الدفاع عن النبي
روى عبد الرحمن بن عُويم بن ساعدة، عن أبيه قال: لما قدمنا مكّة قال لي سعد بن خيثمة، ومعن بن عديّ، وعبد الله بن جُبير: يا عُويم انطَلق بنا حتى نَأتي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؛ فنُسْلِمَ عليه فإنّا لم نره قطّ، وقد آمنّا به، فخرجتُ معهم فقيل لي هو في منزل العباس بن عبد المطّلب، فرحلنا عليه فسلّمنا وقلنا له: متى نلتقي؟ فقال العبّاس بن عبد المطّلب: إنّ معكم من قومكم مَن هو مخالف لكم، فأخفوا أمركم حتى يَنْصَدع هذا الحاجّ، ونلتقي نحن وأنتم فنوضح لكم الأمرَ فتدخلون على أمر بيّن، فوعدهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، الليلةَ التي في صُبْحها النفر الآخر أن يوافيهم أسفَلَ العقبة حيث المسجد اليومَ وأمرهم أن لا ينبّهوا نائمًا ولا ينتظروا غائبًا(*).
وروى مُعاذ بن رِفاعة بن رافع قال: فخرج القومُ تلك الليلة ليلةَ النفر الأوّل بعد هَدْأة يتسلّلون وقد سبقهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى ذلك الموضع ومعه العبّاس بن عبد المطّلب ليس معه أحد من الناس غيره، وكان يثق به في أمره كلّه، فلمّا اجتمعوا كان أوّل من تكلّم العبّاس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج، وكانت الأوس والخزرج تُدْعى الخزرج، إنّكم قد دعوتم محمّدًا إلى ما دعوتموه إليه، ومحمّد من أعزّ النّاس في عشيرته، يمنعُه واللهِ مَن كان منّا على قوله، ومن لم يكن منّا على قوله مَنَعةً للحسب والشرف، وقد أبَى محمّدًا الناسُ كلّهم غيركم، فإن كنتم أهل قوّةٍ وجَلَد، وبَصَر بالحرب، واستقلال بعداوة العرب قاطبةً فإنّها ستَرميكم عن قوس واحدة، فارتئوا رأيكم، وأتمروا أمركم، ولا تفترقوا إلا عن ملأٍ منكم واجتماع؛ فإنّ أحسنَ الحديث أصدقُه، وأُخْرى، صِفوا لي الحربَ كيف تقاتلون عدوّكم، قال فأسكت القوم، وتكلّم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: نحن والله أهل الحرب غُذينا بها، وَمُرِنّا عليها، وورثناها عن آبائنا كابرًا فكابرًا، نَرْمي بالنبل حتى تَفْنى، ثمّ نُطاعن بالرماح حتى تُكْسَرَ الرماح، ثم نمشي بالسيوف فنضارب بها، حتى يموت الأعجل منّا أو من عدوّنا، فقال العباس بن عبد المطّلب: أنتم أصحاب حرب فهل فيكم دُروعٌ؟ قالوا: نعم شاملة، وقال البراء بن مَعْرُور: قد سمعنا ما قلتَ، إنّا والله لو كان في أنفسنا غير ما ينطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصدق وبذل مُهَج أنفسنا دون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: وتلا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم القرآن، ثمّ دعاهم إلى الله، ورغّبهم في الإسلام، وذكر الذي اجتمعوا له، فأجابه البراء بن معرور بالإيمان، والتصديق فبايعهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على ذلك، والعبّاس بن عبد المطّلب آخذٌ بيد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يؤكّد له البيعةَ تلك الليلةَ على الأنصار(*).
وروى سفيان بن أبي العوجاء قال: حدّثني من حضرهم تلك الليلة والعبّاس بن عبد المطّلب آخذٌ بيد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو يقول: يا معشر الأنصار أخْفوا جَرْسَكم فإنّ علينا عيونًا، وقدّموا ذوى أسنانكم، فيكونون الذين يلون كلامنا منكم فإنّا نخاف قومكم عليكم، ثمّ إذا بايعتم، فتفرّقوا إلى مجالكم، واكتموا أمركم، فإن طويتم هذا الأمر حتى ينصدع هذا الموسم، فأنتم الرجال وأنتم لما بعد اليوم، فقال البراء بن معرور: يا أبا الفضل اسمع منّا، فسكت العبّاس فقال البراء: لك والله عندنا كتمان ما تحبّ أن نكتم، وإظهار ما تحبّ أن نُظْهِر، وبذل مُهَج أنفسنا، ورضا ربّنا عنّا، إنّا أهل حلقةٍ وافرة، وأهل منعةٍ وعزٍّ، وقد كنّا على ما كنّا عليه من عبادة حجر ونحن كذا فكيف بنا اليوم حين بَصّرَنا الله ما عَمِيَ على غيرنا وأيّدنا بمحمّد صَلَّى الله عليه وسلم؟ ابْسُطْ يدك، فكان أوّل من ضرب على يد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم البراءُ بنُ معرور، ويقال: أبو الهيثم بن التيّهان، ويقال: أسعد بن زُرارة(*).
وروى عامر الشعبي قال: انطلق النبيّ عليه السلام بالعبّاس بن عبد المطّلب، وكان العباس ذا رأي، إلى سبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة فقال العباس: ليتكلّمْ متكلّمكم، ولا يطل الخطبة؛ فإنّ عليكم من المشركين عينًا، وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم وهو أبو أُمامة أسعد بن زُرارة: يا محمّد سَلْ لربّكَ ما شئْتَ، ثمّ سَلْ لنفسك، ولأصحابك ما شئتَ، ثمّ أخبرنا ما لنا من الثّواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك، فقال: "أسْألكُم لربّي أن تعبدوه، ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأسألكم لي ولأصحابي أن تُؤوونا وتنصرُونا وتمنعونا ممّا تمنعون أنفسكم"، قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنّة"، قال: فلَكَ ذلك(*).
وروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: كان العبّاس بن عبد المطّلب يومَ حُنين إِذ انهزم الناس بين يدي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "نادِ الناسَ"، قال: وكان رجلًا صَيّتًا، "نادِ يا مَعْشَرَ المهاجرين يا معشر الأنصار"، فجعل ينادي الأنصار فَخِذًا فَخِذًا فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "نادِ يا أصحاب السّمُرة" يعني شجرة الرضوان التي بايعوا تحتها، "يا أصحاب سورة البقرة" فما زال يُنادي حتى أقبل الناس عُنُقًا واحدًا(*).
الجهاد
روى كثير بن عبّاس بن عبد المطّلب عن أبيه قال: شهدتُ مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يومَ حُنين فلزمتُه أنا وأبو سُفْيان بن الحارث بن عبد المطّلب فلم نفارقه، والنبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، على بغلة له بيضاء أهداها له فَرْوَةُ بن نُفاثة الجُذاميّ. فلمّا التقى المسلمون والكُفّار ولّى المسلمون مُدْبِرين وطفق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يَرْكُضُ بغلتَه نحو الكُفّار، قال عبّاس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أكُفّها إرادة أن لا تُسْرِعَ، وأبو سفيان آخِذٌ بركاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عبّاس نادِ يا أصحاب السَّمُرة". قال عباس: وكنتُ رجلًا صَيّتًا فقلتُ بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لَكَأنّ عَطْفَتَهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادهم فقالوا: يا لبّيْكَ يا لبّيْك. قال: فاقتتلوا هم والكُفّار والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثمّ قَصُرَت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث. قال: فنظر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو على بغلته وهو كالمتطاول عليها إلى قتالهم، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: هذا حين حَمِيَ الوطيسُ، قال: ثمّ أخذ حَصَياتٍ فرمى بِهنّ وجوهَ الكُفّار ثمّ قال: "انهزموا وربِّ محمّد!" قال: فذهبتُ أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بحصياته ثمّ ركب فإذا حَدّهم كَليلٌ وأمرهم مُدْبِر حتى هزمهم الله(*).
العبادة
كان رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم يُعَظّمه ويكرمه بعد إِسلامه، وكان وصولًا لأَرحام قريش، محسنًا إِليهم، ذا رَأْيٍ سديد وعقل غزير، وقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم له: "هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا، وَأَوْصَلُهَا"، وَقَالَ: "هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي".