تسجيل الدخول


عبد الله بن مسعود الهذلي

عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي:
قيل في اسمه: مُهاجر بن مسعود، وذُكِرَ في الصحابة، وهو وهم؛ فأخرج ابنُ أبي خيثمة، من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي؛ قال: كان مهاجر بن مسعود بحمص فحضره عمر إلى الكوفة. قال ابن حجر العسقلاني: ظن الذي أثبت الصحبة لمهاجر أنَّ الرواية بكسر الجيم وأنه اسم الصحابي، وليس كذلك؛ إنما أخبر الشعبي أنَّ عبد الله بن مسعود في زمن الفتوح هَاجَرَ إلى أرض الشام، ونزل حمص، ثم رده عمر إلى الكوفة "فَهَاجَرَ" فعل، وهو بفتح الجيم؛ وابن مسعود هو عبد الله، وهو المخبر عنه بأنه هاجر، ومن ثم أخرج ابن أبي خيثمة هذا الأثر في ترجمة عبد الله بن مسعود.
وكان يكنى عبد الله بن مسعود أبا عبد الرّحمن. و كان مسعودُ بن غافل قد حالف عبدَ بن الحارث بن زُهرة في الجاهليّة. وأمّ عبد الله بن مسعود أمّ عَبْد بنت عبد وُدّ بن سَواء، ويقال: بنت عبد ودّ بن سواء، ويقال: أمُّ عَبْدِ اللهِ بْنت ودّ بن سواءة، وهي من بني هُذيل أيضًا ويقال: أسلمت وصحبت أحدَ السابقين الأولين، وأمّها زهرية قيلة بنت الحارث بن زهرة، وقيل: هند بنت عبد بن الحارث بن زهرة. روى أَبو إِسحاق، عن الأسود بن يزيد أَنه سمع أَبا موسى يقول: قد قدمتُ أَنا وأَخي من اليمن، وما نُرَى إِلا أَن عبد اللّه بن مسعود رجل من أَهل بيت النبي صَلَّى الله عليه وسلم، لِمَا نَرَى من دخوله ودخول أُمِّه على النبي صَلَّى الله عليه وسلم" أخرجه الترمذي في السنن 5/ 631 كتاب المناقب (50) باب (38) حديث رقم 3806.
وكان عبدُ الله رجلًا خفيفَ اللحم، نحيفًا، قصيرًا أشدّ الأدمة، وكان لا يُغَيّرُ الشيب، وكان له شَعْرٌ يبلغ تَرْقُوَتَهُ يرفعه على أذنيه كأنّما جُعل بعَسَل، قال وكيع: يعني لا يُغادر شَعْرَةً شَعْرََةً. وكان عبد الله من أجود النّاس ثوبًا أبيض، من أطيب النّاس ريحًا. وكان يُعرفُ بالليل بريح الطّيب. وكان خاتمه من حديد.
قال زيد بن وهب: لما بعث عثمان إلى ابن مسعود يأمره بالقدوم إلى المدينة اجتمع الناس، فقالوا: أقم، ونحن نمنعك أن يصلَ إليك شيء تكرهه، فقال: إن له عليَّ حقَّ الطاعةِ ولا أحبُّ أن أكونَ أول من فتح باب الفِتَن، وقال علي: قال رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لَرِجْلُ عَبْدِ الله أثْقَلُ فِي المِيزَانِ مِنْ أحُدٍ"(*). أخرجه أحمد بسندٍ حسن. وقال تميم بن حرام: جالستُ أصحابَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فما رأيتُ أحدًا أزهدَ في الدنيا ولا أرْغَبَ في الآخرة، ولا أحبَّ إليّ أن أكون في صلاحه من ابن مسعود، وأخرج البغوي مِن طريق يسار، عن أبي وائل أن ابنَ مسعود رأى رجلًا قد أسبل إزارَه، فقال: ارفع إزارك، وأنتَ يا ابن مسعود فارفَع إزارك، فقال: إني لست مثلك، إن بساقي حموشه، وأنا آدم الناس؛ فبلغ ذلك عمر، فضرب الرجل، ويقول: أتردُّ على ابن مسعود!.
وكان عبد الله سادس مَنْ أسلم. وكان أسلم قبل دخول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم دار الأرقم. ويقال: كان ِإسلامه قديمًا في أول الإسلام في حين أسلم سعيد بن زيد وزوجته فاطمة بنت الخطاب قبل إسلامِ عمر بزمان، وكان سبب إسلامه ما رواه أبو بكر بن عياش وغيره، عن ابن مسعود، قال: ‏كنْت أرْعَى غنمًا لعقبة بن أبي معيط، فمرَّ بي رسولُ الله صَلَّّّّّّّّّّّّّّّى الله عليه وسلم فقال لي: "يَا غُلَامُ، هَلْ مِنْ لَبَنٍ"؟‏ فقلت‏: نعم، ولكنني مؤتمن.‏ قال: ‏‏"‏فَهَلْ مِنْ شَاةٍ حَائِلٍ لَمْ يَنْزُ عَلَيْهَا الْفَحْلُ"؟‏، فأتيتُه بشاةٍ فمسح ضَرْعَها، فنزل لبنٌ فحلبه في إناءٍ وشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: "اقْلصْ" فَقَلَص، ثم أتيتُه بعد هذا فقلت‏: يارسول الله، علّمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: ‏"‏يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فَإِنَّك عَلِيمٌ مُعَلَّمٌ‏"(*) أخرجه أحمد في المسند 1/ 379، 462، وابن سعد 3/ 1/ 106، وابن أبي شيبة 7/ 51، 11/ 510، وابن عساكر 2/ 249، وذكره الهيثمي في الزوائد 6/ 20.
هاجر الهجرتين جميعًا: الأولى إلى أرض الحبشة، والهجرة الثّانية من مكة إلى المدينة في رواية أبي معشر ومحمّد بن عمر، وقيل الهجرة الثانية فقط. روى موسى بن يعقوب، عن محمّد بن جعفر بن الزّبير قال: لمّا هاجر عبد الله بن مسعود من مكّة إلى المدينة نزل على معاذ بن جَبَلٍ. وروى محمّد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: نزل عبد الله بن مسعود حين هاجر على سعد بن خَيْثَمَة. وروى أبو عُميس، عن القاسم بن عبد الرّحمن: أنّ عبد الله بن مسعود أُخِذَ في أرض الحبَشة في شيء فَرشَا دينارَيْن.
صلى القبلتين، وشهد بدرًا، وأُحدًا، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وهو الذي أَجهز على أَبي جهل، وضرب عنقه بعد أن أثبته ابنا عفراء، وشهد له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالجنة. روى أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، قال:‏ أَتيت النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم يوم بَدْر، فقلت: يا رسول الله، إني قتلت أبا جهل. ‏قال: "‏بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، لأَنْتَ قَتْلْتَهُ‏"‏؟! قلت‏: ‏نعم؛ فاستخفّه الفرح؛ ثم قال: "انْطَلِقْ فَأَرِنيهِ‏". ‏قال:‏ فانطلقت معه حتى قمتُ به على رأْسه. فقال: "‏الْحَمْدُ ِللَّهِ الّذِي أَخْزَاكَ هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِه الُأمَّةِ، جُرُّوه إلى القَلِيب‏". قال: ‏وقد كنت ضربتْهُ بسيفي فلم يعمل فيه، فأخذت سيفَه فضربته به حتى قتلته، فنفّلَّني رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم سيفه‏(*). ومن مناقبه أَنه بعد وفاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم شهد المشاهد العظيمة، ومنها: أَنه شهد اليرموك بالشام.
وروى عليّ بن السائب، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله تعالى: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة آل عمران: 172]، قال: كنّا ثمانية عشر رجلًا. وكان عبدُ الله بن مسعود صاحبَ السواد والوساد والنّعْلَينِ لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يعني سرّه، ووِسادِه، يعني فراشه، وسِواكه ونَعْلَيْه وطَهوره، وهذا يكون في السفر. وروى عبد الملك بن عُمير، عن أبي المليح قال: كان عبد الله يستر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إذا اغتسل ويوقظه إذا نام ويمشي معه في الأرض وَحْشًا(*). وروى المسعوديّ، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: كان عبد الله يلبس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، نعْلَيْهِ ثمّ يمشي أمامه بالعصا حتَى إذا أتى مَجْلِسَهُ نَزَعَ نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أن يقوم ألبَسَه نعليه ثمّ مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحُجْرَة قبل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم(*). وروى إبراهيم بن يزيد، عن عبد الله قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إذْنُكَ عَلَيّ أنْ تَرْفَعَ الحِجَابَ وَأنْ تَسْمَعَ سِِِِوَادي حتّى أنْهاك"(*).
