الدفاع عن النبي
روى عروة بن الزبير قال: سأَلت عبد اللّه بن عمرو بن العاص قلت: أَخبرني بأَشد شيءٍ رأَيتَه صنعه المشركون برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: أَقبل عقبة بن أَبي مُعَيْط، ورسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه في عُنُقِه فخنقه خنقًا شديدًا، فأَقبل أَبو بكر، فأَخذ مَنْكِبَه فدفعه عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم قال أَبو بكر: يا قوم، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يقولَ رَبِّي اللّهُ وَقَدْ جَاءَكمْ بالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم.
وروت أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها: ما أشدَّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقالت: كان المشركون قعودًا في المسجد الحرام، فتذاكرُوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك، إذ دخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المسجد، فقاموا إليه، وكانوا إذا سألوه عن شيء صدّقهم، فقالوا: ألستَ تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال: "بَلَى"، قال: فتشبَّثُوا به بأجمعهم، فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له: أدرك صاحبَك، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد، فوجد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم والنَّاسُ مجتمعون عليه، فقال: ويلكم، أتقتلون رجلًا أنْ يقولَ ربِّيَ الله، وَقَدْ جاءكم بالبيِّنات من ربكم؟ قال: فلهوا عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأقبلوا على أَبي بكر يضربونه، قالت: فرجع إلينا، فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام(*).
روى البَرَاءِ بن عازِب قال: اشترى أَبو بكر من عازب سَرْجًا بثلاثة عشر درهمًا، قال: فقال أَبو بكر لعازب: مُرِ البراءَ فَليحمله إِلى منزلي، فقال: لا، حتى تُحَدِّثنا كيف صنعـت حيث خرج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأَنت معه، قال: فقال أَبو بكر: خرجنا فأَدْلَجْنا فأَحيينا يومنا وليلتنا، حتى أَظهرنا وقام قائم الظهيرة، فضربت ببصري: هل أَرى ظلًا نأوي إِليه؟ فإِذا أَنا بصخرة، فأَهويتُ إِليها فإِذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وفرشت له فَرْوَةً، وقلت: اضطجع يا رسول الله فاضطجع، ثم خرجت أَنظر هل أَرى أَحدًا من الطلب؟ فإِذا أَنا براعي غنم، فقلت: لمن أَنت، فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفتُهُ، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: هل أَنت حالبٌ لي؟ قال: نعم، فأَمرتُهُ فاعتقل شاة منها، ثم أَمرته فنفض ضَرْعها، ثم أَمرته فنفض كفيه من الغُبَار، ومعي إِداوة على فمها خرقة، فحلب لي كُثْبَـة من اللبن، فصببت على القدح، حتى برد أَسفله، ثم أَتيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فوافيتُهُ وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشَرِبَ حتى رضيتُ، ثم قلت: هل آن الرحيل؟ قال: فارتحلنا، والقوم يطلبوننـا، فلم يدركنا أَحد منهم إِلا سُراقة بن مالك بن جُعْشُم على فرس له، فقلت: يا رسول الله، هذا الطَلَبُ قد لَحِقنا؟ قـال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ الْلَّهَ مَعَنَا} حتى إِذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رُمح أَو رمحين ــ أَو قال: رمحين أَو ثلاثة ـــ قال قلت: يا رسول الله، هذا الطَّلَب قد لحقنا وبْكيتُ، قال: "لم تبكي؟" قال قلتُ: والله، ما على نفسي أَبكي، ولكني أَبكي عليك. قال: فدعا عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "الْلُّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ"، فساخَتْ فرسهُ إِلى بطنها في أَرض صَلْد، ووثب عنها وقال: يا محمد، قد علمتُ أَن هذا عَمَلُك، فادع الله أَن ينجيني مما أَنا فيه، فوالله لأعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائي من الطَّلَب، وهذه كِنَانتي فَخُذْ منها سهمًا، فإِنك ستمر على إِبلي وغنمي في موضع كذا وكذا، فَخُذْ منها حاجتك، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا"، قال: ودعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فَأُطْلِقَ ورجع إِلى أَصحابه، ومضى رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأَنا معه، حتى قدمنا المدينة، فتلقاه الناس في الطريق وعلى الأَجَاجِير واشتدَّ الخَدَمُ والصِّبْيَانُ في الطريق يقولون: الله أَكبر، جاءَ رسول الله، جاءَ محمد، قال: وتنازع القوم أَيُّهم ينزل عليه؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَنزلُ الليلة على بني النجار، أَخوالِ عبد المطلب؛ أَكرمهم بذلك". قال: وقال البراءُ: أَول من قَدِم علينا من المهاجرين ثم مُصْعَبُ بن عُمَيْر، أَخو بني عبد الدار، ثم قَدِم علينا ابن أُم مَكْتُوم الأَعمى، أَخو بني فهر، ثم قدم علينا عمرُ بن الخطاب في عشرين راكبًا، فقلنا: ما فعل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: هو على أَثَرِي. ثم قَدِم رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأَبو بكر معه، قال البَرَاءَ: ولم يَقْدَم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى قرأت سُوَرًا من المُفَصَّل ـــ قال إِسرائيل: وكان البراءُ من الأَنصار من بني حارثة.
العبادة
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ صَائِمًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ شَهِدَ جَنَازَةً"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِيْنًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ جَمَعَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَجَبَتَّ لَهُ ـــ أَوْ غُفِرَ لَهُ ـــ"(*) أخرجه مسلم في الصحيح 4 / 1857 كتاب فضائل الصحابة (44) باب (1) حديث رقم (12 / 1028)..
وروت عائشة أنّ النّبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "مُرُوا أبا بكر فليُصلِّ بالنّاس"، فقالت عائشة: يا رسول الله إنّ أبا بكر إذا قام مقامك لم يُسمِع النّاسَ من البكاء، فَأمُرْ عمر فليصلّ بالنّاس، قال: "مروا أبا بكرٍ فليُصَلّ بالنّاس"، فقالت عائشة: فقلتُ لحفصة: قُولي له إنّ أبا بكرٍ إذا قام مقامك لم يُسمِع النّاسَ من البكاء فأمُرْ عمر فليصلّ بالنّاس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّكُنّ لأنْتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيبَ منكِ خيرًا (*).
وروى الفُضيلُ بن عمرو الفُقيميّ قال: صلّى أبو بكر بالنّاس ثلاثًا في حياة النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم.
وروى الأرقم بن شُرَحْبيل، عن ابن عبّاس أن النّبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم لمّا جاء إلى أبي بكر وهو يصلّي بالنّاس في مرضه أخَذَ من حيثُ كان بَلَغَ أبو بكر من القراءة(*).
واعتمر أبو بكر في رجب سنة اثنتي عشرة، فدخل مكّة ضَحْوَةً فأتى منزله، وأبو قُحافة جالس على باب داره، معه فتيان أحداث يحدّثهم، إلى أن قيل له: هذا ابنك، فنهض قائمًا، وعَجِلَ أبو بكر أن يُنيخ راحلته فنزل عنها وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبتِ لا تقم، ثمّ لاقاه فالتزمه، وقبّل بين عينْي أبي قحافة، وجعل الشيخ يبكي فرحًا بقدومه، وجاءَ إلى مَكّة عَتّاب بن أَسِيد، وسُهيل بن عمرو، وعِكْرمة بن أبي جَهل، والحارث بن هشام فسلّموا عليه: سلامٌ عليك يا خليفة رسول الله، وصافحوه جميعًا، فجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ سلّموا على أبي قُحافة، فقال أبو قحافة: يا عتيقُ هؤلاء الملأ فأحسِنْ صُحْبَتهم، فقال أبو بكر: يا أبتِ لا حول ولا قوة إلاّ بالله! طُوّقتُ عظيمًا من الأمر لا قوّة لي به، ولا يَدَانِ إلاّ بالله، ثمّ دخل فاغتسل وخرج، وتبعه أصحابه فنحاهم، ثمّ قال: امْشوا على رِسْلكم، ولقيه النّاس يتمشّون في وجهه، ويُعزّونَه بنبيّ الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يبكي حتّى انتهى إلى البيت؛ فاضطبّع بردائه، ثمّ استلم الرّكن، ثمّ طاف سبعًا، وركع ركعتين، ثمّ انصرف إلى منزله، فلمّا كان الظهر خرج فطاف أيضًا بالبيت، ثمّ جلس قريبًا من دار الندوة، فقال: هل من أحدٍ يتشكّى من ظلامة، أو يطلب حقًا؟ فما أتاه أحدٌ، وأثنْى النّاس على واليهم خيرًا، ثمّ صلّى العصر وجلس فودّعه النّاس، ثمّ خرج راجعًا إلى المدينة، فلمّا كان وقت الحج سنة اثنتي عشرة، حجّ أبو بكر بالنّاس تلك السنة وأفْرَدَ الحجّ.
العلم
روى عكرمة بن خالد، عن ابن عمر أَنه سئل: من كان يُفْتِي الناس في زمان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال: أَبو بكر وعُمَر، ما أَعلم غيرهما.
وروى أبو سعيد الخُدْرِي: أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خطب يومًا فقال: "إِنَّ رَجُلًا خَيَّرَهُ الله بَيْنَ الْدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ"، فبكى أَبو بكر، فتعجَّبْنا لبكائه أَن يُخْبِرَ النبي صَلَّى الله عليه وسلم عن رجل قد خُيِّر ـــ وكان من المُخَيَّر صَلَّى الله عليه وسلم، وكان أَبو بكر أَعلمنا به ـــ فقال: "لا تَبْكِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ أَمَنَّ الْنَّاس فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيْلًا لاتَخَذْتُهُ خَلِيْلًا، وَلَكِن أُخُوَةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَتُهُ، لَا يَبْقَيَنَّ في الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابَ أَبِي بَكْرٍ".
وروى محمد بن جُبَيْر بن مُطْعم أَن أَباه جبير بن مطعم أَخبره: أَن امرأَةً أَتت النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم في شيءٍ فأَمرها بأَمر، فقالت: أَرأَيت يا رسول الله إِن لم أَجدْك؟ قال: "إِنْ لَمْ تَجِدِيْنِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ"(*).
ولما توفي رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم قال عمر: "لا يتكلم أَحدٌ بموته إِلا ضربته بسيفي هذا"! قال: فقالوا له: اذهب إِلى صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فادعه، يعني: أَبا بكر، قال: فذهبتُ فوجدتُه في المسجد، قال: فأَجهشت أَبكي، قال: لعل نبي الله توفي؟ قلت: إِن عمر قال: "لا يتكلم أَحد بموته إِلا ضربته بسيفي هذا"! قال: فأَخذ بساعدي ثم أَقبل يمشي، حتى دخل، فأَوسعوا له، فأَكب على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى كاد وجهه يَمَسّ وجه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فنظر نَفَسَهُ حتى استبان أَنه توفي، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] قالوا: يا صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، تُوفي رسول الله صَلَّى الله عليـه وسلم؟ قال: نعم، فَعَلِموا أَنه كما قال، قالوا: يا صاحب رسول الله، هل يُصَلَّى على النبي صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: يجيءَ نَفَرٌ مِنْكُم فيُكَبِّرُون فيَدْعُون ويذهبون حتى يَفْرَغَ الناس، فعلموا أَنه كما قال، قالوا: يا صاحب رسول الله، هل يُدْفَن النبي صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: أَين يدفن؟ قال: حيث قَبَضَ الله رُوحَه؛ فإِنه لم يقبضه إِلا في موضع طَيِّب، قال: فعرفوا أَنه كما قال، ثم قال: عندكم صاحبكم.
وروى ابن شهاب قال: رأى النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، رؤيا فقصّها على أبي بكر فقال: "يا أبا بكر رأيتُ كأنّي استبقتُ أنا وأنت درجة فسَبَقْتُك بمِرْقاتين ونصف"، قال: خيرٌ يا رسول الله، يُبْقِيكَ الله حتى ترى ما يَسُرّك ويُقِرّ عَيْنَك، قال: فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مرّات، وأعاد عليه مثل ذلك، قال: فقال له في الثالثة: "يا أبا بكر رأيتُ كأنّي استبقتُ أنا وأنت درجة فسبقتُك بمرقاتين ونصف"، قال: يا رسول الله، يَقْبِضُكَ الله إلى رحمته ومغفرته، وأعيش بعدك سنتين ونصفًا(*).
وروى محمّد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ بعد النّبيّ أهْيَبَ لما لا يَعْلَمُ من أبي بكر، ولم يكن أحدٌ بعد أبي بكر أهْيَبَ لما لا يُعلَمُ من عُمَرَ، وإنّ أبا بكر نزلت به قضيّة لم نَجدْ لها في كتاب الله أصْلًا، ولا في السنة أثرًا فقال: أجْتَهِدُ رَأيي؛ فإنْ يَكُنْ صَوابًا فمِنَ اللهِ، وإنْ يكُنْ خَطَأً فمنّي وَأستغْفِرُ الله.
الزهد
روى زيد بن أَرقم قال: دعا أَبو بكر بشراب، فأُتِيَ بماء وعسل، فلما أَدناه من فيه نَحَّاه، ثم بكى حتى بكى أَصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أَنهم لا يَقْوَوْن على مسأَلته، ثم أَفاق فقالوا: يا خليفة رسول الله، ما أَبكاك؟ قال: "كنت مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فرأَيته، يدفع عن نفسه شيئًا، ولم أَر أَحدًا معه، فقلت: يا رسول الله، ما هذا الذي تدفع، ولا أَرى أَحدًا معك؟ قال: "هذه الدنيا تَمَثَّلَت فقلت لها: إِليكِ عَنِّي، فتنحت ثم رجعت، فقالت: أَما إِنك إِن أَفْلَتَّ فلن يُفْلِتَ مَنْ بعدك"، فذكرت ذلك فَمَقَتُّ أَن تَلْحَقَنِي(*).
التواضع
روى الأَصْمَعِي قال: كان أَبو بكر إِذا مُدِحَ قال: "اللهم أَنت أَعلم بي من نفسي، وأَنا أَعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون".
وروى أَبو صالح الغفاري أَن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عَجُوزًا كبيرة عمياء، في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها، ويقوم بأَمرها، فكان إِذا جاءَ وجد غيره قد سبقه إِليها، فأَصلح ما أَرادت، فجاءها غير مرة كُلًّا يُسْبَقُ إِليها، فرصده عمر؛ فإِذا هو بأَبي بكر الصديق الذي يأْتيها، وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أَنت هو لَعَمْري!.
وروى حُبَيْب بن عبد الرحمن أنه سمع عمته أُنَيْسة قالت: نزل فينا أَبو بكر ثلاث سنين: سنتين قبل أَن يُسْتَخلف، وسنة بعدما استُخْلِفَ فكان جَوَارِي الحيِّ يأْتينه بغنمهن، فيحلِبُهُنَّ لهن.
وروى نافع، عن ابن عمر قال: بويع أَبو بكر الصديق يوم قبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ربيع الأَول، سنة إِحدى عشرة وكان منزله بالسُّنْحِ عند زوجته حَبِيبة بنت خارجة بن زيد بن أَبي زهير، من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجر عليه حُجْرة من شَعْر، فما زاد على ذلك حتى تحول إِلى المدينة، وأَقام هناك بالسُّنْح بعد ما بويع له سبعة أَشهر، يَغْدُو على رِجْلَيه، وربما ركب على فرس له، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس، فإِذا صلى العشاءَ الآخرة رجع إِلى أَهله، وكان يحلب للحَيِّ أَغنامهم، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا مَنَائِحنا، فسمعها أَبو بكر فقال: بلى، لَعَمْرِي لأَحلبنَّها لكم، وإِني لأَرجو أَن لا يغيرني ما دخلتُ فيه عن خُلُق كنتُ عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية: أَتحبين أَن أَرْغِيَ لك أَو أَن أُصَرِّح؟ فربما قالت: أَرغ، وربما قالت صَرِّح، فأيّ ذلك قالت فعل.
الانفاق في سبيل الله
روى أَبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"، فبكى أَبو بكر وقال: وهل أَنا ومالي إِلا لَكَ يا رسول الله؟(*).
وروى الشعبي قال: لما نزلت: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ...} [البقرة: 271] إِلى آخر الآية قال: جاءَ عمر بنصف ماله يحمله إِلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على رؤوس النـاس، وجاءَ أَبو بكر بماله أَجمع، يكاد يخفيه من نفسه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: عِدَةُ الله وَعِدَةُ رَسُولِهِ"، قال: يقول عمر لأَبي بكر: بنفسي أَنت وبأَهلي أَنتَ، ما استبقنا باب خيرٍ قَطُّ إِلا سبقتنا إِليه(*).
وروى عمر قال: أَمرنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَن نتصدق، ووافق ذلك مالًا عندي، فقلت، اليوم أَسْبق أَبا بكر إِن سَبَقْته، قال: فجئت بنصف مالي، فقال: "ما أَبقيت لأَهلك؟" قلت: مِثْله، وجاءَ أَبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال: "يا أَبا بكر، ما أَبقيت لأَهلك؟" قال: أَبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أَسبقه إِلى شيء أَبدًا.
وروى هشام بن عروة، عن أَبيه قال: أَسلم أَبو بكر وله أَربعون أَلفًا، فأَنفقها في الله، وأَعتق سبعة كلهم يعذب في الله: أَعتق بلالًا، وعامر بن فُهَيْرة، وزنِّيرَة، والنَّهْدِيَّة، وابنتها، وجارية بني مُؤَمَّل، وأَم عُبَيْس.
الخوف
روى قتادة قال: بلغني أن أبا بكر قال: "وددت أني خُضرة تأكلني الدواب".
الورع
روت عائشة قالت: لما وليَ أبو بكر قال: قد عَلِمَ قومي أنّ حِرْفَتي لم تكن لتعجِزَ عن مَئُونَةِ أهْلي، وقد شُغِلْتُ بأمْرِ المُسلمين، وسأحْتَرِفُ للمسلمين في مالهم، وسيأكُلُ آلُ أبي بكر من هذا المال.
وروى محمّد بن هلال، عن أبيه، أنّ أبا بكر الصّدّيق كان له بيتُ مال بالسُّنح معروف ليس يَحْرِسُه أحَدٌ، فقيل له: يا خليفة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ألا تَجْعَلُ على بيت المال مَنْ يحرسه؟ فقال: لا يُخافُ عليه، قلت: لِمَ؟ قال: عَلَيْهِ قُفْلٌ، قال: وكان يُعطي ما فيه حتّى لا يبقى فيه شيءٌ، فلمّا تَحَوّل أبو بكر إلى المدينة حَوّله فجعل بيتَ ماله في الدّار التي كان فيها، وكان قَدِمَ عليه مالٌ من مَعْدِنِ القَبَليّةِ، ومن معادن جُهينة كثير، وانفتح معدن بني سُليم في خلافة أبي بكر فَقُدِمَ عليه منه بصَدَقَته فكان يوضعُ ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يَقْسِمُه على النّاس نُقَرًا نُقَرًا فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يُسَوّي بين النّاس في القَسْم الحُرّ والعَبْد، والذَّكَر والأُنثى، والصغير والكبير فيه سواءٌ، وكان يشتري الإبلَ والخَيلَ والسلاحَ فيَحمِلُ في سبيل الله، واشترى عامًا قطائفَ أتى بها من البادية ففَرقَها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، فلمّا توفي أبو بكر ودُفِنَ دعا عمر بن الخطّاب الأمناء ودخلَ بهم بيتَ مال أبي بكر ومعه عبد الرّحمن ابن عوف، وعثمان بن عفّان وغيرهما، ففتحوا بيت المال فلم يجدوا فيه دينارًا ولا درهمًا ووجدوا خَيْشة للمال فَنُفِضَتْ فوجدوا فيها درهمًا فرحّموا على أبي بكر، وكان بالمدينة وَزَّانٌ على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال، فسُئل الوزّان كم بَلَغَ ذلك المال الذي وَرَدَ على أبي بكر؟ قال: مائتي ألف.
وروى عروة، عن عائشة قالت: لما حضر أبا بكر الوفاة جلس فتشهّد ثمّ قال: أمّا بعدُ يا بُنيّة فإنّ أحَبّ النّاسِ غِنًى إليّ بعدي أنْتِ، وإنّ أعَزّ النّاسِ عليّ فَقرًا بعدي أنْتِ، وإنّي كنتُ نَحَلْتُكِ جدادَ عشرين وسقًا من مالي، فوَدِدْتُ واللهِ أنّكِ حُزْته وأخذته فإنّما هو مال الوارث وهما أخَواكِ وأخْتاكِ، قالت: قلتُ: هذا أخَوَايَ فمَنْ أُخْتايَ؟ قال: ذات بَطْنِ ابنْةِ خارجةَ فإنّي أظُنّها جاريةً.
وروى محمّد بن الأشعث أنّ أبا بكر الصّدّيق لمّا أنْ ثقُل قال لعائشة: إنّه ليس أحدٌ من أهلي أحَبّ إليّ منك، وقد كنتُ أقْطَعْتُكِ أرْضًا بالبحرَين ولا أراك رَزَأتِ منها شيئًا، قالت له: أجَلْ، قال: فإذَا أنا مِتّ فابْعَثي بهذه الجارية، وكانت تُرْضعُ ابْنَه، وهاتَين اللِّقْحَتَين وحالبهما إلى عُمَرَ، وكان يسقي لَبَنَهما جُلساءَه، ولم يكن في يده من المال شَيءٌ، فلمّا مات أبو بكر بعثت عائشة بالغلام واللقحتين والجارية إلى عمر فقال عمر: يرحم الله أبا بكر لقد أتْعَبَ من بعده، فقَبل اللقحتين والغلام وردّ الجارية عليهم.
روت عائشة قالت: لمّا حُضِرَ أبو بكر قلتُ كلمةً من قول حاتم:
لَعمرُكَ ما يُغني الثراءُ عن الفَتى إذا حشرَجتْ يوْمًا وضاقَ بها الصدرُ
فقال: لا تقولي هكذا يا بُنيّة ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [سورة ق: 19]، انْظُروا مُلاءَتَيّ هاتَيْنِ فإذا مِتّ فاغسِلوهما وكفّنوني فيهما فإنّ الحيّ أحوْج إلى الجديد من الميّت.
التمسك بالاسلام
روى الزُّهْرِي، عن عروة، عن عائشة قالت: "لما أُسْرِي بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم إِلى المسجد الأَقصى، أَصبح يُحَدِّث بذلك الناس، فارتدَّ ناس مِمَّن كان آمن وصدق به وفُتِنُوا فقال أَبو بكر: إِني لأُصدقه فيما هو أَبعد من ذلك أُصدّقه بخبر السماءِ غَدْوَة أَو رَوْحَة"، فلذلك سمي أَبو بكر الصدِّيق.
الجهاد
ذكر ابن عبد البر في كتاب "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام بقتال أهل الرّدة، وظهر من فَضْلِ رأيه في ذلك وشدّته مع لينه ما لم يحتسب، فأظهر الله به دينَه، وقُتِلَ على يديه وببركته كلَّ من ارتَّد عن دين الله، حتى ظهر أمرُ الله وهم كارهون.
الدعوة
لما جاءَ الإِسلامُ سَبَقَ أبو بكر إِليه ـــ واسمه عبد الله بن عامر، وأَسلم على يده جماعة لمحبتهم له، وميلهم إِليه، حتى إِنه أَسلم على يده خَمْسَةٌ من العشرة ـــ يعني: المبشرين بالجنة ـــ منهم: الزّبير، وعثمان، وطلحة، وعبد الرّحمن بن عوف.
الصبر
روى مالك بن مِغْوَل أنه سمع أَبا السَّفر قال: دخلوا على أَبي بكر في مرضه فقالوا: يا خليفة رسول الله، أَلا ندعوا لك طبيبًا ينظر إِليك؟ قال: قد نظر إِليَّ، قالوا: ما قال لك؟ قال إِني فعال لما أُريد.