أبو عبد الملك مروان بن الحكم
((مَرْوان بن الحَكَم بن أبي العاص بن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصيّ)) الطبقات الكبير. ((مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشيّ الأمويّ))
((يقال: وُلد بعد الهجرة بسنتين، وقيل: بأربع. وقال ابن شاهين: مات النّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم وهو ابْنُ ثمان سنين، فيكون مولده بعد الهجرة بسنتين، قال: وسمعْتُ ابْنَ داود يقول: وُلد عام أُحُد ـــ يعني سنة ثلاث. وقال ابن أبي داود: وقد كان في الفتح مُمَيِّزًا وفي حجة الوداع، ولكن لا يدرى أسمِعَ من النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم شيئًا أم لا. وقال ابن طاهر: وُلد هو والمِسْوَر بن مَخْرمة بعد الهجرة بسنتين لا خلافَ في ذلك؛ كذا قال. وهو مردود: والخلافُ ثابت، وقصةُ إسلام أبيه ثابتة في الفتح لو ثبت أنَّ في تلك السنة مولده لكان حينئذ ممَيِّزًا، فيكون من شرط القسم الأول؛ لكن لم أَرَ مَنْ جزم بصحبته؛ فكأنه لم يكن حينئذ مميزًا)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((وُلد على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سنة اثنتين من الهجرة. وقيل: عام الخندق. وقال مالك: وُلد مروان بن الحكم يوم أُحد. وقال غيره: وُلد مروان بمكّة. ويقال: وُلد بالطّائف، فعلى قول مالك تُوفِّي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثمان سنين أو نحوها)) الاستيعاب في معرفة الأصحاب.
((أمّه أمّ عثمان وهي آمنة بنت عَلْقَمة بن صَفْوان بن أُميّة بن محرّث بن خُمْل بن شَقّ بن رَقَبَةَ بن مُخْدَج بن الحارث بن ثعلبة بن مالك بن كنانة وأمّها الصّعْبة بنت أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عثمان ابن عبد الدار بن قُصيّ.)) الطبقات الكبير. ((قصةُ إسلام أبيه ثابتة في الفتح)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((لم ير النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ لأَنه خرج إِلى الطائف طفلًا لا يعقل لما نَفَى النبي صَلَّى الله عليه وسلم أَباه الحكم، لما ذكرناه في ترجمة أَبيه. وكان مع أَبيه بالطائف حتى استخلف عثمان، فردهما)) أسد الغابة. ((قالوا: قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومروان بن الحكم ابن ثماني سنين فلم يزل مع أبيه بالمدينة حتى مات أبوه الحكم بن أبي العاص في خلافة عثمان بن عفّان.)) الطبقات الكبير. ((وقيل: إن أمه لما وُلِد أرسلت به إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ليحنِّكه. وهذا مشكلٌ على ما ذكروه في سنة مولده؛ لأنه إنْ كان قبل الهجرة فلم تكن أمُّه أسلمت، وإن كان بعدها فإنها لم تهاجِرْ به، والنبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم إنّما دخل مكّة بعد الهجرة عامَ القضيّة؛ وذلك سنة سبع، ثم في الفتح سنة ثمان؛ فإن كان وُلد حينئذ بعد إسلام أبويه استقام، لكن يعكّر على مَنْ زعم أنه كان له عند الوفاة النبويّة ستّ سنين أو ثمان أو أكثر)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((قال فيه أَخوه عبد الرحمن: [الوافر]
أَلاَ
مَـنْ
مُبْلِـغٌ
مَـرْوَانَ
عَنِّـي رَسُـولًا، وَالْرَّسُـولُ مِنَ الْبَيَـانِ
بِأنَّكَ
لَـنْ
تَـرَى
طَرْدًا
لِحُـرٍّ كَإِلْـصَـاقٍ بِـهِ
بَـعْـضَ
الْهَوَانِ
وَهَـلْ حُـدِّثْـتَ قَبْلِي عَنْ كَرِيْمٍ مُعِيـنٍ فِي الْحَـوَادِثِ أَوْ مُـعَـانِ
يُقِيْـمُ
بِـدَارِ
مَـضْيَعَـةٍ
إِذَا لَـمْ يَـكُـنُ حَيْرَانَ أَوْ خَفِـقَ الْجَنَـانِ
فَـلَا تَقْـذِفَ
بِـي الْرَّجَوَيْنِ إِنِّي أَقَـلُّ الْـقَـوْمِ مَنْ يُغْنِـي مَكَانِـي
سَأَكْفِيـكَ الَّـذِي اسْتَكْفَيْـتَ مِنِّي بِأَمْـرٍ
لاَ
تُـخَـالِجُـهُ
الْـيَـدَانِ
وَلَــوْ
أَنـَّا
بِمَنْـزِلـَةٍ
جَمِيْعًـا جَرَيتَ، وَأَنْتَ مُضْطَـرِبُ الْعَنَـانِ
وَلَـوْلاَ
أَنًّ
أُمَّ
أَبِـيـكَ
أُمِّـي وَأَنْ مَنْ قَدْ هَجَاكَ فَقَدْ هَجَانِـي
لَقَدْ جَاهَـرْتَ بِالْبَغْضَـاءِ،
إِنِّـي إِلَـى
أَمْـر
الْجَـهَـارَةِ وَالْعِـلَانِ)) أسد الغابة.
((ولد مروان بن الحكم ثلاثةَ عشر رجلًا ونسوةً: عبدَ الملك وبه كان يكنى، ومعاويةَ وأمّ عَمرو، وأمّهم عائشة بنت معاوية بن المُغيرة بن أبي العاص بن أميّة، وعبد العزيز بن مروان، وأمّ عثمان وأمّهما ليلى بنت زبّان بن الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حِصْن بن ضَمْضَم بن عديّ بن جنَاب من كلب، وبِشْرَ بن مروان، وعبدَ الرحمن، درج، وأمّهما قُطَية بنت بِشْر بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، وأبانَ بن مروان، وعبيدَ الله، وعبدَ الله، درج، وأيّوبَ، وعثمانَ، وداودَ، ورَمْلةَ وأمّهم أمّ أَبان بنت عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة، وأمّها رَمْلة بنت شَيْبَة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، وعَمْرو بن مروان، وأمَّ عمرو وأمّهما زينب بنت أبي سلمَة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، ومحمَّد بن مروان وأمّه زينب أمّ ولد.)) الطبقات الكبير. ((تزوّج مروان أَم خالد بن يزيد ليضَعَ من خالد)) أسد الغابة. ((بايع أهل الشأم بعده لعبد الملك بن مروان فكانت الشأم ومصر في يد عبد الملك كما كانتا في يد أبيه، وكان العراق والحجاز في يد ابن الزّبير، وكانت الفتنة بينهما سبع سنين، ثمّ قُتل ابن الزّبير بمكّة يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جُمادى الأولى سنة ثلاثٍ وسبعين وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، واستقام الأمر لعبد الملك بن مروان بعده.)) الطبقات الكبير.
((ضرِب يوم الدار على قفاه، فقطَع أَحدُ عِلْبَاوَيْه فعاش بعد ذلك أَوقص، والأَوقص الذي قَصُرت عنقه.)) أسد الغابة.
((قال ابْنُ طَاهِرٍ: هو أَوَّلُ مَنْ ضرب الدنانير الشّامية التي يُباع الدّينار منها بخمسين، وكتب عليها: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}.)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((لم ير النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ لأَنه خرج إِلى الطائف طفلًا لا يعقل لما نَفَى النبي صَلَّى الله عليه وسلم أَباه الحكم، لما ذكرناه في ترجمة أَبيه. وكان مع أَبيه بالطائف حتى استخلف عثمان، فردهما، واستكتب عثمانُ مَرْوَانَ، وضمّه إِليه)) أسد الغابة.
((روى عنه من الصّحابة سَهْل بن سعد فيما ذكر صالح بن كيسان. وعبد الرّحمن بن إسحاق، عن ابن شهاب، بن سهل بن سعد، عن مروان، عن زيد بن ثابت في قول الله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ...} [[النساء 95]]. ورواه معمر، عن الزّهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت. وممن روى عنه من التّابعين عروة بن الزّبير، وعلي بن الحسين. وقال عروة: كان مروان لا يتّهم في الحديث)) الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ((روى عن عمر بن الخطّاب: مَن وهب هبة لصلة رحمٍ فإنّه لا يرجع فيها.)) الطبقات الكبير. ((أرسل عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، ورَوى عن غير واحد من الصّحابة، منهم: عمر، وعثمان، وعلي، وزيد بن ثابت، وعبد الرّحمن بن الأسود بن عَبْد يغوث، ويسرة بنت صفوان. وقَرنه البخاريّ بالمِسْوَر بن مخرمة في روايته عن الزهريّ عن عروة عنهما في قصّة صُلْح الحديبية. وفي بعض طُرقه عنده أنهما روَيا ذلك عن بعض الصّحابة، وفي أكثرها أَرسلا الحديث. روى عنه سهل بن سعد، وهو أكبر منه سنًّا وقَدْرًا؛ لأنه من الصّحابة. وروى عنه من التّابعين ابنهُ عبد الملك، وعليّ بن الحسين، وعروة بن الزّبير، وسعيد ابن المسيّب: وأبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وغيرهم؛ وكان يُعَدُّ في الفقهاء. وأنكر بعضُهم أن يكون له رواية، منهم البخاريّ.)) الإصابة في تمييز الصحابة.
((شهد الجَملَ مع عائشة، ثم صِفّين مع معاوية)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((لم يزل مروان مع ابن عمّه عثمان بن عفّان وكان كاتبًا له وأمر له عثمان بأموال وكان يتأوّل في ذلك صلة قرابته، وكان الناس ينقمون على عثمان تقريبَه مروان وطاعته له ويرون أنّ كثيرًا ممّا يُنْسَب إلى عثمان لم يأمر به وأنّ ذلك عن رأي مروان دون عثمان. فَكَانَ الناسُ قد شَنِفُوا لعثمان لما كان يصنع بمروان ويقرّبه وكان مروان يحمله على أصحابه وعلى الناس ويبلّغه ما يتكلّمون فيه ويهدّدونه به ويُريه أنّه يتقرّب بذلك إليه.كان عثمان رجلًا كريمًا حَييًّا سليمًا فكان يصدّقه في بعض ذلك ويردّ عليه بعضًا. وينازع مروان أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بين يديه فيردّه عن ذلك ويزبره. فلمّا حُصر عثمان كان مروان يقاتل دونه أشدّ القتال. وأرادت عائشة الحجّ وعثمان محصور فأتاها مروان، وزيد بن ثابت، وعبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد بن أَبِي العِيص فقالوا: يا أمّ المؤمنين لو أقمت، فإن أمير المؤمنين على ما ترين محصورٌ ومقامك ممّا يدفع الله به عنه. فقالت: قد حلبتُ ظَهْري وعرّيت غرائري ولستُ أقدر على المقام. فأعادوا عليها الكلام فأعادت عليهم مثل ما قالت لهم، فقام مروان وهو يقول:
وَحَرّق قَيْسٌ عَليّ البلا دَ حتى إذا اسْتَعَرَتْ أَجْذَمَا