وكان عبد الله يشَبّه بالنّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، في هَدْيه ودَلّه وسَمْتِه، وكان علقمة يُشَبَّه بعبد الله، وقال حُذيفة: ما أعرف أحدًا أقربَ سَمْتًا وهديًا ودلًّا برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من ابن أمّ عبد حتّى يُواريه جدار بيت. ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمّد أنّ ابن أمّ عبد من أقربهم إلى الله وسيلةً. وروى عمرو بن مُرّة، عن أبي عُبيدة قال: كان عبد الله إذا دخل الدار اسْتَأنَسَ ورفع كلامه كي يستأنسوا، وروى إسرائيل، عن ثُوير، عن أبيه قال سمعتُ ابن مسعود يقول: ما نِمْتُ الضّحَى مُنْذُ أسلمتُ، وروى زِرّ، عن عبد الله أنّه كان يصوم الاثنين والخميس، وقال عبد الرّحمن بن يزيد: ما رأيت فقيهًا أقلّ صوما من عبد الله بن مسعود، فقيل له: لِمَ لا تصوم؟ فقال: إنّي أختار الصّلاة عن الصوم فإذا صُمْتُ ضَعُفْتُ عن الصّلاة.
وروى الأعمش، عن زيد بن وهب قال: كنتُ جالسًا في القوم عند عُمَر إذ جاء رجل نحيف قليل، فجعل عمر ينظر إليه ويتهلّل وجهه ثمّ قال: كُنَيْفٌ مُلِئَ عِلْمًا، كنيف مُلئ علمًا، كنيف مُلئ علمًا آثرتُ به أهلَ القادِسيّة‏. فإذا هو ابن مسعود، وروى الأعمش، عن حبّة بن جُوين قال: كنّا عند عليّ فذكرنا بعض قول عبد الله وأثنى القوم عليه فقالوا: يا أمير المؤمنين ما رأينا رجلًا كان أحسن خُلْقًا ولا أرفق تعليمًا ولا أحسن مجالسةً ولا أشدّ وَرَعًا من عبد الله بن مسعود، فقال عليّ: نَشَدْتُكُم الله، إنّه لَصِدْقٌ من قلوبكم؟ قالوا: نعم، فقال: اللهمّ إني أُشْهِدُكَ، اللهمّ إني أقول فيه مثل ما قالوا أو أفضلَ، قَرَأ القُرآنَ فأحَلّ حَلالَهُ وحَرّمَ حَرَامَه، فَقيهٌ في الدّين، عالم بالسنّة.
وروى يحيى بن عروة بن الزبير، عن أَبيه قال: كان أَول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عبدَ اللّه بن مسعود، اجتمع يومًا أَصحابُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سَمِعت قُرَيْش هذا القرآنَ يُجْهَرُ لَهَا به قَطّ، فمن رجلٌ يُسْمِعُهم؟ فقال عبد اللّه بن مسعود: أَنَا، فقالوا: إِنا نخشاهم عليك، إِنما نريد رجلًا له عشيرةٌ تمنعه من القوم إِن أَرادوه! فقال: دَعُونِي، فإِن الله سيمنعني، فغدا عبد اللّه حتى أَتى المقام في الضحَى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام أخرجه أحمد في المسند 1/ 379، 462، فقال رافعًا صوته: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنُ (1)عَلَّمَ الْقُرْءَانَ}، فاستقبلها فقرأَ بها، فتأَملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أُم عبد؟ ثم قالوا: إِنه ليتلو بعض ما جاءَ به محمد! فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاءَ الله أَن يبلغ ثم انصرف إِلى أَصحابه وقد أَثَّروا بوجهه فقالوا: هذا الذي خشينا عليك! فقال: ما كان أَعداءُ الله قط أَهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم غَادَيْتُهم بمثلها غدًا؟ قالوا: حَسْبُك، قد أَسمعتهم ما يكرهون(*)أخرجه أحمد في المسند 1/ 462.
وقد شهِدَ له رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم بالجنّة؛ قال سعيد بن زيد:‏ كنّا مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على حِرَاء، فذكر عشرة في الجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبدَ الرّحمن بن عوف، وسعد بن مالك، وسعيد بن زيد، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم(*). وروى الحارث، عن عليّ، قال: ‏قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم‏: ‏‏"‏لَوْ كُنْتُ مؤمِّرًا أَحَدًا وفي رواية بعضهم: مُسْتَخلِفًا أحَدًا مِنْ غَيْرِ مَشْوَرةٍ لَأمّرْتُ وقال بعضهم‏: ‏‏‏لَاسْتَخْلَفْتُ ابْن أمّ عَبْدٍ"(*). وقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ‏"‏رَضِيتُ لأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ، وَسَخِطتُ ِلأمَّتي ِمَا سَخِطَ لَهَا ابْنُ أُمِّ عَبْد‏"‏‏(*). وقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ‏‏"‏اهْدَوْا هَدْيَ عَمَّارِ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"(*).
وروى مسروق، عن عبد الله بن عمر، يقول: سمعْتُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: ‏"‏خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ‏: مِنِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ‏"، فبدأ به‏، "وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأُبيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ‏"(*)‏‏ أخرجه البخاري في الصحح 5/ 45، 6/ 229، ومسلم في الصحيح كتاب فضائل الصحابة باب 22 حديث رقم 116، والترمذي في السنن حديث رقم3810، وأحمد في المسند 2/ 190، 191، والحاكم في المستدرك 3/ 225، وابن أبي شيبة 10/ 518، وابن سعد 2/ 2/ 110، وأبو نعيم في الحلية 1/ 229، وابن عدي في الكامل 2/ 786، وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم 3081، 33685، 36127.
وروى إبراهيم، عن علقمة، قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات، فقال: جئْتُك من الكوفة وتركت بها رجلًا يحكي المصحف عن ظَهْر قلبه، فغضب عمر غضبًا شديدًا، وقال: ويحك! ومَنْ هو؟ قال: عبد الله بن مسعود، قال: فذهب عنه ذلك الغضب، وسكن، وعاد إلى حاله، وقال: والله ما أعلم من النّاس أحدًا هو أَحَقُّ بذلك منه، وذكر تمام الخبر، وقال عُبَيْد اللّه بن عبد اللّه: كان عبدُ اللّه إِذا هَدَأَت العيونُ قام فسمعتُ له دَوِيًّا كدَوِيِّ النَّحْلِ حتى يُصْبح.
وروى موسى بن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، عن أبيه قال: آخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بين عبد الله بن مسعود والزّبير بن العوّام، وقالوا: وآخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بين عبد الله بن مسعود ومُعاذ بن جبل، ويقال: آخى النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم بعد الهجرة بينه وبين سَعْد بن معاذ. وقال يحيَى بن جَعْدَةَ: لمّا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينة أقطع النّاس الدّورَ فقال حَيّ من بني زُهْرَة يقال لهم: بنو عبد بن زهرة: نَكّبْ عنّا ابنَ أمّ عَبْدٍ، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "فَلمَ؟ ابتْعَثَني الله إذًا؟ إنّ الله لا يقدّس قومًا لا يُعطى الضعيفُ منهم حقّه"(*).
وروى الزّهريّ، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة قال: إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، خَطّ الدّور فخطّ لبني زهرة في ناحية مُؤخّر المسجد فجعل لعبد الله وعُتبة ابني مسعود هذه الخطّة عند المسجد(*). وقال ابن عباس: آخى النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم بين أنس وابن مسعود. وروى المسعوديّ، عن القاسم بن عبد الرّحمن قال: كان عطاء عبدِ الله بن مسعود ستّة آلاف.
روى عبد الله عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، وروى عنه من الصحابة: العبادلة، وعُمر، وسَعْد بن معاذ، وأَبو موسى، وعمران بن حُصَين، وابن الزبير، وجابر، وأَنس، وأَبو سعيد، وأَبو هريرة، وأَبو رافع، وغيرهم. وروى عنه ابناه: عبد الرحمن، وأبو عبيدة، وابن أخيه عبد الله بن عُتْبة وامرأتُه زينب الثقَفية؛ ومن التابعين: علقمة، وأبو الأسود، ومسروق، والربيع بن خُثَيْم، وشُريح القاضي، وأبو وائل، وزيد بن وَهْب، وزِرّ بن حُبيش، وأبو عمرو الشيباني، وعبيدة بن عمرو السلماني، وعمرو بن ميمون، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عثمان النهدي، والحارث بن سُويد، ورِبْعي بن حِرَاش، وآخرون. وروى مُسْلمٌ البَطِينُ، عن عمرو بن ميمون قال: اختلفتُ إلى عبد الله بن مسعود سَنَةً ما سمعتُه يحدّث فيها عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولا يقول فيها قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إلاّ أنّه حدّث ذاتَ يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فعلاه الكَرْبُ حتى رأيتُ العَرَقَ يتَحَدّر عن جبهته ثمّ قال: إنْ شاء الله إمّا فوق ذاك وإمّا قريب من ذاك وإمّا دون ذاك. وروى الشعبيّ، عن علقمة بن قيس أنّ عبد الله بن مسعود كان يقوم قائمًا كلّ عشيّة خميس فما سمعتُه في عشيّةٍ منها يقول قال رسول الله غير مرّة واحدةٍ، قال: فنظرتُ إليه وهو معتمد على عصا فنظرتُ إلى العصا تَزَعْزَعُ. وروى أبو ظبيان، عن ابن عبّاس قال: أيّ القراءَتَين تعُدّون أوْلى؟ قال: قلنا قراءة عبد الله! فقال: إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، كان يُعْرَضُ عليه القرآنُ في كلّ رمضان مرّةً إلاّ العام الّذي قُبض فيه فإنّه عُرض عليه مرّتين، فحضره عبدُ الله بن مسعود فشهد ما نسخ منه وما بُدّل(*). وروى أبو الضّحَى، عن مسرُوق قال: قال عبد الله: ما أُنزلت سورةٌ إلاّ وأنا أعلمُ فيما نزلت، ولو أعلم أنّ أحدًا أعلمُ مني بكتاب الله تَبلغه الإبلُ أو المطايا لأتَيْتُه. وروى الأعمش، عن إبراهيم قال: قال عبدُ الله: أخذتُ من فِي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بضْعًا وسبعين سورة. وروى أبو الضّحَى، عن عبد الله قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اقرأ عليّ"، فقلت: كيف أقرأ عليك وعليك أُنزلَ؟ قال: "إنّي أُحِبّ! وقال وهب في حديثه: إنّي أشتهي أن أسمعه من غيري!" قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى إذا بلغتُ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلآءِ شَهِيدًا} [سورة النساء: 41]، قال أبو نُعيم في حديثه: فقال لي: "حسْبُك!"، فنظرتُ إليه وقد اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: "مَنْ سَرّه أن يقرأ القرآن غَضًّا كما نزل فَلْيَقْرَأهُ قَراءةَ ابن أمّ عبد".ثم قعد يسأل، فجعل النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "‏سَلْ تُعْطَهُ‏"، وقال فيما سأل: اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا ينفد، ومرافقة نبيك محمدًا في أعلى جنة الخلد، فأتى عمر عبد الله بن مسعود يُبشّرُه، فوجد أبا بكر خارجًا قد سبقه، فقال: إن فعلت فقد كنت سبَّاقًا للخير.
روى مسلم بن صُبيح، عن مسروق قال: لقد جالستُ أصحابَ محمّد صَلَّى الله عليه وسلم، فوجدتهم؛ كالإخاذِ فالإخاذُ يُرْوِي الرجلَ والإخاذُ يُرْوِي الرّجُلين والإخاذُ يُرْوِي العشرة والإخاذُ يُرْوِي المائةَ والإخاذُ لو نزَلَ به أهلُ الأرض لأصْدَرَهم، فوجدتُ عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذِ. وروى مالك بن الحارث، عن أبي الأحوص قال: كان نَفَرٌ من أصحاب النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، أو قال: عِدَةٌ من أصحاب النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم في دار أبي موسى يعرضون مصحفًا قال: فقام عبد الله فخرج فقال أبو مسعود هذا أعلمُ مَنْ بَقِيَ بما أنزل اللهُ على محمّد صَلَّى الله عليه وسلم، وفي مَوْضِعٍ آخَر قال: فقال أبو موسى: إنْ يكنْ كذلك فقد كان يُؤذن له إذا حُجبنا ويشهد إذا غبنا. وقال أبو عَطيّة الهمْداني: كنتُ جالسًا عند عبد الله بن مسعود فأتاه رجلٌ فسأل عن مسألةٍ فقال: هل سألتَ عنها أحدًا غيري؟ قال: نعم؛ سألتُ أبا موسى، وأخبره بقوله، فخالفه عبدُ الله ثمّ قام فقال: لا تسألوني عن شيءٍ وهذا الحبرُ بين أظْهُركم يعني: ابن مسعود. وروى سليمان الأعمش، عن شقيق بن سلمة قال: خطبَنا عبد الله بن مسعود حين أُمر في المصاحف بما أُمر، قال: فذكر الغلول، فقال: إنّه مَنْ يَغُلَّ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَغَلَّوا المصاحفَ، فلأنْ أقرأ على قِراءَةِ مَنْ أحِبّ أحَبّ إليّ منْ أن أقرَأَ على قراءة زيد بن ثابت، فوَالّذي لا إله غيرهُ لقد أخذت من في رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بضعًا وسبعين سورة، وزيد بن ثابت غلام له ذؤابتان يلعب مع الغلمان. ثمّ ذهب عبدُ الله؛ فقال شقيق: فقعدت في الحِلَقِ وفيهم أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وغيرهم فما سمعتُ أحدًا ردّ عليه ما قال. وروى زرّ بن حُبَيش، عن عبد الله قال: كنت أجتني لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من الأراك، قال: فضحك القوم من دقّة ساقي فقال النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "مِمّ تَضْحَكون؟" قالوا: من دِقّةِ ساقه، فقال: "هي أثقل في الميزان من أُحُد"(*).
رُوي عن ابن مسعود أنه قال حين نافر النّاس عثمان ـــ رضي الله عنه: ما أحِبّ أني رميتُ عثمان بسَهْم. وقال بعضُ أَصحابه: ما سمعْتُ ابن مسعود يقول في عثمان شيئًا قط، وسمعتُه يقول:‏ لئن قتلوه لا يستخلفون بعده مثله.
كان على النَّفَل، وسيَّره عمرُ بن الخطاب ـــ رضي الله عنه ـــ إِلى الكوفة ليعلمهم أمورَ دِينهم، وكتب إِلى أَهل الكوفة: إِني قد بعثت عمارَ بن ياسرٍ أَميرًا، وعبد اللّه بن مسعود مُعلِّمًا ووزيرًا، وهما من النُّجَبَاءِ من أَصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من أَهل بدر، فاقتدُوا بهما، وأَطيعوا واسمعوا قَوْلَهُما، وقد آثرتكم بعبد اللّه على نفسي"، ثم أمَّرَهُ عثمان على الكوفة، ثم عزله، فأمره بالرجوع إلى المدينة.
