الجهاد
روى سعيد بن عمرو بن نفيل قال: لما كان يوم اليرموك كنا أربعة وعشرين ألفا أو نحوا من ذلك، فخرجت لنا الروم بعشرين ومائة ألف، وأقبلوا علينا بخطًى ثقيلة كأنها الجبال تحركها أيد خفية، وسار أمامهم الأثاقفة، والبطارقة، والقسيسون يحملون الصلبان، وهم يجهرون بالصلوات فيرددها الجيش من ورائهم ولهم هزيم كهزيم الرعد، فلما رآهم المسلمون على حالهم هذه هالتهم كثرتهم، وخالط قلوبهم شيء من خوفهم عند ذلك، قام أبو عبيدة بن الجراح يحض المسلمين على القتال فقال: "عباد الله: انصروا الله، ينصركم ويثبت أقدامكم، عباد الله: اصبروا؛ فإن الصبر منجاة من الكفر، ومرضاة للرب، ومدحضة للعار، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالتروس، والزموا الصمت إلا من ذكر الله عز وجل في أنفسكم، حتى آمركم إن شاء الله"، قال سعيد: عند ذلك خرج رجل من صفوف المسلمين، وقال لأبي عبيدة: إني أزمعت أن أقضي أمري الساعة، فهل لك من رسالة تبعث بها إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال أبو عبيدة: نعم تقرئه مني ومن المسلمين السلام، وتقول له: يا رسول الله، إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا، قال سعيد: فما أن سمعت كلامه، ورأيته يمتشق حسامه، ويمضي إلى لقاء عدو الله حتى اقتحمت إلى الأرض، وطعنت أول فارس أقبل علينا، ثم وثبت على العدو، وقد انتزع الله كل ما في قلبي من خوف، فثار الناس في وجوه الروم، وما زالوا يقاتلونهم حتى كتب الله للمؤمنين النصر.
المواقف الإيمانية يثمر بعضها بعضا، حتى يعظم أمرها ويكثر نفعها، ويستحق المؤمنون نصر الله الذي وعده لعباده المؤمنين، كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِبنَ}[الروم: 47]، فإذا وُفِّق بعض المؤمنين لمثل هذه المواقف الإيمانية، وبذل الناس في الله عز وجل عند ذلك يتنزل نصر الله عز وجل، فلما رأى سعيد بن زيد رضي الله عنه هذا الموقف الإيماني من رجل من صفوف لمسلمين، تابعه بموقف إيماني، وذهب ما في قلبه من الخوف، ثم لما رأى المسلمون موقف سعيد رضي الله عنه؛ ثاروا في وجوه الروم، وما زالوا يقاتلونهم حتى كتب الله للمؤمنين النصر.