعمر، فحدثتني نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده، فأتيت حتى قعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله من أحب الناس إليك؟... فذكر الحديث.
شهادة الرسول لهم بالجنة:
روى عبد الرحمن بن عوف أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة"، وروى سعيد بن زيد أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "عشرة في الجنة: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص"، فعد هؤلاء التسعة وسكت عن العاشر فقال القوم: ننشدك الله يا أبا الأعور من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله أبو الأعور في الجنة.
وروى أبو ذر قال: دخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم منزل عائشة فقال: "يا عائشة ألا أبشرك؟ قالت: بلى يا رسول الله، قال: "أبوك في الجنة، ورفيقه إبراهيم، وعمر في الجنة، ورفيقه نوح، وعثمان في الجنة، ورفيقه أنا، وعلي في الجنة، ورفيقه يحيى بن زكريا، وطلحة في الجنة، ورفيقه داود، والزبير في الجنة، ورفيقه إسماعيل، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، ورفيقه سليمان بن داود عليه السلام، وسعيد بن زيد في الجنة، ورفيقه موسى بن عمران، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ورفيقه عيسى بن مريم، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة، ورفيقه إدريس عليه السلام"، ثم قال: "يا عائشة أنا سيد المرسلين، وأبوك أفضل الصديقين، وأنت أم المؤمنين"
وصف النَّبي صَلَّى الله عليه وسلم لكل واحد من العشرة بصفة حميدة:
روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأشدهم حياءً عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، ولكل نبي حواري وحواريي طلحة والزبير، وحيث ما كان سعد بن أبي وقاص كان الحق معه، وسعيد بن زيد من أحباء الرحمن، وعبد الرحمن بن عوف من تجار الرحمن، وأبو عبيدة بن الجراح أمين الله وأمين رسوله، ولكل نبي صاحب سر وصاحب سري معاوية بن أبي سفيان، فمن أحبهم فقد نجا ومن أبغضهم فقد هلك" وعن علي رضي الله عنه أنه لما قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101] قال: أنا منهم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، إلى تمام العشرة. ذكره أبو الفرج في "أسباب النزول".
ما جاء في إثبات الصديقية لبعضهم والشهادة لبعضهم:
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان على حراء هو، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، فتحركت الصخرة فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اسكن حراء فما عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد" وفي رواية: وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر عليًا. وعن ابن عباس ولفظه: "كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على حراء، فتزلزل الجبل، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "اثبت حرًا فما عليك إلا نبي، وصديق، شهيد"، وعليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وذكر العشرة إلا أبا عبيدة، واختلاف الروايات محمول على قضايا متكررة.
ما جاء في دخوله صَلَّى الله عليه وسلم الجنة، ورؤيته أهلها، ووزنه بأمته، ووزن بعض العشرة، واستبطائه عبد الرحمن بن عوف:
روى أبو أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة فسمعت فيها خسفة ــ الحس والحركة ــ بين يدي، فقلت: ما هذا؟ قال: بلال، فمضيت، فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين، وذراري المسلمين، ولم أر أحدًا أقل من الأغنياء والنساء، قيل لي: أما الأغنياء فهم ههنا بالباب يحاسبون، وأما النساء فألهاهن الأحمران الذهب والحرير، ثم خرجنا من أحد الأبواب الثمانية، فلما كنت عند الباب أُتيت بكفة، فَوُضعتُ فيها، وَوُضِعَتْ أمتي في كفة، فرجحتُ بها، ثم أُتي بأبي بكر، فوضع في كفة، وجيء بجميع أمتي فوضعت في كفة، فرجح أبو بكر، ثم أُتي بعمر، فوضع في كفة، وجيء بجميع أمتي فوضِعَت في كفة، فرجح عمر، ثم عُرِضتْ علىَّ أمتي رجلًا رجلًا، فجعلوا يمرون فاستبطأتُ عبد الرحمن بن عوف، ثم جاء بعد اليأس، فقال: بأبي وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما خلصتُ إليك حتى ظننتُ أني لا أنظر إليك إلا بعد المشيبات، قال: وما ذاك؟ قال: من كثرة مالي أحاسب"
ما جاء مختصًا بالأربعة الخلفاء:
روى جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن الله اختار أصحابي على العالمين سوى النبيين، واختار لي من أصحابي أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا، فجعلهم خير أصحابي، وفي أصحابي كلهم خير، واختار أمتي على الأمم، واختار من أمتي أربعة قرون: الأول، والثاني، والثالث، والرابع"
آيات نزلت في المبشرين بالجنة:
روى ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْئَهُ} [الفتح: 29] الزرع: محمد صَلَّى الله عليه وسلم، وشطأه أبو بكر، فآزره عمر، فاستغلظ بعثمان، فاستوى بعلي رضي الله عنهم أجمعين.
أفضلية الأربعة بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
روى ابن عمر قال: "كنا وفينا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم نفضل أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا"، وعن الأصبغ بن نباتة قال: قلت لعلي: "يا أمير المؤمنين من خير الناس بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، قلت: ثم من؟ قال ثم عثمان، قلت: ثم من؟ قال: أنا".
وعن علي أنه خطب خطبة طويلة وقال في آخرها: واعلموا أن خير الناس بعد نبيهم صَلَّى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم أنا وقد رميت بها في رقابكم ووراء ظهوركم فلا حجة لكم عليَّ.
ثناء ابن عباس على الأربعة الخلفاء:
سُئِلَ ابن عباس عن أبي بكر فقال: كان رحمه الله للقرآن تاليًا، وللشر قاليًا، وعن المنكر ناهيًا، وبالمعروف آمرًا، ولله صابرًا، وعن الميل إلى الفحشاء ساهيًا، وبالليل قائمًا، وبالنهار صائمًا، وبدين الله عارفًا، ومن الله خائفًا، وعن المحارم جانفًا، وعن الموبقات صارفًا، فاق أصحابه ورعًا وقناعة، وزاد برًا وأمانة، فأعقب الله من طعن عليه الشقاق إلى يوم التلاق، قيل: وما كان نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه عبد ذليل لرب جليل، قيل له: فما تقول في عمر؟ قال: رحمة الله على أبي حفص، كان والله حليف الإسلام، ومأوى الأيتام، ومحل الإيمان، ومنتهى الإحسان، ونادي الضعفاء، ومعقل الخلفاء، كان للحق حصنًا، وللناس عونًا، قام بحق الله صابرًا محتسبًا حتى أظهر الدين، وفتح الديار، وذكر الله عز وجل على التلال والبقاع، وقورًا لله في الرخاء والشدة، شكورًا له في كل وقت، فأعقب الله من يبغضه الندامة إلى يوم القيامة، قيل: فما نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: الله المعين لمن صبر، قيل: فما تقول في عثمان؟ قال: رحمة الله على أبي عمرو، كان والله أفضل البررة، وأكرم الحفدة، كثير الاستغفار، هجادًا بالأسحار، سريع الدموع عند ذكر النار، دائم الفكر فيما يعنيه بالليل والنهار، مبادرًا إلى كل مكرمة، وساعيًا إلى كل منجية، فرَّارًا من كل مهلكة، وفيًّا نقيًّا حفيًّا، مجهز جيش العسرة، وصاحب بئر رومة، وختن المصطفى صَلَّى الله عليه وسلم، فأعقب الله من قتله البعاد إلى يوم التناد، قيل: فما نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: اللهم أحيني سعيدًا، وأمتني شهيدًا، فوالله لقد عاش سعيدًا، ومات شهيدًا، قيل: فما تقول في علي؟ قال: رحمة الله على أبي الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، وطود النهى، ومحل الحجى، وعين الندا، ومنتهى العلم للورى، ونورًا أسفر في ظلم الدجى، وداعيًا إلى المحجة العظمى، مستمسكًا بالعروة الوثقى، أتقى من تقمص وارتدى، وأكرم من شهد النجوى بعد محمد المصطفى، وصاحب القبلتين، وأبا السبطين، وزوجاته خير النساء، فما يفوقه أحد، لم تر عيناي مثله، ولم أسمع بمثله في الحرب خيالًا، وللأقران قتَّالًا، وللأبطال شغَّالًا، فعلى من يبغضه لعنة الله، ولعنة العباد إلى يوم التناد، قيل: فما نقش خاتمه حين ولي الأمر؟ قال: نقش عليه: الله الملك.
موافقة الأربعة نبي الله صَلَّى الله عليه وسلم في حب كل واحد منهم ثلاثًا من الدنيا:
رُوِيَ أنه لما قال صَلَّى الله عليه وسلم: "حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعل قرة عيني الصلاة"، قال أبو بكر: وأنا يا رسول الله حُبِّبَ إلي من الدنيا ثلاث: النظر إلى وجهك، وجمع المال للإنفاق عليك، والتوسل بقرابتك إليك، وقال عمر: وأنا يا رسول الله حُبِّبَ إلي من الدنيا ثلاث: إطعام الجائع، وإرواء الظمآن، وكسوة العاري، وقال علي بن أبي طالب: وأنا يا رسول الله حُبِّبَ إلي من الدنيا ثلاث: الصوم بالصيف، إقراء الضيف، والضرب بين يديك بالسيف.
ما جاء في تبشيرهم بالجنة:
عن أبي موسى الأشعري أنه خرج على المسجد فسأل عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقالوا: توجه ههنا فخرجتُ في أثره، حتى دخل بئر أريس، فجلستُ عند الباب ــ وبابها من جريد، حتى قضي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حاجته، فتوضأ، فقمت إليه، فإذا هو جالس على بئر أريس وقد توسط قفها، فجلست عند الباب قلت: لأكونن بوابًا للنبي صَلَّى الله عليه وسلم اليوم، فجاء أبو بكر، فدفع الباب، فقلتُ: من هذا؟ فقال: أبو بكر، فقلتُ: على رسلك، ثم ذهبت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقلتُ: هذا أبو بكر يستأذن، فقال: "ائذن له، وبشره بالجنة"، فأقبلتُ حتى قلت لأبي بكر: ادخل فرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يبشرك بالجنة، فدخل أبو بكر، فجلس عن يمين رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم معه في القف، ودلى رجليه في البئر كما صنع صَلَّى الله عليه وسلم، وكشف عن ساقيه، ثم رجعتُ فجلستُ، وقد تركت أخي يتوضأ ويلحقني، فقلتُ: إن يرِدِ الله بفلان خيرًا ــ يريد أخاه ــ يأتِ به، فإذا إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: عمر بن الخطاب، فقلتُ: على رسلك، ثم جئت إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقلتُ: هذا عمر بن الخطاب يستأذن، فقال: "ائذن له، وبشره بالجنة"، فجئت، فقلت، ادخل ويبشرك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالجنة، فجلس مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في القف عن يساره، ودلى رجليه في البئر، فرجعت فجلست، وقلت: إن يرد الله بفلان خيرًا يأتِ به.
أولًا ــ أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
هو أبو بكر عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر القرشيّ التيميّ، وُلِدَ بعد الفيل بسنتين وستة أشهر.
روى جندب قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله عز وجل أن يكون لي منكم خليل، فإن الله عز وجل قد اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا". وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "إن أمنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا ولكن أخوة الإسلام، لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر".
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر"، فبكى أبو بكر وقال: ما أنا ومالي إلا لك. وروى أبو الدرداء قال: كنت جالسًا عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أمَّا صاحبكم فقد غامر"، فسلم ثم قال: إني كان بيني وبين عمر بن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فقال أثم هو؟ قالوا لا، فأتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم فجعل وجه النبي يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه فقال يا رسول الله أنا كنت أظلم مرتين، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم: كذب وقال أبو بكر: صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركون لي صاحبي مرتين، فما أوذي بعدها".
وروى أنس قال: قالوا يا رسول الله: أي الناس أحب إليك؟ قال: "عائشة"، قالوا: إنما نعني من الرجال؟ قال: "أبوها". وعن أنس، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر". وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن الله وعدني أن يُدخل الجنة أربعمائة ألف"، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "هكذا"، وجمع كفيه، فقال عمر: حسبك يا أبا بكر، فقال أبو بكر: دعني يا عمر، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا، فقال عمر: إن الله لو شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "صدق عمر".
وروى محمد بن عقيل، عن علي بن أبي طالب أنه قال يومًا وهو في جماعة من الناس: من أشجع الناس؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين، قال: أما إني ما بارزت أحدًا إلا انتصفت منه، ولكن أشجع الناس أبو بكر، لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عريشًا، وقلنا: من يكون مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ لئلا يصل إليه أحد من المشركين؟ فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر شاهرًا السيف على رأس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: واجتمع عليه المشركون بمكة، فهذا يجره وهذا يتلتله، وهم يقولون: أنت جعلت الآلهة إلهًا واحدًا؟!، فوالله ما دنا منا إليه أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجأ هذا ويتلتل هذا ويقول: ويلكم أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله، ثم قال علي: نشدتكم بالله أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ قال: فسكت القوم، فقال ألا تجيبون؟ والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، مؤمن آل فرعون رجل كتم إيمانه، وأبو بكر رجل أعلن إيمانه". وقال علي: "رحم الله أبا بكر؛ كان من أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف هو أول من جمع بين اللوحين". وعن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار". وروى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رفيق، ورفيقي في الجنة أبو بكر".
وروى سهل بن سعد قال: كان قتال في بني عمرو بن عوف، فبلغ النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فأتاهم بعد الظهر ليصلح بينهم فقال: "يا بلال إذا حضرت الصلاة ولم آتِ فمر أبا بكر فليصلِّ بالناس" قال: فلما أن حضرت العصر أقام بلال الصلاة، ثم أمر أبا بكر فتقدم وصلى بهم، وجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعدما دخل أبو بكر في الصلاة، فلما رأوه صفحوا، وجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يشق الناس حتى قام خلف أبي بكر، وكان أبو بكر إذا دخل في الصلاة لم يلتفت، فلما رأى التصفيح لا يمسك عنه التفت فرأى النبي صَلَّى الله عليه وسلم خلفه، فأومأ إليه النبي صَلَّى الله عليه وسلم بيده أن امضه، فقام أبو بكر كهيئته فحمد الله على ذلك، ثم مشى القهقري، قال: فتقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فصلى بالناس فلما قضى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم صلاته قال: "يا أبا بكر ما منعك إذ أومأت إليك ألا تكون مضيت" قال: فقال أبو بكر: لم يكن لابن أبي قحافة أن يؤم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال للناس: "إذا رابكم في صلاتكم شيء فليسبح الرجل، ولتصفح النساء". والتصفيح مثل التصفيق.
وروت عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ليصل أبو بكر للناس"، قالوا: يا رسول الله: لو أمرت غيره، قال: "لا ينبغي لأمتي أن يؤمهم إمام وفيهم أبو بكر".
وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟" قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن أطعم اليوم منكم مسكينًا؟"، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟"، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".
اختصاصه رضي الله عنه بآي من القرآن أنزلت فيه أو بسببه:
منها قوله تعالى: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ...} الآية [التوبة: 40]. لا خلاف أن المراد بأحد الاثنين أبو بكر وأنه المراد بصاحبه، وعن الحسن قال: والله لقد عاب الله عز وجل أهل الأرض جميعًا بهذه الآية إلا أبا بكر. وروى عمرو بن الحارث أن أبا بكر قال: أيكم يقرأ سورة التوبة؟ قال رجل: أنا، فقرأ فلما بلغ: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فبكى أبو بكر، وقال: أنا والله صاحبه، وقال ابن عباس في قوله تعالى: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] يعني: على أبي بكر، فأما النبي صَلَّى الله عليه وسلم فكانت السكينة عليه قبل ذلك.
ومنها قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى...} الآية [النور: 22]. وروت عائشة في حديث الإفك قصة مسطح بن أثاثة قالت: حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح أبدًا فنزل قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ} إلى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه فقال لا أنزعها أبدًا.
ما جاء أنه يُدْعى من أبواب الجنة كلها:
روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان". فقال أبو بكر: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نعم، وأرجو أن تكون منهم".
خوفه رضي الله عنه من الله تعالى واعترافه:
روى الحسن قال: كان أبو بكر يقول: "يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل". وعن ابن عباس قال لما نزل قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2]، آلى أبو بكر أن لا يكلم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلا كأخي السرار. وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت على قلب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم" قال: فاقرأنيها، قال: فلا أعلم إلا أني وجدت انقصامًا في ظهري حتى تمطأت لها، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما شأنك يا أبا بكر" فقلت: يا رسول الله بأبي وأمي وأينا لم يعمل سوءًا وإنا لمجزيون بما عملنا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك حتى تلقوا الله وليست لكم ذنوب، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة".
ورعه رضي الله عنه:
روت عائشة قالت: كان لأبي بكر غلام يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري ما هذا، فقال أبو بكر: ما هو، قال كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه.
وروت عائشة قالت: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه فقال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة، فنظرنا فإذا هو عبد نوبي يحمل صبيانه، وإذا ناضح كان يسقي بستانه، فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب مَن بعده تعبًا شديدًا. وهو في رواية أن أبا بكر قال: انظري يا بنية فما زاد في مال أبي بكر منذ ولينا هذا الأمر رديه على المسلمين فوالله ما نلنا من أموالهم إلا ما أكلنا في بطوننا من جريش الطعام، ولبسنا على ظهورنا من خشن ثيابهم، فنظرت فإذا بكر وجرد قطيفة لا تساوي خمسة دراهم فلما جاء بها الرسول إلى عمر قال له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتسلب هذا ولد أبي بكر؟ قال: كلا ورب الكعبة لا يتأثم بها أبو بكر في حياته وأتحملها بعد موته رحم الله أبا بكر لقد كلف من بعده تعبًا.
تنزيهه رضي الله عنه عن شرب الخمر في الجاهلية والإسلام وعن قول الشعر في الإسلام:
روى أبو العالية الرياحي قال: قيل لأبي بكر في مجمع من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: هل شربت الخمر في الجاهلية؟ قال: أعوذ بالله، فقيل: ولم؟ قال: كنت أصون عرضي، وأحفظ مالي، فمن شرب الخمر كان مضيعًا في عمره ومروءته، فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "صدق أبو بكر مرتين". وروت عائشة أن أبا بكر لم يقل شعرًا في الإسلام حتى مات، وأنه كان قد حرم الخمر في الجاهلية.
تواضعه رضي الله عنه:
روى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من جرَّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: إن أحد شقي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء".
ما جاء عن عمر في تفضيله أبا بكر على نفسه:
روى ابن عمر قال: قيل لعمر: "ألا تستخلف، فقال: إن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر الصديق" وعن ابن عباس قال: قال عمر: "والله لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبُّ إلي أن أتقدَّم على قوم فيهم أبو بكر".
تعظيم عمر لأبي بكر:
روى أنس قال: دخل النبي صَلَّى الله عليه وسلم دارنا فحلبنا له من شاة داجن، وشيب له بماء من بئر في الدار، وأبو بكر عن شماله، وأعرابي عن يمينه، فشرب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وعمر ناحية، فقال عمر: أعط أبا بكر، فناول الأعرابي، وقال: "الأيمنَ فالأيمنَ".
ما روي عن عائشة في أبي بكر:
روت عائشة قالت: "قبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم واشرأب النفاق، ونزل بأبي ما لو نزل على الجبال الراسيات لهاضها، فما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحطِّهَا وثَنَاهَا".
وتوفي أبو بكر الصديق رضي الله عنه لسبع ليال بَقِينَ من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة.
ثانيًا ــ عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
هو عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ بن نُفَيل القرشي العدوي، وكان يُلَقب بالفاروق، وكان يكنى أبا حفص، ووُلد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة.
اختصاصه بتأهله للنبوة لو كان نبي بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روى عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر بن الخطاب".
اختصاصه بالتحديث:
روت عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "قد كان في الأمم محدثون؛ فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب". ومعنى محدثون والله أعلم أي يلهمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدثهم الملائكة لا بوحي، وإنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة.
اختصاصه بالخيرية:
روى جابر قال: قال عمر لأبي بكر: يا خير الناس بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: أما إنك إن قلت ذلك فلقد سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "ما طلعت شمس على رجل خير من عمر". وهذا محمول على أنه كذلك بعد أبي بكر جمعًا بين هذا وبين الأحاديث المتقدمة في أبي بكر.
وروى ثابت بن الحجاج قال: خطب عمر ابنة أبي سفيان فأبوا أن يزوجوه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما بين لابتي المدينة خير من عمر".
اختصاصه بزهده في الدنيا:
روى طلحة بن عبيد الله قال: ما كان عمر بأولنا إسلامًا ولا أقدمنا هجرة، ولكنه كان أزهدنا في الدنيا وأرغبنا في الآخرة.
اختصاصه بموافقة التنزيل في قضايا:
وأخرج البخاري، ومسلم، وأبو حاتم ما رواه أنس بن مالك قال: قال عمر: "وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني في ثلاث، قلت يا رسول الله؛ لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلىً، فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وقلت: يدخل عليك البر والفاجر فلو حجبت أمهات المؤمنين؟ فأنزل الله آية الحجاب، وبلغني شيء من معاتبة أمهات المؤمنين فقلت: لتكفن عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أو ليبدلنه الله أزواجًا خيرًا منكن، حتى انتهيت إلى إحدى أمهات المؤمنين فقالت يا عمر: أما في رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت؟ فأنزل الله: {عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنكُنَّ} [التحريم: 5].
وروى ابن مسعود قال: فضَل الناسَ عمرُ بأربع فذكر الأسرى يوم بدر أمر بقتلهم، فأنزل الله: {لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68]، وبذكره الحجاب أمر نساء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن يحتجبن، فقالت له زينب: إنك علينا يا ابن الخطاب والوحي ينزل بيوتنا، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، وبدعوة النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم أيد الإسلام بعمر"، وبرأيه في أبي بكر كان أول الناس بايعه.
وروى ابن عباس، عن عمر أنه قال: لما مات عبد الله بن أُبَي ابن سلول دعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وصَلَّى عليه، فلما قام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وثبتُ إليه، فقلت يا رسول الله: أتصلي على ابن أبي سلول وقد قال يوم كذا وكذا؟ ــ أعاد عليه قوله ــ فتبسم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقال: "أخِّرْ عني يا عمر"، فلما أكثرتُ عليه قال: "أما إني خيرت فاخترت، لو أعلم أني إذا زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها". قال: فصَلَّى عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثم انصرف، فلم يمكث يسيرًا حتى نزلت الآيتان من براءة: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ} إلى: {وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84]، قال: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يومئذ.
ومنها موافقته في قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم استشار عمر في أمر عائشة حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، فقال: يا رسول الله من زوَّجكها؟ فقال: "الله تعالى"، قال: أفتظن أن ربك دلس عليك فيها؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فأنزل الله ذلك على وفق ما قال عمر.
وروى ابن عباس أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أرسل غلامًا من الأنصار إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حال كره رؤيته عليها، فقال: يا رسول الله، وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستئذان فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} الآية [النور: 58]. ولما نزل قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13 ــ 14]؛ بكى عمر وقال: يا رسول الله وقليل من الآخرين آمنا برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وصدقناه ومن ينجو منا قليل. فأنزل الله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39 ــ 40]، فدعا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عمر وقال: "لقد أنزل الله تعالى فيما قلت فجعل ثلة من الآخرين".
موافقته لما في التوراة:
روى طارق بن شهاب قال: جاء رجل يهودي إلى عمر بن الخطاب فقال: أرأيت قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]؛ فأين النار؟ فقال لأصحاب محمد صَلَّى الله عليه وسلم: أجيبوه، فلم يكن عندهم فيها شيء، فقال عمر: أرأيت النهار إذا جاء أليس يملأ السموات والأرض؟ قال: بلى!! قال: فأين الليل؟ قال: حيث شاء الله عز وجل، قال عمر: فالنار حيث شاء الله عز وجل، قال اليهودي: والذي نفسك بيده يا أمير المؤمنين إنها لفي كتاب الله المنزل كما قلت.
وروى ابن عمر قال: ما اختلف أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في شيء، فقالوا وقال عمر إلا نزل القرآن بما قال عمر، وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "إن الله قد جعل الحق على لسان عمر وقلبه".
اختصاصه رضي الله عنه بالهيبة ونفران الشيطان منه:
روى سعد بن أبي وقاص قال: لقد دخل عمر بن الخطاب على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وعنده نسوة من قريش يسألنه ويستكثرنه رافعات أصواتهن، فلما سمعن صوت عمر انقمعنَ وسكنَّ، فضحك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عمر ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك". ورواه البخاري ومسلم وأحمد فقالوا: فلما استأذن عمر قمنا فبادرنا الحجاب فدخل عمر ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يضحك فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب". قال عمر: يا عدوَّات أنفسهن تهبنني ولا تهبن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم!! أنت أفظ وأغلظ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان" وذكر باقي الحديث.
اختصاصه رضي الله عنه بالشدة في أمر الله تعالى:
روى أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أشد أمتي في أمر الله تعالى عمر".
اختصاصه رضي الله عنه بأنه ما دام في الناس لا تصيبهم فتنة:
أخرج البخاري ومسلم ما رواه حذيفة قال: كنا عند عمر فقال: أيكم يحفظ حديث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في الفتنة، وما قال؟ فقلت: أنا، فقال: هات إنك لجريء، وكيف قال؟ قلت: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "فتنة الرجل في أهله وماله ونفسه وولده وجاره، يكفرها الصيام والصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". فقال عمر: ليس هذا أريد، إنما أريد التي تموج كموج البحر، قال قلت: ما لك ولها يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باب مغلقًا، قال: فيكسر الباب أو يفتح؟ قال: لا بل يكسر، قال: ذاك أحرى أن لا يغلق أبدًا، قال: قلنا لحذيفة: هل كان عمر يعلم من الباب؟ قال: نعم كما يعلم أن دون غد ليلة، إني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، قال: فهبنا أن نسأل حذيفة: من الباب، فقلنا لمسروق: سله فسأله فقال: عمر.
شهادة الرسول صَلَّى الله عليه وسلم لعمر أنه من أهل الجنة:
روى ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "عمر بن الخطاب من أهل الجنة". وعن زيد بن أبي أوفى أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب: "أنت معي في الجنة ثالث ثلاثة". وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أدخلت الجنة فرأيت قصرًا من ذهب ولؤلؤ فقلت: لمن هذا القصر؟ فقالوا: لعمر بن الخطاب، فما منعني أن أدخله إلا علمي بغيرتك". قال: أعليك أغار بأبي أنت وأمي عليك أغار.
سؤال النبي صَلَّى الله عليه وسلم والدعاء منه:
روي عن عمر أنه استأذن النبي صَلَّى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له وقال: "أخي؛ لا تنسنا من دعائك". وفي لفظ: "يا أخي أشركنا في دعائك". قال: ما أُحب أن يكون لي بها ما طلعت عليه الشمس لقوله: "يا أخي". وعن أنس بن مالك قال: أصاب الناس قحط في زمن عمر، فجاء رجل إلى قبر النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله؛ استسق لأمتك فإنهم قد هلكوا، قال فأتاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في المنام، وقال: "أئت عمر فمره أن يستسقي للناس فإنهم سيسقون، وقل له: عليك الكيس الكيس". فأتى الرجل عمر فأخبره فبكى عمر وقال: يا رب ما آلوا إلا ما عجزت عنه.
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم وغيره له بالشهادة:
روى ابن عمر قال: رأى النبي صَلَّى الله عليه وسلم على عمر ثوبًا أبيض فقال: "أجديد قميصك أم غسيل؟" فقال: بل جديد، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "البس جديدًا وعش حميدًا ومت شهيدًا".
قال عبد الرزاق: وزاد فيه الثوري عن إسماعيل بن أبي مخلد "ويعطيك الله قرة العين في الدنيا والآخرة".
علمه وفهمه رضي الله عنه:
روى خالد الأسدي قال: صحبت عمر فما رأيت أحدًا أفقه في دين الله، ولا أعلم بكتاب الله، ولا أحسن مدارسة منه، وعنه قال: كان عمر أعلمنا بالله، وأقرأنا لكتاب الله، وأتقانا لله، والله إن أهل بيت من المسلمين لم يدخل عليهم حزن على عمر حين أصيب لأهل بيت سوء. وعن طارق بن شهاب قال: قال يهودي لعمر بن الخطاب: إنكم لتقرءون آية في كتابكم لو علينا أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال وما هي؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]. قال عمر: فإني أعلم أي وقت نزلت، وأي موضع نزلت، نزلت عشية عرفة ونحن وقوف بها يوم جمة.
وعن مجاهد سئل عمر عن رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟، فقال: الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.
كراماته ومكاشفاته:
وروي عن عمر بن الحرث قال: بينا عمر يخطب يوم الجمعة إذ ترك الخطبة ونادى: "يا ساريةُ الجبلَ" مرتين أو ثلاثًا، ثم أقبل على خطبته، فقال ناس من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: إنه لمجنون، ترك خطبته ونادى: يا ساريةُ الجبلَ، فدخل عليه عبد الرحمن بن عوف، وكان يبسط عليه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ تجعل للناس عليك مقالًا، بينما أنت في خطبتك إذ ناديت: يا ساريةُ الجبلَ؟ أي شيء هذا؟ فقال: والله ما ملكت ذلك حين رأيت سارية وأصحابه يقاتلون عند جبل يؤتون منه ممن بين أيديهم ومن خلفهم فلم أملك أن قلت: يا ساريةُ الجبلَ، ليلحقوا بالجبل، فلم تمض أيام حتى جاء رسول بكتابه: إن القوم لقونا يوم الجمعة فقاتلناهم من حين صلينا الصبح إلى أن حضرت الجمعة، وذر حاجب الشمس فسمعنا صوت منادٍ ينادي الجبل مرتين فلحقنا بالجبل، فلم نزل قاهرين لعدونا حتى هزمهم الله تعالى.
ويروى أن مصر لما فتحت أتى أهلها عمرو بن العاص وقالوا له: إن هذا النيل يحتاج في كل سنة إلى جاريةٍ بِكْرٍ من أسن الجواري فنلقيها فيه وإلا فلا يجري وتخرب البلاد وتقحط، فبعث عمرو إلى أمير المؤمنين عمر يخبره بالخبر فبعث إليه عمر: "الإسلام يجب ما قبله، ثم بعث إليه بطاقة قال فيها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، إلى نيل مصر من عبد الله عمر بن الخطاب، أما بعد: فإن كنت تجري بنفسك فلا حاجة بنا إليك، وإن كنت تجري بالله فاجْرِ على اسم الله"، وأمره أن يلقيها في النيل فجرى في تلك الليلة ستة عشر ذراعًا، وزاد على كل سنة ستة أذرع، وفي رواية: فلما ألقي كتابه في النيل جرى ولم يعد يقف.
ورُوِيَ أنه عسَّ ليلة من الليالي فأتى على امرأة وهي تقول لابنتها: قومي اللبنَ، فقالت: لا تفعلي، فإن أمير المؤمنين نهى عن ذلك، قالت: ومن أين يدري هو؟ فقالت: فإن لم يعلم هو فإن رب أمير المؤمنين يرى ذلك، فلما أصبح عمر قال لابنه عاصم: اذهب إلى مكان كذا وكذا فإن هناك صبية فإن لم تكن مشغولة فتزوج بها لعل الله أن يرزقك منها نسمة مباركة، فتزوج عاصم بتلك البنية فولدت له أم عاصم بنت عمر، فتزوجها عبد العزيز بن مروان فولدت له عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه.
ولما دخل أبو مسلم الخولاني المدينة من اليمن، وكان الأسود بن قيس الذي ادعى النبوة باليمن عرض عليه أن يشهد أنه رسول الله فأبى، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فأمر بتأجيج نار عظيمة وألقي فيها أبو مسلم فلم تضره، فأمر بنفيه من بلاده، فقدم المدينة، فلما دخل من باب المسجد قال عمر: هذا صاحبكم الذي زعم الأسود الكذاب أنه يحرقه فنجاه الله منها، ولم يكن القوم ولا عمر سمعوا قضيته ولا رأوه، ثم قام إليه واعتنقه وقال: ألست عبد الله بن ثوب؟ قال: بلى! فبكى عمر ثم قال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد صَلَّى الله عليه وسلم شبهًا بإبراهيم الخليل عليه السلام.
وروي أن عمر بعث جندًا إلى مدائن كسرى، وأمر عليهم سعد بن أبي وقاص، وجعل قائد الجيش خالد بن الوليد، فلما بلغوا شط دجلة ولم يجدوا سفينة تقدم سعد وخالد فقالا: يا بحر إنك تجري بأمر الله فبحرمة محمد صَلَّى الله عليه وسلم وبعدل عمر خليفة رسول الله إلا خليتنا والعبور، فعبر الجيش بخيله وجماله إلى المدائن ولم تبتلَّ حوافرها، وروي أنه قال يومًا وقد انتبه من نومه وهو يمسح عينيه: من ترى الذي يكون من ولد عمر يسير بسيرة عمر يرددها مرارًا؟، وأشار بذلك إلى عمر بن عبد العزيز وهو ابن بنت ابنه عاصم، وروي أنه قال لرجل من العرب: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك، قال: الحرة، قال: فبأيها؟ قال: اللظى، قال عمر: أدركْ أهلك فقد احترقوا، فسارع الرجل فوجدهم كما قال عمر.
وروى علي رضي الله عنه أنه رأى في منامه كأنه صلى الصبح خلف النبي صَلَّى الله عليه وسلم، واستند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى المحراب، فجاءت جارية بطبق رطب فوضع بين يدي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأخذ منها رطبة وقال: "يا علي تأخذ هذه الرطبة؟" فقلت: نعم يا رسول الله، فمد يده وجعله كذا في فمي، ثم أخذ أخرى وقال لي مثل ذلك، فقلت: نعم، فجعلها في فمي، فانتبهت وفي قلبي شوق إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وحلاوة الرطب في فمي، فتوضأت، وذهبت إلى المسجد، فصليت خلف عمر واستند إلى المحراب، فأردت أن أتكلم بالرؤيا، فمن قبل أن أتكلم جاءت امرأة ووقفت على باب المسجد، ومعها طبق رطب، فوضع بين يدي عمر، فأخذ رطبة وقال: تأكل من هذا يا علي؟ قلت: نعم، فجعلها في فمي ثم أخذ أخرى، وقال لي مثل ذلك فقلت: نعم، ثم أخذ أخرى كذلك، ثم فرق على أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يمنة ويسرة، وكنت أشتهي منه، فقال: يا أخي، لو زادك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلتك لزدناك، فعجبت وقلت: قد أطلعه الله على ما رأيت البارحة، فنظر وقال يا علي: المؤمن ينظر بنور الله، قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، هكذا رأيته، وكذا رأيت طعمه ولذته من يدك كما وجدت طعمه ولذته من يد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وروى عبد الله بن عباس قال: كان للعباس ميزاب على طريق عمر، فلبس عمر ثيابه يوم الجمعة وقد كان ذبح للعباس فرخان، فلما وافى الميزاب صب ماء بدم الفرخين فأصاب عمر فأمر عمر بقلعه، ثم رجع عمر فطرح ثيابه ولبس ثيابًا غير ثيابه ثم جاء فصلى بالناس، فأتاه العباس وقال: والله إنه للموضع الذي وضعه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال عمر للعباس: وأنا أعزم عليك لما صعدت على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ففعل ذلك العباس.
محافظته على أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روى ابن أبي نجيح أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "إن الذي يحافظ على أزواجي بعدي فهو الصادق البار". فقال عمر: من يحج مع أمهات المؤمنين؟ فقال عبد الرحمن: أنا!! فكان يحج بهن وينزلهن الشعب الذي ليس فيه منفذ ويجعل على هوادجهن الطيالسة.
أدبه مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روى ابن عمر أنه كان مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم في سفر على بكر صعب لعمر، وكان يتقدم النبي صَلَّى الله عليه وسلم فيقول أبوه: يا عبد الله لا يتقدم النبي صَلَّى الله عليه وسلم أحد. وعن أنس قال: خرج النبي صَلَّى الله عليه وسلم يتبرز فلم يجد أحدًا يتبعه، فهرع عمر فاتبعه بمطهرة، فدخل النبي صَلَّى الله عليه وسلم في شربة، فتنحى عمر خلفه حتى رفع رأسه فقال: "أحسنت!! قد أحسنت يا عمر حين وجدتني ساجدًا فتنحيت عني، إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من صَلَّى عليك من أمتك واحدة صَلَّى الله عليه بها عشرًا ورفع له بها عشر درجات"؛ والشربة بالتحريك حويض يتخذ حول النخلة لتروى منه.
محبته للنبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روى عبد الله بن هشام قال: كنا عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال له عمر: فإنه الآن، والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "الآن يا عمر".
قوة إيمانه وثباته عليه حيًا وميتًا:
روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ذكر فتَّاني القبور فقال عمر: أترد إلينا عقولنا يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نعم كهيئتكم اليوم" فقال عمر: بفيه الحجر. وروي عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم يحدثنا عن الدجال أنه يسلط على نفس يقتلها ثم يحييها فيقول: ألست بربك؟ فيقول: ما كنت قط أكذب منك الساعة، قال: فما كنا نراه إلا عمر بن الخطاب حتى مات أو قتل.
زهده رضي الله عنه:
روى طلحة قال: ما كان عمر بأولنا إسلامًا ولا بأقدمنا هجرة ولكنه كان أزهدنا في الدنيا وأرغبنا في الآخرة. وروي عن ابن عمر أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم كان يعطي عمر العطاء فيقول له عمر: أعطه يا رسول الله من هو أفقر إليه مني، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "خذه فتموَّله أو تصدق به، وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا؛ فلا تتبعه نفسك". قال سالم: فمن أجل ذلك كان ابن عمر لا يسال أحدًا شيئًا ولا يرد شيئًا أعطيه.
وعن ابن أبي مليكة قال: بينا عمر قد وضع بين يديه طعام إذ جاء الغلام فقال: هذا عتبة بن فرقد بالباب، قال: وما أقدم عتبة؟ ائذن له، فلما دخل رأى بين يدي عمر طعامه خبزًا وزيتًا، فقال: اقرب يا عتبة فأصب من هذا، قال: فذهب يأكل فإذا هو بطعام جشب لا يستطيع أن يسيغه، فقال: يا أمير المؤمنين؛ هل لك في طعام يقال له: الحواري؟ قال: ويلك؛ أو يسع ذلك المسلمين؟ قال: لا والله، قال: يا عتبة أفأردت أن آكل طيباتي في حياتي الدنيا وأستمتع بها. وعنه أنه اشتهى سمكًا طريًّا وأخذ يرقى راحلة فسار ليلتين مقبلًا وليلتين مدبرًا واشترى مكتلًا فجاء به، وقام يرقى إلى الراحلة يغسلها من العرق فنظرها عمر فقال: عذبت بهيمة من البهائم في شهوة عمر! والله لا يذوق عمر ذلك. وروي أنه كان يداوم على أكل التمر ولا يداوم على أكل اللحم ويقول: إياكم واللحم؛ فإن له ضراوة كضراوة الخمر، أي أن له عادة نزاعة إليها كعادة الخمر.
خوفه رضي الله عنه:
روى يحيى بن أبي كثير عن عمر أنه قال: لو نادى منادٍ من السماء: يا أيها الناس لا يدخل النار إلا رجل واحد، لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل. وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر أخذ تبنة من الأرض فقال: ليتني كنت هذه التبنة، ليتني لم أخلق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أك شيئًا، ليتني كنت نسيًا منسيًّا. وعن عبد الله بن عيسى قال: كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء. وعن الحسن قال: كان عمر يبكي في وِرده حتى يخرَّ على وجهه ويبقى في بيته أيامًا يعاد. وعن ابن الزبير قال: ما حدث عمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم بعد قوله تعالى: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات: 2] فيسمع كلامه حتى يستفهم مما يخفض صوته فأنزل الله فيه: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ} الآية [الحجرات: 3].
محاسبته نفسه رضي الله عنه:
روى أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطاب، وخرجت معه حتى دخل حائطًا فسمعته وبيني وبينه جدار وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لَتَتَّقِيَنَّ الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك. وروى أنه كان يقول: ما صنعت اليوم صنعت كذا صنعت كذا ثم يضرب ظهره بالدرة.
ورعه رضي الله عنه:
روى المسور بن مخرمة قال: كنا نلتزم عمر نتعلم منه الورع. وروى ابن عمر أن عمر فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف أربعة آلاف، وفرض لابن عمر ثلاثة وخمسمائة فقيل له: هو من المهاجرين، فلم تنقصه عن أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أبوه، يقول ليس هو كمن هاجر بنفسه. وعنه قال: اشتريت إبلًا وارتجعتها إلى الحمى فلما سمنت قدمت بها قال: فدخل عمر السوق فرأى إبلًا سمانًا فقال: لمن هذه؟ فقيل: لعبد الله بن عمر، فجعل يقول: يا عبد الله بخ بخ ابن أمير المؤمنين، قال: فجئته أسعى فقلت: ما لك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما هذه الإبل؟ فقلت: إبلًا أنضاء اشتريتها وبعثت بها الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، اغد على رأس مالك واجعل باقيه في بيت مال المسلمين.
تواضعه رضي الله عنه:
رُوِيَ عنه أنه كان إذا قيل له: اتق الله، فرح وشكر قائله، وكان يقول: رحم الله امرءًا أهدى إلينا عيوبنا. وعن طارق بن شهاب قال: قدم عمر بن الخطاب الشام، فلقيه الجنود وعليه إزار وخفان وعمامة وهو آخذ برأس راحلته يخوض الماء قد خلع خفيه وجعلهما تحت إبطه، قالوا له: يا أمير المؤمنين! الآن تلقاك الجنود، وبطارقة الشام وأنت على هذه الحال، قال عمر: إنَّا قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نلتمس العز من غيره. وعن عبد الله بن عمر أن عمر حمل قربة على عاتقه فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين ما حملك على هذا؟ قال: إن نفسي أعيتني فأردت أن أذلها. وعن زيد بن ثابت قال: رأيت على عمر مرقعة فيها سبع عشرة رقعة فانصرفت إلى بيتي باكيًا، ثم عدت في طريقي فإذا عمر وعلى عاتقه قربة ماء وهو يتخلل الناس، فقلت: يا أمير المؤمنين! فقال لي: لا تتكلم وأقول لك، فسرت معه حتى صبها في بيت عجوز وعدنا إلى منزله فقلت له في ذلك، فقال: إنه حضرني بعد مضيك رسول الروم ورسول الفرس فقالوا: لله درك يا عمر! قد اجتمع الناس على علمك وفضلك وعدلك، فلما خرجوا من عندي تداخلني ما يتداخل البشر فقمت ففعلت بنفسي ما فعلت. وروي أنه قال يومًا على المنبر: يا معاشر المسلمين ماذا تقولون لو ملت برأسي إلى الدنيا كذا؟ ــ وميل رأسه ــ فقام إليه رجل فسل سيفه وقال: أجل! كنا نقول بالسيف كذا ــ وأشار إلى قطعه ــ فقال: إياي تعني بقولك؟ قال: نعم إياك أعني بقولي، فنهره عمر ثلاثًا وهو ينهر عمر، فقال عمر: رحمك الله! الحمد لله الذي جعل في رعيتي من إذا تعوجت قومني.
شفقته على رعيته وتفقُّد أحوالهم وإنصافه لهم ونصحه إياهم:
روى ليث بن أبي سليمان قال: بلغني أن عمر بن الخطاب عوتب في جهده نهارًا في أمور الناس وفي إجهاده ليلًا في أمور آخرته فقال لهم: إن أنا نمت نهاري ضاعت الرعية، وإن نمت ليلي ضيعت نفسي، فكيف بالنوم معهما؟ وعن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: خرجت مع عمر إلى السوق فلحقته امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارًا، والله ما ينضجون كراعًا ولا لهم ضرع ولا زرع وخشيت عليهم الضيعة، وأنا ابنة خفاف بن أيمن الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فوقف معها ولم يمضِ وقال: مرحبًا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطًا في الدار فحمل عليه غرارتين ملأهما طعامًا وجعل بينهما نفقة وثيابًا، ثم ناولها خطامه فقال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها، فقال: ثكلتك أمك!! والله إني لأرى أبا هذه وأخاه وقد حاصرا حصنًا زمانًا فافتتحاه ثم أصبحنا نستفيء سهامهما. وَرُوِىَ أن عمر بن الخطاب طاف ليلة فإذا بامرأة في جوف دار لها حولها صبيان يبكون، وإذا قدر على النار قد ملأتها ماء فدنا عمر من الباب فقال: يا أمة الله!! لأي شيء بكاء هؤلاء الصبيان؟ فقالت: بكاؤهم من الجوع، قال: فما هذه القدر التي على النار؟ قالت: قد جعلتُ فيها ماء أعللها بها حتى يناموا وأوهمهم أن فيها شيئًا، فجلس عمر يبكي، ثم جاء إلى دار الصدقة وأخذ غرارة وجعل فيها شيئًا من دقيق وسمن وشحم وتمر وثياب ودراهم حتى ملأ الغرارة ثم قال: أي أسلم غلامه، احمل علي، قلت: يا أمير المؤمنين أنا أحمله عنك، قال: لا أم لك يا أسلم، أنا أحمله؛ لأني المسؤول عنه في الآخرة، قال: فحمله على عاتقه حتى أتى به منزل المرأة وأخذ القِدْر وجعل فيها دقيقًا وشيئًا من شحم وتمر، وجعل يحركه بيده وينفخ تحت القدر ــ وكانت لحيته عظيمة فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته ــ حتى طبخ لهم، ثم جعل يغرف بيده ويطعمهم حتى شبعوا ثم خرج.
وعن ابن عمر قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلَّى فقال عمر لعبد الرحمن: هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما، فسمع عمر بكاء صبي فتوجه نحوه فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك، ثم عاد إلى مكانه فسمع بكاءه فعاد إلى أمه فقال لها مثل ذلك، ثم عاد إلى مكانه فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه فأتى إلى أمه وقال: ويحك! إني لأراك أم سوء، ما لي لا أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة، إني أربعه على الفطام فيأبى، قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطم، قال: فكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرًا، قال: لا تعجليه، فصلى الفجر وما يستبين الناس ثم غلبه البكاء، فلما سلم قال: يا بؤسا لعمر، كم قتل من أولاد المسلمين، ثم أمر مناديًا ينادي أن لا تعجلوا صبيانكم على الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق أن يفرض لكل مولود في الإسلام.
وعن الأوزاعي أن عمر بن الخطاب خرج في سواد الليل، فرآه طلحة فذهب عمر فدخل بيتًا ثم دخل بيتًا آخر فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه معاهدي منذ كذا وكذا بما يصلحني ويخرج عني الأذى! فقال طلحة: ثكلتك أمك! أعثرات تتبع؟
كتبه رضي الله عنه لعماله وما كان يوصيهم ويأمرهم به:
روى أسلم أن عمر استعمل مولى له على الصدقة يدعى هنيئًا فقال: يا هنيء ضم جناحك عن الناس، واتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنها مجابة، وأدخِلْ رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياي ونَعَم ابن عفان وابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى زرع ونخل، وإن رب الصريمة والغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه فيقول: يا أمير المؤمنين. أفتاركه أنا؟ لا أبا لك!! فالماء والمأكل أيسر من الذهب والفضة، وأيم الله!! إنهم ليرون أنا قد ظلمناهم وإنها لبلادهم ومياههم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا عليها في الإسلام، والله لولا أن المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت على الناس من بلادهم شيئًا.
وعن خزيمة بن ثابت قال: كان عمر إذا استعمل عاملًا كتب عليه كتابًا وأشهد عليه رهطًا من المهاجرين والأنصار ثم يقول له: إني لم استعملك على دماء المسلمين ولا على أعراضهم ولا على أستارهم ولكن استعملتك لتقيم فيهم الصلاة وتقسم فيهم وتحكم بالعدل، ثم يشترط عليه أنه لا يأكل ولا يلبس رفيعًا ولا يركب برذونًا ولا يغلق بابه دون حاجات الناس. وكان يأمر أصحابه بالتقشف فيقول لهم: اخشوشنوا واخشوشبوا. وعن أبي عثمان عبد الرحمن النهدي قال: كتب إلينا عمر ــ ونحن بآذربيجان مع عتبة بن فرقد ــ يا عتبة: إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك، فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم نهى عن لبوس الحرير، قال: "إلا هكذا"، ورفع لنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بأصبعه السبابة والوسطى وضمهما.
وتوفي عمر رضي الله عنه في يوم الأَربعاءِ لأَربع ليال بقين من ذي الحجة، سنة ثلاث وعشرين.
ثالثًا ــ عثمان بن عفان رضي الله عنه:
هو ذو النورين عُثْمَانُ بنُ عَفَّان بنِ أَبي العَاصِ بنِ أُمَيَّة بن عَبْدِ شَمْس بن عبد مَنَاف القرشي الأُمَوِي، يكنى أبا عبد الله، وأبا عمرو، وولد بعد الفيل بست سنين.
اختصاصه بعظيم الشرف وشرف المنقبة بتزوج ابنتي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن أبي هريرة قال: لقي النَّبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم عثمانَ عند باب المسجد فقال: "يا عثمان هذا جبريل أخبرني أن الله قد أمرني أن أزوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل صحبتها". وروى أبو هريرة قال: قال عثمان: لما ماتت امرأته بنت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بكيت بكاء شديدًا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قلت: أبكي على انقطاع صهري منك، قال: "فهذا جبريل يأمرني بأمر الله عز وجل أن أزوجك أختها".
اختصاصه رضي الله عنه بأنه من أشبه الصحابة خُلُقًا بالنبي:
روى أبو هريرة قال: دخلت على رقية بنت النبي صَلَّى الله عليه وسلم وفي يدها مشط فقالت: خرج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من عندي آنفًا رجلت رأسه فقال: "كيف تجدين أبا عبد الله؟" قلت: خير الرجال، قال: "أكرميه فإنه من أشبه أصحابي بي خُلُقًا".
اختصاصه رضي الله عنه بكثرة الحياء وبأنه أصدق الأمة حياء:
روى أنس بن مالك، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال: "أصدق أمتي حياءً عثمان".
اختصاصه رضي الله عنه باستحياء الملائكة منه:
روت عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مضطجعًا في بيته كاشفًا عن فخذيه أو عن ساقيه فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وسوى ثيابه فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تبالِ به، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تبالِ به، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة".
اختصاصه رضي الله عنه بتمنيه محادثته في بعض الأحوال:
روت عائشة قالت: كنت عند النَّبي صَلَّى الله عليه وسلم ذات يوم أنا وحفصة فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "لو كان عندنا رجل يحدثنا؟"، فقلت: يا رسول الله أبعث إلى أبي بكر فيجيء فيحدثنا قالت: فسكت صَلَّى الله عليه وسلم؛ قالت: فدعا رجلًا فأسر إليه شيئًا دوننا فذهب فجاء عثمان وأقبل عليه بوجهه. وعنها قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في مرضه: "وددت أن عندي بعض أصحابي" قالت: فقلت: يا رسول الله، ألا ندعو لك أبا بكر فسكت، قلنا: عمر فسكت، قلنا: عليًّا فسكت، قلنا: عثمان قال: "نعم" قالت: فأرسلنا إلى عثمان.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ادعوا إلي أخي!" قلنا: أبو بكر؟ قال: "ادعو إليَّ أخي" قلنا: عمر؟ قال: "ادعوا إلي أخي!" قلنا: عثمان؟ قال: "نعم".
اختصاصه رضي الله عنه بتجهيز جيش العسرة:
روى عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال: يا رسول الله، علي ثلثمائة بعير بأحلاسها في سبيل الله؛ فأنا رأيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول: "ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه". وقال أبو عمر: جهز عثمان جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيرًا، وأتم الألف بخمسين فَرَسًا. وروي عن قتاده أنه قال: حمل عثمان في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرسًا. وعن ابن شهاب الزهري: حمل عثمان بن عفان في غزوة تبوك على تسعمائة وأربعين بعيرًا وستين فرسًا أتم بها الألف. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان بن عفان بألف دينار في كمه ــ حين جهز جيش العسرة ــ فنثرها في حجره صَلَّى الله عليه وسلم فرأيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقلبها في حجره ويقول: "ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم".
اختصاصه رضي الله عنه بتسبيل بئر رومة:
روى بشر بن بشير الأسلمي، عن أبيه قال: لما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكان لرجل من بني غفار عين يقال لها: رومة، وكان يبيع منها القربة بمدٍّ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "تبيعها بعين في الجنة؟" فقال: يا رسول الله ليس لي ولا لعيالي عين غيرها، لا أستطيع ذلك، قال: فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال: اجعل لي مثل الذي جعلت له عينًا في الجنة، قال: "نعم". قال: قد اشتريتها وجعلتها للمسلمين. وفيه دلالة على أن صاحبها كان مسلمًا.
اختصاصه بإجابة النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى توسيع مسجده صَلَّى الله عليه وسلم:
روى الأحنف بن قيس قال: قدمنا المدينة فجاء عثمان فقيل: هذا عثمان، وعليه ملبة صفراء قد قنع بها رأسه، قال: ههنا علي؟ قالوا: نعم، قال: ههنا طلحة؟ قالوا: نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "من يبتاع مربد بني فلان غفر الله له" فابتعته بعشرين ألفًا أو خمسة وعشرين ألفًا، فأتيت النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقلت: قد ابتعته فقال: "اجعله في مسجدنا وأجره لك؟" فقالوا: اللهم نعم، فقال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "من يبتاع رومة غفر الله له"، فابتعتها بكذا وكذا ثم أتيته فقلت: قد ابتعتها قال: "اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك؟" فقالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو أتعلمون أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم نظر في وجه القوم فقال: "من يجهز هؤلاء غفر الله له" ــ يعني جيش العسرة ــ فجهزتهم حتى لم يفقدوا عقالا ولا خطاما؟ قالوا: اللهم نعم، قال: اللهم اشهد ثلاثًا.
اختصاصه رضي الله عنه بكتابة الوحي حال الوحي:
روت فاطمة بنت عبد الرحمن، عن أمها أنها سألت عائشة وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان فإن الناس قد شتموه، فقالت: لعن الله من لعنه فوالله لقد كان قاعدًا عند نبي الله صَلَّى الله عليه وسلم وإن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لمسند ظهره إليَّ، وإن جبريل ليوحي إليه القرآن، وإنه ليقول له: "اكتب يا عثيم" فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريمًا على الله ورسوله.
اختصاصه بكتابة سر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
روى جعفر بن محمد، عن أبيه قال: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إذا جلس جلس أبو بكر عن يمينه، وعمر عن يساره، وعثمان بين يديه، وكان كاتب سر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
اختصاصه رضي الله عنه بمرافقة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في الجنة:
روى زيد بن أسلم، عن أبيه قال: شهدت عثمان يوم حوصر ولو ألقي حجرًا لم يقع إلا على رأس رجل فرأيت عثمان أشرف من الخوخة التي تلي مقام جبريل على الناس وقال لطلحة: أنشدك الله أتذكر يوم كنت أنا وأنت مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في موضع كذا وكذا ليس معه أحد من أصحابه غيري وغيرك، قال: نعم، فقال لك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا طلحة، إنه ليس من نبي إلا ومعه من أصحابه رفيق في الجنة وإن عثمان" ــ يعنيني ــ "رفيقي في الجنة"، قال طلحة: اللهم نعم، ثم انصرف.
اختصاصه رضي الله عنه بصبره نفسه على القتل وجمعه القرآن:
روى عبد الرحمن بن مهدي قال: كان لعثمان شيئان ليسا لأبي بكر وعمر صبره نفسه حتى قُتِلَ مظلومًا، وجمعه الناس على المصحف. وروى أنس أن حذيفة قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفةَ اختلافُهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرِكْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك فأرسلت بها إليه فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
اختصاصه بخلال عشر اختبأها عند الله عز وجل:
روى أبو بشور الفهمي قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: لقد اختبأت ربي عشرًا ــ أني لرابع أربعة في الإسلام، وجهزت جيش العسرة، وجمعت القرآن على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وائتمنني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على ابنته ثم توفيت فزوجني الأخرى، وما تغنَّيت مما تمنَّيت، وما وضعت يدي اليمنى على فرجي منذ بايعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما مرَّت بي جمعة إلا وأنا أعتق فيها رقبة إلا أن لا تكون عندي فأعتقها بعد ذلك، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا سرقت. وقوله: تمنيت أي كذبت، وقوله: وتغنيت من الغناء.
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم بأنه على الحق:
روى كعب بن عجرة قال: ذكر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فتنة فقربها وعظمها قال: ثم مر رجل مقنع في ملحفة فقال: "هذا يومئذ على الحق"، فانطلقت فأخذت بضبعيه فقلت: هذا يا رسول الله؟، قال: "هذا" فإذا هو عثمان بن عفان.
فراسته رضي الله عنه:
رُوِيَ أن رجلًا دخل على عثمان وقد نظر امرأة أجنبية فلما نظر إليه قال: هاء!! أيدخل عليَّ أحدكم وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال له الرجل: أوحي بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: لا!! ولكن قول حق وفراسة صدق.
كراماته رضي الله عنه:
روى نافع أن جهجاه الغفاري تناول عصا عثمان وكسرها على ركبته فأخذته الأكلة في رجله. وعن أبي قلابة قال: كنت في رفقة بالشام إذ سمعت صوت رجل يقول: يا ويلاه النار!! قال: فقمت إليه وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين أعمى العينين منكبًّا لوجهه فسألته عن حاله فقال: إني قد كنت ممن دخل على عثمان الدار فلما دنوت منه صرخت زوجته فلطمتها، فقال: ما لك قطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار، فأخذتني رعدة عظيمة وخرجت هاربًا فأصابني ما ترى ولم يبقَ من دعائه إلا النار قال: فقلت له: بعدًا لك وسحقًا.
تعبده رضي الله عنه:
روى محمد بن سيرين قال: كان عثمان يحيي الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن، وعنه قال: قالت امرأة عثمان ــ حين أطافوا به يريدون قتله ــ إن يقتلوه أو يتركوه، فإنه كان يحيي الليل كله بركعة يجمع فيها القرآن. وعن عثمان بن عبد الرحمن التيمي قال: قلت: لأغلبن الليلة على المقام، قال: فلما صلينا العتمة تخلصت إلى المقام حتى قمت فيه قال: فبينا أنا قائم إذا رجل وضع يده بين كتفي فإذا هو عثمان بن عفان: فبدأ بأم القرآن يقرأ حتى ختم القرآن فركع وسجد ثم أخذ نعليه فلا أدري صَلَّى قبل ذلك شيئًا أم لا.
وروى الزبير بن عبد الله، عن جدته قالت: كان عثمان يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله.
صدقاته رضي الله عنه:
روى ابن عباس قال: قحط الناس في زمان أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه قال: قدمت لعثمان ألف راحلة بُرًا وطعامًا، قال: فغدا التجار على عثمان فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: قد بلغنا أنه قد قدم لك ألف راحلة بُرًّا وطعامًا، بعنا حتى نوسع به على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا، فدخلوا فإذا ألف وقر قد صب في دار عثمان، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة أربعة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: العشرة خمسة عشر، قال: قد زادوني، قالوا: من زادك ونحن تجار المدينة؟ قال: زادني بكل درهم عشرة، عندكم زيادة؟ قالوا: لا!! قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة، قال عبد الله: فبت ليلتي فإذا أنا برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في منامي وهو على برذون أشهب يستعجل وعليه حلة من نور وبيده قضيب من نور وعليه نعلان شراكهما من نور، فقلت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد طال شوقي إليك، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: إني مبادر؛ لأن عثمان تصدق بألف راحلة، وإن الله تعالى قد قبلها منه وزوجه بها عروسًا في الجنة، وأنا ذاهب إلى عرس عثمان.
زهده رضي الله عنه:
روى شرحبيل بن مسلم قال: كان عثمان يطعم الناس طعام الإمارة، ويأكل الخل والزيت. وعن عبد الله بن شداد قال: رأيت عثمان يوم الجمعة يخطب وهو يومئذ أمير المؤمنين وعليه ثوب قيمته أربعة دراهم أو خمسة دراهم.
خوفه رضي الله عنه:
روى أبو الفرات قال: كان لعثمان عبد فقال له: إني كنت عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه، ثم قال عثمان: اشدد، يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة. وروي عنه أنه قال: لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رمادًا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير، وعن حماد بن زيد قال: رحم الله أمير المؤمنين عثمان، حوصر نيفًا وأربعين ليلة لم تبد منه كلمة يكون لمبتدع فيها حجة.
تواضعه رضي الله عنه:
روى الحسن قال: رأيت عثمان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه فيجلس كأنه أحدهم، وفي رواية قال: رأيت عثمان نائمًا في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين. وفي رواية قال: رأيت عثمان يقيل في المسجد ويقوم وأثر الحصا في جنبه فيقول الناس: هذا أمير المؤمنين. وعن علقمة بن وقاص أن عمرو بن العاص قام إلى عثمان وهو يخطب الناس فقال: يا عثمان إنك قد ركبت بالناس النهابير وركبوها منك، فتب إلى الله عز وجل وليتوبوا، قال: فالتفت إليه عثمان وقال: وأنت هناك يا ابن النابغة، ثم رفع يديه واستقبل القبلة وقال: أتوب إلى الله تعالى! اللهم إني أول تائب إليك.
شفقته رضي الله عنه على رعيته:
روى سليمان بن موسى أن عثمان بن عفان دُعي إلى قوم كانوا على أمر قبيح فخرج إليهم فوجدهم قد تفرقوا ورأى أمرًا قبيحا، فحمد الله إذ لم يصادفهم وأعتق رقبة.
ثناء علي رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه:
روت أم عمرو بنت حسان بن يزيد بن أبي الغض ــ قال أحمد بن حنبل وكانت عجوز صدق ــ قالت: حدثني أبي قال: دخلت المسجد الأكبر ــ مسجد الكوفة، وعليٌّ قائم على المنبر يخطب الناس وهو ينادي بأعلى صوته ثلاث مرات: يا أيها الناس!! يا أيها الناس!! إنكم تكثرون في عثمان وإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. أيها الناس، هذه لنا خاصة.
وصية عثمان رضي الله عنه:
روى العلاء بن الفضل، عن أمه قالت: لما قُتل عثمان فتشوا خزانته فوجدوا فيها صندوقًا مقفلا ففتحوه فوجدوا فيه ورقة مكتوب فيها: هذه وصية عثمان: "بسم الله الرحمن الرحيم" عثمان بن عفان يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الله يبعث من في القبور ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد، عليها يحيى وعليها يموت وعليها يبعث إن شاء الله. ووجدوا في ظهرها مكتوبًا:
غنى النفس يغني النفس حتى يجــلها وإن غضها حتى يضر بها الفقر
ومــــــا عسرة فاصبر لهـــــا إن لقيتها بـــــكائنــــة إلا سيتبعـــــها يســر
ومن لم يقاس الدهر لم يعــرف الأسى وفي غِيَرِ الأيام ما وعـــد الدهـر
وكانت وفاته رضي الله عنه في يوم الجمعة لثمان ليالٍ خلَتْ من ذي الحجّة يوم التلبية سنة خمس وثلاثين.
رابعًا ــ علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
هو عَلِيّ بنُ أَبِي طَالِبِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِب الهاشِميّ القرشيّ، ويُكنى أبا الحسن، ووُلِد قبل البعثة بعشر سنين.
اختصاصه رضي الله عنه بأنه من النبي صَلَّى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى:
روى سعد بن أبي وقاص قال: خلف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عليًّا في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟ قال: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؛ إلا أنه لا نبي بعدي". ولما نزل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الجرف، طعن رجال من المنافقين في إمرة علي وقالوا: إنما خلفه استثقالا، فخرج عليٌ فحمل سلاحه حتى أتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالجرف فقال: يا رسول الله ما تخلفت عنك في غزاة قط قبل هذه؛ قد زعم المنافقون أنك خلفتني استثقالا فقال: "كذبوا ولكن خلفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي، أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي".
اختصاصه رضي الله عنه بأنه أقرب الناس قرابة من النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روى الشعبي أن أبا بكر نظر إلى علي بن أبي طالب فقال: من سره أن ينظر إلى أقرب الناس قرابة من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأعظمهم عنه غنى، وأحظهم عنده منزلة، فلينظر، وأشار إلى علي بن أبي طالب.
اختصاصه رضي الله عنه بإخاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روى ابن عمر قال: آخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه قال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخِ بيني وبين أحد، قال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أنت أخي في الدنيا والآخرة".
اختصاصه رضي الله عنه بإقامة النبي صَلَّى الله عليه وسلم إياه مقامه في نحر بقية بدنه، وإشراكه إياه في هديه صَلَّى الله عليه وسلم:
روى جابر حديثه الطويل، وفيه: فنحر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين بدنة بيده وأعطى عليًّا فنحر ما غبر منها وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت فأكلا من لحمها، وشربا من مرقتها. وعن علي قال: أمرني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأن لا أعطي الجزار منها شيئا.
اختصاصه رضي الله عنه بغسل النبي صَلَّى الله عليه وسلم لما تُوفي:
قال ابن اسحاق: لما غَسَّل النَّبيَ صَلَّى الله عليه وسلم عليٌّ أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ولا يفضي بيده إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ويقول: بأبي وأمي ما أطيبك حيا وميتا!! ولم يرَ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم شيء يُرى من الميت، وكان العباس، والفضل، وقثم يساعدون عليا في تقليب النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وكان أسامة بن زيد، وشقران يصبان الماء عليه.
اختصاصه رضي الله عنه بتزويج فاطمة رضي الله عنها:
روى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: جاء أبو بكر إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقعد بين يديه فقال: يا رسول الله قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وإني وإني، قال: "وما ذاك؟" قال: تزوجني فاطمة، قال: فسكت عنه قال: فرجع أبو بكر إلى عمر فقال: هلكتُ وأهلكتُ، قال: وما ذاك؟ قال: خطبتُ فاطمة إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فأعرض عني، قال عمر: مكانك حتى آتي النبي صَلَّى الله عليه وسلم فأطلب مثل الذي طلبت، فأتى عمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقعد بين يديه، فقال: يا رسول الله، قد علمت مناصحتي وقدمي في الإسلام وإني وإني، قال: "وما ذاك؟" قال: تزوجني فاطمة، فسكت عنه، فرجع إلى أبي بكر، فقال: إنه ينتظر أمر الله بها، قم بنا إلى علي حتى نأمره يطلب مثل الذي طلبنا، قال علي: فأتياني وأنا أعالج فسيلًا لي، فقالا: إنا جئناك من عند ابن عمك بخطبة، قال علي: فنبهاني لأمر، فقمت أجر ردائي حتى أتيت النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقعدت بين يديه، فقلت: يا رسول الله، قد علمت قدمي في الإسلام ومناصحتي وإني وإني، قال: "وما ذاك؟" قلت: تزوجني فاطمة، قال: "وما عندك؟" قلت: فرسي وبزَّتي، قال: "أما فرسك فلا بد لك منها وأما بزتك فبعها" قال: فبعتها بأربعمائة وثمانين، قال: فجئت بها حتى وضعتها في حجر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقبض منها قبضة، فقال: "أي بلال ابغنا بها طيبًا وأمرهم أن يجهزوها"، فحمل لها سريرًا مشرطًا بالشرط ووسادة من أدم حشوه ليف، وقال لعلي: "إذا أتتك فلا تحدث شيئا حتى آتيك"، فجاءت مع أم أيمن حتى قعدت في جانب البيت وأنا في جانب، وجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "ها هنا أخي" قالت أم أيمن: أخوك وقد زوجته ابنتك، قال: "نعم"، ودخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم البيت فقال لفاطمة: "ائتني بماء"، فقامت إلى قعب في البيت فأتت به بماء فأخذه النبي صَلَّى الله عليه وسلم ومج فيه ثم قال: "تقدمي" فتقدمت فنضح بين ثدييها وعلى رأسها، وقال: "اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، ثم قال لها: "أدبري" فأدبرت فصب بين كتفيها وقال: "اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، ثم قال: رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ائتوني بماء" قال علي: فعلمت الذي يريد فقمت فملأت القعب ماء وأتيته به فأخذه ومج فيه ثم قال: "تقدم" فصب على رأسي وبين ثديي ثم قال: "اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم"، ثم قال: "أدبر" فأدبرت فصب بين كتفي وقال: "اللهم إني أعيذه بك وذريته من الشيطان الرجيم"، ثم قال لعلي: "ادخل بأهلك بسم الله والبركة".
اختصاصه رضي الله عنه بإعطائه الراية يوم خيبر وبفتحها:
روى سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "لأعطين الراية غدًا رجلا يفتح الله على يديه"، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" قالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: "فأرسلوا إليه" فلما جاء بصق في عينيه ودعا له فبرىء حتى كأن لم يكن به وجع؛ وأعطاه الراية فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، قال: "ابتدئ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدًا، خير لك من أن يكون لك حمر النعم".
اختصاصه رضي الله عنه بأنه وزوجته وابنيه أهل البيت:
روت أم سلمة أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم جلل على الحسن والحسين وعلي وفاطمة كساء، وقال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] دعا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فاطمة، وعليًا، وحسنًا، وحسينًا في بيت أم سلمة، وقال: "اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا".
اختصاصه رضي الله عنه بحمله راية النبي صَلَّى الله عليه وسلم يوم بدر وفي المشاهد كلها:
روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان علي آخذًا راية رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم بدر، قال الحكم: يوم بدر والمشاهد كلها.
اختصاصه رضي الله عنه بكتابة كتاب الصلح يوم الحديبية:
روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان كاتب كتاب الصلح يوم الحديبية علي بن أبي طالب، قال عبد الرزاق: قال معمر: فسألت عنه الزهري فضحك ــ أو قال تبسم، وقال: هو علي، ولو سألت هؤلاء لقالوا: هو عثمان ــ يعني بني أمية. وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال عمر: ثلاث خصال لعلي لأن يكون لي خصلة منهن أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم: تزويج فاطمة بنت النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وسكناه في المسجد مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وإعطاؤه الراية يوم خيبر.
اختصاصه رضي الله عنه بأنه أقضى الأمة:
روى أنس رضي الله عنه عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال: "أقضى أمتي علي". وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: أقضانا علي بن أبي طالب. وعن ابن مسعود قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي بن أبي طالب.
دعاؤه صَلَّى الله عليه وسلم لعلي حين ولَّاه قضاء اليمن:
روى علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا وأنا حديث السن فقلت: يا رسول الله، تبعثني إلى قوم يكون بينهم أحداث ولا علم لي بالقضاء؟ قال: "إن الله سيهدي لسانك ويثبت قلبك". قال: فما شككت في قضاء بين اثنين، وفي رواية: "إن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك" قال: ثم وضع يده على فمه.
اختصاصه رضي الله عنه بأربعة ليست لأحد غيره:
روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعلي أربع خصال ليست لأحد غيره: هو أول عربي وعجمي صَلَّى مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحفه، وهو الذي صبر معه يوم فرَّ عنه غيره، وهو الذي غسَّله وأدخله قبره.
أفضلية علي رضي الله عنه:
قد أجمع أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر أن عليًّا أفضل الناس بعد عثمان هذا مما لم يختلف فيه. وَرُوِيَ أن معاوية قال لضرار الصدائي: صف لي عليًا، فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: لتصفنه، قال: أما إذ لا بد من وصفه: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس إلى الليل ووحشته، وكان غزير العَبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظِّم أهل الدين، ويقرب المساكين، ولا يطمع القوي في باطه، ولا ييأس الضعيف من عدله؛ وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضًا على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: يا دنيا غري غيري، إلي تعرضت، أم إلي تشوقت؟ هيهات! هيهات! قد طلقتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه آه من قلة الزاد، وبُعْدِ السفر، ووحشة الطريق! فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك؛ فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ قال: حزن من ذُبِحَ واحدُها في حِجْرها.
وروي عن الحسن بن أبي الحسن وقد سئل عن علي بن أبي طالب قال: كان علي والله سهمًا صائبًا من مرامي الله على عدوه، وربانيّ هذه الأمة وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لم يكن بالنومة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله عز وجل، ولا بالسُّرَقة لمال الله عز وجل، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة؛ ذلك علي بن أبي طالب.
طرق النبي صَلَّى الله عليه وسلم عليا ليلًا يأمره بصلاة الليل:
روي عن علي أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلا فقال: "ألا تصلون؟" فقلت: يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله عز وجل، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حين قلت ذلك، فسمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ اْلإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54].
علمه وفقهه:
روي عن محمد بن كعب القرظي قال: كان ممن جمع القرآن على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو حي عثمان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود من المهاجرين، وسالم مولى أبي حذيفة. وعن محمد بن قيس قال: دخل ناس من اليهود على علي بن أبي طالب، فقال له: ما صبرتم بعد نبيكم إلا خمسا وعشرين سنة حتى قتل بعضكم بعضا؛ قال: فقال علي: قد كان صبر وخير، قد كان صبر وخير، ولكنكم ما جفت أقدامكم من البحر حتى قلتم: يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما انتفعت بكلام بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلا شيء كتب به إليّ علي بن أبي طالب، فإنه كتب: "بسم الله الرحمن الرحيم". أما بعد: يا أخي، فإنك تسر بما يصل إليك مما لم يكن يفوتك، ويسوؤك ما لم تدركه، فما نلت يا أخي من الدنيا فلا تكن به فرِحًا، وما فاتك فلا تكن عليه حزنا، وليكن عملك لما بعد الموت، والسلام.
اتباعه للسنة:
روي عن جابر رضي الله عنه حديثه الطويل في صفة حج النبي صَلَّى الله عليه وسلم وفيه: أن عليا قدم من اليمن ببدن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ماذا قلت حين فرضت الحج؟" فقال: قلت: اللهم إني أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولك صَلَّى الله عليه وسلم. وعن علي رضي الله عنه قال: رأينا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا يعني في الجنازة.
وعن أبي مطر البصري قال: رأيت عليا اشترى ثوبا بثلاثة دراهم، فلما لبسه قال: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي، ثم قال: هكذا سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وعن علي أنه كان يقول: إني لست نبيًا ولا يوحى إلي، ولكن أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت، فما أمرتكم من طاعة الله فحق عليكم طعاتي فيما أحببتم وكرهتم.
شدته في دين الله عز وجل:
روي عن سويد بن غفلة قال: قال رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حديثا فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وفي رواية: أن أقول عليه ما لم يقل.
أذكاره وأدعيته:
وعن عبد الله بن الحارث الهمداني أن عليًا كان يقول في ركوعه: اللهم لك ركعت وبك آمنت، وأنت ربي، ركع سمعي وبصري ولحمي ودمي وشعري وعظمي، تقبل مني أنت السميع العليم، فإذا رفع رأسه من الركوع وأراد أن يسجد قال: لك أركع وأسجد، وأقوم وأقعد، وإذا سجد قال: اللهم لك سجدت، وبك آمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين، الحمد لله رب العالمين، ويقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني.
صدقته:
روي عن علي رضي الله عنه قال: رأيتني مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع وإن صدقتي اليوم لأربعون ألفا، وفي رواية: وإن صدقة مالي لأربعون ألف دينار.
زهده:
وروي عن عبد الله بن أبي الهذيل قال: رأيت عليا خرج وعليه قميص رازي إذا قمصه بلغ الظفر، وإذا أرسله صار إلى نصف الساعد، وروي عن الحسن بن جرموز عن أبيه قال: رأيت علي بن أبي طالب يخرج من مسجد الكوفة وعليه قطريتان مؤتزرًا بواحدة، مرتديًا بالأخرى، وإزاره إلى نصف الساق وهو يطوف بالأسواق، ومعه درة، يأمرهم بتقوى الله عز وجل، وصدق الحديث، وحسن البيع والوفاء بالكيل والميزان.
وروي عن أبي سعيد الأزدي قال: رأيت عليا في السوق وهو يقول: من عنده قميص صالح بثلاثة دراهم؟ فقال رجل: عندي، فجاء به فأعجبه فأعطاه ثم لبسه فإذا هو يفضل عن أطراف أصابعه فأمر به فقطع ما فضل عن أصابعه.
وروي عن عمر بن قيس قال: قيل لعلي: يا أمير المؤمنين، لم ترفع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن، وعن سهل بن سعد أن علي بن أبي طالب دخل على فاطمة والحسن والحسين يبكيان فقال: ما يبكيهما؟ قالت: اذهب إلى فلان اليهودي فخذ لنا به دقيقًا، فجاء إلى اليهودي فاشترى به دقيقا فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه رسول؟ قال: نعم، قال: فخذ دينارك ولك الدقيق، فخرج علي حتى جاء به فاطمة فأخبرها فقالت: اذهب إلى الجزار فخذ لنا بدرهم لحما، فذهب فرهن الدينار بدرهم لحم، فجاء به وعجنت ونصبت وخبزت، وأرسلت إلى أبيها، فجاءهم، فقال: يا رسول الله أذكر لك، فإن رأيته حلالًا أكلنا وأكلت، من شأنه كذا وكذا، فقال: " كلوا بسم الله"، فأكلوا، فبينما هم مكانهم إذا غلام ينشد الله والإسلام الدينار، فأمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فدعي له، فسأله فقال: سقط مني في السوق، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "يا علي اذهب إلى الجزار، فقل له إن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول لك: أرسل إلي بالدينار، ودرهمك علي فأرسل به ". فدفع إليه.
وروي عن أسماء بنت عميس عن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أتاها يومًا فقال: "أين ابناي؟" يعني: حسنًا وحسينًا، قالت: أصبحنا وليس في بيتنا شيء نذوقه، فقال علي: أذهب بهما، فإني أتخوف أن يبكيا عليك، وليس عندك شيء؛ فذهب بهما إلى فلان اليهودي. فتوجه إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فوجدهما يلعبان في مسربه، بين أيديهما فضل من تمر، فقال: "يا علي ألا تقلب ابني قبل أن يشتد الحر عليهما؟" قال: فقال علي: أصبحنا وليس في بيتنا شيء، فلو جلست يا رسول حتى أجمع لفاطمة تمرات؟ فجلس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وعلي ينزع لليهودي كل دلو بتمرة حتى اجتمع له شيء من تمر فجعله في حجزته، ثم أقبل فحمل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أحدهما وحمل علي رضي الله عنه الآخر.
وعنه أن فاطمة شكت ما تلقى من أثر الرحا، فأتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم سبي فانطلت فلم تجده فوجدت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم أخبرته عائشة بمجيء فاطمة، فجاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلينا وقد أخذنا مضاجعنا، فذهبت لأقوم فقال: "على مكانكما"، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على صدري، فقال: "ألا أعلمكما خيرًا مما سألتماني؟ إذا أخذتما مضاجعكما فكبرا أربعًا وثلاثين، وسبحا ثلاثًا وثلاثين، وأحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم يخدمكما".
تواضعه:
عن أبي صالح بياع الأكسية عن جده قال: رأيت عليا اشتري تمرًا بدرهم فحمله في ملحفته، فقيل: يا أمير المؤمنين ألا نحمله عنك؟ قال: أبو العيال أحق بحمله. وعن زاذان قال: رأيت عليا يمشي في الأسواق فيمسك الشسوع بيده، فيناول الرجل الشسع، ويرشد الضال، ويعين الحمال على الحمولة، وهو يقرأ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ثم يقول كهذه الآية نزلت في ذي القدرة من الناس.
حياؤه من النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن علي رضي الله عنه قال: كنت رجلا مذاء، فكنت أستحي أن أسأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت المقداد بن الأسود فقال: "يغسل ذكره ويتوضأ".
إسلام همدان على يديه:
روي عن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام، وكنت في من سار معه، فأقام عليهم ستة أشهر لا يجيبونه إلى شيء؛ فبعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأمره أن يرسل خالدا ومن معه إلاّ من أراد البقاء مع علي فيتركه، قال البراء: وكنت مع من عقب مع علي، فلما انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر، فجمعوا له، فصلى عليٌّ بنا الفجر، فلما فرغ صفنا صفا واحدًا ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما قرأ كتابه خر ساجدًا وقال: "السلام على همدان، السلام على همدان".
وتوفي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة أربعين.
خامسًا ــ طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه:
هو طَلْحَة بن عُبَيْد اللّه بن عُثْمان القُرَشي التَّيْمِي، وكنيته أبو محمد. ووُلِد هو وعلي، والزبير، وسعد بن أبي وقّاص، في عام واحد؛ قبل البعثة بعشر سنين. وكان يلقب بطلحة الخير، لقبه به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم أحد، وقيل: في وقعة بدر، حين غاب عنها في حاجة المسلمين، وطلحة الفياض، لقبه به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم غزوة ذات العشيرة، وطلحة الجود، لقبه به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم حنين. حكاه ابن قتيبة وصاحب الصفوة ومشكل الصحيحين والفضائلي والطائي وغيره، وعن طلحة بن عبيد الله قال: سماني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم أحد طلحة الخير، وفي عزوة العشيرة طلحة الفياض، ويوم حنين طلحة الجود. ودعاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الصبيح المليح الفصيح؛ وإنما لقب بطلحة الجود وطلحة الفياض لسعة عطائه وكرمه، وكان جوادًا؛ وسيأتي من وصف جوده طرف في بابه إن شاء الله تعالى، وغزوة ذات العشيرة، ويقال العشيرة، وهو موضع ببطن ينبع.
وروي عن موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزورًا، وحفر بئرًا يوم ذي قرد فأطعمهم وسقاهم؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الفياض: وقال اشترى طلحة بئرًا فتصدق بها، ونحر جزورًا، فأطعمهم وسقاهم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا طلحة، أنت الفياض". فسمي طلحة الفياض.
وأما طلحة الطلحات الذي قيل فيه:
رحم الله أعظمًا دفنوها بسجستان طلحة الطلحات
فهو رجل من خزاعة، ذكره ابن قتيبة.
وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد الستة الذين جعل عمر فيهم الشورى وأخبر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راضٍ؛ وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر.
اختصاصه بالبروك يوم أحد للنبي صَلَّى الله عليه وسلم حتى صعد على ظهره إلى صخرة:
عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: كان على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم أحد درعان، فذهب لينهض على صخرة فلم يستطع، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته وصعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على ظهره حتى صعد على الصخرة؛ قال الزبير: فسمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أوجَبَ طلحة".
اختصاصه بيوم أحد:
روي عن عائشة قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد، قال: ذلك كله يوم طلحة، قال أبو بكر: كنت أول من جاء يوم أحد، فقال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولأبي عبيدة بن الجراح: "عليكما"؛ يريد طلحة، وقد نزف، فأصلحنا من شأن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم أتينا طلحة في بعض تلك الحفار، فإذا فيه بضع وسبعون أو أقل أو أكثر بين طعنة وضربة ورمية، وإذا قد قطعت أصبعه، فأصلحنا من شأنه. وأخرج أبو حاتم معناه ولفظه: قال: قال أبو بكر: لما صرف الناس يوم أحد عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كنت أول من جاء إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فجعلت أنظر إلى رجل بين يديه يقاتل عنه ويحميه، فجعلت أقول: كن طلحة، فداك أبي وأمي، مرتين؛ ثم نظرت إلى رجل خلفي، كأنه طائر، فلم أنشب أن أدركني، فإذا أبو عبيدة بن الجراح، فدفعنا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وإذا طلحة بين يديه صريع؛ فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "دونكم أخاكم"، فأهويت إلى ما رمي به في جبهته ووجنته لأنزعه؛ قال لي أبو عبيدة: نشدتك الله يا أبا بكر إلا تركتني، قال: فتركته، فأخذ أبو عبيدة السهم بفمه فجعل ينضنضه، ويكره أن يؤذي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم استله بفمه؛ ثم أهويت إلى السهم الذي في وجنته لأنزعه؛ فقال أبو عبيدة: نشدتك بالله يا أبا بكر إلا تركتني، فأخذ السهم بفمه، وجعل ينضنضه، ويكره أن يؤذي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثم استله؛ وكان طلحة أشد نهكة من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أشد منه، وكان قد أصاب طلحة بضعة وثلاثون من طعنة وضربة ورمية، وينضنضه: أي يحركه؛ يقال بالصاد والضاد معا، وأشد نهكة: أشد جراحة وجهدًا وألمًا.
وروي عن قيس بن أبي حازم قال: رأيت يد طلحة بن عبيد الله شلاء؛ وقى بها النبي صَلَّى الله عليه وسلم يوم أحد، وعن أبي عثمان قال: لم يبقَ مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد.
اختصاصه بمسح رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جسده بيده الكريمة يوم أحد فقام صحيحًا:
روي عن أبي هريرة أن طلحة لما جرح يوم أحد مسح صَلَّى الله عليه وسلم بيده على جسده، وقال: "اللهم اشفه وقوه"؛ فقام صحيحًا فرجع إلى العدو.
اختصاصه بالمبادرة إلى تسوية رحل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حين دعا إلى ذلك:
روي عن عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلة، وقد سقط رحله، يقول: "من يسوي رحلي وله الجنة؟" فبدر طلحة بن عبيد الله فسواه حتى ركب؛ فقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "يا طلحة هذا جبريل يقرئك السلام، ويقول: أنا معك في أهوال يوم القيامة حتى أنجيك منها".
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالجنة:
وروي عن علي بن أبي طالب قال: سمعت أذني من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو يقول: "طلحة والزبير جاراي في الجنة". وعن الزبير قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم أحد يقول: "أوجب طلحة الجنة".
وروي عن طلحة قال: كان بيني وبين عبد الرحمن بن عوف مال، فقاسمته إياه، فأراد شربًا في أراضي، فمنعته، فأتى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فشكاني إليه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أتشكو رجلا قد أوجب؟" فأتاني فبشرني، فقلت: يا أخي أبلغ من المال ما تشكوني فيه إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: قد كان ذلك؛ قال: فإني أشهد الله وأشهد رسوله صَلَّى الله عليه وسلم أنه لك.
إثبات سهمه من غنيمة بدر وأجره ولم يحضر:
روي عن ابن شهاب قال: لم يشهد طلحة بدرًا، وقدم من الشام بعد مرجع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من بدر، فكلم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في سهمه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم "لك سهمُك". قال: وأجري يا رسول الله؟ قال "وأجرك"؛ فلذلك كان معدودا في البدريين.
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالشهادة:
في حديث تحرك حراء وقوله صَلَّى الله عليه وسلم: "اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"، وكان طلحة ممن كان معه صَلَّى الله عليه وسلم، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله".
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له أنه ممن قضى نحبه:
روي عن موسى بن معاوية قال: دخلت على معاوية فقال: ألا أبشرك؟ سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "طلحة ممن قضى نحبه". وروي عن طلحة أن أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكان لا يجترئون على مسألته؛ يوقرونه ويهابونه، فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض ثم إني طلعت من باب المسجد وعلي ثياب خضر، فلما رآني النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أين السائل عمن قضى نحبه؟" قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: "هذا ممن قضى نحبه".
إثبات الرجاء بأنه ممن قال الله تعالى فيه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43].
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إني والله لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. وروي عن أبي حبيبة عن مولى طلحة قال: دخلت على علي مع عمران بن طلحة، بعد ما فرغ من أصحاب الجمل، فرحب به وأدناه، وقال: إني لأرجو أن يجعلني وأباك من الذين قال الله تعالى فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ}. الآية، وقال: يا ابن أخي كيف فلان؟ كيف فلان؟ وسأله عن أمهات أولاد ابنه، ثم قال: لم نقبض أرضكم هذه إلا مخافة أن ينهبها الناس، يا فلان، انطلق به إلى ابن قرطة؛ مُرْهُ فليعطه غلته، وليدفع إليه أرضه، فقال رجلان جالسان ناحيةً؛ أحدهما الحارث الأعور: الله أعدل من ذلك أن يقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة، فقال: قُومَا، وأبعدهما وأسحقهما، فمن هو إذا لم أكن أنا وطلحة أخوين؟ يا ابن أخي إذا كان لك حاجة فأتنا.
جوده وسماحة نفسه وكثرة عطائه وصلة رحمه:
روي عن سعدى بنت عوف امرأة طلحة قالت: لقد تصدق طلحة يوما بمائة ألف، وعنها قالت: دخل عليَّ طلحة فرأيته مغمومًا، فقلت: ما شأنك؟ قال: المال الذي عندي قد كثر وأكربني، فقلت: وما عليك؟ اقسمه، فقسمه حتى ما بقي منه درهم؛ قال طلحة بن يحيى: فقلت لخازن طلحة: كم كان الماس؟ قال: أربعمائة ألف، وعن الحسن قال: باع طلحة أرضًا له بسبعمائة ألف، فبات أرقًا من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرقه، وعنه أن طلحة باع أرضًا من عثمان بسبعمائة ألف؛ فحملها إليه، فلما جاء بها قال: إن رجلا تبيت هذه عنده في بيته لا يدري ما يطرقه من أمر الله لغرير بالله فبات ورسله تختلف في سكك المدينة حتى أسحر وما عنده منها درهم.
وروي عن جابر رضي الله عنه قال: صحبت طلحة، فما رأيت رجلا أعطى لجزيل مال عن غير مسألة منه، وعن علي بن زيد قال: جاء أعرابي إلى طلحة يسأله؛ وبتقرب إليه برحم فقال: إن هذا لرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضا أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف؛ فإن شئت فاغد فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان، ودفعت إليك الثمن، فقال الأعرابي: الثمن، فباعها من عثمان، ودفع إليه الثمن.
وعن بعض ولد طلحة قال: لبس طلحة رداء نفيسًا، فبينا هو يسير إذا رجل قد استله، فقام الناس فأخذوه منه، فقال طلحة: ردوه عليه، فلما رآه الرجل خجل ورمى به إلى طلحة، فقال طلحة: خذه بارك الله لك فيه؛ إني لأستحي من الله أن يؤمل فيَّ أحد أملا فأخيب أمله، وروي عن محمد بن إبراهيم قال: كان طلحة يغل بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف، ويغل بالشراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقل، وكان لا يدع أحدًا من بني تيم عائلا إلا كفى مئونة عياله، ويزوج أياماهم ويخدم عائلهم، ويقضي دين غارمهم وكان يرسل إلى عائشة إذا جاءت غلته كل سنة عشرة آلاف، ولقد قضى عن صبيحة ثلاثين ألف درهم.
وروي عن الزبير بن بكار أنه سمع سفيان بن عيبنة يقول: كان غلة طلحة بن عبيد الله كل يوم وافيًا، قال: والوافي وزنه وزن الدينار وقال: وعلي ذلك وزن دراهم فارس التي تعرف بالبغلية، وسمع علي رضي الله عنه رجلا ينشد:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
قال: ذلك أبو محمد طلحة.
كان من خطباء الصحابة:
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن عمر شاور الناس في الزحف إلى قتال ملوك فارس التي اجتمعت بنهاوند، فقام طلحة بن عبيد الله وكان من خطباء الصحابة، فتشهد ثم قال: أما بعد يا أمير المؤمنين، فقد أحكمتك الأمور، وعجنتك البلايا، وأحنكتك التجارب، فأنت وشأنك، وأنت ورأيك، إليك هذا الأمر، فمرنا نطع، وادعنا نجب، واحملنا نركب، وقدنا ننقد، فإنك ولي هذه الأمور، وقد بلوت واختبرت فلم ينكشف لك عن شيء من عواقب قضاء الله عز وجل إلا عن خيار. ثم جلس.
ثناء ابن عباس عليه وعلى الزبير:
روي عن ابن عباس وقد سئل عن طلحة والزبير فقال: رحمة الله عليهما، كانا والله مسلمين مؤمنين بارين، تقيين خيرين فاضلين طاهرين زلالتين والله غافر لهما: للحصبة القديمة والعشرة الكريمة والأفعال الجميلة، فأعقب الله من يبغضهما بسوء الغفلة إلى يوم الحشر.
وتوفي طلحة رضي الله عنه في جمادى الأولى سنة ست وثلاثين من الهجرة.
سادسًا ــ الزبير بن العوام رضي الله عنه:
هو الزُّبَيْرُ بن العَوَّام بن خُوَيْلِد القرشي الأسدي، حوارِيّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابن أخي خديجة بنت خويلد زوج النبي، تكنَّى بأبي عبد الله، ووُلد هو وعلي، وطلحة، وسعد بن أبي وقّاص، في عام واحد؛ قبل البعثة بعشر سنين.
وروي عن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه قال له: يا بني، كانت عندي أمك وعند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خالتك عائشة، وبيني وبينه من الرحم والقرابة ما قد علمت، وعمة أبي أم حبيبة بنت أسد جدته وأمي عمته، وأمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف، وجدتي هالة بنت وهب بن عبد مناف، وزوجته خديجة بنت خويلد عمتي.
وعن أبي الأسود قال: أسلم الزبير بعد أبي بكر رابعا أو خامسا، وعنه: لما أسلم الزبير كان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير لا أكفر أبدًا.
قال أبو عمر وغيره: شهد الزبير بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، لم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين قال عمر فيهم: توفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وهاجر الهجرتين، وفيه يقول حسان بن ثابت:
أقام على عهد النبي
وهديه
حواريه والقول بالفعل يعدل
أقام
على
منهاجه
وطريقـه
يوالي ولي الحق والحق أعدل
هو الفارس المشهور والبطل الذي يصول إذا ما كان يوم
محجل
له من رسول الله
قربى
قريبة ومن نصرة الإسلام
مجد مؤثل
فكم
كربة
ذب
الزبير
بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل
إذا كشفت عن ساقها الحر هشها بأبيض سباق
إلى الموت يرقل
فما مثله فيهم و لا كان
قبله
وليس يكون الدهر ما دام
يذبل
ثناؤك
خير من فعال معاشر
وفعلك يا ابن
الهاشمية
أفضل
اختصاصه بأنه أول من سلَّ سيفًا في سبيل الله عز وجل ودعا النبي صَلَّى الله عليه وسلم لسيفه:
وروي عن سعيد بن المسيب قال: كان الزبير أول من سل سيفا في سبيل الله عز وجل، فدعا النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بخير، وعن هشام بن عروة عن أبيه أن أول رجل سل سيفه في سبيل الله عز وجل الزبير، وذلك أنه نُفِخت نفخة من الشيطان وأخذ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأقبل الزبير يشق الناس بسيفه والنبي صَلَّى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما لك يا زبير؟" فقال: أخبرت بأنك أُخِذْت، قال: فصلى عليه ودعا لسيفه. وجاء عن سعيد بن المسيب: بينا الزبير بمكة إذ سمع نغمة أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قد أخذ فخرج عريانا ما عليه شيء، بيده السيف مصلتا، فتلقاه النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "ما لك يا زبير؟" قال: سمعت أنك قد قتلت قال: "فما كنت صانعا؟" قال: أردت والله أن استعرض أهل مكة، فدعا له النبي صَلَّى الله عليه وسلم. وفي زيادة بعد قوله: أستعرض أهل مكة، قوله: وأجري دماءهم كالنهر لا أترك أحدًا منهم إلا قتلته حتى أقتلهم عن آخرهم، قال: فضحك النبي صَلَّى الله عليه وسلم وخلع رداءه وألبسه، فنزل جبريل وقال: "إن الله يقرئك السلام، ويقول لك أقرأ مني على الزبير السلام، وبشره أن الله أعطاه ثواب كل من سل سيفًا في سبيل الله منذ بعثت إلى أن تقوم الساعة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا؛ لأنه أول من سل سيفًا في سبيل الله عز وجل".
اختصاصه بأنه حواري النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن جابر رضي الله عنه قال: ندب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "لكل نبي حواري وحواري الزبير". وسمع ابن عمر رجلا يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت ابن الزبير وإلَّا فلا.
اختصاصه بنزول الملائكة يوم بدر عليها عمائم على لون عمامة الزبير:
روي عن هشام بن عروة عن عبادة بن حمزة بن الزبير قال: كانت على الزبير عمامة صفراء، معتجرًا بها يوم بدر، ونزلت الملائكة عليها عمائم صفراء، يوم بدر. وروي أنه كان يوم بدر على الميمنة، وعليه ريطة صفراء، فنزلت الملائكة على سيماه، والاعتجار: لف العمامة على الرأس، والريطة: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة، والسيما: العلامة.
اختصاصه بالقتال بعنزة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم بدر:
روي عن الزبير رضي الله عنه قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو مدجج لا يرى منه إلا عيناه، وكان يُكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه بالعنزة، فطعنته في عينه فمات، قال هشام بن عروة: فأخبرت أن الزبير قال: لقد وضعت رجلي عليه، ثم تمطيت، وكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفها، قال عروة: فسأله إياها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأعطاه إياها، فلما قبض صَلَّى الله عليه وسلم أخذها، فطلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أخذها، ثم سألها عمر فأعطاه إياها، فلما قبض عمر أخذها، ثم سألها عثمان، فأعطاه إياها، فلما قتل وقعت إلى آل علي فطلبها عبد الله بن الزبير فكانت عنده حتى قتل.
اختصاصه بجمع النبي صَلَّى الله عليه وسلم له أبويه يفديه بهما يوم الأحزاب:
روي عن عبد الله بن الزبير قال: كنت عند الأحزاب أنا وعمر بن أبي سلمة مع النساء في أطم حسَّان، فنظرت فإذا الزبير على فرسه يختلف إلى بني قريظة مرتين أو ثلاثا، فلما رجعت قلت: يا أبه، رأيتك تختلف، فقال: رأيتني يا بني؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟" فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبويه فقال: "فداك أبي وأمي". وهذا القول لم ينقل أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قاله يوم الأحزاب لغيره.
وأخرج أحمد عنه قال: جمع لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبويه يوم أحد، والمشهور في ذلك يوم أحد أنه كان لسعد، ويحتمل أن يكون جمعهما لهما، واشتهر في سعد؛ لكثرة ترديد القول له بذلك، وقد روي عنه أنه قال: جمع لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبويه مرتين، في أحد وفي قريظة.
اختصاصه بالقتال مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة:
روي عن عمر بن مصعب بن الزبير قال: قاتل الزبير مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وكان يحمل على القوم ويقول له: ههنا بأبي أنت وأمي، ههنا بأبي أنت وأمي.
اختصاصه بمرافقة النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى وفد الجن:
روي عن الزبير بن العوام قال: صلى بنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الصبح في مسجد المدينة، فلما انصرف قال: "أيكم يتبعني إلى وافد الجن الليلة؟" فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد، قال ذلك ثلاثًا، فلم يتكلم منهم أحد، فمر بي يمشي، وأخذ بيدي فجعلت أمشي معه وما أجد من مس، حتى خنس عنا نخل المدينة كله وأفضينا إلى أرض بوار فإذا رجال طوال كأنهم رماح مستنفري ثيابهم بين أرجلهم فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفَرَق، فلما دنونا منهم خط لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم برجله في الأرض خطًا وقال لي: "اقعد في وسطها". فلما جلست فيها ذهب كل شيء كنت أجده، ومضى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وتلا عليهم القرآن حتى طلع الفجر، ثم أقبل حتى مر بي، فقال: "الحق" فجعلت أمشي معه، فمضينا غير بعيد فقال لي: "التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد؟" فقلت: يا رسول الله أرى سوادًا كثيرًا، قال: فخفض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بيده الأرض، وأخذ بروثة ثم رمى بها إليهم، وقال: "رشد أولئك من وفد قوم".
اختصاصه بكسوة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في طريق الهجرة:
روي عن عروة بن الزبير أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لما هاجر لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام، فكسا الزبير رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضاء.
اختصاصه بنزول قرآن بسببه:
روي عن عبد الله بن الزبير أن رجلا خاصم الزبير في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال للأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاحتكموا عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال النبي: صَلَّى الله عليه وسلم للزبير: "اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثم قال: "يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر". فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية [النساء: 65].
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ...} الآية [البقرة: 207]. وذلك أن خبيبًا أخرجه المشركون ليقتلوه فقال: دعوني حتى أصلي ركعتين، فتركوه حتى صل ركعتين، ثم قال: لولا أن يقولوا جزع لزدت، وأنشأ يقول:
ولست أبالي حين أُقتَل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي
فصلبوه حيًا، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس حوالي أحد يبلغ رسولك مقامي، فأبلغه سلامي، ثم رموه بسهم وطعنوه برمح، فبلغ النبي صَلَّى الله عليه وسلم خبره فقال: "أيكم يحتمل خبيبًا من خشبته وله الجنة؟" فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد، فخرجا يسيران الليل والنهار حتى وافيا المكان، فإذا حول الخشبة أربعون رجلا نياما، وإذا هو رطب لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوما، فحمله الزبير على فرسه وسار فلحقه سبعون منهم، فقذف خبيبًا فابتلعته الأرض، وقال: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟ ثم رفع العمامة عن رأسه، وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد بن الأسود، أسدان رابضان، إن شئتم ناضلتم وإن شئتم نازلتم، وإن شئتم انصرفتم؛ فانصرفوا، فقدموا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وعنده جبريل فقال: يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك، ونزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [البقرة: 207] هذا أحد خمسة أقوال في سبب نزولها، وهو قول ابن عباس والضحاك. الثاني: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروي عن علي وعمر. الثالث: في صهيب الرومي، الرابع: في المهاجرين والأنصار؛ قاله قتادة، الخامس: في المهاجرين خاصة؛ قاله الحسن.
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالشهادة:
تقدم حديث هذا الذكر بطرقه في باب ما دون العشرة وهو حديث تحرك حراء وقوله صَلَّى الله عليه وسلم: "اثبت فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد". وعن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال: "من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى الزبير" وعلم عليه بعلامة ابن أبي شيبة.
شهادة عمر أنه ركن من أركان الإسلام:
روي عن سطيع بن الأسود قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: الزبير ركن من أركان الإسلام.
شهادة عثمان بأنه خيرهم وأحبهم إلى رسول الله:
روي عن مروان بن الحكم قال: أصاب عثمان رعاف شديد حتى حبسه عن الحج، وأوصى، فدخل رجل من قريش فقال: استخلف، فقال: نعم، قال: ومن قال؟ فسكت، فدخل عليه رجل أحسبه الحارث فقال: استخلف، فقال عثمان: وقالوا؟ قال: نعم، قال: فمن هو؟ فسكت، قال: فلعلهم قالوا الزبير؟ قال: نعم، قال: أما والذي نفسي بيده إنه لخيرهم ما علمت وإن كان لأحبهم إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
بلاؤه يوم اليرموك:
روي عن عروة أن أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشد فنشد معك؟ فحمل عليهم فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر، قال عروة: فكنت أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير قال عروة: وكان معه عبد الله، وهو ابن خمس سنين فحمله على فرس ووكل به.
من الذين استجابوا لله والرسول:
روى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت لي: أبوك والله من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وفي رواية بزيادة: تعني أبا بكر والزبير، وعنها قالت: يا ابن أختي، كان أبوك تعني أبا بكر والزبير من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح، قالت: لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما أصابهم، فخاف صَلَّى الله عليه وسلم أن يرجعوا، فقال: "من ينتدب لهؤلاء في آثارهم حتى يعلموا أن بنا قوة"، فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين فخرجوا في آثار القوم، فسمعوا بهم، فانصرفوا، قالت: فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يقاتلوا عدوًّا.
ما كان في جسده من الجراح:
روي عن عروة قال: أوصى الزبير إلى ابنه عبد الله صبيحة الجمل، فقال: يا بني ما من عضو إلا وقد جرح مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى انتهى ذلك إلى فرجه. وروي عن علي بن زيد قال: أخبرني من رأى الزبير؛ وإن في صدره لأمثال العيون من الطعن والرمي، وعن بعض التابعين قال: صحبت الزبير في بعض أسفاره، فأصابته جنابة، وكنا بأرض قفر، فقال لي: استرني حتى أغتسل، قال: فسترته، فحانت مني التفاتة فرأيته مجدعا بالسيوف: فقلت له: والله لقد رأيت بك آثارًا ما رأيتها بأحد قط، قال: أَوَقَدْ رأيتها؟ قلت: نعم. قال: أما والله ما فيها جراحة إلا مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفي سبيل الله.
ذبُّه عن وجه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو نائم وما ترتب على ذلك:
روي عن عمر بن الخطاب قال: رأيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقد نام، فجلس الزبير يذب عن وجهه حتى استيقظ، فقال له: "يا أبا عبد الله لم تزل؟" قال: لم أزل، أنت بأبي وأمي قال: "هذا جبريل يقرئك السلام ويقول: أنا معك يوم القيامة، حتى أذب عن وجهك شرر جهنم".
قوله صَلَّى الله عليه وسلم لابن الزبير: يا ابن أخي، فأثبت له وصف الأخوة:
روي عن سليمان قال: دخلت على النبي صَلَّى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن الزبير ومعه طشت يشرب ما فيه فقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ما شأنك يا ابن أخي؟" ثم ذكر باقي الحديث.
ورعه:
روي عن عبد الله بن الزبير قال: قلت للزبير: ما يمنعك أن تحدث عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كما يحدث عنه أصحابه؟ قال: أما والله لم أفارقه منذ أسلمت، ولكني سمعته يقول: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وفي رواية: والله لقد كان لي منه منزلة ووجهة، ولكني سمعته يقول. وذكر الحديث، وفي رواية: لقد نلت من صحابته أفضل ما نال أحد، ولكني سمعته يقول: "من قال ما لم أقل تبوأ مقعده من النار" فلا أحب أن أحدث عنه.
صلته وصدقته:
وعن أم درة قالت: بعث الزبير إلى عائشة بغرارتين تبلغ ثمانين ومائة ألف درهم، وعن كعب قال: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فما كان يدخل منها بيته درهم واحد؛ كان يتصدق بذلك كله. وكان يتصدق بقسمه كل ليلة، ويقوم إلى منزله ليس معه منه شيء، وعن سعيد بن عبد العزيز أنه قال: كان للزبير. وذكره. وعن جويرة قالت: باع الزبير دارا له بستمائة ألف، قال: فقيل له: ويا أبا عبد الله غبنت قال: كلا، والله لتعلمن أني لم أغبن؛ هي في سبيل الله.
كان من أكرم الناس على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن ابن إسحاق السبيعي قال: سألت مجلسا في أكثر من عشرين. رجلا من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: من كان أكرم الناس على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قالوا: الزبير، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
سماحته في بيعه:
قال أبو عمر: كان الزبير تاجرًا مجدودًا في التجارة، فقيل: بما أدركت في التجارة؟ قال: لأني لم أشتر معيبا، ولم أرد ربحا والله يبارك لمن يشاء.
إثبات رخصة عامة المسلمين بسببه:
روي عن أنس رضي الله عنه أن الزبير وعبد الرحمن بن عوف شكيا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم القمل في غزاة لهما؛ فرخص لهما في قميص الحرير، فرأيت على كل واحد منهما قميص حرير.
من أوصى إلى الزبير من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن عروة بن الزبير أن ابن مسعود، وعثمان، والمقداد بن الأسود، وعبد الرحمن بن عوف، ومطيع بن الأسود أوصوا إلى الزبير بن العوام، وروي عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بدَينه ويقول: إن عجزتَ عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي، قال: فوالله ما دريت ما أراد حتى قلت: يا أبه من مولاك؟ قال: الله تعالى، فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه، فيقضيه؛ وإنما كان دينه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال يستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف، فإني أخشى عليه الضيعة قال عبد الله: فحسبت ما عليه من الدين فوجدته ألفي ألف ومائة ألف؛ فقتل ولم يدع دينارا ولا درهما إلا أرضين بعتهما وقضيت دينه، فقال بنو الزبير: ميراثنا؛ قلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه. فجعل كل سنة ينادي؛ فلما انقضت أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف، فجمع مال الزبير خمسون ألف ألف ومائتا ألف.
وروي عن عبد الله أنه لقيه حكيم بن حزام فقال: يا ابن أخي، كم على أخي؟ فكتمه، وقلت: مائة ألف. فقال حكيم: والله ما أرى أموالكم تسع هذا، قال: فقال عبد الله: أرأيت إن كانت ألفي ألف ومائتي ألف؟ قال: ما أراكم تطيقون هذا، فإن عجزتم عن شيء منه فاستعينوا بي، وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف، فباعها عبد الله بألف ألف وستمائة ألف، ثم قال: من كان له على الزبير شيء فليوافنا على الغابة، قال: فأتاه عبد الله بن جعفر وكان له على الزبير أربعمائة ألف؛ قال لعبد الله: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله: لا قال: إن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم؛ قال عبد الله: لا، قال: فاقطعوا لي قطعة، قال عبد الله: من ههنا إلى ههنا، قال: فباع عبد الله منها فقضى دينه وأوفاه، وبقي منها أربعة أسهم ونصف قال: فقال له معاوية: كم قومن الغابة؟ قال: كل سهم بمائة ألف، قال كمن بقي منه؟ قال أربعة أسهم ونصف، قال المنذب بن الزبير أخذت منها سهما بمائة ألف، وقال عمر بن عثمان: أخذت منها سهما بمائة ألف؛ وقال ابن ربيعة: أخذت منها سهما بمائة ألف فقال معاوية: كم بقي قال: سهم ونصف، قال: قد أخذته بخمسين ومائة ألف، قال: فلما فرغ ابن الزبير من قضاء دينه قال بنو الزبير: اقسم بيننا، قال: لا والله، ثم ذكر معنى ما تقدم. وذكر القعلي أن تركته بعد قضاء دينه سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف، وعن عروة بن الزبير أن الزبير أوصى بثلث ماله ولم يدع دينارا ولا درهما.
استشهد الزبير في جمادى الآخرة سنة ستٍّ وثلاثين.
سابعًا ــ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
هو عبد الرّحمن بن عوف بن عبد عوف القرشيّ الزهريّ، وكان يكنى أبا محمد، وولد بعد الفيل بعشر سنين.
قال أبو عمر وغيره: شهد عبد الرحمن بدرًا والمشاهد كلها وثبت مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم أحد، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا بالإسلام، وأحد الستة أصحاب الشورى الذين شهد عمر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض، وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبي بكر وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى دومة الجندل وعممه بيده وسد لها بين كتفيه وقال له: "سر باسم الله" ووصاه بوصايا وقال له: "إن فتح الله عليك فتزوج بنت شريفهم" أو قال: "بنت مليكهم"، وقال شريفهم الأصبغ بن ثعلبة الكلبي، فتزوج ابنته تماضر وهي أم ابنة أبي سلمة، وروى أنه صَلَّى الله عليه وسلم قال: "عبد الرحمن بن عوف سيد من سادات المسلمين" ذكر ذلك كله أبو عمر وغيره.
اختصاصه بصلاة النبي صَلَّى الله عليه وسلم خلفه في بعض الأحوال:
روي عن المغيرة بن شعبة قال: تخلف مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فتبرز وذكر وضوءه، ثم عمد الناس وعبد الرحمن يصلي بهم فصلى مع الناس الركعة الأخيرة؛ فلما سلم عبد الرحمن قام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يتم صلاته، فلما قضاها أقبل عليهم وقال: "قد أصبتم وأحسنتم" يغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها. وفي رواية: فأراد أن يتأخر، فأومى إليه النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يمضي فصليت أنا والنبي صَلَّى الله عليه وسلم خلفه.وفي رواية: قال المغيرة: فأردت تأخير عبد الرحمن، فقال لي النبي صَلَّى الله عليه وسلم "دعه"، وفي رواية: فجاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم وعبد الرحمن قد صلى بهم فصلى خلفه وأتم الذي فاته، وقال: "ما قبض نبي حتى يصلي خلف رجل صالح من أمته".
اختصاصه بالأمانة على نساء النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن الزبير بن بكار قال: كان عبد الرحمن بن عوف أمين النبي صَلَّى الله عليه وسلم على نسائه.
إثبات أمانته في السماء والأرض:
روي عن عبد الله بن عمر أن عبد الرحمن بن عوف قال لأصحاب الشورى هل لكم أن أختار لكم وانتفي منها؟ قال علي: أنا أول من يرضى، فإني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أنت أمين في أهل الأرض".
اختصاصه وعثمان بآي نزلت فيهما:
روي عن السائب في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا...} الآية [البقرة: 262]. نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف؛ فأما عثمان فقد تقدم ذكره، وأما عبد الرحمن فجاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم بأربعة آلاف درهم صدقة وقال: كان عندي ثمانية آلاف، فأمسكت أربعة آلاف لنفسي وعيالي وأربعة آلاف أقرضها ربي عز وجل، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت". ونزلت الآية.
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالجنة:
وروي عن أنس رضي الله عنه قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت رجة في المدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عيرٌ لعبد الرحمن بن عوف من الشام تحمل من كل شيء وكانت سبعمائة بعير، فارتجت المدينة من الصوت؛ فقالت عائشة: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "رأيت عبد الرحمن يدخل الجنة حَبْوًا"، فبلغ ذلك عبد الرحمن فقال: إن استطعت لأدخلها قائما. فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل. وفي رواية أنه لما بلغه قول عائشة أتاها فسألها عما بلغه، فحدثته؛ فقال: إني أُشهدك أنها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها في سبيل الله عز وجل.
تسليم الله عز وجل عليه وتبشيره بالجنة:
روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: وردت قافلة من تجار الشام لعبد الرحمن بن عوف فحملها إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالجنة، فنزل جبريل وقال: "إن الله يقرئك السلام ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام وبشره بالجنة". وسيأتي في ذكر صدقته أتم من هذا إن شاء الله تعالى وهذه القافلة غير القافلة المتقدم ذكرها في الفصل قبله، فإن الظاهر أن تلك كانت بعد وفاة النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وفي تلك أرى عبد الرحمن داخلا الجنة حبوا وفي هذه دعا له بها.
دعاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم له:
روي عن عمر بن الخطاب قال: رأيت النبي صَلَّى الله عليه وسلم في منزل فاطمة والحسن والحسين يبكيان جوعا ويتضوران، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "من يصلنا بشيء؟" فطلع عبد الرحمن بن عوف بصحفة فيها حيس ورغيفان بينهما إهالة، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "كفاك الله أمر دنياك، وأما آخرتك فأنا لها ضامن".
وروي عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول لعبد الرحمن بن عوف: "بارك الله في مالك وخفف عليك حسابك يوم القيامة". وروي أنه صَلَّى الله عليه وسلم قال: "سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة".
ثقة النبي صَلَّى الله عليه وسلم بإيمانه:
روي عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أعطى رهطا منهم عبد الرحمن بن عوف ولم يعطه معهم، فخرج عبد الرحمن يبكي، فلقيه عمر بن الخطاب فقال: ما يبكيك؟ قال: أعطى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم رهطا وأنا معهم وتركني فلم يعطني شيئا، فأخشى أن يكون إنما منع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم موجدة وجدها علي، قال: فدخل عمر على النبي صَلَّى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عبد الرحمن وما قال، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ليس بي سخط عليه، ولكني وكلته إلى إيمانه".
ولي النبي صَلَّى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة:
روي عن أويس بن أبي وأويس عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: "أنت وليي في الدنيا والآخرة".
سبقت له السعادة وهو في بطن أمه:
روي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: أغمي على عبد الرحمن ثم أفاق فقال: إنه أتاني ملكان فظان غليظان فقالا لي: انطلق نخاصمك إلى العزيز الأمين؛ قال: فلقيهما ملك فقال: إلى أين تذهبان به؟، فقالا: نخاصمه إلى العزيز الأمين، قال: فخليا عنه؛ فإنه ممن سبقت له السعادة وهو في بطن أمه.
إثبات الشهادة له:
تقدم في باب العشرة حديث "اثبت حرا" وفيه ما يدل على ذلك في مناقب سعيد بن زيد؛ ووجه الشهادة مع كونه مات على فراشه أنه غريب وموت الغريب شهادة على ما تضمنه الحديث، فإنه مات بالمدينة على ما سيأتي بيانه في باب ذكر وفاته وليست ببلده، أو لعله كان مبطونا أو مطعونا، على أنني لم أقف على ذلك، لكنه يعلم بالقطع أن ثم سببا تثبت له به شهادة لسان النبوة له بذلك، والله أعلم.
تزكية عثمان له:
روي عن عروة بن الزبير أن الزبير جاء إلى عثمان وقال: إن عبد الرحمن بن عوف زعم أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أقطعه وعمر بن الخطاب أرض كذا وكذا، وإني اشتريت نصيب آل عمر، فقال عثمان: عبد الرحمن بن عوف جائز الشهادة له وعليه.
علمه:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر خرج إلى الشام فلما بلغ سرغ أخبر أن الوباء قد نزل بالشام، فجمع أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فاستشارهم فاختلفوا، فوافق رأيه رأي الرجوع، فرجع فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبا في بعض حاجته فقال: إن عندي من هذا علما، سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إذا وقع بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه".
رجوع عمر إلى رأيه:
روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم جلد في الخمر بالجريد والنعال وجلد أبو بكر أربعين، فلما أن ولي عمر قال: إن الناس قد دنوا من الريف، فما ترون في حد الخمر، فقال له عبد الرحمن بن عوف: نرى أن نجعله كأخف الحدود؛ فجلد فيه ثمانين.
خوفه من الله عز وجل:
روي عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرحمن أتي بطعام وكان صائما فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه وإن غطي رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط أو قال أعطينا من الدنيا ما أعطينا قد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، وفي بعض طرق هذا الحديث: أتي بطعام وكان صائما، فجعل يبكي وقال: قتل حمزة فلم يوجد ما يكفن فيه إلا ثوب واحد وكان خيرًا مني وقتل مصعب بن عمير: وذكر معنى ما تقدم. وروي عن نوفل بن إياس الهذلي قال: كان عبد الرحمن لنا جليسا وكان نعم الجليس، وإنه انقلب يوما حتى دخل بيته ودخلنا، فاغتسل ثم خرج فجلس معنا. وأتى بصحفة فيها خبز ولحم فلما وضعت بكى عبد الرحمن بن عوف، فقلنا له: يا أبا محمد ما يبكي؟ قال: ملك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أرانا أخرنا لما هو خير لنا.
وروي عن الحضرمي قال: قرأ رجل عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم لين الصوت أو لين القراءة فما بقي أحد من القوم إلا فاضت عينه إلا عبد الرحمن بن عوف فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "إن لم يكن عبد الرحمن فاضت عينه فقد فاض قلبه".
تواضعه:
روي عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الرحمن بن عوف لا يعرف من بين عبيده. وروي عن عبد الرحمن بن عوف قال: نظرت يوم بدر عن يميني وشمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: أي عمِّ هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، فما حاجتك إليه يابن أخي؟ قال: أُخبِرت أنه يسب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجلُ منا، قال: فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأخبراه فقال: "أيكما قتله؟" قال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: "هل مسحتما سيفيكما؟" قالا: لا، فنظر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى السيفين فقال: "كلاكما قتله"، وقضى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بسلبه لمعاذ بن عمر بن الجموح؛ والرجلان معاذ بن عمر بن الجموح ومعاذ بن عفراء، وموضع تواضعه رضي الله عنه تمنيه أن يكون بين أضلعهما وقدره أكثر من ذلك.
تعففه واستغناؤه حتى أغناه الله عز وجل:
روي عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما قدمت المدينة آخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بيني وبين سعد بن الربيع، فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالًا، فأقسم لك نصف مالي، وانظر أيّ زوجتَيَّ هويت فأنزل لك عنها فإذا حلَّت تزوجتها؛ فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك؛ هل من سوق فيه تجارة؟ قال سوق بني قينقاع، قال: فغدا إليه عبد الرحمن، فأتى أقط وسمن قال: ثم تابع الغدو، فما لبث أن جاء عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "تزوجت؟" قال: نعم، قال:"ومن؟"، قال: امرأة من الأنصار، قال: "فكم سقت؟" قال: زنة نواة من ذهب، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "أولِمْ ولو بشاة".
صلته أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم كان يقول: "إن أمركنَّ لَمِمَّا يهمني بعدي، ولن يصبر عليكن إلا الصابرون". قال: ثم تقول عائشة: سقى الله أباك من سلسبيل الجنة ــ تريد عبد الرحمن بن عوف؛ وقد كان وصل أزواج النبي صَلَّى الله عليه وسلم بما بيع بأربعين ألفًا، وروي عنه أن عبد الرحمن أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف.
صلته رَحِمَه:
روي عن المسور بن مخرمة قال: باع عبد الرحمن بن عوف أرضًا من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسم ذلك الماس في بني زهرة وفقراء المسلمين وأمهات المؤمنين، وبعث إلى عائشة معي من ذلك المال، فقالت عائشة: سقى الله ابن عوف سلسبيل الجنة.
صدقته وبره أهل المدينة:
روي عن الزهري قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بشطر ماله أربعة آلاف ثم تصدق بألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل عز وجل، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله؛ وكان عامة ماله من التجارة. وعن ابن عباس وقال؛ تصدق بشطر ماله أربعة آلاف درهم ثم بأربعين ألف درهم ثم بأربعين ألف دينار ثم خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم وردت له قافلة من تجارة الشام فحملها إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فدعا له النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالجنة فنزل جبريل وقال: إن الله يقرئك السلام، ويقول: أقرئ عبد الرحمن السلام، وبشره بالجنة.
وقد تقدم في خصائصه أن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا} الآية [البقرة: 262] إنما ورد في ذلك. وروي عن طلحة بن عبد الرحمن بن عوف قال: كان أهل المدينة عيالًا على عبد الرحمن بن عوف، ثلث يقرضهم ماله، وثلث يقضي دينهم بماله، وثلث يصلهم، وروي عن عروة بن الزبير أنه قال: أوصى عبد الرحمن بن عوف بخمسين ألف دينار في سبيل الله تعالى.
خروجه عن جميع ماله وتسليم الله عليه وإخباره بقبول صدقته:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرض عبد الرحمن بن عوف فأوصى بثلث ماله، فصح فتصدق بذلك بيد نفسه ثم قال: يا أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، كل من كان من أهل بدر له علي أربعمائة دينار، فقام عثمان وذهب مع الناس فقيل له: يا أبا عمر ألست غنيا؟ قال هذه وصلة من عبد الرحمن لا صدقة وهو من مال حلال، فتصدق عليهم في ذلك اليوم بمائة وخمسين ألف دينار، فلما جن عليه الليل جلس في بيته وكتب جريدة بتفريق جميع المال على المهاجرين والأنصار حتى كتب أن قميصه الذي على بدنه لفلان وعمامته لفلان، ولم يترك شيئا من ماله إلا كتبه للفقراء، فلما صلى الصبح خلف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم هبط جبريل وقال: "يا محمد إن الله يقول لك أقرئ مني على عبد الرحمن السلام واقبل منه الجريدة ثم ردها عليه، وقل له: قد قبل الله صدقتك وهو وكيل الله ووكيل رسوله، يصنع في ماله ما شاء، وليتصرف فيه كما كان يتصرف قبل، ولا حساب عليه، وبشره".
تبرره بالعتق:
روي عن جعفر بن برقان قال: بلغني أن عبد الرحمن بن عوف أعتق ثلاثين ألفا. وقال أبو عمر: وقد روى أنه أعتق في يوم واحد ثلاثين عبدًا.
أمر جبريل له بإضافة الضيف وإطعام المسكين حتى أراد الخروج عن جميع ماله:
روي عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه أن رسول الله قال له: "يا ابن عوف إنك من الأغنياء، وإنك لن تدخل الجنة إلا زحفا". وفي رواية: "فأقرِضِ الله عز وجل يطلقْ لك قدمك"، قال ابن عوف: ما الذي أقرض الله؟ قال: "مما أمسيت فيه"، قال: من كله أجمع يا رسول الله؟ قال: "نعم"، فخرج ابن عوف وهو يهم بذلك، فأتى جبريل فقال: مر ابن عوف فليضف الضيف وليطعم المسكين وليعط السائل؛ فإذا فعل ذلك كان كفارة لما هو فيه.
ما فضل به عبد الرحمن وغيره من السابقين على غيرهم ممن شاركهم في أعمالهم أو زاد عليهم:
روي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن رجلا من أهل المدينة قال: والله لأقدمن المدينة ولأحدثن عهدا بأصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقدم المدينة قال: فلقي المهاجرين إلا عبد الرحمن بن عوف، فأخبر أنه بالجرف في أرضه، فأقبل يسير حتى إذا جاء عبد الرحمن وهو يحول الماء بمسحاة في يده واضعا رداءه فلما رآه عبد الرحمن استحيا فألقى المسحاة وأخذ رداءه، فوقف الرجل عليه فسلم عليه، ثم قال: جئتك لأمر ثم رأيت أعجب منه، هل جاءكم إلا ما جاءنا؟ وهل علمتم إلا ما علمنا؟ قال عبد الرحمن: ما جاءنا إلا ما جاءكم، وما علمنا إلا من علمتم فقال الرجل: فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها ونخف في الجهاد وتتثاقلون عنه وأنتم خيارنا وسلفنا وأصحاب نبينا صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال له عبد الرحمن: إنه لم يأتنا إلا ما جاءكم، ولم نعلم إلا ما قد علمتم، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
شهادة عمر بن الخطاب بصلاحيته للخلافة لولا ضعف فيه:
روي عن ابن عمر قال خدمت عمر وكنت هائبا معظمًا، فدخلت عليه ذات يوم في بيته وقد خلا بنفسه، فتنفس تنفسا ظننت أن نفسه خرجت، ثم رفع رأسه إلى السماء فقلت له والله ما أخرج هذا منك إلا هم يا أمير المؤمنين قال هم والله، هم شديد، إن هذا الأمر لم أجد له موضعًا يعني الخلافة قال: فذكرت له عليا وطلحة والزبير وسعدا وعثمان، فذكر في كل واحد منهم معارضًا فذكرت له عبد الرحمن بن عوف فقال: أوه! نعم المرء! ذكرت رجلا صالحا إلا أنه ضعيف، وهذا الأمر لا يصلح له إلا الشديد من غير عنف، اللين من غير ضعف، الجواد من غير سرف، والإمساك من غير بخل.
قال أبو عمر: لما حضرته الوفاة بكى بكاء شديدا، فسئل عن بكائه فقال: إن مصعب بن عمير كان خيرًا مني، توفي على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولم يكن له ما يكفن فيه، وإن حمزة بن عبد المطلب كان خيرًا مني، توفي على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولم يجد له كفنا؛ وإني أخشى أن أكون ممن عجلت له طيباته في حياته الدنيا، وأخاف أن أحبس عن أصحابي لكثرة مالي.
ما خلفه:
روي عن محمد أن عبد الرحمن بن عوف توفي وكان فيما خلفه ذهب قطع بالفئوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا وقال أبو عمر: كان تاجرًا مجدودًا في التجارة، فكسب مالا كثيرا وخلف ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا، فكان يدخل من ذلك قوت أهله سنة.
وروي عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال صالحنا امرأة عبد الرحمن التي طلقها في مرضه من ثلث الثمن بثلاثة وثمانين ألفا وفي رواية من ربع الثمن. وقال الطائي: قسم ميراثه على ستة عشر سهما فبلغ نصيب كل امرأة ثمانين ألف درهم.
مات سنة إحدى وثلاثين بالمدينة، وقيل سنة اثنتين؛ وهو الأشهر، وعاش اثنتين وسبعين سنة، وقيل: خمسًا وسبعين سنة، وقيل ثمانيًا وسبعين؛ والأول أثبت؛ ودُفِن بالبَقِيع، وصلَّى عليه عثمان، ويقال: الزبير بن العوام.
ثامنًا ــ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه:
واسم أَبي وقاص مالك بن وُهَيب بن عبد مناف القرشي الزهري، ويكنى سعد بابنه إسحاق، ووُلِد هو وعلي والزبير وطلحة بن عبيد الله في عام واحد؛ قبل البعثة بعشر سنين.
قال أبو عمر وغيره: شهد سعد بدرًا والحديبية والمشاهد كلها، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى الذين أخبر عمر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض، وأحد من كان على حراء حين تحركت بهم الصخرة فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "اثبُتْ حرا فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد" فكانت شهادة من النبي صَلَّى الله عليه وسلم بالشهادة، وكان سابع سبعة في الإسلام، وأحد الفرسان الشجعان، وأحد من كان يحرس النبي صَلَّى الله عليه وسلم في مغازيه، وهو الذي كوف الكوفة، ونفى الأعاجم، وتولى قتال فارس، وكان على يديه فتح القادسية وغيرها.
روي عن عائشة بنت سعد قالت: لقد مكث أبي يومًا إلى الليل وإنه لثلث الإسلام. وعنها قالت: لقد سمعت أبي يقول: رأيت في المنام قبل أن أسلم بثلاث كأني في ظلمة لا أبصر شيئًا إذ أضاء لي قمر فاتبعته، فكأني أنظر من سبقني إلى ذلك القمر فأنظر إلى زيد بن حارثة، وعلي بن أبي طالب، وإلى أبي بكر، وكأني أسألهم، متى انتهيتم إلى ههنا؟ وبلغني أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يدعو للإسلام مستخفيًا، فلقيته في شعب أجياد قد صلى العصر، فقلت له: إلام تدعو؟ قال: "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟" قلت: أشهد أن إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله؛ فما تقدمني إلا هم، ولعله يريد: ما أسلم أحد قبلي، أي في اليوم الذي أسلمت فيه.
وكذلك رواه صاحب الصفوة عن سعيد بن المسيب قال: كان سعيد يقول: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ثم ذكر حديث البخاري المتقدم، وكذلك ولفظه: عن سعيد عن سعد أنه قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه ولقد مكثت تسعة أيام وإني لسبع الإسلام.
وأسلم أخواه لأبويه عامر وعمير ابنا أبي وقاص وأخواه لأبيه عتبة بن أبي وقاص وخالدة بنت أبي وقاص، فأما عامر فكان من مهاجرة الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة، وكان فاضلا، روى سعد بن أبي وقاص أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال يومًا: "يطلع عليكم رجل من أهل الجنة". فطلع أخي عامر.
وأما عمير فشهد بدرًا وهو ابن ست عشرة سنة فيما يقال وأراد النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يرده فبكى، فخرج به معه فاستشهد يومئذ، روي عن سعد قال: كان يوم بدر قتل أخي عمير، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه وكان يسمى ذا الكتيبة، فأتيت به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "ذاهب فاطرحه في القبض". قال: فرجعت وبي مالا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما مكثت إلا قليلًا حتى أنزلت على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سورة الأنفال، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "اذهب فخذ سيفك".
وأما عتبة بن أبي وقاص فشهد أحدًا من المشركين، ويقال: هو الذي رمى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فكسر رباعيته، ورمى وجهه، وأما خالدة فتزوجها سمرة بن جنادة السواي، وولدت له؛ ذكره الدارقطني.
اختصاصه بأنه أول العرب رمى بسهم في سبيل الله:
روي عن سعد بن مالك قال: إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله.
اختصاصه بدعاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يستجاب دعاؤه فكان ذا دعوة مجابة:
روي عن سعد أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك". وروي عن جبير بن مطعم بن المقداد أن سعدًا قال: يا رسول الله، ادع الله أن يستجيب دعائي؛ قال: "يا سعد، إن الله لا يستجيب دعاء عبد حتى يطيب طعمته" قال: يا رسول الله، ادع الله أن يطيب طعمتي، فإني لا أقوى إلا بدعائك؛ قال: "اللهم أطب طعمة سعد"؛ فإن كان سعد ليرى السنبلة من القمح في حشيش دوابه فيقول: ردوها من حيث حصدتموها.
وروي عن يحيى بن عبد الرحمن بن لبيبة عن جده قال: قال سعد: يا رب إن لي بنين صغارًا فأخر عني الموت حتى يبلغوا، فأخر عنه الموت عشرين سنة.
وروي عن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعد بن مالك إلى عمر فقالوا: لا يحسن الصلاة. فقال سعد: أما أنا فكنت أصلي بهم صلاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين، وأخفف في الأخريين؛ فقال عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحق؛ قال فبعث رجالا يسألون عنه في مساجد الكوفة؛ قال: فلا يأتون مسجدًا من مساجد الكوفة إلا أثنوا عليه خيرًا وقالوا معروفًا، حتى أتوا مسجدًا من مسجد بني عبس، قال: قال رجل يقال له أبو سعدة: اللهم إنه كان لا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية؛ قال: فقال سعد: أما والله لأدعون بثلاث: اللهم إن كان كاذبًا فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن؛ فكان بعد ذلك يقول إذا سئل: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد. قال جابر بن سمرة: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق فيعهرهن، وفي رواية: أما أنا فأركد في الأوليين وأحذف في الأخريين، ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: قال: صدقت؛ ذلك الظن بك أو ظنى بك أبا إسحق. وقال عبد الملك بن عمير الراوي عن جابر فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، وإذا قيل له: كيف أنت يا أبا سعدة؟ قال: كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، وعنده: اللهم إن كان كاذبا فأعم بصره، وأطل عمره، ثم ذكر ما بعده، وروى أن ابنته كانت تشرف عليه عند وضوئه، فنهاها عن ذلك فلم تنته فدعا عليها، وقال شاه وجهك، فلم تزل شوهاء.
ودخل عليه مولى لابنه عمير يشتكي إليه وقد ضربه عمير حتى أدماه، فنهاه عن ضربه، وأمره فيه بمعروف، فأغلظ له في القول. فقال: أجرى الله دمك على عقبيك، فقتله المختار بن أبي عبيد، وقال أبو عمر: وكان سعد مشتهرًا بإجابة الدعوة؛ تخاف دعوته وترجى، لاشتهار إجابتها عندهم.
اختصاصه بدعاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم بتسديد السهم:
روي عن سعد أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "اللهم سدد سهمه، وأجب دعوته".
اختصاصه بجمع النبي صَلَّى الله عليه وسلم له أبويه يوم أحد:
روي عن علي رضي الله عنه قال: ما جمع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبويه لأحد غير سعد بن مالك، فإنه جعل يقول له يوم أحد: "ارم، فداك أبي وأمي". وعنه قال: ما سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فدى رجلا غير سعد؛ فإنه قال يوم حنين ويوم أحد: "ارم، فداك أبي وأمي". وعنه قال: ما جمع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بين أبويه لأحد إلا لسعد بن مالك قال: "ارم، فداك أبي وأمي، وأنت الغلام الحسن". وروي عن سعد أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم جمع له أبويه يوم أحد؛ قال: كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، فقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ارم، فداك أبي وأمي" قال: فنزعت له بسهم ليس فيه نصل، فأصبت جبينه، سقط وانكشفت عورته، فضحك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى رأيت نواجذه. وفي بعض طرقه: نثر لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد، وقال: "ارمِ، فِداك أبي وأمي" وقال أبو عمر: لم يقل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فداك أبي وأمي فيما بلغنا إلا لسعد والزبير، فإنه قال لكل واحد منهما ذلك.
اختصاصه بموافقته تمني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم رجلا صالحًا يحرسه عند قدومه المدينة وقد أرِقَ ليلة:
روي عن عائشة قالت: أرق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: "ليت رجلا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة"؛ فقالت: فسمعنا صوت السلاح، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من هذا؟" قال: سعد بن أبي وقاص يا رسول الله، جئت أحرسك. قالت عائشة: فنام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه، وعنها قالت: سهر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مقدمه المدينة ليلة، فقال: "ليت رجلا صالحًا يحرسني الليلة" قالت: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة السلاح، فقال: "من هذا؟" قال سعد بن أبي وقاص؛ قال: "ما جاء بك؟"، قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
اختصاصه برؤية جبريل وميكائيل عن يمين النبي صَلَّى الله عليه وسلم ويساره يوم أحد:
روي عن سعد قال: رأيت عن يمين النبي صَلَّى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد: يعني جبريل وميكائيل.
اختصاص عمر إياه من بين أهل الشورى بالأمر بالاستعانة إن لم يصبه الأمر:
روي عن عمر بن ميمون الحديث، تقدم في فصل خلافة عثمان، وفيه: "فإن أصاب الأمر سعدًا فهو ذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة".
اختصاصه بآيات نزلت فيه:
روي عن سعد أنه قال: نزلت في آيات من القرآن، قال: حلفت أم سعد لا تكلمه أبدًا حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب؛ قال: قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك، وأنا آمرك بهذا؛ قال فمكثت ثلاثًا حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة، فسقاها فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
قال: وأصاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف، فأخذته فأتيت به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقلت: نفلني هذا السيف، فأنا من قد علمت حاله؛ فقال: "رده من حيث أخذته"، فانطلقت حتى أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي، فرجعت إليه فقلت: أعطنيه؛ قال: فشد بي صوته: "ردَّه من حيث أخذته"؛ فأنزل الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ} [الأنفال: 1].
قال: مرضت، فأرسلت إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فأتاني، فقلت: دعني أقسم مالي حيث شئت. قال: فأبى؛ قلت: فالنصف؛ فأبى؛ قلت: فالثلث، فسكت، فكان يعد الثلث جائزًا.
قال: وأتيت على نفر من الأنصار والمهاجرين، فقالوا: تعال نطعمك ونسقك خمرًا، وذلك قبل أن تحرم الخمر، قال: فأتيتهم في حش والحش البستان فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر؛ قال: فأكلت وشربت معهم، قال: فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل أحد لحيي الرأس فضربني به، فجرح أنفي، فأتيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأخبرته، فأنزل الله عز وجل في يعني نفسه شأن الخمر: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
وروي عن سعد قال: نزلت {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]؛ في ستة أنا وابن مسعود منهم، وكان المشركون قالوا: لا يدني هؤلاء، وعنه قال: كنا مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون، اطرد هؤلاء لا يجترؤن علينا؛ قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من خذيل وبلال ورجلان لست أسميهما؛ فوقع في نفس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما شاء أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم}.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة". فدخل سعد بن أبي وقاص فطلع سعد بن أبي وقاص؛ حتى إذا كان الغد قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع سعد، و فليس منا أحد إلا وهو يتمنى أن يكون من أهل بيته؛ فإذا سعد قد طلع.
دعاء النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالشفاء من مرضه فشفي:
روي عن سعد أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم عاده عام حجة الوداع بمكة من مرض أشفى فيه فقال سعد: يا رسول الله، قد خفت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم اشفِ سعدًا". ثلاث مرات وفيه ذكر الوصية وقوله: "والثلث كثير"؛ وفيه: "إن صدقتك من مالك صدقه، وأن نفقتك على عيالك صدقة، وإن ما تأكل امرأتك من مال صدقة".
اتباعه للسنة:
تقدم في خصائصه في الأولى منها قوله في صلاته، ولا آلو ما اقتديت من صلاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وعن عامر بن سعد أن سعدًا ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسلبه، فلما رجع سعد جاء أهله فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم فقال: معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبي أن يرد عليهم.
شجاعته:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "سعد بن أبي وقاص يعد بألف فارس".
صبره مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مع ضيق العيش:
روي عن سعد قال: إني لأول العرب رمى سهما في سبيل الله، ولقد كنا نغزو مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، حتى إن كان أحدنا ليضع كما تضع الشاة ماله خلط.
شدته في دين الله:
روي عن سعد قال: أعطى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس، فترك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم منهم رجلا هو أعجبهم إلي، فقلت: مالك عن فلان؟ والله إني لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أو مسلمًا". ذكر ذلك سعد ثلاثا، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: "إني لأعطي الرجل العطاء وغيره إلي أحب منه خشية أن يكبه الله عز وجل على وجهه في النار"، قال الزهري: فرأى أن الإسلام الكلمة الإيمان العمل الصالح.
زهده:
روي عن عامر بن سعد قال: بينا سعد في إبله فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر الراكب، فقال له نزلت إبلك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم، فضرب سعد صدره وقال: اسكت، سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".
تواضعه وعدله وشفقته على رعيته وحيائه:
روي عن أبي المنهال أن عمر بن الخطاب سأل عمرو بن معد يكرب عن سعد فقال: متواضع في جبايته، عربي في نمرته، أسد في تاموره، يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويبعد في السرية، ويعطف عليها عطف البرة، وينقل إلينا خفيا نقل الذرة. وفي رواية بعد قوله: ويقسم بالسوية وهو لنا كالأب البر والأم المتحننة، وإذا صاح الصائح أسد في تاموره، هو مع ذلك عاتق في حجلتها من الحياء، لم أرَ مثله. قال عمر: لم أر كاليوم ثناء أحسن منه.
صدقه:
روي عن ابن عمر أن سعدًا حدثه عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أنه مسح عليي الخفين وأن ابن عمر سأل عن ذلك عمر فقال: نعم إذا حدث سعد عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره.
حرصه على البر والصدقة:
روي عن سعد قال: عادني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عام حجة الوداع مع وجع اشتد بي فقلت: يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى ولا يرثني إلا ابنة، فأتصدق بكل مالي؟ قال: "لا". قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: "لا". قلت: فالثلث؟ قال: "الثلث، والثلث كثير أو كبير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس".
قال ابن قتيبة: كان آخر العشرة موتا. وقال الفضائلي: كان آخر المهاجرين وفاة، وقال الواقدي: وكان ذلك سنة خمس وخمسين، وقيل أربع وخمسين وقيل ثمان وخمسين، حكاه أبو عمر، وله بضع وستون سنة، وقيل بضع وسبعون، وقيل بضع وثمانون، وقيل بضع وتسعون، ذكره ابن قتيبة وأبو عمر وغيرهما.
تاسعًا ــ سعيد بن زيد رضي الله عنه:
هو سَعِيد بن زَيْد بن عَمْرو القرشي العدوي، ويُكْنَى أَبا الأَعور، وقيل: أَبو ثور، وكان أبوه زيد بن عمرو بن نفيل، يطلب دين الحنفية دين إبراهيم قبل أن يُبعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وكان لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة ولا الدم، وخرج يطلب الدين هو وورقة بن نوفل فتنصر ورقة، وأبى هو التنصر، فيقول له الراهب: إنك تطلب دينا ما هو على الأرض اليوم، قال: وما هو؟ قال: دين إبراهيم، كان يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ويصلي إلى الكعبة، وكان زيد على ذلك حتى مات.
ووري عن سعيد بن زيد قال: خرج ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو يطلبان الدين، حتى مرا بالشام، فأما ورقة فتنصر وأما زيد فقيل له: إن الذي تطلب أمامك، قال: فانطلق حتى أتى الموصل؛ فإذا هو براهب، فقال: من أين أقبل صاحب الراحلة؟ قال: من بيت إبراهيم قال: ما يطلب؟ قال: الدين، فعرض عليه النصرانية، فقال: لا حاجة لي فيها، وأبي أن يقبل، فقال: إن الذي تطلب سيظهر بأرضك، فأقبل وهو يقول:
لبيك حقَّا حقّا تعبُّدًا
ورِقّا
وروي عن أسماء قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسندًا ظهره إلى الكعبة يقول: يا معشر قريش والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وكان يحيي الموءدة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها وأنا أكفيك مؤنتها، فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها. ومن أقواله:
مهما تجشمني فإني جاشم عذت بما عاذ به ابراهم
خصائصه:
لم ينقل له من الخصائص غير ما ثبت لأبيه فإنه لم ينقل في فضل أحد من آباء العشرة ما نقل في فضل زيد بن عمرو، كما تقدم، شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالجنة، وقد تقدمت أحاديث هذا الفصل في نظيره من باب العشرة.
قال أبو عمرو وغيره: شهد سعيد المشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلا بدرًا، وقال الواقدي: بعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وطلحة إلى الشام يتجسسان الأخبار، ثم رجعا فقدما إلى المدينة يوم وقعة بدر، وقد قدم الحديث في فصل فضائل طلحة، فلذلك كانا معدودين من البدريين، وقال البغوي في معجمه: فضرب له النبي صَلَّى الله عليه وسلم بسهمه، قال: وأجري؟ قال: "وأجرك".