قال سلمة بن تمام: لقي رجلٌ ابنَ مسعود فقال: لا تَعْدَمُ حَالِمًا مُذَّكرًا، رأَيْتُكَ البَارحة ورأَيت النبي صَلَّى الله عليه وسلم على مِنْبَرٍ مرتفعٍ، وأَنتَ دُونَه وهو يقول: يا ابن مسعود، هَلُمَّ إِلَيَّ، فلقد جُفِيت بعدِي. قال: اللّهِ لأَنْتَ رأَيت هذا؟ قال: نَعَمْ، قال فعَزَمْتُ أَنْ تخرج من المدينةِ حتى تُصَلِّي عَلَيَّ، فما لبثَ أَيَّامًا حتى مات. وقال أَبو ظبية: مرض عبد اللّه، فعاده عثمان بن عفان، فقال: ما تشكي؟ قال: ذنوبي! قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي. قال: أَلا آمُرُ لك بطبيب؟ قال: الطبيبُ أَمْرَضَنِي. قال: أَلاَ آمرُ لك بعطاءٍ؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال أَتخشَى على بناتي الفقر، إِني أَمرت بناتي أْن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إِني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ قَرَأَ الْوَاقِعَةَ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا". وإِنما قال له عثمان: أَلا آمر لك بعطائك؟ لأَنه كان قد حبسه عنه سنتين، فلما توفي أَرسله إِلى الزبير، فدفعه إِلى ورثته. وقيل: بل كان عبد اللّه ترك العطاءَ استغناءً عنه، وفعل غيره كذلك. وروى علقمة، عن عبد الله قال: مَرِض مَرَضًا فَجَزِعَ فيه، قال: فقلنا له ما رأيناك جزعتَ في مرضٍ ما جزعتَ في مرضك هذا، فقال: إنّه أخذني وأقربَ بي من الغفلة. وروى محمّد بن عمر، عن سفيان الثوريّ قال: ذكر الموتَ عبدُ الله بن مسعود فقال: ما أنا له اليوم بمُتَيَسّرٍ. وروى إسماعيل، عن جرير رجل من بجيلة قال: قال عبد الله وَدِدْتُ أني إذا ما متُّ لم أُبْعَثْ. وروى عامر بن عبد الله بن الزّبير، عن ابن مسعود أنه أوصى فكتب في وصيّته: {‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ذِكر ما أوصى به عبد الله بن مسعود إنْ حَدَثَ به حَدَثٌ في مرضه هذا إنّ مَرْجعَ وصيّته إلى الله وإلى الزّبير بن العوّام وابنه عبد الله بن الزّبير أنّهُما في حِلّ وبِلّ ممّا وَلِيا وقضيا، وأنّه لا تُزَوّجُ امرأةٌ من بنات عبد الله إلاّ بإذْنِهِما لا تُحْظَرُ عن ذلك زينب بنت عبد الله الثقفيّة. وكان فيما أوصى به في رقيقه: إذا أدّى فلان خمسمائة فهو حُرّ. وأوصى أنْ يُكَفّنَ في حُلَةٍ بمائتي درهم. وقال: ادفنوني عند قبر عثمان بن مظعون. وروى عبد الرّحمن بن محمّد بن عبد القاريّ، عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة قال: مات عبد الله بن مسعود بالمدينة ودُفن بالبقيع سنةَ اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة ثلاث، وقال البُخَارِيُّ: مات قبل قَتْل عمر، وقيل: مات بالكوفة. وتوفي عبد الله بن مسعود وهو ابن بضعٍ وستّين سنة. وصلّى على عبد الله بن مسعود عَمّارُ بن ياسر، وقال قائل: صلّى عليه عثمان بن عفّان، واستغفر كلّ واحد منهما لصاحبه قبل موت عبد الله وقيل لم يعلم عثمان بوفاته فعاتب الزبير فيه. وروى همّام، عن قتادة: أنّ ابن مسعود دُفن ليلًا. وروى داود بن الحُصين عن ثعلبة بن أبي مالك قال: مررتُ على قبر ابن مسعود الغدَ من يومِ دُفن فرأيتُه مرشوشًا. وروى أبو إسحاق، عن أبي الأحوص قال: شهدتُ أبا موسى وأبا مسعود حين مات عبد الله بن مسعود فقال أحدهما لصاحبه: أتُرَاهُ تَرَكَ بعده مثلَه فقال: إنْ قُلْتَ ذاك إن كان لِيَدْخُلَ إذا حُجِبْنَا ويَشْهَدَ إذا غِبْنَا. وروى عاصم بن بَهْدَلَة، عن زِرّ بن حُبيش قال: ترك ابن مسعود تسعين ألفَ درهم. وروى إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: دخل الزبير بن العوّام على عثمان بعد وفاة عبد الله بن مسعود، فقال: أعْطِني عطاءَ عبد الله فأهلُ عبد الله أحَقّ به من بيت المال فأعطاه خمسة عشر ألفَ درهم. وقيل: عشرين ألفًا أو خمسةً وعشرين ألفًا. ويقال: لما مات ابنُ مسعود نُعي إلى أبي الدّرداء، فقال: ما ترك بعد مثله.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال