العبادة
روى محمد بن واسع أن رجلًا من أهل البصرة ركب إلى أمِّ أبي ذر بعد موته؛ فسألها عن عبادة أبي ذر قالت: كان نهارَه أجمَعَ في ناحيةٍ يتفكرُ.
وقال أبو عثمان النّهْديّ: رأيتُ أبا ذرّ يَمِيدُ على راحلته، وهو مستقْبِل مَطْلِعَ الشمس، فظننتُه نائمًا فدنوتُ منه؛ فقلتُ: أنائم أنت يا أبا ذرّ؟ فقال: لا بل كنتُ أصلّي.
الزهد
روى محمّد بن سيرين أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ: "إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعًا فاخرج منها، ونحا بيده نحو الشأم ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!" قال: يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟ قال: " لا"، قال فما تأمرني؟ قال: "اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشيّ"(*).
قال: فلمّا كان ذلك خرج إلى الشأم، فكتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذرّ قد أفسد الناس بالشأم، فبعث إليه عثمان فقدم عليه، ثمّ بعثوا أهله من بعده فوجدوا عنده كيسًا أو شيئًا فظنّوا أنّها دراهم، فقالوا: ما شاء الله! فإذا هي فلوس، فلمّا قدمَ المدينةَ قال له عثمان: كُنْ عندي تغدو عليك، وتروح اللقاح، قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثمّ قال: ائْذَنْ لي حتى أخرج إلى الرّبَذَة، فأذن له فخرج إلى الربذة، وقد أقيمت الصلاةُ وعليها عبدٌ لعثمان حبشيّ فتأخّر فقال أبو ذرّ: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ.
وروى مالك بن دينار أنّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟" فقال أبو ذرّ: أنا، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "صدقتَ"، ثمّ قال: "ما أظَلّتِ الخَضْراءُ، ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ، على ذي لَهْجَة أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى زُهْدِ عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ"(*).
وروى عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِرًا بها قائمًا يصلّي، فقلتُ: يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيتَه عليّ، قلتُ: فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين، فقال: يا ابن أخي أعطيتُهما مَن هو أحوج إليهما مني، قلتُ: والله إنّك لمحتاج إليهما قال: اللهمّ غَفرًا، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة، ولي أُخْرى للمسجد، ولي أعْنُزٌ نحلبها، ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا، وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا، فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟!، وروى أبو شُعْبة قال: جاء رجل من قومنا أبا ذرّ يعرض عليه، فأبَى أبو ذرّ أن يأخذ، وقال: لنا أحمرة نحتمل عليها، وأعْنُزٌ نحلبها، ومُحرَّرة تخدمنا، وفضل عباءة عن كِسْوتنا، وإني لأخاف أن أحاسَبَ بالفضلِ.
وروى عيسى بن عُميلة الفَزاريّ قال: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ مَصَرَه، وقرَّب إليهم تمرًا وهو يسير، ثمّ تعذَّر إليهم وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به، قال: وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئًا.
وروى خالد بن حيان قال: كان أبو ذرّ، وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق، وروى عبد الله بن خِراش الكعبيّ قال: وجدتُ أبا ذرّ في مظَلّةِ شَعْرٍ بالرّبَذَةِ تحته امرأة سحماء فقلتُ: يا أبا ذرّ تَزَوّج سحماء! قال: أتزوّج من تضعني أحبّ إليّ ممّن ترفعني، وما زال بي الأمر بالمعروف، والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقًا.
وروى أبو أسماء الرّحبيّ أنّه دخل على أبي ذرّ وهو بالرّبَذة وعنده امرأة له سوداء مشنّفة، ليس عليها أثر المَجاسِد ولا الخلوقِ، قال فقال: ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السّويداء؟ تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيتُ العراق مالوا عليّ بدنياهم، ألا وإنّ خليلي عهد إليّ أنّ دون جِسْر جهنّم طريقًا ذا دَحْضٍ ومَزَلّة، وإنّا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير(*).
وروى عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: كُسِيَ أبو ذرّ بُرْدَينِ فأتَزَرَ بأحدهما، وارتدي بشِمْلَةٍ، وكسا أحدهما غلامَه، ثمّ خرج على القوم فقالوا له: لو كنتَ لبستَهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل ولكني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أطْعِموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم ممّا تكسون"(*).
وروى إبراهيم التّيمي، عن أَبيه، عن أَبي ذرّ قال: كان قُوتِي على عَهْد رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صَاعًا من تَمْر، فلَسْتُ بزائدٍ عليه حتى أَلْقَى الله تعالى.
وروى عِراك بن مالك قال: قال أبو ذرّ: إني لأقرَبُكم مجلسًا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعتُه صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة، مَن خرج من الدنيا كهيئة ما تركتُه فيها، وإنّه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد تشبّث منها بشيء غيري"(*).
التواضع
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما أظَلّتِ الخَضْراءُ، ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم؛ فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ"(*).
التمسك بالاسلام
روى ابن عبّاس، قال: لما بلغ أبا ذرّ مبعثُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بمكّة قال لأخيه أُنيس: ارْكَبْ إلى هذا الوادي، واعْلَمْ لي عِلْمَ هذا الرّجل الذي يزعمُ أنه يأتيه الخَبَرُ من السّماء، واسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدم مكّة وسمع مِنْ قوْلهِ، ثم رجع الى أبي ذرّ فقال: رأيتُه يأمرُ بمكّة بمكارم الأخلاق؛ وسمعْتُ منه كلامًا ما هو بالشّعر، فقال: ما شَفَيْتَني فيما أردْتُ، فتزوَّدَ، وحملَ شنَّة له فيها ماءٌ حتى قدم مكّة، فأتى المسجد فالتمس النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكره أن يَسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع، فرآه عليّ بن أبي طالب، فقال: كأنَّ الرّجل غريب، قال: نعم، قال: انطلق إلى المنزل، فانطلقْتُ معه لا يسألني عن شيء ولا أسأله، قال: فلما أصبحت من الغد رجعْتُ إلى المسجد، فبقيْتُ يومي حتّى أمسيت، وسرت إلى مضجعي فَمَرَّ بي عليٌّ فقال: أَما آن للرّجل أنْ يعرف منزله؟! فأقامه وذهب به ومعه وما يسأل واحدٌ منهما صاحبَه عن شيء، حتى إذا كان اليوم الثّالث فعل مثل ذلك فأقامه عليٌّ معه، ثم قال له: أَلَا تحدّثَني ما الذي أَقدمك هذا البلد؟ قال: إن أعطَيْتَنِي عَهْدًا وميثاقًا لتُرْشِدَني فعلْتُ، ففعل، فأخبره عليٌّ رضي الله عنه أنه نبيٌّ وأنّ ما جاء به حق، وأنه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فإذا أصبحت فاتَّبِعْني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمْتُ كأني أُرِيق الماءِ، فإن مضيت فاتبعني، حتى تدخل معي مدخلي، قال: فانطلقت أقْفوه حتى دخل على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ودخلت معه، وحَيّيْتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بتحيَّة الإسلام، فقلت: السَّلام عليك يا رسول الله، فكنت أوْلَ مَنْ حيَّاه بتحية الإسلام، فقال: "وَعَلَيْكَ السَّلَامُ؛ مَنْ أنْتَ"؟ قلتُ: رجل من بني غفار، فعرض عليّ الإسلامَ فأسلمت، وشهدْتُ أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله، فقال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ارْجِعْ إِلَى قَوُمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ، وَاكْتُمْ أمْركَ عنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَإَنِّي أَخْشَاهُم عَلَيْكَ" أخرجه البخاري في الصحيح 5/60، ومسلم في الصحيح 4/1919 ـ 1925، حديث رقم (132/2473، 133/2474)، وأحمد في المسند 4/114، والبيهقي في الدلائل 5/362..
فقلت: والذي نفسي بيده لأصوتنَّ بها بين ظَهْرَانيهم، فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا رسول الله"، فثار القومُ إليه فضربوه حتى أضجعوه، وأتى العبّاس فأكب عليه وقال: ويلكم، ألسْتُم تعلمون أنه مِنْ غفار، وأنّ طريق تجارتكم إلى الشّام عليهم؛ وأنقذه منهم، ثم عاد من الغد إلى مثلها، وثاروا إليه فضربوه؛ فأَكَبَّ عليه العباس فأنقذه، ثم لحق بقومه، فكان هذا أوّل إسلام أبي ذر رضي الله تعالى عنه(*).
الانفاق في سبيل الله
روى عبد الله بن الصامت أنّه كان مع أبي ذرّ فخرج عطاؤه ومعه جارية له، قال: فجعلت تقضي حوائجَه، قال: ففضل معها سِلَعٌ، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: قلتُ لو ادّّخرتَه للحاجة تبوء بك، أو للضيف ينزل بك، قال: إنّ خليلي عهدَ إليّ أن أيّ مالٍ ذَهَبٍ أو فضّةٍ أُوكِيَ عليه فهو جَمْرٌ على صاحبه حتى يُفَرّغَه في سبيل الله(*).
وروى سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوسًا بما بقي، وقال: إنّه ليس من وعى ذهبًا أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه.
وروى الأحنف بن قيس قال: قال لي أبو ذرّ خُذ العطاء ما كان مُتْعَةً فإذا كان دَيْنًا فارفضه.
وروى عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: كُسِيَ أبو ذرّ بُرْدَينِ؛ فأتَزَرَ بأحدهما، وارتدي بشِمْلَةٍ، وكسا أحدهما غلامَه، ثمّ خرج على القوم فقالوا له: لو كنتَ لبستَهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل ولكني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أطْعِموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم ممّا تكسون"(*).
العلم
روى زاذان قال: سُئِلَ عليّ، عن أبي ذرّ فقال: وعى علمًا عجز فيه، وكان شحيحًا حريصًا؛ شحيحًا على دينه، حريصًا على العلم، وكان يُكْثرُ السّؤالَ، فيُعْطى ويُمْنَعُ، أما أن قد مُلِئَ له في وِعائِه حتى امتَلأ، فلم يدروا ما يريد بقوله وعى علمًا عجز فيه، أعجز عن كَشْفِ ما عنده من العلم أم عن طَلَبِ ما طلب من العلم إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم.
روى مَرْثَد أو ابن مرثد، عن أبيه قال: جلستُ إلى أبي ذرّ الغفاريّ إذ وقف عليه رجل فقال: ألم يَنْهَكَ أَمير المؤمنين عن الفُتْيَا؟ فقال أبو ذَرّ: والله لو وضعتم الصّمصامة على هذه، وأشار إلى حَلْقه، على أن أترك كلمةً سمعتها من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأنْفَذْتُها قَبْلَ أن يكون ذلك.
الدعوة
روى أبو ذرّ ـــ قيل: اسمه السكن، قال: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يُحِلّون الشهرَ الحرامَ، فخرجتُ أنا، وأخي أُنيس، وأُمّنا فانطلقنا حتى نزلنا على خالٍ لنا فأكرمنا خالُنا وأحسن إلينا، قال: فحسدنا قومُه فقالوا له: إنّك إذا خرجتَ عن أهلك خالف إليهم أُنيس، فجاء خالنا فنثا علينا ـــ يعني: قص ما سمع ـــ ما قيل له فقلتُ: أمَّا ما مضى من معروف فقد كدّرت ولا جماعَ لك فيما بعدُ، فقرّبنا صِرْمَتَنا فاحتملنا عليها وتغطّى خاُلنا بثوبه وجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أُنيس عن صِرْمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن فخبَر أُنيسًا بما هو عليه، قال فأتانا بصرمتنا ومثلها معها وقد صلّيتُ قبل أن ألْقى رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثلاث سنين لله، أتَوَجّهُ حيث يُوَجّهُني الله، أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ أُلْقيتُ كأنْي خفاءٌ حتى تعلوني الشمس، فقال أُنيس: إنّ لي حاجة بمكّة فاكْفِني حتى آتيَك، فانطلق أُنيس فراث عَلَيَّ ـــ يعني: أبطأ، ثمّ جاء فقلتُ: ما حبسك؟ قال: لقيتُ رجلًا بمكّة على دينك يزعم أنّ الله أرسله، قال: فما يقول الناس له؟ قال: يقولون شاعر كاهن ساحر ــ وكان أُنيس أحد الشعراء، فقال أُنيس: والله لقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشّعْر فلا يلتئِمُ على لسان أحدٍ بعيد أنّه شعر، والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون! فقلتُ: اكفني حتى أذهب فأنظر! قال: نعم، وكُنْ من أهل مكّة على حَذَرٍ فإنّهم قد شَنِفُوا له وتَجهَّمُوا له، فانطلقتُ فقدمتُ مكّة فاستضعفتُ رجلُا منهم فقلتُ: أين هذا الذي تَدْعونَ الصابئ؟ قال: فأشار إليّ فقال: هذا الصابئ، فمال عليّ أهلُ الوادي بكلّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ فخررتُ مغشيًّا عليّ فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأنّي نَصْب أحمر، فأتيتُ زمزمَ فشربتُ من مائِها وغسلتُ عني الدّماء فلبثتُ بها ثلاثين من بين ليلةٍ ويومٍ ما لي طعام إلّا ماء زمزم، فسَمِنْتُ حتى تكسّرتْ عُكَنُ بطني وما وجدتُ على كبدي سَخْفَة جوعٍ، فبينا أهلُ مكّة في ليلةٍ قَمْراءَ إضْحِيان إذ ضرب اللهُ على أصْمِخَتِهِم فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين فأتتا عليّ وهما تدعوان إسافًا ونائلَةَ، فقلتُ أنْكِحا أحدهما الأخر، فما ثناهما ذاك عن قولهما، فأتتا عليّ فقلتُ هَنًا مثلُ الخشَبَةِ غير أني لم أكْنِ، فانطلقتا تُوَلْوِلان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا، فاستقبلهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال: "ما لكما؟" قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: "فما قال لكم؟" قالتا: قال لنا كلمة تَمْلأ الفَمَ، فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وصاحبه فاستلما الحجَرَ وطافا بالبيت ثمّ صلّى فأتيتُه حين قضى صلاتَه فكنتُ أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام، فقال: "وعليك رحمة الله، ممّن أنت؟" قلتُ: من غِفار، فأهْوى بيده إلى جَبْهَته هكذا، قلتُ في نفسي: كَرِهَ أني انتميتُ إلي غِفار، فذهبتُ آخذ بيده فَقَدَعَنى صاحبه وكان أعلم به مني فقال: "متى كنتَ هاهنا؟" قلتُ: كنتُ هاهنا منذ ثلاثين من بين ليلةٍ ويوم، قال: "فمن كان يُطْعِمُك؟" قلتُ: ما كان لي طعام إلاّ ماء زمزم فسَمِنْتُ حتى تكسّرت عُكَنُ بطني فما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جوعٍ، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّها مباركة، إنّها طعام طُعْمٍ". قال أبو بكر: يا رسول الله ائْذَنْ لي في طعامه الليلةَ، قال ففعل فانطلق النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فقال أبو ذرّ: فذاك أوّل طعامٍ أكلتُه بها، فغبرتُ ما غبرتُ فلقيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلّا يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟" فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أُنيسًا فقال: ما صنعتَ؟ قلتُ: صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ، قال أُنيس: ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ، فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ قال: فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينةَ أسلمنا، فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم إخوتُنا، فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله"(*).
وروى خُفاف بن إيماء بن رَحَضَةَ قال: كان أبو ذرّ رجلًا يصيب الطريق، وكان شجاعًا يتفرّد وَحْدَه يقطع الطريق ويُغير على الصِّرم في عَماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنّه السّبُعُ، فيطرق الحيّ ويأخذ ما أخذ، ثمّ إنّ الله قذف في قلبه الإسلام وسمع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم وهو يومئذٍ بمكّة يدعو مختفيًا، فأقبل يسأل عنه حتى أتاه في منزله، وقبل ذلك قد طلب مَن يوصله إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلم يجد أحدًا فانتهى إلى الباب فاستأذن فدخل، وعنده أبو بكر وقد أسلم قبل ذلك بيوم أو يومين، وهو يقول: يارسول الله والله لا نستسرّ بالإسلام وَلنُظْهِرَنّه، فلا يردّ عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم شيئًا، فقلت: يا محمد إِلاَمَ تدعو؟ قال: "إلى الله وَحْدَه لا شريك له وخَلْعِ الأوثان وتشهد أني رسول الله". فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّك رسول الله، ثمّ قال أبو ذرّ: يا رسول الله إني منصرف إلى أهلي وناظرٌ متى يُؤمَرُ بالقتال فألحَقُ بك فإني أرى قومك عليك جميعًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أصبتَ فانصرف". فكان يكون بأسفل ثنيّة غَزال فكان يعترض لعِيَرات قريش فيقتطعها فيقول لا أردّ إليكم منها شيئًا حتى تشهدوا ألّا إلهَ إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئًا، فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومضى بدر وأُحُد، ثمّ قدم فأقام بالمدينة مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم(*).
الخوف
روى عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي ذر قال: والله لو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم، ولا تقاررتم على فرشكم، والله لوددت أن الله عز وجل خلقني يوم خلقني شجرة تعضد ويؤكل ثمرها.