عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نسيب بن زيد بن مالك بن الحارث بن عوف...
يكنى أبا عبد الله، وكناه البعض أبا غزوان، وكان رجلًا طُوالًا جميلًا، وهو قديم الإسلام وهاجر إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية ــ وهو ابن أَربعين سنة ــ ثم عاد إِلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو بمكة، فأَقام معه حتى هاجر إِلى المدينة مع المقداد؛ وكانا من السابقين، وإِنما خرجا مع الكفار يتوصلان إِلى المدينة، وكان الكفارُ سَرَيَّةً، عليهم عكرمةُ بن أَبي جهل، فلقيهم سَرِيَّةٌ للمسلمين عليهم عُبَيْدة بن الحارث، فالتحق المِقدادُ وعتبة بالمسلمين.
شهد عتبة بدرًا، والمشاهِدَ كلها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وفتح دَسْتُ مِيْسَان، وآخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بين عُتبة بن غزوان وأبي دُجانة، وكان عتبة من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان أوّل من نزل البَصْرة من المسلمين، وهو الذي اختطّها، وقال له عمر لما بعثه إِليها: يا عُتْبَة؛ إني أُريد أَنْ أوجِّهك لتقاتلَ بلد الحيرة، لعلَّ الله سبحانه يفتحها عليَكم، فسِرْ على بركة الله تعالى ويُمْنِه، واتَّق الله ما استطعت، واعلم أنك ستأتي حَوْمة العدوّ، وأرجو أن يعينَك الله عليهم، ويكفيكهم، وقد كتبْتُ إلى العلاء بن الحضرميّ أَنْ يمدّك بعرفجة بن هرثمة، وهو ذو مجاهدة للعدو، وذُو مكايدة شديدة، فشاوِرْه، وادْعُ إلى الله عزّ وجلّ؛ فمَنْ أجابك فاقْبَلْ منه، ومَنْ أبى فالْجِزْية عن يَدٍ مذلةٍ وصغار، وإلّا فالسَّيفُ في غير هَوَادة، واستَنْفِرْ مَنْ مَرَرْت به من العرب، وحُثَّهم على الجهاد، وكابد العدوَّ، واتّق الله ربّك.
فافتتح عتبة بن غَزْوان الأبلّة، ثم اختطَّ مسجد البصرة، وأمر محجن بن الأدرع، فاختط مسجد البصرة الأعظم، وبناه بالقصب، ثم خرج عتبة حاجًّا، وخلف مجاشع بن مسعود، وأمره أن يسير إلى الفُرات، وأمر المغيرة بن شعبة أنْ يصلِّي بالنّاس، فلم ينصرف عتبة من سفره ذلك في حجّته حتى مات، فأقرَّ عمر المغيرة بن شعبة على البصرة، وكان عتبة بن غَزْوان قد استعفى عمر عن ولايتها، فأبى أن يُعفيه، فقال: اللهم لا تردّني إليها، فسقط عن راحلته، فمات سنة سبع عشرة، وهو منصرفٌ من مكّة إلى البصرة، بموضع يقال له: معدن بني سُلَيم، وروي أن عُتبة بن غزوان كان مع سعد بن أبي وقّاص بالقادسيّة، فوجّهه إلى البصرة بكتاب عمر بن الخطّاب إليه يأمره بذلك، فكتب عمر بن الخطّاب إلى سعد بن أبي وقّاص أن يضرب قيروانه بالكوفة، وأن ابعث عُتبة بن غزوان إلى أرض الهند فإنّ له من الإسلام مكانًا، وقد شهد بدرًا وقد رجوتُ جزءه، عن المسلمين ــ والبصرة تُسمّى يومئذٍ أرض الهند ــ فينزلها ويتّخذ بها للمسلمين قيروانًا ولايجعل بيني وبينهم بحرًا، فدعا سعد بن أبي وقّاص عُتبة بن غزوان وأخبره بكتاب عمر فأجاب وخرج من الكوفة في ثمانمائة رجل، فساروا حتّى نزلوا البصرة، وإنّما سُمّيت البصرة بصرةً لأنّها كانت فيها حجارة سود، فلمّا نزلها عُتبة بن غزوان ضرب قيروانه ونزلها وضرب المسلمون أخبيتهم وخيامهم، وضرب عُتبة بن غزوان خيمة له من أكسية ثمّ رمى عمر بن الخطّاب بالرجال، فلمّا كثروا بَنَى رهط منهم فيها سبع دساكر من لَبِن منها في الخُرَيـْبة اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان وفي الأزد اثنتان، ثمّ إنّ عُتبة خرج إلى فرات البصرة ففتحه ثمّ رجع إلى البصرة، وقد كان أهل البصرة يغزون جبال فارس ممّا يليها، وجاء كتاب عمر بن الخطّاب إلى عُتبة بن غزوان أن انزلها بالمسلمين فيكونوا بها وليغزوا عدوّهم من قريب، وكان عُتبة خطب النّاس وهي أوّل خطبة خطبها بالبصرة فقال: الحمد له، أحمده