تسجيل الدخول


حسان بن ثابت الأنصاري

حَسَّان بن ثَابِت بن المُنذر الأنصاري الخزرجي:
يُكنى: أبا الوليد، وأبا المضرّب، وقيل: أبو عبد الرحمن، وقيل: أبو الحسام؛ لمناضلته عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولتقطيعه أعراض المشركين، وأبو الوليد أشهرُ كُناه. وأمه الفُرَيْعَة بنت خالد بن حُبَيْش. وقيل: بل أم حسان بن ثابت الفُرَيْعَة بنت حُبَيْش بن لوذان، أخت خالد بن حُبَيْش، وعَمْرو بن حُبَيْش. أدركت الإسلام فأسلمت وبايعت.
ووَلَدَ حسانُ بنُ ثابت: عبدَ الرحمن؛ وأمُّه سِيرِين القبطية أخت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأمَّ فراس بنت حسان؛ وأمها شعثاء بنت هلال بن عُويمر، من خُزاعة. وكان عبد الرحمن بن حسان أيضا شاعرًا، وكان ابنه سعيد بن عبد الرحمن أيضا شاعرًا. وعاش ستين سنة في الجاهلية، وستين في الإسلام، وكذلك عاش أبوه ثابت، وجده المنذر، وأبو جده حَرَام؛ عاش كل واحد منهم مائة وعشرين سنة، ولا يعرف في العرب أربعة تناسلوا من صلب واحد، وعاش كل منهم مائة وعشرين سنة غيرهم، قال سعيد بن عبد الرحمن: ذكر عند أبي عبد الرحمن عمر أبيه، وأجداده، فاستلقى على فراشه وضحك، فمات وهو ابن ثمان وأربعين سنة.وقال سليمان بن يسار: رأيت حسان بن ثابت وله ناصيةٌ قدْ سَدَلَها. قال عفان بن مسلم: بَيْنَ عَينَيه.
وكان حسانُ بن ثابت قديمَ الإسلام. وجعله النبي صَلَّى الله عليه وسلم مع النساء في الآطام يوم الخندق، فروى يحيى بن عَبَاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع؛ حصن حسان بن ثابت؛ قالت: وكان حسان بن ثابت معنا فيه، مع النساء والصبيان، حيث خندق النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ قالت صفية: فمر بنا رجل من يهود، فجعل يُطِيف بالحصن؛ قالت له صفية: إن هذا اليهودي يطيف بالحصن كما ترى، ولا آمنه أن يدل على عورتنا مَنْ ورائنا من يهود، وقد شغل عنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأصحابه، فانزل إليه فاقتله، قال حسان: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب، لقد عرفْتِ ما أنا بصاحب هذا. قالت صفية: فلما قال ذلك أخذت عمودًا، ونزلت من الحصن إليه، فضربته بالعمود حتى قتلته، ثم رجعت إلى الحصن، فقلت: يا حسان، انزل فاسلبه، فقال: ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب. ولم يذكر أبو عمر هذه القصة، وقال: كرهت ذكرها. ومَنْ ذَكَرها قال: إنَّ حسانًا لم يشهَدْ مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئًا من مشاهِده، لجُبْنه، وأنْكَر بعضُ أهلِ العلم بالخبر ذلك، وقالوا: لو كان حقًّا لهُجِيَ به. وقيل: إنما أصابه ذلك الْجُبْن منذ ضربه صَفْوان بن المُعطَّل بالسّيف. وقال محمد بن إبراهيم التّيميّ: إنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أعطى حسانًا عوضًا من ضَرْبَةِ صَفْوان الموضعَ الذي بالمدينة، وهو قَصْر بني جديلة، وأعطاه سيرين أَمَةً قِبْطية، فولدَتْ له عبد الرّحمن بن حسّان. وقال أبو عمر: أما إعطاءُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيرين أخت مارية لحسان فمرويٌّ من وجوهٍ، وأكثرُها أنَّ ذلك ليس لضَرْبةِ صَفْوان، بل لذبه بلسانه عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في هجاء المشركين له، والله أعلم.
وكان يقال له شاعر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. روي عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفَتْ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالت: كان والله كما قال فيه شاعرُه حسّان بن ثابت رضي الله عنه:
مَتَى يَبْدُ في الدَّاجِي البَهِيمِ جَبِينُهُ َلُحْ مِثلَ مِصْبَاحِ الدُّجَى المُتَوَقِّدِ
َمَنْ كَانَ أَوْ مَنْ قَدْ يَكُونُ كَأَحْمدٍ ظَامٌ لِحَقّ أَوْ نَكَالُ لِمُلْحِدٍ
وروي أن الذين كانوا يَهْجُون رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من مشْركي قريش: عبد الله بن الزَّبَعْرَى، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، وعمرو بن العاص، وضرار بن الخطّاب، فقال قائل لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: اهْجُ عنَّا القوم الذين يهجوننا. فقال: إنْ أذنَ لي رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فعلْتُ. فقالوا: يا رسول الله، ائذنْ له. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "إِنَّ عليًا ليس عنده ما يُرَاد في ذلك منه"، أو: "ليس في ذلك هنالك"(*). وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "كَيْفَ تَهْجُوهُمْ وَأَنا مِنْهُمْ؟ وَكَيْفَ تَهْجُو أَبَا سُفْيَانَ وَهْوَ ابنُ عَمِّي؟" فقال: والله لأسلَّنّك منهم كما تُسَلُّ الشّعرةُ من العَجِين. فقال له: "إيت أبا بكر، فإنه أعلمُ بأنساب القوم منك". فكان يَمضِي إلى أبي بكر ليقِفَ على أنسابهم، فكان يقول له: كفَّ عن فلانة وفلانة، واذكر فلانة وفلانة، فجعل حسَّان يهجوهم. فلما سمعَتْ قريش شِعْرَ حسان قالوا: إنّ هذا الشّعر ما غاب عنه ابن أبي قحافة، أو: من شعر ابْن أبي قحافة(*). فمن شعر حسّان في أبي سفيان بن الحارث:
وَإِنَّ سَنَامَ المَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ العَبْدُ
وَمَنْ وَلَدَتْ أَبْنَاءَ زُهْرَةَ مِنْهُمُ كِرَامٌ وَلَمْ يَقْرَبْ عَجَائِزَكَ المَجْدُ
وَلَسْتَ كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ وَلَكِنْ لَئِيمٌ لَا تُقَامُ
لَهُ زَنْدُ
وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ وَسَمْرَاءُ ــ مَغْمُورُ ــ إِذَا بَلَغَ الْجَهْدُ
وَأَنْتَ هَجِينٌ نِيطَ في آلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
فلما بلغ هذا الشّعر أبا سفيان قال: هذا كلامٌ لم يَغبْ عنه ابن أَبي قحافة.
ومن قول حسّان أيضًا في أبي سفيان:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ
هَجَوْتَ
مُطَهَّرًا
بَرًّا حَنِيفًا أَمِينَ اللَّهِ شِيمَتُهُ الوَفَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ
لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتِي وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
وهذا الشعر أوله:
عَفَتْ ذَاتُ الأَصَابِعِ فَالجِوَاءُ إِلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خَلَاءُ
قال مصعب الزّبيري: هذه القصيدة قال حسّان صَدْرَها في الجاهليّة وآخرَها في الإسلام. وهجم حسَّان على فِتْيةٍ من قومه يشربون الخمر، فعيرَّهم في ذلك، فقالوا: يا أبا الوليد، ما أخَذْنَا هذه إلا منك، وإنا لنهمُّ بتركها ثم يثبِّطُنا عن ذلك قولك:
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِها اللِّقَاءُ
فقال: هذا شيء قلته في الجاهليّة، والله ما شربتُها منذ أسلمت. قال ابن سيرين: وانتدب لِهَجْوِ المشركين ثلاثة من الأنصار: حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رَوَاحة، فكان حسّان وكعب بن مالك يعارِضَانهم بمثْل قولهم في الوقائع والأيام والمآثر، ويذْكُرَان مَثَالِبَهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيِّرُهم بالكفر وعبادةِ ما لا يسمَعُ ولا ينفع، فكان قولُه يومئذ أهونَ القول عليهم، وكان قولُ حسّان وكعب أشدَّ القول عليهم، فلما أسلمُوا وفَقهوا كان أشدَّ القول عليهم قول عبد الله بن رواحة. وعن أبي هريرة وغيره أنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقولُ لحسَّان: "اهْجُهُمْ ــ يعني المشركين ــ وَرُوْحُ القُدسِ مَعَكَ"(*). وإنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لحسّان: "اللَّهُمَّ أَيّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ؛ لِمُنَاضَلَتِهِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ"(*). أخرجه البخاري في الصحيح 1/123، 4/127، 8/45، ومسلم في الصحيح 4/1932، حديث رقم (151/2485)، (152/2485)، والنسائي في السنن 2/48، حديث رقم 716، وأحمد في المسند 5/222، والطبراني في الصغير 2/4، وأورده السيوطي في الدر المنثور 5/100.. ومرَّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه بحسّان وهو يُنْشِد الشّعر في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: أتنشد الشّعر؟ أو قال: مثل هذا الشّعر في مَسْجد رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ فقال له حسان: قد كنْتُ أُنْشد وفيه مَنْ هو خير منك ــ يعني النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ــ فسكت عمر. ورُوي عن عمر رضي الله عنه أنه نهى أن يُنْشِد النّاسُ شيئًا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش، وقال: في ذلك شَتْم الحيّ والميت، وتجديد الضّغائن؛ وقد هدَم الله أَمْرَ الجاهليّة بما جاء من الإسلام.
وقال أبو عُبيدة: فُضِّلَ حسّان على الشّعراء بثلاث: كان شاعرَ الأنصار في الجاهليّة، وشاعرَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أيام النبوّة، وشاعر اليمن كلها في الإسلام. وهو شاعر أهل القرَى. وقال أبو عُبيدة: واجتمعت العربُ على أنَّ أشعَرَ أهل المدر أهل يثرب، ثم عَبْد القيس، ثم ثقيف، وعلى أن أشعر أهل المدَر حسَّان بن ثابت. وعن أبي عُبيدة وأبي عمرو بن العلاء أنهما قالا: حسّان بن ثابت أشعرُ أهل الحضر. وقال الأصمعيّ: حسّان بن ثابت أحد فحول الشّعراء، فقال له أبو حاتم: تأتي له أشعار لينة. فقال الأصمعيّ: تُنْسَب إليه أشياء لا تصحُّ عنه. وروى ابنُ أخي الأصمعيّ عن عمّه قال: الشّعر نكِد يَقْوَى في الشّر ويَسْهُل، فإذا دخل في الخير ضعُف ولَان؛ هذا حسَّان فَحْلٌ من فحول الشّعراء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقَط شِعْرُهُ. وقال مرّة أُخرى: شعر حسّان في الجاهليّة من أجودِ الشعر. وقيل لحسّان: لَان شِعْرُك أو هرم شِعْرُك في الإسلام يا أبا الحسام. فقال للقائل: ياابْن أخي؛ إن الإسلام يحْجِز عن الكذب، أو يمنَعُ من الكذب، وإن الشّعر يزينه الكذب؛ يعني: إنّ شأنَ التجويد في الشّعر الإفراط في الوصف والتزيين بغير الحق، وذلك كلُّه كذب. وقال الحطيئة: أَبلِغُوا الأنصارَ أن شاعرَهم أشعَرُ العرب حيث يقول:
يُغْشَوْنَ حَتَّى مَا تَهِرُّ كِلَابُهُمْ لَا يَسْأَلُونَ عَنِ السَّوَادِ الْمُقْبِلِ
وقال عبد الملك بن مروان: إنَّ أَمْدَحَ بيتٍ قالته العربُ بيت حسّان هذا.
وروت عائشة أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت مِنبرًا في المسجد ينشد، ثم قال: "إن الله أيّد حسان بروح القدس ما نَفَحَ عن نبيه"(*). وقد أدْركَ حسان النابغة الذّبياني، وأنشدهُ من شِعْره، وأنشد الأعشى، وكلاهما قال له: إنّك شاعر.
ومن جيّد شعر حسّان ما ارتجله بين يَدي النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في حين قدوم وَفْد بني تميم، إِذ أتَوْه بخطيبهم وشاعرهم، ونادَوْه من وراءِ الحجُرات أَن اخْرُج إلينا يا محمّد، فأنزل الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}‏ [الحُجْرات‏: 4، 5]‏ الآية. وكانت حجراته صلّى الله عليه وآله وسلّم تسعًا، كلُّها من شعر مغلقة من خشب العَرْعَر. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إليهم، وخطب خطيبُهم مُفتخرًا، فلما سكت أمرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثابت بن قيس بن شماس أنْ يخْطُبَ بمعنى ما خطب به خطيبُهم، فخطب ثابت بن قيس فأحسن، ثم قام شاعرهم، وهو الزّبرقان بن بدر فقال:
نَحْنُ المُلُوكَ فَلَا
حَيٌّ
يُقَارِبُنَا فِينَا العَلَاءُ وَفِينَا تُنْصَبُ البَيْعُ
وَنَحْنُ نُطْعِمُهُمْ فِي القَحْطِ مَا أَكَلُوا مِنْ العَبِيطِ إِذَا لَمْ يُؤْنَسِ القَزَعُ
وَنَنْحَرُ الكُومَ عُبْطًا فِي أَرُومَتِنَا للِنَّازِلِينَ إِذَا مَا أُنْزِلُوا
شَبِعُوا
تِلْكَ المَكَارِمُ حُزْنَاهَا
مُقَارَعَةً إِذَا الكِرَامُ عَلَى أَمْثَالِهَا اقْتَرَعُوا
ثم جلس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لحسّان بن ثابت: "قم"، فقام، وقال:
إِنَّ الذَّوَائِبَ
مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَاتَهُمْ قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً
لِلنَّاسِ
تُتَّبَعُ
يَرْضَى بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ تَقْوَى الإِلَهِ وَبِالأَمْرِ الَّذِي شَرَعُوا
قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ أَوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ إِنَّ الخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرُّهَا البِدَعُ
لَوْ كَانَ فِي النَّاسِ سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ فَكُلُّ
سَبْقٍ لِادَْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
لَا يَرْقَعُ النَّاسُ مَا أَوْهَتْ
أَكُفُّهُمُ عِنْدَ الدِّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
وَلَا يَضِنُّونَ عَنْ
جَارٍ
بِفَضْلِهِمُ وَلَا يَمَسُّهُمُ فِي
مَطْمَعٍ
طَبَعُ
أَعِفُّةٌ
ذُكِرَتْ
لِلنَّاسِ
عِفَّتُهُمْ لَا يَبْخَلُونَ وَلَا
يُرْدِيهُمُ
طَمَعُ
خُذْ مِنْهُمُ مَا أَتَوْا عَفْوًا إِذَا عَطَفُوا وَلَا يَكُنْ هَمُّكَ الأَمْرَ الَّذِي مَنَعُوا
فَإِنَّ فِي حَرْبِهِمْ
فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ شَرًّا يُخَاضُ إِلَيْهِ الصَّابُ وَالسَّلُعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ
رَسُولُ اللَّهِ شِيْعَتُهُمْ إِذَا تَفَرَّقَتِ
الأَهْوَاءُ
وَالشِّيَعُ
فقال التميميون عند ذلك: وربكم إنّ خطيبَ القوم أخطَبُ من خطيبنا، وإنَّ شاعرَهم أشعر من شاعرنا، وما أنتصفنا ولا قاربْنَا(*). وقال عبد الملك بن عمير: جاء حسان بن ثابت إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: أُسْمِعُكَ يا رسول الله؟ قال: "قل حقا"، قال:
شَهِدْتُ بإذنِ الله أَنَّ محمدًا رَسُولُ الذي فوق السموات مِنْ عَلُ
فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "وأنا أشهَدُ".
وَأنَّ الذي عَادَى اليَهُود ابن مَرْيم نبيٌّ أتى من عِنْدِ ذي العرش مُرْسَلُ
فقال: "وأنا أشهد".
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما لَهُ عَمَلٌ في دينه مُتَقَبَّلُ
فقال: "وأَنا أشهد".
وأن أخا الأحقاف إذ يَعْذِلُونَه يُجَاهِدُ في ذَاتِ الإله ويَعْدِلُ
فقال: "وأنا أشهد".
وأن التي بالجزع من بَطْنِ نَخْلَةٍ ومَنْ دَانَها فلّ عن الخير مَعْزِلُ
فقال: "وأنا أشهد"(*). وقال جابرَ بنَ عبد الله: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "من يحمي أعراضَ المسلم"؟ فقال عبد الله بن رَواحة: أنا، وقال كعبُ بن مالك: أنا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنك تُحسِن الشعر"، وقال حسان بن ثابت: أنا، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اهجهُم فإن روحَ القدس سَيُعِينُك"(*). وروى ابن عون، عن محمد، أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "إذا نُصِر القومُ بسلاحِهم وأنفسهم فألسنتهم أحق"، فقام رجل فقال: يا رسولََ الله، أنا. فقال: "لستَ هُناك"، فجلس، ثم قام آخر، فقال: يا رسول الله، أنا. قال ابن عون بيده ــ يعني اجلس ــ فقام حسان بن ثابت فقال: يا رسول الله، والله ما يَسُرّني به ــ يعني لسانَه ــ مِقْوَلٌ بين صنعاء وبُصرى ــ أو قال: مكة؛ شكّ ابنُ عَوْن ــ وإنك والله ما سَببتَ قومًا قط بشيء هو أشد عليهم من شيء يعرفونه، فَمُرْ بي إلى من يعرف أيامهم وبيوتاتهم حتى أضع لساني، قال: فأمر به إلى أبي بكر(*). وروى البراء بن عازب أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أُتِي فقيل: يا رسول الله، إن أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك، فقام ابن رواحة فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه فقال: "أنت الذي تقول: ثَبّت الله"؟ قال: نعم يا رسول الله، قلت:
فَثَبَّتَ الله ما آتاك من حَسَنٍ تثبيتَ موسَى ونصرًا كالذي نُصِروا
قال: "وأنت ففعل الله بك مثل ذلك"، قال: ثم وثب كعب فقال: يا رسول الله، ائذن لي فيه فقال: "أنت الذي تقول: هَمّت"؟ قال: نعم يا رسول الله، قلت:
همت سَخِينَةُ أَنْ تغالَب ربها فليغلبنَّ مغالب الغُلاّبِ
قال: "أما إن الله لم ينسَ ذلك لك" قال ثم قام حسان الحسام فقال: يا رسول الله ائذن لي ــ وأخرج لسانًا له أسودَ، فقال: يا رسول الله، لو شئت لفريت به المزاد ائذن لي فيه، فقال: "اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم، واهجهم، وجبريلُ معك"(*). وروى عوف، عن محمد، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلة وهو في سَفَر: "أين حسان بن ثابت"؟ فقال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: "خُذ"، فجعل يُنشده ويصغي إليه وهو سائق راحلته حتى كاد رأس الراحلة يمَس المُورِك حتى فرغ من نشيده، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لهذا أشد عليهم من وقع النبل"(*).
وقد قال قوم في حسّان: إنه كان مِمَّنْ خاض في الإفك على عائشة رضي الله عنها، وإنه جُلد في ذلك. وأنكر قومٌ أن يكون حسّان خاضَ في الإفْكِ أو جُلِد فيه، وروَوْا عن عائشة رضي الله عنها أنها برَّأَته من ذلك، فروى محمد بن السّائب بن برَكة، عن أمّه، أنها كانت مع عائشة في الطّواف، ومعها أُمُّ حكيم بنت خالد بن العاص، وأمّ حكيم بنت عبد الله بن أبي ربيعة، فتذاكرتا حسّان بن ثابت فابتدَرْناه بالسّبّ، فقالت عائشة رضي الله عنها: ابنَ الفريعة تسبّان؟ إني لأرْجو أَنْ يُدخله الله الجنّة بذبِّه عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بلسانه، أليس القائل:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا فَأَجَبْتُ عَنْهُ وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الجَزَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَتي وَعِرْضِي لِعِرْضِ مُحَمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
فبرأته من أن يكونَ افترى عليها. وروى يوسف بن ماهك عن أمه نحو هذا الخبر وزاد فقالتا: أليس ممَّنْ لعنه الله في الدّنيا والآخرة بما قال فيك؟ فقالت: لم يقل شيئًا، ولكنه الذي يقول:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُرَنُّ بِرِيبَةٍ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ
فَإِنْ كَانَ مَا قَدْ قِيلَ عَنِّي قُلْتُهُ فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي
وروى ابن سيرين أن عائشة كانت تأذن لحسان بن ثابت وتدعو له بالوسادة وتقول: لا تُؤذوا حسانا؛ فإنه كان ينصر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بلسانه وقال الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة النور: 11]. وقد عَمِيَ، والله قادر أن يجعل ذلك العذابَ العظيمَ عَمَاهُ.
وقد روى حسان عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أحاديثَ، وروى عنه سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وآخرون. وروى عبد الرحمن بن حسان، عن أبيه، قال: لعن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم زوارات القبور(*).
وقال محمد بن عمر: مات حسان بن ثابت في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وهو ابن عشرين ومائة سنة. وقيل: مات قبل الأربعين. وقيل: سنة أربعين. وقيل: خمسين: وقيل: أربع وخمسين، وهو قول ابن هشام، حكاه عنه ابن البرقي، وزاد: وهو ابن عشرين ومائة سنة أو نحوها. وذكر ابْنُ إسحاقَ أنّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم قدم المدينة ولحسان ستون سنة. قلت: فلعل هذا يكون على قَوْل مَنْ قال: إنه مات سنة أربعين بلغ مائة أو دونها، أو في سنة خمسين ومائة وعشرة، أو سنة أربع وخمسين مائة وأربع عشرة. والجمهور أنه عاش مائة وعشرين سنة، وقيل عاش مائة وأربع سنين، جزم به ابن أبي خيثمة عن المدائني وقال ابن سعد: عاش في الجاهلية ستين، وفي الإسلام ستين، ومات وهو ابن عشرين ومائة.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال