معنى الكرامة
الكَرَامَةُ لغة:
اسْمٌ للإكْرُام، مِثْلُ: الطاعَة للإِطاعَة، وهي من الكَرَم، وهو: ضدّ اللؤم، يقال: كَرُمَ الرجلُ يكرم كَرَمًا فهو كريم، ورجل كرّام: في معنى كريم، والمَكارمَ واحدتها مَكْرُمَة، وهو ما استفاده الإنسان من خُلق كريم أو طُبِع عليه، وجمع كريم كِرام وكُرَماء.
الكَرَامَةُ اصطلاحا:
أمرٌ خارقٌ للعادة، يجريه الله تعالى على يد ولي، تأييدًا له، أو إعانة، أو تثبيتًا، أو نصرًا للدين.
جاء في كتاب "الوجيز في عقيدة السلف الصالح" لعبد الله بن عبد الحميد الأثري، أن الكرامة: أَمر خارق للعادة وغير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة لها؛ يُظهرُه الله على يد بعض عباده الصالحين ــ من الملتزمين بأحكام الشريعة ــ إِكراما لهم من الله عز وجل، فإذا لم يكن مقرونا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح كان استدراجا.
جاء في كتاب "كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة" لنخبة من العلماء، أن الكرامة: أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة ولا هو مقدمة لها تظهر على يد عبد ظاهر الصلاح مصحوب بصحيح الاعتقاد والعمل الصالح.
فقولنا: أمر خارق للعادة: أخرج ما كان على وفق العادة من أعمال، وقولنا: غير مقرون بدعوى النبوة: أخرج معجزات الأنبياء، وقولنا: ولا هو مقدمة لها: أخرج الإرهاص وهو كل خارق تقَدم النبوة، وقولنا: ويظهر على يد عبد ظاهر الصلاح: أخرج ما يجري على أيدي السحرة والكهان فهو سحر وشعبذة.
وجاء في كتاب "التنبيهات اللطيفة فيما احتوت عليه الواسطية من المباحث المنيفة" لعبد الرحمن ناصر السعدي، أن شرط كون الكرامة كرامة: أن يكون من جرت على يده هذه الكرامة مستقيمًا على الإيمان ومتابعة الشريعة، فإن كان خلاف ذلك فالجاري على يده من الخوارق يكون من الأحوال الشيطانية، ثم ليعلم أن عدم حصول الكرامة لبعض المسلمين لا يدل على نقص إيمانهم؛ لأن الكرامة إنما تقع لأسباب: منها تقوية إيمان العبد وتثبيته؛ ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئا من الكرامات لقوة إيمانهم وكمال يقينهم، ومنها إقامة الحجة على العدو كما حصل لخالد بن الوليد لما أكل السم، وكان قد حاصر حصنا، فامتنعوا عليه حتى يأكله، فأكله، وفتح الحصن، ومثل ذلك ما جرى لأبي إدريس الخولاني لما ألقاه الأسود العنسي في النار، فأنجاه الله من ذلك؛ لحاجته إلى تلك الكرامة، وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة واشتد بها العطش سمعت حسا من فوقها، فرفعت رأسها، فإذا هي بدلو من ماء، فشربت منها ثم رُفِعت.
وقد تكون الكرامة ابتلاءً فيسعد بها قوم، ويشقى بها آخرون، وقد يسعد بها صاحبها إن شكر، وقد يهلك إن أعجب ولم يستقم.
والمراد بـ "خارق للعادة": ما يأتي على خلاف العادة الكونية، وهذا الأمر إنما يجريه الله على يد ولي، احترازًا من أمور السحر والشعوذة، فإنها أمور خارقة للعادة، لكنها تجري على يد غير أولياء الله، بل على يد أعداء الله، فلا تكون هذه كرامة.
فالكرامة شرطها الولاية، والولاية هي: القرب والمحبة، والأولياء هم: أهل القرب والمحبة من الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]. وقد بينهم الله في قوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} [يونس: 63 ــ 62]، فالولي لابد أن يجتمع فيه صفتان: الأولى: الإيمان، والثانية: التقوى.
فأولياء الله هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، فقد أخبر سبحانه أن أولياءه هم المؤمنون المتقون، وقد بين المتقين في قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الأَخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَءَاتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من كان مؤمنًا تقيًا، كان لله وليًا ". وقد أخبر النبي صَلَّى الله عليه وسلم عن حال أولياء الله وبما صاروا به أولياء؛ ففي صحيح البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته".
فليست الولاية بالدعوى والتمني، إنما الولاية بالإيمان والتقوى، فلو رأينا رجلًا يقول: إنه ولي، ولكنه غير متق لله تعالي، فقوله مردود عليه.
والكرامات تكون تأييدا، أو تثبيتا، إو إعانة للشخص، أو نصرًا للحق؛ ولهذا كانت الكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة، لأن الصحابة عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما يستغنون به عن الكرامات؛ فإن الرسول صَلَّي الله عليه وسلم كان بين أظهرهم، وأما التابعون، فإنهم دون ذلك، ولذلك كثرت الكرامات في زمنهم تأييدًا لهم، وتثبيتًا، ونصرًا للحق الذي هم عليه، فالرجل الذي أحيا الله تعالى له فرسه ــ وهو صلة بن أشيم ــ بعد أن ماتت، حتى وصل إلى أهله، فلما وصل إلى أهله، قال لابنه: ألق السرج عن الفرس، فإنها عارية! فلما ألقي السرج عنها، سقطت ميتة. فهذه كرامة لهذا الرجل إعانة له.
وأما التي لنصرة الإسلام، فمثل الذي جرى للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في عبور ماء البحر، وكما جرى لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عبور نهر دجلة، وقصتها مشهورة في التاريخ، وأما التي هي تأييد، فمثل ما حدث لأبي مسلم الخولاني من أنه قُذف في النار، وخرج منها من غير أن يصاب بأذى، وأما التي هي تثبيت؛ فمثل ما حدث لأم أيمن رضي الله عنها.
وهذه الكرامات لها أربع دلالات:
أولًا: بيان كمال قدرة الله عز وجل، حيث حصل هذا الخارق للعادة بأمر الله.
ثانيًا: تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل، لأنه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل، لكانت الطبيعة على نسق واحد لا يتغير، فإذا تغيرت العادات والطبيعة، دل على أن للكون مدبرًا وخالقًا.
ثالثا: أنها آية للنبي المتبوع؛ لأن الكرامة شهادة من الله عز وجل أن طريق هذا النبي طريق صحيح.
رابعًا: أن فيها تثبيتًا وكرامة لهذا الولي.
وتنقسم الكرامات إلى قسمين: قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات، وقسم آخر يتعلق بالقدرة والتأثيرات، فأما العلوم: فأن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره، وأما المكاشفات: فأن يظهر له من الأشياء التي يكشف له عنها ما لا يحصل لغيره.
مثال الأول ــ العلوم: ما ذُكر عن أبي بكر: أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته الحمل، أعلمه الله أنه أنثى ـ كما جاء في البداية والنهاية لابن كثير.
مثال الثاني ــ المكاشفات: ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث كان يخطب الناس يوم الجمعة على المنبر، فسمعوه يقول: يا سارية! الجبل! فتعجبوا من هذا الكلام، ثم سألوه عن ذلك؟ فقال: إنه كشف له عن سارية بن زنيم وهو أحد قواده في العراق، وأنه محصور من عدوه، فوجهه إلى الجبل، وقال له: يا سارية! الجبل! فسمع سارية صوت عمر، وانحاز إلى الجبل، وتحصن به. فهذه من أمور المكاشفات، لأنه أمر واقع، لكنه بعيد.
يقول شيخ الإسلام في كتاب "الفرقان ": "وهذا باب واسع، قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عيانًا ونعرفه في هذا الزمان، فكثير".
والكرامة موجودة إلى يوم القيامة، والدليل على أنها موجودة إلى يوم القيامة: سمعي، وعقلي.
فأما السمعي، فإن الرسول صَلَّى الله عليه وسلم أخبر في قصة الدجال أنه يدعو رجلًا من الناس من الشباب، يأتي، ويقول له: كذبت! إنما أنت المسيح الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صَلَّي الله عليه وسلم، فيأتي الدجال، فيقتله قطعتين، فيجعل واحدة هنا وواحدة هنا رمية الغرض ــ يعني: بعيد ما بينهما، ويمشي بينهما، ثم يدعوه، فيقوم يتهلل، ثم يدعوه ليقر له بالعبودية، فيقول الرجل: ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه. رواه البخاري، ومسلم، فهذه أي: عدم تمكن الدجال من قتل ذلك الشاب من الكرامات بلا شك.
وأما العقلي، فيقال: ما دام سبب الكرامة هو الولاية، فالولاية لا تزال موجودة إلى قيام الساعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وإنما غاية الكرامة لزوم الاستقامة؛ فلم يكرم الله عبدا بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه ويزيده مما يقربه إليه، ويرفع به درجته؛ وذلك أن الخوارق منها ما هو من جنس العلم كالمكاشفات، ومنها ما هو من جنس القدرة والملك كالتصرفات الخارقة للعادات، ومنها ما هو من جنس الغنى عن جنس ما يعطاه الناس في الظاهر من العلم والسلطان والمال والغنى، وجميع ما يؤتيه الله لعبده من هذه الأمور إن استعان به على ما يحبه الله ويرضاه، ويقربه إليه، ويرفع درجته، ويأمره الله به، ورسوله؛ ازداد بذلك رفعة، وقربا إلى الله ورسوله، وعلت درجته، وإن استعان به على ما نهى الله عنه، ورسوله؛ كالشرك، والظلم، والفواحش استحق بذلك الذم، والعقاب، فإن لم يتداركه الله تعالى بتوبة، أو حسنات ماحية، وإلا كان كأمثاله من المذنبين؛ ولهذا كثيرا ما يعاقَب أصحاب الخوارق تارة بسلبها، كما يعزل الملك عن ملكه، ويسلب العالم علمه، وتارة بسلب التطوعات، فيُنقل من الولاية الخاصة إلى العامة، وتارة ينزل إلى درجة الفساق، وتارة يرتد عن الإسلام، وهذا يكون فيمن له خوارق شيطانية، فإن كثيرا من هؤلاء يرتد عن الإسلام، وكثير منهم لا يعرف أن هذه شيطانية بل يظنها من كرامات أولياء الله، ويظن من يظن منهم أن الله عز وجل إذا أعطى عبدا خرق عادة لم يحاسبه على ذلك كمن يظن أن الله إذا أعطى عبدا ملكا ومالا وتصرفا لم يحاسبه عليه، ومنهم من يستعين بالخوارق على أمور مباحة لا مأمورا بها ولا منهيا عنها، فهذا يكون من عموم الأولياء وهم الأبرار المقتصدون.
وأما السابقون المقربون فأعلى من هؤلاء كما أن العبد الرسول أعلى من النبي الملك. ولما كانت الخوارق كثيرا ما تنقص بها درجة الرجل، كان كثير من الصالحين يتوب من مثل ذلك ويستغفر الله تعالى كما يتوب من الذنوب: كالزنا والسرقة وتعرض على بعضهم فيسأل الله زوالها، وكلهم يأمر المريد السالك أن لا يقف عندها، ولا يجعلها همته، ولا يتبجح بها، مع ظنهم أنها كرامات، فكيف إذا كانت بالحقيقة من الشياطين تغويهم بها، يقول ابن تيمية: فإني أعرف من تخاطبه النباتات بما فيها من المنافع، وإنما يخاطبه الشيطان الذي دخل فيها، وأعرف من يخاطبهم الحجر والشجر وتقول: هنيئا لك يا ولي الله؛ فيقرأ آية الكرسي فيذهب ذلك، وأعرف من يقصد صيد الطير فتخاطبه العصافير وغيرها، وتقول: خذني حتى يأكلني الفقراء، ويكون الشيطان قد دخل فيها كما يدخل في الإنس ويخاطبه بذلك، ومنهم من يكون في البيت وهو مغلق؛ فيرى نفسه خارجه وهو لم يفتح وبالعكس، وكذلك في أبواب المدينة وتكون الجن قد أدخلته وأخرجته بسرعة، أو تمر به أنوار أو تحضر عنده من يطلبه ويكون ذلك من الشياطين، ويتصورون بصورة صاحبه فإذا قرأ آية الكرسي مرة بعد مرة ذهب ذلك كله؛ وأعرف من يخاطبه مخاطب ويقول له: أنا من أمر الله، ويعده بأنه المهدي الذي بشر به النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ويظهر له الخوارق، مثل أن يخطر بقلبه تصرف في الطير والجراد في الهواء، فإذا خطر بقلبه ذهاب الطير أو الجراد يمينا أو شمالا ذهب حيث أراد، وإذا خطر بقلبه قيام بعض المواشي أو نومه أو ذهابه حصل له ما أراد من غير حركة منه في الظاهر، وتحمله إلى مكة وتأتي به، وتأتيه بأشخاص في صورة جميلة، وتقول له: هذه الملائكة الكروبيون أرادوا زيارتك، فيقول في نفسه: كيف تصوروا بصورة المردان؟! فيرفع رأسه فيجدهم بلحى، ويقول له: علامة أنك أنت المهدي أنك تنبت في جسدك شامة؛ فتنبت ويراها، وغير ذلك وكله من مكر الشيطان، وهذا باب واسع لو ذكرت ما أعرفه منه لاحتاج إلى مجلد كبير.
وقد قال تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 ــ 16]، ولفظ (كلا) فيها زجر وتنبيه: زجر عن مثل هذا القول، وتنبيه على ما يخبر به ويؤمر به بعده، وذلك أنه ليس كل من حصل له نعم دنيوية تعد كرامة يكون الله عز وجل مكرما له بها، ولا كل من قدر عليه ذلك يكون مهينا له بذلك، بل هو سبحانه يبتلي عبده بالسراء والضراء، فقد يعطي النعم الدنيوية لمن لا يحبه، ولا هو كريم عنده ليستدرجه بذلك، وقد يحمي منها من يحبه ويواليه لئلا تنقص بذلك مرتبته عنده أو يقع بسببها فيما يكرهه منه.