تسجيل الدخول


أبو عيسى المغيرة بن شعبة الثقفي

كان يقال له مغيرة الرأي، ويكنى أبا عيسى، وقيل: يكنى أبا محمد، وروى بكر بن عبد الله المزني، عن المغيرة بن شعبة، أنه خطب امرأة، فقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم:"اذهب فانظر إليها فإنه أجدر أن يُؤدم بينكما". وكان المغيرة أصهبَ الشعر، جَعدًا، أكشف، يَفرِق رأسه فُروقا أربعة، أقلصَ الشفتين، مهتومًا، ضخم القامة، عَبْل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، وكان رجلًا طوالًا أَعور، أُصيبت عينه يوم اليرموك. أسلم قبل عمرة الحديبية، وقيل: أسلم عام الخندق، وقدم مهاجرًا. وقال عباس بن عبد الله بن معبد: إن أول مَن خضب بالسواد المغيرةُ بن شعبة، خرج على الناس وكان عَهدُهم أَنَّه أبيضُ الشّعر فَعَجِبَ الناسُ منه، وقال المغيرة بن شُعبة: كنّا قومًا من العرب متمسّكين بديننا ونحن سَدَنة اللاَّت، فأُراني لو رأيتُ قومَنا قد أسلموا ما تبعتُهم، فأجمعَ نفر من بني مالك الوفودَ على المُقَوْقِس، وأهدوا له هَدايا، فأجمعتُ الخروج معهم، فاستشرتُ عمِّي عُرْوَة بن مسعود فنهاني، وقال: ليسَ معكَ مِنْ بني أبيك أحد، فأبيتُ إلاّ الخروج، فخرجتُ معهم وليس معهم من الأحلاف غيري، حتى دخلنا الإسكندريّة، فإذا المقوقسُ في مجلس مُطِلٍّ على البحر، فركبتُ زَوْرَقًا حتى حاذيتُ مجلسَه، فنظر إليّ فأنكرني، وأمر مَن يسألني مَنْ أنا وما أريد، فسألني المأمور فأخبرتُه بأمرنا وقدومنا عليه، فأمر بنا أن ننزل في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة، ثمّ دعا بنا فدخلنا عليه، فنظر إلى رأس بني مالك، فأدناه إليه، وأجلسه معه، ثمّ سأله: أكُلّ القوم من بني مالك؟ فقال: نعم إلاّ رجل واحد من الأحلاف، فعرّفه إيّاي فكنتُ أهونَ القومِ عليه، ووضعوا هداياهم بين يديه، فسُرّ بها وأمر بقبضها وأمر لهم بجوائز، وفضّل بعضهم على بعض، وقصّر بي فأعطاني شيئًا قليلًا لا ذِكرَ له، وخرجنا فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهليهم وهم مسرورون، ولم يَعْرِض عليّ رجل منهم مواساةً، وخرجوا وحملوا معهم الخمر فكانوا يشربون وأشرب معهم، وتأبَى نفسي تَدَعُني ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم الملكُ، ويخبرون قومي بتقصيره بي وازدرائه إيّاي، فأجمعتُ على قتلهم، فلمّا كنّا ببُساق تمارضتُ وعصّبتُ رأسي فقالوا لي: ما لك؟ قلتُ: أُصَدَّعُ، فوضعوا شرابهم وَدَعَوْني، فقلتُ: رأسي يُصَدَّعُ ولكني أجلس فأسقيكم، فلم ينكروا شيئًا فجلستُ أسقيهم وأُشْرِبُ القدح بعد القدح، فلمّا دَبّتِ الكأس فيهم اشتهوا الشراب، فجعلتُ أَصْرِفُ لهم وأَتْرَعُ الكأسَ فيشربون ولا يدرون، فأهْمَدَتْهُم الكأسُ حتى ناموا ما يعقلون، فوثبتُ إليهم فقتلتُهم جميعًا وأخذتُ جميع ما كان معهم، فقدمتُ على النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فأجده جالسًا في المسجد مع أصحابه، وَعَليَّ ثَيابٌ سَفَرِي، فسلّمتُ بسلام الإسلام، فنظر إليَّ أبو بكر بن أبي قحافة، وكان بي عارفًا، فقال: ابن أخي عروة! قال: قلتُ: نعم، جئتُ أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمدًا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:"الحمد لله الذي هداك للإسلام". فقال أبو بكر: أمِنْ مصر أقبلتم؟ قلتُ: نعم، قال: فما فعل المالكيّون الذين كانوا معك؟ قلتُ: كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك فقتلتهم وأخذتُ أسلابهم، وجئتُ بها إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ليخَمِّسَها أو يرى فيها رأيه، فإنّما هي غنيمة من مشركين وأنا مسلم مصدّق بمحمّد صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:"أمّا إسلامك فقبلتُه ولا آخذُ من أموالهم شيئًا ولا أُخَمِّسه لأنّ هذا غَدْرٌ، والغدر لا خير فيه". قال: فأخذني مَا قَرُبَ وَمَا بَعُدَ، وقلتُ: يا رسول الله إنّما قتلتُهم وأنا على دين قومي ثمّ أسلمتُ حيثُ دخلتُ عليك الساعة، قال: "فإنّ الإسلامَ يَجُبُّ ما كان قبله". قال: وكان قتل منهم‏ ثلاثة عشر انسانًا، فبلغ ذلك ثقيفًا بالطائف فتداعَوْا للقتال، ثم اصطلحوا علي أن تَحمّل عني عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية. قال المغيرة: وأقمتُ مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم، حتى اعتمر عُمْرَة الحُدَيْبية في ذي العقدة سنة ست من الهجرة، فكانت أول سَفْرَة خرجتُ معه فيها، وكنتُ أكونُ مع أبي بكر الصديق وألزمُ النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فيمن يلزمه، وبعثَتْ قريشٌ عامَ الحديبية عروةَ بنَ مسعود إلي النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ليكلّمَه، فأتاه، وكلّمه، وجعل يَمَسُّ لحيةَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والمغيرةُ قائم على رأس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مُقَنَّعٌ في الحديد، فقال لعروة وهو يمس لحية رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: كُفَّ يدَك قبل ألا تصلَ إليك، فقال، عروة: يا محمد، من هذا؟ ما أفَظَّه وأَغْلَظه! فقال: "هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة". فقال عروة: يا غُدَر، والله ما غسلتُ عني سَوْءَتَك إلا بالأمس، وانصرف عروة إلي قريش فأخبرهم بما كلم به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وشهد المغيرةُ المشاهدَ بعد ذلك مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقدم وفْدُ ثَقِيف فأنزلهم عليه، وأكرمهم، وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مع أبي سفيان بن حرب إلي الطائف فهدموا الرَّبَّة. قال المغيرة: وكنتُ أحمل وَضُوءَ، رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فرأيته يوما من ذلك، توضأ ومسح على خُفَّيْه، وكنتُ معه في حجة الوداع . ويقال: شهد المغيرة اليمامة، وفتوحَ الشام والعراق. وقال المغيرة بن شعبة يوم القادسية لصاحب فارس: كنا نعبد الحجارة والأوثان إذَا رَأينا حجرًا أَحْسَنَ مِنْ حَجَرٍ ألقيناه وأخذنا غيره لا نعرف رَبًّا، حتى بعث الله فينا نبيا مِنْ أَنْفُسِنَا، قَدْ دَعانا إلى الإسلام فأجبناه. وكان المغيرة من دهاة العرب، قال قبيصة بن جابر: صحبت المغيرة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يُخرَجُ من باب منها إلا بالمكر لخرج المغيرة من أبوابها كلها، وكان المغيرة لا يقعُ في أمر إلا وجد له مخرجًا، ولا يلتبس عليه أمران إلا ظهر الرأيُ في أحدهما. وقال المغيرة بن شعبة: إني لآخر الناس عهدًا برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إنا حفرنا له ولحدنا له لحدًا، فلما خرج القوم ألقيت الفأس في القبر وقلت: الفأسَ الفأسَ! فنزلت فأخذت الفأسَ ومسحتُ بيدي على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فكنت آخر الناس عهدًا به. وعن المغيرة بن شعبة، قال: كنت جالسا عند أبي بكر الصديق إِذْ عُرِض عليه فَرَسٌ له فقال له رجل من الأنصار: احْمِلْنِي عليها. فقال أبو بكر: لأَن أحملَ غلامًا قد ركب الخيلَ على غُرْلَتِهِ ــ يعني الأَقْلَف ــ أحبُّ إليَّ من أن أَحْمِلَكَ عليها. فقال له الأنصاري: أنا خيرٌ منك ومن أبيك، قال المغيرة: فغضِبْتُ لِمَا قال لأبي بكر! فقمتُ إليه فأخذت ُبرأسه فرَكَبْتُه على أنفه، فكأنما كان عَزْلاَءَ مَزَادَةٍ، فتواعَدَني الأنصارُ أن يَستقِيدوا مني، فبلغ ذلك أبا بكر، فقام فقال: إنه بلغني عن رجال زعموا أنِّي مُقِيدُهم مِن المغيرة، ووالله لَأَن أُخرجَهم مِن دارِهم أقربُ إليهم من أن أُقِيدَهُمْ مِنْ وَزَعَةَ الله الذين يَزَعُون عنه. قال المغيرة: لما توفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بعثني أبو بكر الصديق إلى أهل النُّجَيْر، ثم شهدتُ اليمامةَ، ثم شهدتُ فتوحَ الشام مع المسلمين، ثم شهدتُ اليرموك وأُصيبت عيني يوم اليَرْمُوك، وشهدتُ القادسيةَ، وكنتُ رسولَ سَعد إلى رُستم، ووليت لعمر بن الخطاب فتوحًا. وولي المغيرة لعمر بن الخطاب البصرةَ ففتح مَيْسَان، ودَسْتُمِيسَان، وابن قباذ، ولقي العجم بالمَرْغَاب فهزمهم، وفتح سوقَ الأهواز، وغزا نَهْرَ تِيرَى، ومَنَاذِر الكبرى، فهرب من فيها من الأساورة إلى تستر، وفتح هَمَذَان، وشهد نهاوند، وكان على ميسرة النُّعمان بن مُقَرِّن، وكان عُمر قد كتب: إن هَلَكَ النعمان فالأمير حُذيفة، فإن هلك فالأمير المغيرة. وكان المغيرة أول من وضع ديوان البصرة وجَمَعَ الناسَ ليُعطَوا وَولي الكوفة لعمر بن الخطاب، فَقُتل عمر وهو عليها، ثم وليها بعد ذلك لمعاوية بن أبي سفيان، فمات بها وهو وال عليها. مات المغيرة بن شعبة بالكوفة في شعبان سنة خمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان وهو ابن سبعين سنة، وقيل: مات قبلها بسنةً، وقيل: بعدها بسنة.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال