الكرامة عند أهل السنة وغيرهم
الكرامةُ عند أهل السنةِ وغيرهم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "العقيدة الواسطية": ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يُجري الله على أيديهم من خوارق العادات؛ في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وسائر فرق الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.
وقد ضل في هذا الباب طوائف:
قالت طائفة: لا تُخرق العادة إلا لنبي، وكذَّبوا بما يذكر من خوارق السحرة، والكهان، وبكرامات الصالحين، وهذه طريقة أكثر المعتزلة، وغيرهم كأبي محمد بن حزم، وغيره.
وقالت طائفة: بل كل هذا حق، وخرق العادة جائز مطلقًا، وكل ما خُرق لنبي من العادات يجوز أن يُخرق لغيره من الصالحين، بل ومن السحرة، والكهان، ولكن الفرق أن هذه تقترن بها دعوى النبوة، وهو التحدي. وقد يقولون: إنه لا يمكن لأحد أن يعارضها بخلاف تلك، وهذا قول "جهم"، ومن اتبعه من النفاة للحكمة، والأسباب في أفعال الله تعالى.
وممن ضل فيها أيضًا المتفلسفة الملاحدة الذين يقولون: أسباب الآيات؛ القوى الفلكية، والقوى النفسانية، والطبيعية.
والعقلانيين إلى يومنا هذا ينكرون الكرامات، حتى إنَّ غلاتهم ينكرون بعض المعجزات، ويقولون: هذه لا يثبتها العقل؛ لأنهم يقدمون عقولهم.
أما القبوريون والصوفيون، فقد غلوا في إثبات الكرامات؛ حتى أثبتوها لأولياء الشيطان، فيثبتونها لمن لا يصلي، ولا يصوم إذا جرى على يده خارق للعادة، وهي خوارق شيطانية، ومنهم من يغلو في الولي الصالح ويتخذه إلهًا مع الله؛ كما حدث للقبوريين، فلو قرأت كتاب الشعراني المسمى "طبقات الأولياء" لرأيت العجب العجاب، والحكايات الباطلة، فالولي عندهم خرج عن التكاليف، ولا يحتاج إلى العبادة، والصحيح أن الإنسان مهما بلغ من الصلاح والعبادة؛ فإنه لا يخرج عن العبودية؛ لا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الأنبياء، حتى نبينا صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأرجو أن أكون أعلمكم بالله وأتقاكم"، وهو سيد البشر وخير من مشى على الأرض، ويقول الله له: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] فما بلغ أحد ما بلغه النبي صَلَّى الله عليه وسلم وما خرج عن عبادة الله، حتى المسيح صَلَّى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل فيه: {لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا. فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [النساء:172 ــ 173]، فهذا بحث عظيم يجب معرفته، وبخاصة في أوقات الجهل والخرافة.
والصواب ما تقدم من إثبات الكرامة لأولياء الله تعالى دون غيرهم، أما ما يكون للسحرة، والكهان، فليس من ذلك في شيء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان": والناس في خوارق العادات على ثلاثة أقسام:
قسم يكذب بوجود ذلك لغير الأنبياء، وربما صدَّق به مجملا وكذَّب ما يذكر له عن كثير من الناس؛ لكونه عنده ليس من الأولياء، وقسم يظن أن كل من كان له نوع من خرق العادة كان وليا لله وكلا الأمرين خطأ؛ ولهذا تجد أن هؤلاء يذكرون أن للمشركين، وأهل الكتاب نصراء يعينونهم على قتال المسلمين وأنهم من أولياء الله. وأولئك يكذبون أن يكون معهم من له خرق عادة.
والصواب القول الثالث وهو: أن معهم من ينصرهم من جنسهم لا من أولياء الله عز وجل كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]، وهؤلاء العباد، والزهاد الذين ليسوا من أولياء الله المتقين المتبعين للكتاب والسنة تقترن بهم الشياطين؛ فيكون لأحدهم من الخوارق ما يناسب حاله، لكن خوارق هؤلاء يعارض بعضها بعضا، وإذا حصل من له تمكن من أولياء الله تعالى أبطلها عليهم، ولا بد أن يكون في أحدهم من الكذب جهلا أو عمدا، ومن الإثم ما يناسب حال الشياطين المقترنة بهم ليفرق الله بذلك بين أوليائه المتقين، وبين المتشبهين بهم من أولياء الشياطين؛ قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 ــ 222]، والأفاك: الكذاب، والأثيم: الفاجر.
ومن أعظم ما يقوي الأحوال الشيطانية: سماع الغناء، والملاهي وهو سماع المشركين قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}[الأنفال: 35]؛ قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما، وغيرهما من السلف: التصدية: التصفيق باليد،والمكاء: مثل الصفير.
ويمكن أن نُجْمِلَ القول في مسألة الكرامة عند أهل السنة وغيرهم فنقول: في مسألة وقوع الكرامة من ولى، أو عدم ظهورها على يديه مذهبان:
المذهب الأول وهو لأهل السنة: فهم يرون الكرامة جائزة عقلا، وواقعة فعلا في الحياة، وبعد الممات، بل إن بعضهم يذهب إلى أن حدوثها بعد الموت أولى لصفاء النفس حينذاك من الأكدار، ويستندون فيما ذهبوا إليه من جواز وقوعها على أنه لا يلزم من فرض وقوعها محال، وكل ما كان كذلك يكون جائزا.
ويستدلون على ذلك بما ورد في القرآن الكريم من قصة مريم حيث أنبتها الله تعالى نباتا حسنا، وكان زكريا ــ عليه السلام ــ كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا كثيرا، وقصة أهل الكهف الذين لبثوا في الغار ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا دون طعام أو شراب، فضرب الله على آذانهم لأن الأذن موطن الإيقاظ في الإنسان، والشمس تطهر كهفهم من الأمراض فإذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين، وكذلك ماذكره القرآن عن الذى عنده علم الكتاب الذى أحضر عرش بلقيس من اليمن إلى بلاد الشام في طرفة عين وغير ذلك.
أما المذهب الثانى فهو للمعتزلة: وهم يرون عدم جواز وقوع الكرامة، ولهم على مذهبهم أدلة منها:
1- لو ظهرت الكرامة على يد الولى لالتبس بالنبى، ويُرَدُّ هذا بمنع الالتباس، ذلك؛ لأن المعجزة مقرونة بدعوى النبوة بخلاف الكرامة.
2- لو ظهرت الكرامة على يد الولى كثرت بكثرتهم فلا تكون خارقة ويُرَدُّ من الدليل بأن الكثرة لاتؤدى إلى تحويل خارق العادة إلى معتاد، ويظل الخارق للعادة رغم كثرته خارقا للعادة.
وبناءً عليه فيُسلَّم قول جواز وقوع الكرامة للولى تكريما له على طاعته الله تعالى.