شهادة النبي صَلَّى الله عليه وسلم له بالشهادة:
روي عن عبد الله بن سالم، عن سعيد بن زيد قال: كنا مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بحرا فقال: "أثبت حرًا فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"، قيل ومن هم؟ قال: رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن مالك، وعبد الرحمن بن عوف؛ قال: قيل فمن العاشر؟ فقال: أنا.
ذو دعوة مجابة:
روي عن سعيد بن زيد أن أروى خاصمته في بعض داره فقال: دعوها وإياها، فإني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "من أخذ شبرًا من الأرض بغير حق طوقه في سبع أرضين يوم القيامة" اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها. قال محمد بن زيد: فرأيتها عمياء تلتمس الجدر، وتقول: أصابتني دعوة سعيد بن زيد؛ فبينما هي تمشي في الدار إذ مرت على بئر في الدار فوقعت فيها فكانت قبرها.
زهده:
روي أن عمر أرسل إلى أبي عبيدة يقول: أخبرني عن حال الناس، وأخبرني عن خالد بن الوليد أي رجل هو، وأخبرني عن يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص كيف هما وحالهما ونصيحتهما للمسلمين؛ فقال: خالد خير رجل، وأنصحه للمسلمين، وأشده على عدوهم، وعمرو وزيد نصحهما وجدهما كما تحب؛ قال: عن أخويك سعد بن يزيد ومعاذ بن جبل؟ قال: كما عهدت، إلا أن السواد زادهما في الدنيا زهدًا وفي الآخرة رغبة.
وأخرج أيضًا أن أبا عبيدة ولى سعيدًا دمشق، ثم خرج حتى أتى الأردن فنزلها فعسكر، وبعث عليهم خالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان، فلما بلغ ذلك سعيد بن زيد كتب إلى أبي عبيدة: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فإني ما كنت لأوثرك وأصحابك بالجهاد على نفسي وعلى ما يدنيني من مرضاة ربي، فإذا أتاك كتابي هذا فابعث إلى عملك من هو أرغب إليه مني، فإني قادم عليك وشيكا إن شاء الله تعالى، والسلام عليك فلما بلغ الكتاب أبا عبيدة قال: ليتركنها، ثم دعا يزيد بن أبي سفيان فقال: اكفني دمشق.
احترام الولاة له ووصية أم المؤمنين حين وفاتها أن يصلي عليها:
روي عن ابن سعيد بن زيد قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان ابن الحكم بالمدينة يبايع الناس لابنه يزيد، فقال رجل من الشام: ما يحبسك؟ قال: حتى يجيء سعيد بن زيد فيبايع، فإنه سيد أهل البلد؛ فإذا بايع بايع الناس، قال: افلا أذهب آتيك به؟ فجاء الشامي وأنا مع أبي الدار، فقال: انطلق فبايع، فقال: أنطلق، فسأجيء فأبايع؛ فقال: تنطلق أو لأضربن عنقك؛ قال: أتضرب عنقي؟ والله إنك لتدعوني إلى أقوام أنا قاتلتهم على الإسلام، قال: فرجع إلى مروان وأخبره، فقال له مروان،اسكت. قال: فماتت أم المؤمنين، أظنها زينب، فأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، فقال الشامي لمروان: ما يحبسك أن تصلي على أم المؤمنين؟ قال: أنتظر الرجل الذي أردت أن تضرب عنقه، فإنها أوصت أن يصلي عليها، فقال الشامي: أستغفر الله.
توفي بأرضه بالعقيق، وحمل إلى المدينة، ودفن بها سنة خمسين أو إحدى وخمسين في أيام معاوية، وهو ابن بضع وسبعين سنة، ونزل في قبره سعد وابن عمر.
عاشرًا ــ أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه:
هو عَامِرُ بن الجَرَّاح القرشي، الفهريّ ويكنى أبا عبيدة، وبها اشتهر.
اختصاصه بأنه أمين هذه الأمة:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "إن لكل أمة أمينًا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح". وروي عن حذيفة أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال لأهل نجران: "لأبعثن حق أمين". فأشرف أصحابه، فبعث أبا عبيدة.
وعنه قال: جاء السيد والعاقب إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله أبعث معنا أمينك؛ فقال: "سأبعث معكم أمينًا، حق أمين". فتشرف لها الناس؛ فبعث أبا عبيدة. وعن أبي مسعود قال: لما جاء العاقب والسيد صاحبا نجران أراد أن يلاعنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه، فوالله لئن كان نبيًا فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا أبدًا؛ قال: فأتياه فقالا: لا نلاعنك، ولكن نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "لأبعثن رجلا أمينًا حق أمين"، قال: فاستشرف لها أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "قم يا أبا عبيدة بن الجراح" قال: فلما قفا قال: "فبعث أبا عبيدة" مكان "قم يا أبا عبيدة" ولم يذكر ما بعده. وعن محمد بن جعفر قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين". قال: فكان عمر بن الخطاب يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ؛ رجاء أن أكون صاحبها، فرحت إلى الظهر مهجرًا فلما صلى بنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم نظر عن يمينه ويساره، فجعلت أتطاول له ليراني، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه، فقال: "اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه". قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة.
وروي عن أنس بن مالك أن أهل اليمن قدموا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقالوا ابعث معنا برجل يعلمنا؛ فأخذ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بيد أبي عبيدة وقال: "هذا أمين هذه الأمة".
اختصاصه بالإمرة في بعض الأحيان:
عن جابر بن عبد الله قال: بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سرية وأمر عليها أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيرًا لقريش، وزودنا جرابًا من تمر لم يجد لنا غيره، وكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، فقيل له: فكيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل؛ فكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نله بالماء فنأكله، قال: وانطلقنا على ساحل البحر فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم، فكلوا؛ قال: فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلثمائة، حتى سمنا، ولو رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال الدهن ونقتطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: "هو رزق الله أخرجه لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟"، قال: فأرسلنا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم منه فأكله.
وفي رواية: فأخذ أبو عبيدة ضلعًا من أضلاعه فنصبه ونظر إلى أطول بعير في الجيش وأطول رجل فحمله عليه، فجاز تحته.
اختصاص عمر إياه بالخلافة إن مات وهو حي:
روي عن عمر أنه لما بلغ سرغ وحدث أن بالشام وباءًا شديدًا فقال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن سألني ربي عز وجل لم استخلفته على أمة محمد؟ قلت: إني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إن لكل نبي أمينا، وأميني أبو عبيدة بن الجراح". وإن أدركني أجلي وقد توفي أبو عبيدة استخلف معاذ بن جبل: فإن سألني ربي لم استخلفته؟ قلت: إني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إنه يحشر يوم القيامة بين يديه العلماء نبذة".
اختصاص أبي بكر إياه بالكون معه:
روى أبو حذيفة إسحاق بن بشر في كتابه فتوح الشام أن طوائف من أحياء العرب كانت تأتي من عامة الآفاق إلى أبي بكر إمدادًا للمسلمين، فيستعمل عليهم الرجل منهم، ويخبرهم أن يمضوا إلى أي أمرائه أحبوا، فإذا قالوا: اختر لنا يا خليفة رسول الله، قال: عليكم بالهين اللين الذي إذا ظلم لم يظلم، وإذا أسيء إليه غفر، وإذا قطع وصل، رحيم بالمؤمنين، شديد على الكافرين،عليكم بأبي عبيدة بن الجراح.
شهد أبو عبيدة مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم بدرًا وهو ابن إحدى وأربعين سنة وما بعدها من المشاهد كلها، وشهد بيعة الرضوان، وثبت معه يوم أحد، وقتل أباه يوم بدر كافرًا فأنزل الله جل وعلا {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ...} الآية [المجادلة: 22]، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كان رضي الله عنه يسير في العسكر ويقول: ألا رب مبيض لثيابه ومدنس لدينه، ألا رب منكم لنفسه وهو لها مهين، بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحادثات، فلو أن أحدكم عمل في السيئات ما بينه وبين السماء ثم عمل حسنة لعلَت فوق سيئاته حتى تقهرها.
وروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نعم الرجل أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة ابن الجراح".
حبِّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم له:
روي عن عائشة وقد سئلت: أي أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان أحبَّ إليه؟ قالت: أبو بكر، قيل: ثم من؟ قالت: أبو عبيدة ابن الجراح.
ثناء أبي بكر وعمر وغيرهما عليه:
عن عمر أنه قال لأصحابه يومًا: تمنوا، فقال رجل: أتمنَّى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله عز وجل، فقال: تمنوا فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا، وزبرجدًا، وجوهرًا أنفقه في سبيل الله عز وجل وأتصدق به، ثم قال: تمنوا، قالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: لكني أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة ابن الجراح.
وروي عن عمرو بن العاص قال: ثلاثة من قريش أصبح الناس وجوهًا، وأحسنها أخلاقًا، وأشدها حياء، إن حدثوك لم يكذبوك، وإن حدثتهم لم يكذبوك: أبو بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عبيدة بن الجراح.
كراهية عمر خلاف أبي عبيدة:
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عمر لما خرج إلى الشام، وأخبر أن الوباء قد وقع به فجمع أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، واستشارهم فاختلفوا، فرأى عمر رأي من رأى الرجوع، فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟ وكان عمر يكره خلافه: نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فنزلت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟
زهده:
روي عن عروة بن الزبير قال: لما قدم عمر بن الخطاب من الشام تلقاه أمراء الأجناد وعظماء أهل الأرض، فقال عمر: أين أخي؟ قالوا: من؟ قال: أبو عبيدة، قالوا: يأتيك الآن، فلما أتاه نزل فاعتنقه، ثم دخل عليه بيته فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه ورحله، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ صاحبك؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل.
وفي رواية أن عمر قال له: اذهب بنا إلى منزلك، قال: وما تصنع عندي، ما تريد إلا أن تعصِّر عينيك عليّ؟ قال: فدخل منزله فلم ير شيئًا، قال أين متاعك؟ ما أرى إلا لبدًا وصفحة وشنا، وأنت أمير، أعندك طعام؟ فقام أبو عبيدة إلى جونة فأخذ منها كسيرات، فبكى عمر، فقال أبو عبيدة: قد قلت لك ستعصر عينيك علي يا أمير المؤمنين، يكفيك ما يبلغك المقيل، فقال عمر: غرتنا الدنيا، كلنا غيرك يا أبا عبيدة، وأخرج أبو حذيفة في فتوح الشام أن أبا بكر لما توفي وخالد على الشام واليًا واستخلف عمر كتب إلى أبي عبيدة بالولاية على الجماعة، وعزل خالدًا، فكتم أبو عبيدة الكتاب من خالد وغيره حتى انقضت الحرب وكتب خالد الأمان لأهل دمشق وأبو عبيدة الأمير، وهم لا يدرون، ثم لما علم خالد بذلك بعد ما مضى نحو من عشرين ليلة دخل على أبي عبيدة فقال، يغفر الله لك، جاءك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟ فقال له أبو عبيدة: ويغفر الله لك، ما كنت لأعلمك حتى تعلمه من غيري، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله وقد كنت أعلمك إن شاء الله تعالى، وما سلطان الدنيا أريد، وما للدنيا أعمل، وإن ما نرى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله عز وجل، وما يضر الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة، وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض من الهلكة إلا من عصم الله عز وجل وقليل ما هم، فدفع أبو عبيدة عند ذلك الكتاب إلى خالد.
خوفه من الله عز وجل:
روى أحمد في مسنده أن أبا عبيدة دخل عليه إنسان وهو يبكي فقال: ما يبكيك يا أبا عبيدة؟ فقال: يبكيني أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ذكر يومًا ما يفتح الله على المسلمين، حتى ذكر الشام فقال: "إن ينسأ من أجلك يا أبا عبيدة فحسبك من الخدم ثلاثة: خادم يخدمك، وخادم يسافر معك، وخادم يخدم أهلك ويرد عليهم، وحسبك من الدواب ثلاث: دابة لرحلك، ودابة لثقلك، ودابة لغلامك"، ثم أنا أنظر إلى بيتي قد امتلأ رقيقا، وأنظر إلى مربطي قد امتلأ خيلا ودواب؛ وكيف ألقى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد هذا وقد أوصانا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أن أحبَّكم إلي وأقربكم مني من لقيني على الحال التي فارقني عليها؟".
تواضعه وإنصافه لرعيته ومساواته لهم:
روى أبو حذيفة في فتوح الشام أن أبا بكر قد بعث عمرو بن العاص في نفر وقال له: يا عمرو؛ هؤلاء أشراف قومك يخرجون مجاهدين في سبيل الله، بائعين أنفسهم لله، فاخرج فعسكر حتى أندب الناس معك، فقال عمرو: يا خليفة رسول الله ألست أنا الوالي على الناس؟ قال: بلى، أنت الوالي على من أبعثه معك من ههنا؛ فقال: بل على من أقدم عليه من المسلمين؛ قال: فقال: لا، ولكن أحد الأمراء فإن جمعتكم حرب فأبو عبيدة أميركم؛ فسكت عمرو، ثم لما حضر شخوصه جاء إلى عمر فقال: يا أبا حفص، قد علمت نصرتي في الحرب ومناقبي في العدو؛ وقد رأيت منزلتي من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقد أرى أبا بكر ليس يعصيك، فأشر عليه رحمك الله أن يوليني أمر هذه الجنود بالشام، فإني أرجو أن يفتح الله على يدي البلاد، وأن يريكم الله والمسلمين ما تسرون به؛ فقال عمر: ما كنت لأكذبك، ما كنت لأكلمك في ذلك: وما يوافقني أن يبعثك على أبي عبيدة وأبو عبيدة أفضل عندنا منزلة منك، قال: فإنه لا ينقص أبا عبيدة شيئًا من فضله إن ولاني عليه؛ قال: فلما قدم عمرو على أبي عبيدة قال له أبو عبيدة: مرحبًا بك يا أبا عبد الله رب يوم قد شهدته مباركًا للمسلمين فيه برأيك ومحضرك، وغنما أنا رجل منكم، لست وإن كنت الوالي عليكم بقاطع أمرًا دونكم فاحضرني برأيك في كل يوم بما ترى، فإنه ليس لي عنك غنى، قال: فقال عمرو: افعل، وفقك الله لما يصلح للمسلمين ونكبت به العدو.
وروى أيضًا أبو حذيفة في فتوح الشام أن الروم بعثوا إلى أبي عبيدة: إنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك الصلح ويدعوك إلى النصف، فإن قبلت منه فلعل ذلك أن يكون خيرًا لك لنا وإن أبيت فما نراه إلا شرا لك، فقال لهم: ابعثوا من شئتم، فبعثوا رجلا طويلا أحمر أزرق، فجاء، فلما دنا من المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم، ولم يدر أهو فيهم أم لا؟ ولم يرهبه مكان أمير من الأمراء، فقال: يا معشر العرب، أين أميركم؟ فقالوا له: ها هوذا، فنظر فإذا هو بأبي عبيدة جالسًا، عليه الدرع، وهو ممسك الفرس، وبيده أسهم يقبلها وهو جالس على أرض، فقال له: أنت أمير هؤلاء؟ قال: نعم، قال: ما يجلسك على الأرض؟ أرأيت إن كنت جالسًا على وسادة أو كان تحتك بساط أكان ذلك واضعك عند الله، أو هل يبعدك من الإحسان؟ قال له أبو عبيدة: إن الله لا يستحي من الحق، لأصدقنك: ما أصبحت أملك إلا سيفي وفرسي وسلاحي، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فاقترضت من أخي هذا شيئًا يعني معاذ بن جبل وكان عنده شيء فاقترضت، ولو كان عندي بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه وأجلس أخي المسلم الذي لا أدري لعله خير مني منزلة عند الله عز وجل على الأرض، ونحن عباد الله، نمشي على الأرض ونجلس عليها ونأكل عليها ونضطجع عليها، وليس ذلك بن أقصنا عند الله شيئًا، بل تعظم به أجورنا وترفع درجاتنا، فهلم حاجتك التي جئت لها.
وروي عن أبي موسى رضي الله عنه أن عمر كتب إلى أبي عبيدة في الطاعون الذي وقع بالشام أنه: قد عرضت حاجة عندنا ولا غنى فيها عنك، فإذا أتاك كتابي هذا فإني أعزم عليك إن أتاك كتابي ليلا أن لا تصبح حتى تركب، وإن أتاك نهارا أن لا تمسي حتى تركب إلي. فلما قرأ الكتاب قال: قد عرفت حاجة أمير المؤمنين، إنه يريد أن يستبقي من ليس بباق، ثم كتب: إني قد عرفت حاجتك التي لك، فخلني من عزمتك يا أمير المؤمنين، فإني في جند من أجناد المسلمين لا أرغب بنفسي عنهم، فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقيل له: مات أبو عبيدة؟ قال: لا، وكان قد كتب إليه عمر أن الأردن أرض غمقة، وأن الجابية أرض نزهة، فاظهر بالمسلمين إلى الجابية، فلما قرأ أبو عبيدة الكتاب قال: هذا نسمع فيه أمير المؤمنين ونطيعه. الطاعون: الموت من الوباء وهو المرض العام لفساد الهواء فتفسد لذلك الأمزجة والأبدان، يقال: طعن الرجل فهو مطعون وطعين، والأردن بضم الهمزة وتشديد النون: نهر وكورة بأعلى الشام والجابية: قرية بدمشق، وغمقة بالغين المعجمة أي قريبة من الماء والنزور والحضر، والغمق: فساد الريح وغموقها من كثرة الأنداء فيحصل منها الوباء، والغمق أيضًا: ركوب الندى: نزهة: أي بعيدة من الماء فهي أقل وباء، قال ابن السكيت: وما يضعه الناس في غير موضعه، قولهم خجنا نتزه إذا خرجوا إلى البساتين، قال: وأما التنزه: التباعد عن المياه والأرياف، ومنه قولهم: فلان يتنزه عن الأقذار أي نتباعد عنها.
وروي عن عروة بن الزبير أن طاعون عمواس كان معافيًا منه أبو عبيدة بن الجراح وأهله، فقال: اللهم نصيبه في آل أبي عبيدة، فخرجت بثرة في خنصر أبي عبيدة، فجعل ينظر إليها، فقيل له: إنها ليست بشيء، فقال: إني ارجو أن يبارك الله فيها، إنه إذا بارك في القليل كان كثيرًا.
اهتمامه حين استنهضه عمر عام القحط:
روي أن الناس قحطوا في خلافة عمر، فكتب إلى أبي عبيدة بن الجراح وهو يومئذ بالشام: الغوث الغوث، أدرك المسلمين، فكتب إليه أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، كتبت إلي: الغوث الغوث، وقد أتتك العير أولها عندك وآخرها بالشام.
وذكر المدائني عن العجلاني عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال: مات في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفًا، وقيل: لما وقع الطاعون قال عمرو بن العاص: إنه رجز فتفرقوا عنه، فبلغ شرحبيل بن حسنة فقال: صحبت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وعمرو أضل من بعير أهله، إنه دعوة نبيكم ورحمة من ربكم وموت الصالحين قبلكم، فاجتمعوا له ولا تتفرقوا عنه، فبلغ ذلك عمرو، فقال: صدق: وروي أن عمرو بن العاص قال: تفرقوا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال، قال معاذ بن جبل: بل هو شهادة ورحمة ودعوة نبيكم، اللهم أعط معاذا وأهله نصيبه من رحمتك فطعن فمات، وقال أبو قلابة: قد عرفت الشهادة والرحمة، وبها عرفت ما دعوة نبيكم، فسألت عنها فقيل: دعا النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يجعل فناء أمته بالطعن والطاعون حين دعا أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعها فدعا بهذا، قال أهل العلم: إنما يكون شهادة لمن صبر عليه محتسبًا عالما بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فأما من فر منه فأصابه فليس بشهيد.
وصيته رضي الله عنه:
روي عن سعيد بن المسيب قال: لما طعن أبو عبيدة بالأردن دعا من حضره من المسلمين وقال: إني موصيكم بوصية إن قبلتموها لن تزالوا بخير، أقيموا الصلاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا وحجوا، واعتمروا وتواصوا، وانصحوا لأمرائكم، ولا تغشوهم، ولا تلهكم الدنيا فإن امرأ لو عمر ألف حول ما كان له بد من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون، إن الله تعالى كتب الموت على بني آدم فهم ميتون، فأكيسهم أطوعهم لربه وأعملهم ليوم معاده، والسلام عليكم ورحمة الله، يا معاذ ابن جبل، صل بالناس.
ومات رحمه الله فقام معاذ في الناس، فقال: يا أيها الناس: توبوا إلى الله من ذنوبكم، فأيما عبد يلقى الله تعالى تائبًا من ذنبه إلا كان على الله حقا أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرًا أخاه فليلقه فليصالحه، ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام، أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدًا أبر صدرًا، ولا أبعد من الغائلة، ولا أشد حبًا للعامة، ولا أنصح منه، فترحموا عليه، واحضروا الصلاة عليه.