وأستعينه، وأومن به وأتوكّل عليه، وأشهد أنْ لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّدًا عبده ورسوله، أمّا بعد: أيّها النّاس فإنّ الدّنْيا قد ولّت حذاء وآذنت أهلها بوداع فلم يبقَ منها إلاّ صُبابة كصُبابة الإناء، ألا وإنّكم تاركوها لا محالة فاتركوها بخير ما بحضرتكم، ألا وإنّ من العجب أن يُؤتى بالحجر الضخم فيُلقى من شَفِير جهنّم، فيهوى سبعين عامًا، حتّى يبلغ قعرها، والله لتُملأنّ، ألا وإنّ من العجب أنّ للجنّة سبعة أبواب عرضُ ما بين جانبي الباب مسيرة خمسين عامًا، وايم الله لتأتين الساعة وهي كظيظة من الزحام، ولقد رأيتُني مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سابع سبعة ما لنا طعام إلاّ ورقُ البَشَام وشَوكُ القَتَاد حتّى قَرِحت أشداقنا، ولقد التقطتُ بردة يومئذ فشققتها بيني وبين سعد بن أبي وقّاص، وقد رأيتنا بعد ذلك وما منّا أيها الرهط السبعة إلاّ أمير على مِصْرٍ من الأمصار، وإنهّ لم تكن نُبُوّة إلاّ تناسخها ملك فأعوذ بالله أن يدركنا ذلك الزمان الذي يكون فيه السلطان ملكًا، وأعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وفي أنفس النّاس صغيرًا، وستجرّبون الأمراء بعدنا وتجرّبون فتعرفون وتنكرون.
فبينما عُتبة على خطبته إذ أقبل رجل من ثَقيف بكتاب من عمر إلى عُتبة بن غزوان فيه: أمّا بعد، فإنّ أبا عبد الله الثّقفي ذكر لي أنّه اقتنى بالبصرة خيلًا حين لا يقتنيها أحد، فإذا جاءك كتابي هذا فأحسن جوار أبي عبد الله وأعنْه على ما استعانك عليه؛ وكان أبو عبد الله أوّل مَن ارتبط فرسًا بالبصرة واتّخذها، ثمّ إنّ عُتبة صار إلى ميسان وأَبَزْقُباذ فافتتحها، وقد خرج إليه المرزبان صاحب المذار في جَمْع كثير فَقَاتَلهم فهزم الله المرزبان، وأخذ المرزبان سَلَمًا فضرب عنقه وأخذ قباءه ومِنْطقته فيها الذهب والجوهر، فبعث ذلك إلى عمر بن الخطّاب، فلمّا قدم سَلَب المرزبان المدينة سأل النّاس الرسول، عن حال النّاس، فقال القادم: يا معشر المسلمين عمّ تسألون؟ تركتُ والله النّاس يهتالون الذهب والفضّة، فنشط الناس، وأقبل عمر يرسل الرجال إليه المائة والخمسين ونحو ذلك مددًا لعتبة إلى البصرة، وكان سعد يكتب إلى عُتبة وهو عامله، فوجد من ذلك عُتبة فاستأذن عمرَ أن يقدم عليه فأذِنَ له واستخلَفَ على البصرة المغيرة بن شُعبة فقدم عُتبة على عمر فشكى إليه تسلّط سعد عليه فسكتَ عنه عمر فأعاد ذلك عُتبة مرارًا، فلمّا أكثرَ على عُمر قال: وما عليك ياعُتبة أن تقرّ بالإمْرة لرجلٍ من قريش له صُحبة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وشَرف، فقال له عُتبة: ألستُ من قريش؟ قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:حَليفُ القوم منهم، ولي صُحبة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قديمة لا تُنكر ولا تُدفع، فقال عمر: لا يـُنكر ذلك من فضلك، قال عُتبة: أما إذا صار الأمر إلى هذا فوالله لا أرجعُ إليها أبدًا! فأبَى عمر إلاّ أن يردّه إليها فردّه فمات بالطريق، وكان عمله على البصرة ستّة أشهر.
روى له مسلم، وأصحاب السنن، وأخرج الطَّبَرَانِيُّ من طريق غَزْوَان بن عتبة بن غَزْوان، عن أبيه: سمعتُ النبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبوأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.
أصابه بطن فمات بمعدن بني سُليم فقدم سُويد غلامه بمتاعه وتَرِكَتِه على عمر بن الخطّاب وذلك في سنة سبع عشرة، وكان عُتبة بن غزوان يوم مات ابن سبع وخمسين سنة، ويقال: بل مات بالرَّبَذَة سنة سبع عشرة، وقيل: بل مات عُتْبَة بن غَزْوان سنة خمس عشرة وهو ابنُ سبع وخمسين سنة بالمدينة، وقيل سنة عشرين، وقيل: إنه مات في العام الذي اختطّ فيه البصرة، وذلك في سنة أربع عشرة.