أبو هريرة الدوسي
صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأَكثرهم حديثًا عنه، اسمه عبد الرحمن بن صخر، وإِنما هو مشهور بكنيته، وورد عنه أنه قال: كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صَخْر، فسماني رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وكُنيت أبا هريرة؛ لأني وجدت هِرَّةً فحملتها في كمِّي، فقيل لي أبو هريرة، وفي صحيح البُخَارِيِّ أنّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال له: "يَا أَبَا هِرٍّ".
وكان أبو هريرة يقول: نشأتُ يتيمًا وهاجرتُ مسكينًا وكنتُ أجيرًا لبُسرَة بنت غَزوان بطعام بطني وعُقْبَةِ رِجْلي، فكنتُ أخدم إذا نزلوا وأحدوا إذا ركبوا فزوّجنيها الله فالحمد لله الذي جعل الدين قِوامًا وجعل أبا هريرة إمامًا.
أَسلم ــ رضي الله عنه ــ عام خيبر، وشهدها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثم لزمه وواظب عليه رغبة في العلم فدعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وروي عنه أنّه قال: والله لا يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلاّ أحبّني، قال قلتُ: وما يُعْلِمُك ذاك؟ قال فقال: إني كنتُ أدعو أمّي إلى الإسلام فَتأْبَى عَلَيَّ، قال فدعوتُها ذاتَ يوم إلى الإسلام فأسمعتني في رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما أكرَهُ فجئتُ إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأنا أبكي فقلتُ: يا رسول الله إني كنتُ أدعو أمَّ أَبِي هريرة إلى الإسلام فتأبَى عليّ وإني دعوتُها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره فادْعُ الله أن يَهْدِيَ أمّ أبي هريرة إلى الإسلام، ففعل فجئتُ فإذا البابُ مُجافٌ وسمعتُ خَضْخَضَة الماء فلبستْ درعها وعَجلَتْ عن خمارها ثمّ قالت: ادخل يا أبا هريرة فدخلتُ فقالت: أشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله، فجئتُ أسعى إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبكي من الفرح كما بكيتُ من الحزن، فقلتُ: أبْشِرْ يا رسول الله فقد أجاب الله دَعْوَتَك، قد هدى الله أمّ أبي هريرة إلى الإسلام، ثمّ قلتُ: يا رسول الله ادعُ الله أن يُحَبّبَني وأمّي إلى المؤمنين والمؤمنات وإلى كلّ مؤمن ومؤمنة، فقال: "اللهمّ حَبّبْ عُبيدك هذا وأمّه إلى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة"، فليس يسمع بي مؤمن ولا مؤمنة إلاّ أحبّني.
يقول أبو هريرة: خرجتُ يومًا من بيتي إلى المسجد لم يُخْرِجْني إلاّ الجوع، فوجدتُ نَفَرًا من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا هريرة ما أخْرَجَك هذه الساعة؟ فقلتُ: ما أخرجني إلاّ الجوع، فقالوا: نحن والله ما أخرجنا إلاّ الجوع، فقُمنا فدخلنا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال:"ما جاء بكم هذه الساعة؟" فقلنا: يا رسول الله جاء بنا الجوع، قال فدعا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بطَبَقٍ فيه تمر فأعطى كلّ رجل منّا تمرتين فقال: "كلوا هاتين التمرتين واشربوا عليهما من الماء فإنّهما سَتَجْزِيانكم يومكم هذا"، قال أبو هريرة: فأكلتُ تمرةً وجعلتُ تمرة في حُجْزَتي، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا هريرة لِمَ رَفَعْتَ هذه التمرة؟" فقلتُ: رفعتُها لأمّي، فقال: "كُلْها فإنّا سَنُعْطيك لها تمرتين"، فأكلتها فأعطاني لها تمرتين.
مناقبه:
وجاء في ورعه ــ رضي الله عنه ــ أنه كان لا يحلي ابنته الذهب وكان يقول لابنته: يَا بُنَيَّة، لا أحَلِّيك الذهب، إني أخشى عليك اللهب، ومن أقواله ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: لا تكونن أميرًا ولا جابيًا ولا عريفًا ولا نقيبًا.
وعن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صَلَّى الله عليه وسلم بثلاث لستُ بتاركهن حتى ألقاه: الوترَ قبل النوم، وصيام ثلاث من الشهر، والغسل يوم الجمعة، وقام ذات يوم على منبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مقاما دون مقام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعَتَبَةٍ، ثم قال: الحمد لله الذي هَدَى أبا هريرة للإسلام، الحمد لله الذي عَلَّمَ أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي مَنَّ على أبي هريرة بمحمد صَلَّى الله عليه وسلم، الحمد لله الذي أطعمني الخَمِيرَ وألبسني الحَبِيرَ، الحمد لله الذي زوَّجني ابنَةَ غَزوان بعدما كنت أجيرًا لها بطعام بطني وعُقبة رِجْلي، أَرْحَلَتني فَأَرْحَلتُها كما أرحلتني.
وكان أبو هريرة ــ رضي الله عنه ــ من أهل الصفة، قال- رضي الله عنه- : إن كان ليُغْشَى عَلَيَّ فيما بين حجرة عائشة وأم سلمة من الجوع، فيقال: البائس مجنون وما بي إلا الجوع، وعن أبي هريرة قال: ما كان لنا طعام على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلاّ الأسْوَدَان التمرُ والماءُ، وعنه أنه قال: إن كنت لأتبع الرجلَ أسأله عن الآية من كتاب الله لأنا أعلم بها منه ومن عشيرته، وما أتبَعُه إلا ليُطعِمني القبضةَ من التمر أو السُّفَّةَ من السَّوِيق أو الدّقيق أَسُدُّ بها جوعي، قال: فأقبلت أمشي مع عُمر بن الخطاب ذات يوم أُحدّثه حتى بلغ بابه، قال: فأسند ظهره إلى الباب واستقبلني بوجهه، وقال بيده على الباب كلما فرغت من حديث حدثته بآخر، حتى إذَا لَمْ أَرَ شيئًا انطلقتُ، فلما كان بعد ذلك لقيني فقال: أبا هِرّ، أما إنه لو كان في البيت شيء لأطعمناك. وروى أَبو رافع أن أبا هريرة قال: ما أحد من الناس يهدي إليَّ هدية إلا قبلتها فأما أن أسأل فلم أكن لأسأل، وعنه ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: لا خير في فضول الكلام.
وقد جاء في زهده ــ رضي الله عنه ــ أنه قال: ما أحِبّ أن لي سبعين راحلة وأنا بالمدينة لا أشهد الجمعة، ولأن أصلي بالحرم أحب إليّ من أن أَتَخَطَّى، وروي أن مروان بعث إلى أبي هريرة بمائة دينار فلما كان من الغد قال لخادمه اذهب فقل له إني إنما أخطأت ليس إليك بَعَثَ بها، فإنما أراد مروان أن يَعلَم أيمسكها أبو هريرة أو يُفَرِّقها، فقال ما عندي منها شيء ولكن إذا خَرج عطائي فاقبضُوها –أنفقها كلها في سبيل الله-.
وعن أبي هريرة أنه قال: لولا الحج والعمرة والغزوُ لأحببت أن أموت وأنا عبد مملوك، لأن المملوك إذا أدى فريضة الله عليه ونصح لمواليه كان له أجران، وإنّ للحُرِّ أجرًا واحدًا، قال أبو أيوب: كان لأبي هريرة مسجد في مخدعه، ومسجد في بيته، ومسجد في حجرته، ومسجد على باب دارِهِ، إِذَا خَرَج صلى فيها جميعا، وإذا دَخل صلى فيها جميعًا، وكان لأبي هريرة مَكّوك يسبّح فيه بالنوى.
وقد صحب أبو هريرة ــ رضي الله عنه ــ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم أربع سنين، وكان ــ رضي الله عنه ــ عاملًا علي البحرين في عهد عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ــ
وفاته:
وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن أنّه دخل على أبي هريرة وهو مريض فقال: اللهمّ اشْفِ أبا هريرة، فقال أبو هريرة: اللهمّ لا تُرْجِعْني، قال: فأعادها مرّتين، فقال له أبو هريرة: يا أبا سلمة إن استطعتَ أن تموت فمُتْ، فوالذي نفس أبي هريرة بيده لَيُوشِكَنّ أن يأتي على العلماء زمنٌ يكون الموت أحبّ إلى أحدهم من الذهب الأحمر، أو ليوشكنّ أن يأتي على الناس زمانٌ يأتي الرجل قبرَ المسلم فيقول: وددتُ أني صاحب هذا القبر، وكانت إذا مرّت به جنازة قال: امضي فأنا على الأَثر، ولما حضرته الوفاةُ قال: لا تضربوا عليّ فُسطاطًا ولا تتبعوني بنار وأسرعوا بي إسراعًا فإني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إذا وُضِعَ الرجل الصالح أو المؤمن على سريره قال: قدّموني، وإذا وُضِعَ الكافر أو الفاجر على سريره قال: يا ويلتي أين تذهبون بي!"، ودخل عليه مروان في شَكْوِاه الذي مات فيه فقال: شفاك الله يا أبا هريرة! فقال أبو هريرة: اللهمّ إني أحبّ لقاءك فأحِبّ لقائي، فما بلغ مروان أصحاب القطا حتى مات.
وبكى أبو هريرة في مرضه فقيل له: ما يُبْكيك يا أبا هريرة؟ قال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ولكنّي أبكي لبُعْد سفري وقلّة زَادي، أصْبَحْتُ في صَعُودٍ مَهْبِطُهُ على جَنّةٍ ونارٍ فلا أدري إلى أيّهما يُسْلَكُ بي.
صلّى عليه الوليد بن عتبة وهو أمير المدينة ومروان بن الحَكَم وأبو سعيد الخُدْري وابن عمر وكان بن عمر يمشي أمام الجنازة ويُكْثِرُ الترحّم عليه ويقول: كان مِمّن يحفظ حديث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على المسلمين.
توفّي ــ رضي الله عنه ــ سنة تسعٍ وخمسين في آخر خلافة معاوية بن أبي سفيان، وكانت وفاته ــ رضي الله عنه ــ بقَصْره بالعقيق، فحُمِل إلى المدينة، وكان له يومَ توفّي ثمان وسبعون سنة، وهو الذي صلّى على عائشة زوج النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة ثمانٍ وخمسين، وهو الذي صلّى على أمّ سَلَمة زوج النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم في شوّال سنة تسعٍ وخمسين، ثم كانت وفاته هو رضي الله عنه في نفس السنة.