مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل بن...
مَالِكُ بنُ أَنس بن مالك التيميّ:
قال مُطَرِّف بن عبد الله اليَسَارِيّ: كان مالك بن أنسَ طَويلًا عَظِيم الهَامَة أصْلَع أبيضَ الرأس واللِّحية، أبيضَ شديدَ البياضِ إلى الشُّقْرَة، وكان لباسه الثياب العَدَنِيّة الجِيَاد، وكان يكره حَلْقَ الشارب ويَعِيبه، ويَراه من المُثَلِ، كأنه مَثَّل بنفسه، وقال إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس: كان خاتَم مالك بن أنس الذي مات وهو في يده فَصّه حَجَر أسود مجسّد، نَقْشُه سَطران حسبي الله ونعم الوكيل، وكان يَتَخَتَّمُ به في يسَاره وربما رأيت خاتمه كثيرًا في يمينه، فلا أشك أنه كان يحوّله من يساره إلى يمينه حين يتوضأ من الغائط والبول.
وقال محمد بن عمر: كان مالك لا يغيّر شيبه، وقال مطرف بن عبد الله اليساريّ: قلت لمالك بن أنس يومًا: ما نقش خاتمك؟ قال: حسبي الله ونعم الوكيل. قلت: فلم نقشته هذا النقش من بين ما ينقش الناس الخواتيم؟ قال: إني سمعت الله تبارك وتعالى يقول لقوم قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} (آل عمران: 173ـ174). فقال مطرف: فمحوت نقش خاتمي ونقشته حسبي الله ونعم الوكيل.
وقال محمد بن عمر: سمعتُ مالك بن أنسَ يقول: قد يكون الحَملُ ثلاثَ سنين، وقد حُمِل ببعض الناس ثلاث سنين ـ يعني: نفسه، وكان مالك يعمل في نفسه ما لا يلزمه الناس، وكان يقول: لا يكون العالِم عالمًا حتى يعمل في نفسه بما لا يُفتي به الناس، يحتاط لنفسه ما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم. وروى مطرف بن عبد الله اليساريّ، عن مالك بن أنس قال: كنت آتي نافعًا مولى ابن عمر نصف النهار، ما يظلني شيء من الشمس، وكان منزله بالنقيع بالصورين، وكان فيه حدة، فَأَتَحَيَّنَ خروجه فيخرج فأدعه ساعة، وأريه أني لم أُرِدْه، ثم أعرض له فأسلّم عليه، ثم أدعه حتى إذا دخل البلاط، أقول: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ فيقول قال: كذا وكذا فأَخْنَس عَنه، و قال: وكنت آتي ابن هُرْمُز بكرة، فما أخرج من بيته حتى الليل، وكان من الفقهاء.
وقال مطرف بن عبد الله: أخبرني زيد بن داود ــ رجل من أصحابنا من أفضلهم ــ قال: رأيت في المنام كأن القبر انفرج، فإذا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قاعد، وإذا الناس مُنْقَصِفُونَ، فصاح صائح مالك بن أنس، قال: فرأيت مالكًا جاء حتى انتهى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأعطاه شيئًا، فقال: اقْسِم هذا على الناس، فخرج به مالك يَقّْسِمُه على الناس، فإذا هو مِسْكٌ يُعْطِيهم إياه، وقال مُطَرِّف بن عبد الله: قال رجل من أصحابنا: أُرَانِي في المنام ورجل يسألني ما يقول مالك في كذا وكذا؟ قال: قلت: لا أدري إلا أنه قلّما يسأل عن شيء إلا قال قبل أن يتكلم: ما شاء الله، فقال: لو قال هذا في أخفى من الشَّعَرِ لهُدِيَ منه إلى الصواب.
وكان مالك إذا أراد أن يدخل بيته فأدخل رِجْله قال: ما شاء لا قوة إلا بالله فقيل له: إنك إذا أردتَ أن تدخل بيتك قلت: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قال: إني سمعت الله قال في كتابه: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} (الكهف: 39) وجنته بيته، وسئل مالك عن حديثه، أَسَمَاعٌ هو؟ فقال: منه سماع، ومنه عَرْضٌ، وليس العرض عندنا بأدنى من السماع، وكان يقول لبعض من يحتج عليه في العرض: أنه لا يجزئه فيه إلا المشافهة فيأبى مالك ذلك عليه أشد الإباء، ويحتج مالك في ذلك فيقول: أرأيتَ إذا قَرأتَ على القارئ القرآن، فسئلت من أقرأك؟ أليس تقول: فلان بن فلان، وفلان لم يقرأ عليك قليلًا ولا كثيرًا فهو إذا قرأتَ أنت عليه أجزأك، وهو القرآن، ولا ترى أن يجزئك الحديث! فالقرآن أعظم من الحديث.
وقال: مطرف بن عبد الله: صحبت مالك بن أنس نحوًا من عشرين سنة، فلم أر أحدًا قرأ مالك عليه هذه الكتب ــ يعني: الموطأ، وكان مالك بن أنس يقول: عجبًا لمن يريد المحدّث على أن يحدّثه مشافهة، وذلك إنما أخذ حديثه عرضًا فكيف جَوّز ذلك للمحدّث، ولا يُجَوِّزُ هو لنفسه أن يعرض عليه كما عرض هو، وقال محمد بن عمر: سألت مالك بن أنس، وعبد الله بن عمر العمريّ، وعبد الرحمن بن أبي الزِّناد، وعبد الحكيم بن عبد الله بن أَبِي فَرْوَةَ، وأبا بكر بن عبد الله بن أَبِي سَبْرَةَ، عن قراءة الحديث على المُحَدِّث أو حديثه هو به فقالوا: هو سواء، وهو عِلم بلدنا، وقال رجل لمالك: قد سمعت مائة ألف حديث، فقال مالك: مائة ألف حديث! أنت حاطب ليل تجمع القَشمةَ فقال: ما القشمة؟ قال: الحطب يجمعه الإنسان بالليل، فربما أخذ معه الأفعى فتنهشه.
وسئل مالك عن الإيمان، يزيد وينقص؟ فقال: يزيد، وذلك في كتاب الله، فقيل له: وينقص يا أبا عبد الله؟ قال: ولا أريد أن أبلغ هذا، وسئل مالك ما كُنية ابنه محمد؟ فقال: أبو القاسم كأنه لم ير بذلك بأسًا، ولما خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزم مالك بيته، فلم يخرج منه حتى قُتل محمد، وقال محمد بن عمر: سمعت مالك بن أنس يقول: لما حجّ أبو جعفر المنصور دعاني، فدخلتُ عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها ــ يعني: الموطأ، فتنسخ نُسَخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعلموا بما فيها لا يتعدّوه إلى غيره، ويَدَعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المُحْدَث، فإني رأيتُ أَصْلَ العلم روايةَ المدينة وعلمهم، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعلموا به، ودانوا به من اختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وغيرهم، وإنَّ ردَّهم عما قد اعتقدوه شديد، فَدَعِ الناسَ وما هم عليه، وما اختار كل أهل بلد منهم لأنفسهم فقال: لعمري لو طاوعتني على ذلك لأمرتُ به.
وقال محمد بن عمر: لما دُعي مالك بن أنس، وشُووِرَ، وسُمِعَ منه وقُبِلَ قولُه، شَنِفَ الناس له وحسدوه، وبَغَوْه بكل شيء، فلما وَلِي جعفرُ بن سليمان على المدينة سَعَوْا به إليه، وكَثَّرُوا عليه عنده، وقالوا لاَ يَرَى أَيْمَانَ بيعتكم هذه بشئ، وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت الأحنف، في طلاق المُكْرَه: أنه لا يجوز، فغضب جعفر بن سليمان، فدعا بمالك، فاحتج عليه بما رُقِي إليه عنه، ثم جرّده ومَدَّه وضَرَبه بالسياط، ومُدَّت يده حتى انْخَلَع كتفاه وارتُكب منه أمر عظيم، فوالله ما زال بعد ذلك الضرب في رفعة عند الناس وعلو من أمره وإعظام الناس له، وكأنما كانت تلك السياط التي ضُرِبَها حُلِيًّا حُلّي بها، وكان مالك يأتي المسجد ويشهد الصلوات والجمعةَ والجنائزَ، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد، وكان يصلّي ثم ينصرف إلى منزله، وترك شهود الجنائز، فكان يأتي أصحابها فَيُعَزِّيهم ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد، ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزيه ولا يقضي له حقًا، واحتمل الناس ذلك كله له، وكانوا أرغب ما كانوا فيه وأشده له تعظيمًا حتى مات على ذلك، وكان ربما كُلِّم في ذلك فيقول: ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره، وكان مالك يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطرحة يمنةً ويسرةً في سائر البيت، لمن يأتيه من قريش والأنصار والناس، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان مالك رجلًا مهيبًا نبيلًا ليس في مجلسه شيء من المِرَاء واللَّغط ولا رفع الصوت، وكان الغرباء يسألونه عن الحديث، ولا يجيب إلا الحديث بعد الحديث، وربما أذن لبعضهم فقرأ عليه، وكان له كاتب قد نَسَخَ كُتَبَه يقال له: حبيب يقرأ للجماعة، فليس أحد ممن يحضره يدنو ولا ينظر في كتابه ولا يستفهم هيبة لمالك وإجلالًا، وكان حبيب إذا قرأ فأخطأ فتح عليه مالك، وكان ذلك قليلًا، وقال مطرف بن عبد الله: ما رأيت مالك بن أنس يحتجم إلا يوم الأربعاء أو يوم السبت، ينكر الحديث الذي روي في ذلك، وقال مَعْن بن عيسى: رأيتُ الفُسطاط على قبر مالك بن أنَس، وكان مالك ثقة مأمونًا ثبتًا ورعًا فقيهًا عالمًا حجة، وقال إسماعيل بن عبد الله بن أبي أُوَيْس: اشتكى مالك بن أنس أيامًا يسيرة، فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت، فقال: تَشَهَّد ثم قال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (الروم: 4) وتوفي صبيحة أربع عشرة من شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة في خلافة هارون، وصلّى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم؛ وهو ابن زينب بنت سليمان بن عليّ، وكان يعرف بأمه، يقال: عبد الله بن زينب، وكان يومئذٍ واليًا على المدينة، فصلّى على مالك في موضع الجنائز، ودُفن بالبقيع، وكان يوم مات ابن خمس وثمانين سنة، وقال محمد بن سعد: فذكرت ذلك لمصعب بن عبد الله الزُّبَيْري فقال: أنا أحفظ الناس لموت مالك، مات في صفر سنة تسع وسبعين ومائة.