فقالت عائشة: أيّها المتمثّل عليّ بالأشعار وددتُ والله أنّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمرُه في رِجْلِ كلّ واحدٍ منكما رَحًا وأنّكما في البحر. وخرجت إلى مكّة. أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني إسحاق بن يحيَى عن عيسى بن طلحة قال: كان مروان يقاتل يوم الدار أشدّ القتال ولقد ضُرب يومئذٍ كعبه ما يظنّ إلا أنّه قد مات ممّا به من الجراح. أخبرنا محمّد بن عمر قال: حدّثني خالد بن الهَيْثَم، عن يحيَى بن أبي كثير، عن أبي حفصة مولى مروان قال: خرج مروان بن الحكم يومئذٍ يرتجز ويقول من يبارز؟ فبرز إليه عُرْوة بن شييَمْ بن البيّاع الليثي فضربه على قفاه بالسيف فخرّ لوجهه فقام إليه عُبيد بن رفاعة بن رافع الزّرَقي بسكّين معه ليقطع رأسه، فقامت إليه أمّه التي أرضعته وهي فاطمة الثقفيّة وهي جدّة إبراهيم بن العربيّ صاحب اليمامة فقالت: إن كنت تريد قَتْلَه فقد قَتَلْته فما تصنع بلحمه أن تبضّعه؟ فاستحيا عُبيد بن رفاعة منها فتركه. أخبرنا محمّد بن عمر قال: حدّثني شُرَحْبِيل بن أبي عَوْن، عن عيّاش بن عبّاس قال: حدّثني من حضر ابن البيّاع يومئذٍ يبارز مروان بن الحكم فكأني أنظر إلى قبائه قد أدخل طرفيه في منطقته وتحت القباء الدرع، فضرب مروان على قفاه ضربة فقطع علابيّ رقبته ووقع لوجهه، فأرادوا أن يذفّفوا عليه فقيل: تبضّعون اللحم! فتُرك. أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني حفص بن عمر بن عبد الله بن جُبير، عن إبراهيم ابن عُبيد بن رفاعة قال: قال لي أبي بعد الدار وهو يذكر مروان بن الحكم: عِبَادَ الله والله لقد ضربْتُ كعبه فما أحسبُه إلا قد مات ولكنّ المرأة أحفظتني قالت: ما تصنع بلحمه أن تبضّعه؟ فأخذني الحفاظ فتركتُه. أخبرني موسى بن إسماعيل قال: حدّثني جُوَيْرِية بن أسماء عن نافع قال: ضُرب مروان يوم الدار ضربة جدّت أذنيه فجاء رجل وهو يريد أن يُجْهز عليه، قال فقالت له أمّه: سبحان الله تمثّل بجسد ميّت! فتركه. قالوا فلمّا قُتل عثمان وسار طلحة والزّبير وعائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان خرج معهم مروان بن الحكم فقاتل يومئذٍ أيضًا قتالًا شديدًا فلمّا رأى انكشاف الناس نظر إلى طلحة بن عُبيد الله واقفًا فقال: والله إنْ دمُ عثمان إلا عند هذا، هو كان أشدّ الناس عليه وما أطلب أثرًا بعد عين. ففوّق له بسهم فرماه به فقتله. وقاتل مروان أيضًا حتى ارتُثَّ فحُمل إلى بيت امرأة من عَنَزَة فداووه وقاموا عليه، فما زال آل مروان يشكرون ذلك لهم. وانهزم أصحاب الجَمَل وتوارى مروان حتى أُخِذ له الأمان من عليّ بن أبي طالب فأمّنه، فقال مروان: ما تُقِرّني نفسي حتى آتيه فأُبايعه. فأتاه فبايعه. ثمّ انصرف مروان إلى المدينة فلم يزل بها حتى ولي معاوية بن أبي سفيان الخلافة، فولّى مروان بن الحَكَم المدينة سنة اثنتين وأربعين ثمّ عزله، وولّى سعيد بن العاص ثمّ عزله، وأعاد مروان ثمّ عزله، وأعاد سعيد بن العاص فعزله، وولّى الوليد بن عُتْبة بن أبي سفيان فلم يزل على المدينة حتى مات معاوية، ومروان يومئذٍ معزول عن المدينة. ثمّ ولّى يزيدُ بعد الوليد بن عتبة المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان، فلمّا وثب أهل المدينة أيّام الحرّة، أخرجوا عثمان بن محمّد وبني أُميّة من المدينة فأجلوهم عنها إلى الشأم وفيهم مروان بن الحكم وأخذوا عليهم الأيمان ألّا يرجعوا إليهم وإن قدروا أن يردّوا هذا الجيش الذي قد وُجّه إليهم مع مسلم بن عُقْبَة المُرّيّ أن يفعلوا. فلمّا استقبلوا مسلم بن عقبة سَلّموا عليه وجعل يسائلهم عن المدينة وأهلها فجعل مروان يخبره ويحرّضه عليهم فقال له مسلم: ما ترون؟ تمضون إلى أمير المؤمنين أو ترجعون معي؟ فقالوا: بل نمضي إلى أمير المؤمنين. وقال مروان من بينهم: أمّا أنا فأرجع معك. فرجع معه مؤَازرًا له معينًا له على أمره حتى ظفر بأهل المدينة وقُتلوا وانتُهبت المدينة ثلاثًا. وكتب مسلم بن عقبة بذلك إلى يزيد، وكتب يشكر مروان بن الحكم ويذكر معونته إيّاه ومناصحته وقيامه معه. وقدم مروان على يزيد بن معاوية الشأم فشكر ذلك له يزيد وقرّبه وأدناه، فلم يزل مروان بالشأم حتى مات يزيد بن معاوية وقد كان عقد لابنه معاوية ابن يزيد بالعهد بعده، فبايع له الناس وأتته بيعة الآفاق إلّا ما كان من ابن الزّبير وأهل مكّة، فولي ثلاثة أشهر، ويقال أربعين ليلة، ولم يزل في البيت لم يخرج إلى الناس. كان مريضًا فكان يأمر الضّحّاك بن قيس الفِهْري يصلّي بالناس بدمشق. فلمّا ثقل معاوية بن يزيد قيل له: لو عهدتَ إلى رجل عهدًا واستخلفتَ خليفةً، فقال: والله ما نفعتني حيًّا فأتقلّدها ميّتًا وإن كان خيرًا فقد استكثر منه آلُ أبي سفيان، لا تذهبُ بنو أميّة بحلاوتها وأتقلّد مرارتها، والله لا يسألني الله عن ذلك أبدًا ولكن إذا متّ فليصلّ عليّ الوليد بن عُتْبَة بن أبي سفيان وليصلّ بالناس الضّحّاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم ويقوم بالخلافة قائم. فلما مات صلى عليه الوليد وقام بأمر الناس الضّحّاك بن قيس. فلمّا دفن معاوية بن يزيد قام مروان بن الحكم على قبره فقال: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: معاوية بن يزيد، فقال: هذا أبو لَيْلَى فقال أزنم الفَزاري:
إنّي أرَى فِتَنًا تَغْلي مَرَاجِلُها فالمُلْكُ بعدَ أبي ليلى لمن غلبا
واختلف الناس بالشأم فكان أوّل من خالف من أمراء الأجناد ودعا إلى ابن الزّبير النعمان بن بشير بحِمْص وزُفرَ بن الحارث بقِنّسْرين، ثمّ دعا الضّحّاك بن قيس بدمشق الناس سرًّا ثمّ دعا الناس إلى بيعة ابن الزّبير علانية فأجابه الناس إلى ذلك وبايعوه له. وبلغ ذلك ابن الزّبير فكتب إلى الضّحّاك بن قيس بعهده على الشأم فكتب الضّحّاك إلى أمراء الأجناد ممّن دعا إلى ابن الزّبير فأتوه، فلمّا رأى ذلك مروان خرج يريد ابن الزّبير بمكّة ليبايع له ويأخذ منه أمانًا لبني أُميّة وخرج معه عمرو بن سعيد بن العاص، فلما كانوا بأذرعات وهي مدينة البَثَنِيّة لقيهم عُبيد الله بن زياد مقبلًا من العراق فقال لمروان: أين تريد؟ فأخبره، فقال: سبحان الله، أرَضيتَ لنفسك بهذا، تُبايع لأبي خُبيب وأنت سيّد بني عبد مناف! والله لأنت أَولَى بها منه. فقال له مروان: فما الرأي؟ قال: أن ترجع وتدعو إلى نفسك وأنا أكفيك قريشًا ومَواليها ولا يخالفك منهم أحد. فقال عمرو بن سعيد: صدق عبيد الله، إنّك لَجِذمُ قريش وشيّخها وسيّدها وما ينظر الناس إلّا إلى هذا الغلام خالد بن يزيد بن معاوية فتزوّج أمّه فيكون في حِجْرك وادْعُ إلى نفسك فأنا أكفيك اليمَانية فإنّهم لا يخالفونني، وكان مطاعًا عندهم، على أن تبايع لي من بعدك قال: نعم. فرجع مروان وعمرو بن سعيد وَمَنْ معهما، وقدم عبيد الله بن زياد دمشق يوم الجمعة فدخل المسجد فصلّى ثمّ خرج فنزل باب الفَراديس فكان يركب إلى الضّحّاك بن قيس كلّ يوم فيسلّم عليه ثمّ يرجع إلى منزله، فقال له يومًا: يا أبا أُنيس، العجب لك وأنت شيخ قريش تدعو لابن الزّبير وتَدَع نفسك وأنت أرضَى عند الناس منه فادْعُ إلى نفسك. فدعا إلى نفسه ثلاثة أيّام فقال له الناس: أخذتَ بيعتنا وعهودنا لرجل ثمّ تدعو إلى خلعه عن غير حَدَثٍ أحدثه!فلما رأى ذلك عاد إلى الدعاء لابن الزّبير فأفسَدَه ذلك عند الناس وغيَّر قلوبهم عليه، فقال عُبيد الله بن زياد ومكر به: من أراد ما تريد لم ينزل المدائن والحصون، يبرز ويجمع إليه الخيل، فاخْرُجْ عن دمشق واضْمُمْ إليك الأجناد. فخرج الضّحّاك فنزل المَرْج وبقي عبيد الله بدمشق ومروان وبنو أُميّة بتَدْمُرْ وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية بالجابية عند خالهما حسّان بن مالك بن بَحْدَل. فكتب عبيد الله إلى مروان أن ادْعُ الناس إلى بيعتك واكْتُب إلى حسّان بن مالك فليأتك فإنّه لن يردّك عن بيعتك، ثمّ سِرْ إلى الضّحّاك فقد أصحر لك. فدعا مروان بني أُميّة ومواليهم فبايعوه، وتزوّج أم خالد بنت أبي هاشم بن عُتْبة بن ربيعة، وكتب إلى حسّان بن مالك بن بَحدل يدعوه أن يبايع له ويقدم عليه، فأبَى، فأُسقِط في يدي مروان، فأرسل إلى عبيد الله فكتب إليه عبيد الله أن اخْرُجْ إليه فيمن معك من بني أُميّة. فخرج إليه مروان وبنو أُميّة جميعًا معه وهو بالجابية والناس بها مختلفون فدعاه إلى البيعة فقال حسّان: والله لئن بايعتم مَروان ليحسدنّكم علاقة سوط وشراك نعل وظلّ شجرة، إنّ مروان وآل مروان أهل بيت من قيس، يريد أنّ مروان أبو عشرة وأخو عشرة، فإن بايعتم له كنتم عبيدًا لهم، فأطيعوني وبايعوا خالد بن يزيد. فقال رَوْح بن زِنْباع: بايعوا الكبير واستَشِبّوا الصغير. فقال حسّان بن مالك لخالد: يا ابن أُختي هواي فيك وقد أباك الناس للحداثة، ومروان أحبّ إليهم منك ومن ابن الزّبير. قال: بل عجزتَ، قال: كلا. فبايع حسّان وأهل الأرْدُنّ لمروان على أن لا يبابع مروان لأحدٍ إلّا لخالد بن يزيد،ولخالد إمرة حِمص ولعمرو بن سعيد إمرة دمشق. فكانت بيعة مروان بالجابية يوم الاثنين للنصف من ذي القعدة سنة أربعٍ وستّين. وبايع عبيد الله بن زياد لمروان بن الحكم أهلَ دمشق وكتب بذلك إلى مروان فقال مروان: إن يُرِد الله أن يتمّم لي خلافة لا يمنعنيها أحدٌ من خلقه. فقال حسّان بن مالك: صدقت. وسار مروان من الجابية في ستّة آلاف حتى نزل مَرْج راهط ثمّ لحق به من أصحابه من أهل دمشق وغيرهم من الأجناد سبعةُ آلاف، فكان في ثلاثة عشر ألفًا أكثرهم رجّالة ولم يكن في عسكر مروان غير ثمانين عتيقًا، أربعون منهم لعبّاد بن زياد وأربعون لسائر الناس. وكان على مَيْمَنة مروان عبيد الله بن زياد وعلى مَيْسرته عمرو بن سعيد. وكتب الضّحّاك بن قيس إلى أمراء الأجناد فتوافوا عنده بالمرج فكان في ثلاثين ألفًا، وأقاموا عشرين يومًا يلتقون في كلّ يومٍ فيقتتلون حتى قُتل الضّحّاك بن قيس وقُتل معه من قيس بَشَرٌ كثير. فلمّا قُتل الضّحّاك بن قيس وانهزم الناس رجع مروان ومَن معه إلى دمشق وبعث عُمّاله على الأجناد وبايع له أهل الشأم جميعًا.)) الطبقات الكبير.
((كانت مدّة ولايته تسعةَ أَشهر، وقيل: عشرة أَشهر)) أسد الغابة. ((وَلّي إمرة المدينة لمعاوية، ثم لم يَزلْ بها إلى أن أخرجهم ابنُ الزّبير في أوائل إمْرَةِ يزيد بن معاوية؛ فكان ذلك من أسباب وَقْعة الحرَّة؛ وبقي بالشام إلى أن مات معاوية بن يزيد بن معاوية، فبايعه بَعْض أهل الشّام في قصةٍ طويلة؛ ثم كانت الوقعة بينه وبين الضّحاك بن قيس، وكان أميرًا لابْنِ الزّبير، فانتصر مَرْوان، وقتل الضّحاك، واستوثق له مُلك الشام؛ ثم توَجّه إلى مصر فاستولى عليها، ثم بغته الموت، فعهد إلى ولده عبد الملك، فكانت مدّتُه في الخلافة قَدْر نصف سنة)) الإصابة في تمييز الصحابة. ((تُوفِّي أبوه فاستكتبه عثمان، وكتب له، فاستولى عليه إلى أَنْ قُتل عثمان، ونظر إليه عليّ يومًا. فقال له: ويلك وويل أمّة محمد منك، ومن بَنِيك إذا ساءت درعك! وكان مروان يقال له خيط باطل، وضرب به يوم الدّار على قَفاه، فجرى لقبه، فلما بويع له بالإمارة قال فيه أخوه عبد الرّحمن بن الحكم ـــ وكان ماجنا شاعرًا محسنًا، وكان لا يرى رأي مروان: [الطويل]
فَوَاللَّهِ
مَا أَدْرِي
وَأَنِّي لَسائِلٌ حَلِيلَةَ مَضْرُوبِ القَفَا كَيْفَ يَصْنَعُ
لَحَا اللَّهُ قَومًا أَمَّروُا خَيطَ بَاطِلٍ عَلَى النَّاسِ يُعْطِي مَا يَشَاءُ وَيَمْنَعُ
وقيل: إنما قال له أخوه عبد الرّحمن ذلك حين ولاه معاوية أمر المدينة، وكان كثيرًا ما يهجوه. ومن قوله فيه: [الطويل]
وَهَبْتُ نَصِيبِي فِيكَ يَا مَرْوُ كُلَّهُ لِعَمْروٍ وَمَرْوانَ الطَّوِيلِ وَخَالِدِ
فَكُلُّ ابْنِ
أمٍّ زَائِدٌ غَيْرُ نَاقِصِ وَأَنْتَ ابْنُ أُمٍّ نَاقِصٌ غَيْرُ زَائِدِ
وقال مالك بن الريب يهجو مروان: [الطويل]
لَعَمْرُكَ مَا مَرْوَانُ يَقْضِي أُمُورَنَا وَلَكِنَّمَا تَقْضِي لَنَا بِنْتُ جَعْفَرِ
فَيَا لَيْتَهَا
كَانَتْ عَلَيْنَا أَمِيرَةً وَلَيْتَكَ يَا مَرْوَانُ أَمْسَيْتَ آخِرِ
وكان معاويةُ لَمّا صار الأمر إليه ولّاه المدينة، ثم جمع له إلى مكة والطّائف، ثم عزله عن المدينة سنة ثمانٍ وأربعين، وولّاها سعيد بن أبي العاص، فأقام عليها أميرًا إلى سنة أربع وخمسين، ثم عزله، وولَّى مروان، ثم عزله، وولّى الوليد بن عتبة، فلم يزل واليًا على المدينة حتى مات معاوية وولي يزيد، فلما كف الوليد بن عتبة بن الحسين وابن الزّبير في شأن البيعة ليزيد، وكان الوليد رحيمًا حليمًا سريًّا، عزله وولَّى يزيد عمرو بن سعيد الأشدق، ثم عزله وصرف الوليد بن عتبة، ثم عزله، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وعليه قامت الحرّة، ثم لما مات يزيد، ولي ابنه أبو ليلى معاوية بن يزيد، وذلك سنة أربع وستين، وعاش بعد أبيه يزيد أربعين ليلة، ومات وهو ابن إحدى وعشرين سنة، وكان مَوْتُه من قرحة يقال لها السكتة، وكانت أمّه أم خالد بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة، وقالت له: اجعل الخلافة من بعدك لأخيك، فأبى، وقال: لا يكون لي مُرُّها ولكم حُلْوُها، فوثب مروان حينئذ عليها وأنشد: [البسيط]
إِنِّي أَرَى فِتْنَةً تَغْلِي مَرَاجِلُها وَالمُلْكُ بَعْدَ أَبِي لَيْلَى لِمَنْ غَلَبَا
ثم التقى هو والضّحاك بن قيس بِمَرْجِ راهط على أميال من دمشق، فقتل الضّحاك، وكان مروان قد تزوَّج أم خالد بن يزيد ليضَعَ منه، فوقع بينه وبين خالد يومًا كلام، فقال له مروان ـــ وأغلظ له في القول: اسكت يابن الرّطبة. فقال له خالد: مؤتمن خائن. فندم مروان، وقال: ما أدى الأمانة إذا أؤتمن، ثم دخل خالد على أمّه فقال لها: هكذا أردت، يقول لي مروان على رؤُوس النّاس كذا وكذا! فقالت له: اسكت، لا ترى بَعْد منه شيئًا تكرهه، وسأقُرِّبُ عليك ما بَعدُ، فسمَّتْه، ثم قامت إليه مع جواريها فغممته حتى مات))
((ومات في صَدر رمضان سنة خمس وستين، وهو ابنُ ثلاث وستين. وقيل: ابن ثمانية وستين، وقيل ابن أربع وستين، وهو معدودٌ فيمن قتله النّساء.)) الاستيعاب في معرفة الأصحاب. ((كان مروان قد أطمع خالد بن يزيد بن معاوية في بعض الأمر ثمّ بدا له فعقد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان بالخلافة بعده. فأراد أن يضع من خالد بن يزيد ويقصّر به ويزهّد الناس فيه، وكان إذا دخل عليه أجلسه معه على سريره. فدخل عليه يومًا فذهب ليجلس مجلسه الذي كان يجلسه فقال له مروان وَزَبَره: تَنحّ يا ابن رَطَبْة الاسْت والله ما وجدتُ لك عقلًا. فانصرف خالد وقتئذٍ مغضبا حتى دخل على أُمّه فقال: فضحتِني وقصّرتِ بي ونكّستِ برأسي ووضعتِ أمري. قالت: وما ذاك؟ قال: تزوّجتِ هذا الرجل فصنع بي كذا وكذا. ثمّ أخبرها بما قال فقالت له: لا يسمع هذا منك أحد ولا يعلم مروان أنّك أعلمتني بشيء من ذلك وادْخُلْ عليّ كما كنتَ تدخل واطْوِ هذا الأمر حتى ترى عاقبته فإنّي سأكفيكه وانتصر لك منه. فسكت خالد وخرج إلى منزله، وأقبل مروان فدخل على أمّ خالد بنت أبي هاشم ابن عُتْبة بن ربيعة وهي امرأته فقال لها: ما قال لك خالد ما قلتُ له اليوم وما حدّثك به عني؟ فقالت: ما حدّثني بشيء ولا قال لي. فقال: ألم يشكُني إليك ويذكر تقصيري به وما كلّمته به؟ فقالت: يا أمير المؤمنين أنت أجلّ في عين خالد وهو أشدّ لك تعظيمًا من أن يحكي عنك شيئًا أو يجد من شيء تقوله، وإنّما أنت بمنزلة الوالد له. فانكسر مروان وظنّ أنّ الأمر على ما حكت له وأنّها قد صدقت. ومكث حتى إذا كان بعد ذلك وحانت القائلة فنام عندها فوثبت هي وجواريها فغلّقن الأبواب على مروان ثمّ عمدت إلى وسادة فوضعتها على وجهه فلم تزل هي وجواريها يغممنه حتى مات، ثمّ قامت فشقّت عليه جيبها وأمرت جواريها وخدمها فشقَقْنَ وصِحْنَ عليه وقلن: مات أمير المؤمنين فجأة. وذلك في هلال شهر رمضان سنة خمسٍ وستّين، وكان مروان يومئذٍ ابن أربعٍ وستّين سنة، وكانت ولايته على الشأم ومصر لم يَعْدُ ذلك ثمانية أشهر، ويقال ستّة أشهر.)) الطبقات الكبير.