تسجيل الدخول


برير بن جندب

كان أبو ذر طويلًا، أسمر اللون، نحيفًا، وكان يصيب -يقطع- الطريق، وكان شجاعًا يتفرّد وَحْدَه؛ ثمّ إنّ الله قذف في قلبه الإسلام، وسمع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يومئذٍ بمكّة يدعو مختفيًا، فأقبل يسأل عنه حتى أتاه في منزله. فلما بلغ أبا ذَر مبعثُ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال لأخيه: "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِني"، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيتهُ يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو بالشعر؛ فقال: ما شفَيْتَني مما أردتُ، فتزوَّد، وحمل شَنَّةً فيها ماء حتى قدم مكة، فأَتَى المسجد، فالتمس النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكرِه أن يسأل عنه حتى أدركه بعضُ الليل، فاضطجع، فرآه عليٌّ، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحبَه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قِرْبته وزَادَه إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم ولا يرى النبي صَلَّى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرَّ به عليّ، فقال: أما آنَ للرجل أن يعرفَ منزله؟ فأقامه، فذهب به معه لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء حتى كان اليوم الثالث فعل مِثْل ذلك، فأقامه؛ فقال: ألَا تحدّثني ما الذي أَقدمك؟ قال: إنْ أعطيتني عَهْدًا وميثاقًا أنْ تُرشدني فعلت، ففعل، فأخبره، فقال: إنه حقٌّ، وإنه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم؛ فإذا أصبحْتَ فاتبعني، فإني إنْ رأيتُ شيئًا أخافَهُ عليك قمْتُ كأنَي أُرِيق الماء، فإنْ مضيت فاتَّبعني حتى تدخل مَدْخلي، ففعل، فانطلق يَقْفُوه حتى دخل على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ودخل معه، وسمع مِنْ قوله، فأسلم مكانه؛ فقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيكَ أَمْرِي" فقال: والذي نفسي بيده لأصْرُخنَّ بها بين ظهرانيهم؛ فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فقام القومُ إليه فضربوه حتى أَضجعوه؛ وأتى العباسُ فأكبَّ عليه، وقال: وَيْلكم؛ ألستم تعلمونَ أنه من غِفَار! وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباسُ عليه، وروي أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "غِفارٌ غَفَرَ الله لها، وأسْلَمُ سالَمها الله". فكان يكون بأسفل ثنيّة غَزال، فكان يعترض لعِيَرات قريش فيقتطعها، فيقول: لا أردّ إليكم منها شيئًا حتى تشهدوا ألاّ إلهَ إلاّ الله، وأنّ محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم، وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئًا، فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومضت بدر وأُحُد، ثمّ قدم فأقام بالمدينة مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم. ورُوِي عن أبي ذرّ؛ قال: كنتُ في الإسلام خامسًا، ورُوِي عنه أنه قال: أنا رُبُع الإسلام. وعن ابن مسعود قال: كان لا يزال يتخلّف الرجلُ في تَبُوك فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: "دَعُوهُ فَإِن يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ"، فتلوَّم أبو ذَر على بعيره، فأبطأ عليه، فأخذ متاعه على ظهره، ثم خرج ماشيًا، فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "كُنْ أَبَا ذَرٍّ"، فلما تأملت القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر؛ فقال: "يَرْحَمُ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، يَعِيشُ وَحْدَهُ، ويموتُ وَحْدَهُ، وَيُحْشَرُ وَحْدَهُ. ورُوِي عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ، كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟" قال: قلت: إذًا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به، فقال: "أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني". مناقبه: ورُوِي عن أبي ذرّ قال: كنتُ رِدْفَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو على حمار، وعليه بَرْدَعَةٌ أو قطيفة، وحدّث مالك بن دينار: أنّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟"، فقال أبو ذرّ: أنا، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "صدقتَ"، ثمّ قال: "ما أظَلّتِ الخَضْراءُ، ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَة أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى زُهْدِ عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ"، ورُوِي عن أبي ذرّ قال: أوصاني خليلي بسبعٍ: أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش. ورُوِي عنه –رضي الله عنه- أنّه قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ، إني أراك ضعيفًا، وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَ مالَ يَتيمٍ"، وأخبر الحارث بن يزيد الحضرميّ: أنّ أبا ذرّ سأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الإمارة، فقال: "إنّك ضعيف، وإنّها أمانةٌ، وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها". وحدّث عون بن عبد الله بن عتبة قال: كُسِيَ أبو ذرّ بُرْدَينِ، فأتَزَرَ بأحدهما، وارتدي بشِمْلَةٍ، وكسا أحدهما غلامَه، ثمّ خرج على القوم، فقالوا له: لو كنتَ لبستَهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل، ولكني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول:"أطْعِموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم ممّا تكسون". وحدّث مَرْثَد أو ابن مرثد، عن أبيه؛ قال: جلستُ إلى أبي ذرّ الغفاريّ إذ وقف عليه رجل، فقال: ألم يَنْهَكَ أَمير المؤمنين عن الفُتْيَا؟ فقال أبو ذَرّ: والله لو وضعتم الصّمصامة على هذه ـــ وأشار إلى حَلْقه ـــ على أن أترك كلمةً سمعتها من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأنْفَذْتُها قَبْلَ أن يكون ذلك. ورُوِي عن أبي ذر، عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يَا عِبَادِي، إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَّالَمُوا، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي؛ فَاسْتَغْفِرونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعُ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسِكُمْ، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنّكُمْ كانُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَا سَأَلَ، لَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا؛ إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ البّحْرَ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ المِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمِدِ اللَّهِ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ" وفاته: ذكرت أم ذرّ زوجة أبي ذرّ، قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيْتُ، فقال لي: ما يبْكيك؟ فقلت: ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك، قال: فابْشِري وَلَا تَبْكِي؛ فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ: "لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا"، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏"، وليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذبت، فأبْصِري الطريقَ، قلت: وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ قال: اذهبي فتبصَّري، قالت: فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه، فبينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ، فقالوا: يا أمَةَ الله، ما لك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟ قالوا: ومَنْ هو؟ قلت: أبو ذرّ، قالوا: صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قلت:‏ نعم، قالت: فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم: "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرًا، أو عريفًا، أو بريدًا، أو نقيبًا، وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلا وقد قارف بعْضَ ما قال، إلّا فتًى من الأنصار، فقال: أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي، قال: أنت تكفنني يا بني، قال: فكفّنه الأنصاريُّ، وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، وقامُوا عليه، وَدفَنُوه في نفرٍ كلهم يَمَان، وفي رواية: أقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط ٍمن أهل العراق عُمّارًا، فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام، فقال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، "تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبْعَثُ وحدك"، ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه، ثمّ حدّثهم عبد الله بن مسعود حديثَه، وما قال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، في مَسيره إلى تَبوك . ولما توفي أبو ذر ـــ رضي الله عنه ـــ وصلّى عليه ابن مسعود، حملوا عياله إلى عثمان بن عفان ـــ رضي الله عنهم ـــ بالمدينة، فضم ابنته إلى عياله، وقال: يرحم الله أبا ذر.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال