تسجيل الدخول

معركة مؤتة العجيبة واستشهاد القواد الثلاثة

تحرك الجيش الإسلامي في اتجاه الشمال حتى نزل معان من أرض الشام، مما يلي الحجاز الشمالي، وحينئذ نَقَلت إليهم الاستخبارات بأن هرقل نازل بمآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من قبائل لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلي مائة ألف.
لم يكن المسلمون أَدخلوا في حسابهم لقاء مثل هذا الجيش العرمرم، الذي بوغتوا به في هذه الأرض البعيدة، وهل يهجم جيش صغير ــ قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ــ فحسب على جيش كبير عرمرم مثل البحر الخِضم ــ قوامه مائتا ألف مقاتل!؟ حار المسلمون، وأقاموا في معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وينظرون، ويتشاورون، ثم قالوا: نكتب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره؛ فنمضي له.
ولكن عبد الله بن رواحة عارض هذا الرأي، وشجع الناس، قائلًا: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد، ولا قوة، ولا كثرة؛ ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة، وأخيرًا استقر الرأي على ما دعا إليه عبد الله بن رواحة.
وحينئذ وبعد أن قضى الجيش الإسلامي ليلتين في معان، تحركوا إلى أرض العدو، حتى لقيتهم جموع هرقل بقرية من قرى البلقاء يقال لها: "مشارف"، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتعبأوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم: قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة: عبادة بن مالك الأنصاري،
وهناك في مؤتة التقى الفريقان، وبدأ القتال المرير، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل، معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبت ريح الإيمان جاءت بالعجائب.
أخذ الراية زيد بن حارثة ــ حِبُّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ــ وجعل يقاتل بضراوةٍ بالغة، وبسالة لا يوجد لها نظيرٌ إلا في أمثاله من أبطال الإسلام، فلم يزل يقاتل، ويقاتل حتى شاط ــ أي: سال دمه وتفرق ــ في رماح القوم، وخر صريعًا؛ وحينئذ أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، وظل يقاتل قتالًا منقطع النظير، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم ــ أي: نزل ــ عن فرسه الشقراء، فعقرها ــ أي: ضرب أرجلها بالسيف، ثم قاتل حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قُتِل وهو يقول:
يا حبذا
الجنة واقترابها طيبةً وباردًا شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إذا لاقيتها ضِرَابها
يقال: إن روميًّا ضربه ضربة قطعته نصفين، وأثابه الله بيديه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء؛ ولذلك سُميَّ بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين.
روى ابن عمر أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل، فعدد به خمسين بين طعنة وضربة، ليس منها شيء في دبره ــ يعني ظهره.
ولما قتل جعفر بعد القتال بمثل هذه الضراوة والبسالة أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها، وهو على فرسه فجعل يستنزل نفسه ــ أي: يحث نفسه على النزول ــ ويتردد بعض التردد، ثم قال:
أقسمت
يا
نفس
لتنزلنه لتنزلن أو
لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنه
قد طال ما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنه
أجلبوا: صاحوا، والرنة: الصوت يشبه البكاء، والمقصود: ماذا يحدث إن مت واجتمع الناس للبكاء عليك، والنطفة: القليل من الماء، والشّنّة: السقاء البالي ــ يعني: أنه لا قيمة له.
وقال أيضًا:
يا نفس إلا تقتلي تموتي هذا حِمام الموت قد صَليت
وما تمنيت فقد أعطيت إن تفعلي
فعلهما هديت
صليت: أي دخلت، ويقصد: بفعلهما فعل زيد وجعفر.
ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم، فقال: شد بهذا صُلبك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة ــ أي: أخذ قليلًا، ثم سمع الحُطمة ــ يعني: صوت اشتداد الحرب ــ في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا؟! ثم ألقى اللحم من يده، وأخذ سيفه، فتقدم فقاتل حتى قتل.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال