تسجيل الدخول


عباس بن عبد المطلب

العبَّاس، ويقال: عباس بن عبد المطلب بن هاشم القرشيّ الهاشميّ، عَمّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
أمُّه امرأةٌ من النمر بن قاسط وهى نَتْلَة‏، وقيل نُتَيْلة بنت خباب بن كُليب، وقيل: ابن حبيب، وقيل: نُتَيلة بنت جنَاب بن كُليب، وقيل: ابن كلب، وَلَدَتْ لعبد المطلّب: العبّاس فأنجبت به، قال: وهي أول عربية كست البيت الحرامَ الحرير والدّيباج وأصنافَ الكُسوة، وذلك أنَّ العبّاس ضلَّ وهو صبي؛ فنذرَتْ إنْ وجدته أنْ تكسوَ البيت الحرام، فوجدته ففعلت ما نذرت، وروى شُعْبة ــ مولى ابن عبّاس ــ قال: سمعتُ ابن عبّاس يقول: كان العبّاس معتدل القناة، وكان يُخْبِرنا عن عبد المطّلب أَنـّه مات وهو أعدل قناة منه، وروى أيضًا شُعْبة مولى ابن عبّاس قال: سمعتُ عبد الله بن عبّاس يقول: وُلد أبي العبّاس بن عبد المطّلب قبل قدوم أصحاب الفيل بثلاث سنين، وكان أسنّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بثلاث سنين.
كان للعبّاس بن عبد المطّلب من الولد: الفضل وكان أكبر ولده وبه كان يُكْنى، وكان جميلًا، وأردفه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم، في حجّته ومات بالشّأم في طاعون عَمَوَاسَ وليس له عقب، وعبد الله بن العبّاس وهو الحَبْر دعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومات بالطائف وله عقب، وعُبيد الله بن العبّاس كان جوادًا سخيًّا ذا مالٍ مات بالمدينة وله عقب، وعبد الرحمن بن العبّاس مات بالشأم وليس له عقب، وقُثَمُ بن العبّاس وكان يُشَبّهُ بالنبيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، وكان خرج إلى خراسان مجاهدًا، فمات بسمرقند وليس له عقب، ومَعْبَد بن العبّاس قُتِل بإفْريقيّة شهيدًا وله عقب، وأمّ حبيبة بنت العبّاس، وأمّهم جميعًا أمّ الفضل وهى لُبابة الكبرى بنت الحارث بن حَزْن الهلالية، وفي ولد أمّ الفضل هؤلاء من العبّاس يقول عبد الله بن يزيد الهلالي:
ما وَلَدَتْ
نجيبَةٌ
من فَحْلِ بجَبَلٍ
تَعْلَمُهُ
أوْ
سَهْلِ
كَسِتَّةٍ
من بَطْنِ
أُم الفَضْلِ أكْرِمْ
بها من كَهْلَةٍ
وكَهْلِ
وروى هشام بن محمّد بن السائب الكلبي، عن أبيه قال: كان يقال: ما رأينا بني أبٍ وأمٍّ قطّ أبعدَ قبورًا من بني العبّاس بن عبد المطّلب من أمّ الفضل، وكان للعبّاس أيضًا من الولد من غير أمّ الفضل: كثير بن العباس، وكان فقيهًا محدّثًا، وتمَام بن العبّاس، وكان من أشدّ أهل زمانه، وصَفِيّة، وأميمة وأمهم أمّ ولد، والحارث بن العبّاس وأمّه حُجيلة بنت جُنْدَب بن الربيع، وللحارث عقب منهم السّريّ بن عبد الله والي اليمامة.
وقال خالد بن القاسم: ورأيتُ عليّ بن عبد الله بن عبّاس معتدل القناة، يعني: طويلًا حسنَ انتصاب القامة على كِبَرٍ ليس فيه حَناء، وقال الحسن بن عثمان: كان العبّاسُ جميلًا أبيضَ بَضًّا ذا ضفيرتين، معتدلَ القامة، وقيل: بل كان طوالًا، وروى حبيب بن أبي ثابت، قال: كان العبّاس بن عبد المطّلب أقرب الناس شَحْمةَ أذنٍ إلى السماء، وقد أَضَرّ العباسُ في آخر عمره.
قال أبو عمر: ‏أسلم العبّاس قبل فَتْح خَيْبَر، وكان يكتم إسلامه، يَسُرُّه ما يفتح الله عزّ وجلّ على المسلمين، ثم أظهر إسلامَه يوم فتح مكَّة، وشهد حُنينًا والطَّائف وتَبُوك، وقيل: إن إسلامَه قبل بدرٍ، وكان رضي الله عنه يكتُب بأَخبارِ المشركين إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان المسلمون يتقَوُّوْن به بمكَّة، وروى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: قد كان من كان منّا بمكّة من بني هاشم قد أسلموا فكانوا يكتمون إسلامهم ويخافون يُظْهِرونَ ذلك فَرَقًا من أن يَثِبَ عليهم أبو لَهَبٍ وقريش فيُوثَقُوا كما أوثَقَتْ بنو مخزوم سلمةَ بن هشام، وعبّاس بن أبي ربيعة وغيرَهما فلذلك قال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم لأصحابه يوم بَدر: "مَن لقي منكم العبّاس، وطالبًا، وعقيلًا، ونوفلًا، وأبا سفيان فلا تقتلوهم فإنّهم أُخرِجوا مُكْرَهين"(*)، وروى عِكْرِمةُ قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: كنتُ غُلامًا للعبّاس بن عبد المطّلب، وكان الإسلامُ قد دَخلَنَا أهْلَ البيْت فأسلم العبّاس، وأسْلَمَتْ أمّ الفضل، وأسلمتُ، فكان العبّاس َيهاب قومَه ويكره خلافَهم فكان يكتم إسلامَه، وكان ذا مالٍ متفرّق في قومه فخرج معهم إلى بدر وهو على ذلك، وروى ابن عبّاس أنّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومَ بدْر: "إني عرفْتُ أنّ رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أُخْرِجوا كُرْهًا لا حاجةَ لهم بقتالنا، فمَن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، مَن لقي العبّاس بن عبد المطّلب عمّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فلا يقتله فإنّمَا أُخْرِجَ مستكرهًا"، قال: فقال أبو حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة: نقتل آباءنَا وأبناءنَا وإخواننا وعشائرنا ونترك العبّاس؟ والله لئن لقيتُه لألحمنّه السيف، قال: فبلغت مقالتُه رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال لعمر بن الخطّاب: "يا أبا حفص، قال عمر: والله إنّه لأوّل يومٍ كناني فيه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بأبي حفص،أيُضْرَب وجهُ عمّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالسيف؟ فقال عمر: دَعْني وَلأضْرِبْ عُنُقَ أبي حُذيفة بالسيف، فوالله لقد نافق، قال: وندم أبو حُذيفة على مقالته، فكان يقول: والله ما أنا بآمنٍ من تلك الكلمة التي قلت يومئذ، ولا أزال منها خائفًا إلا أن يكفّرها الله عزّ وجلّ عنّي بالشهادة، فقُتل يوم اليمامة شَهيدًا(*) وروي أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي حذيفة: "أنتَ القائل كذا وكذا؟" قال: نعم يا رسول الله: شقّ عليّ إذا رأيتُ أبي وعمىّ وأخي مُقتّلين فقلتُ الذي قلتُ، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إن أباك وعمّك وأخاك خرجوا جادّين في قِتالنا طائعين غير مُكْرَهين، وإنّ هؤلاء أُخرجُوا مُكْرَهين غير طائعين لقتالنا"(*).
أَراد العباس الهجرة إِلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مُقَامُكَ بِمَكَةَ خَيْرٌ"، فلذلك قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم بدر: "مَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسَ فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ أُخْرِجَ كَرْهًا"، وقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "أَنْتَ آخِرُ الْمُهَاجِرِيْنَ كَمَا أَنَّنِي آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ"، ثم هاجر إِلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وشهد معه فتح مكة، وانقطعت الهجرة، وروى كثير بن عبّاس بن عبد المطّلب، عن أبيه قال: شهدتُ مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يومَ حُنين فلزمتُه أنا وأبو سُفْيان بن الحارث بن عبد المطّلب فلم نفارقه، والنبيّ صَلَّى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فَرْوَةُ بن نُفاثة الجُذاميّ، فلمّا التقى المسلمون والكُفّار ولّى المسلمون مُدْبِرين وطفق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بغلتَه نحو الكُفّار، قال عبّاس: وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أكُفّها إرادة أن لا تُسْرِعَ، وأبو سفيان آخِذٌ بركاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عبّاس نادِ: يا أصحاب السَّمُرة"، قال عباس: وكنتُ رجلًا صَيّتًا فقلتُ بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لَكَأنّ عَطْفَتَهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادهم فقالوا: يا لبّيْكَ يا لبّيْك، قال: فاقتتلوا هم والكُفّار، والدعوة في الأنصار يقولون: يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار، ثمّ قَصُرَت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج يا بني الحارث، قال: فنظر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو على بغلته وهو كالمتطاول عليها إلى قتالهم، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "هذا حين حَمِيَ الوطيسُ"، قال: ثمّ أخذ حَصَياتٍ فرمى بِهنّ وجوهَ الكُفّار ثمّ قال: "انهزموا وربِّ محمّد!" قال: فذهبتُ أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بحصياته، ثمّ ركب فإذا حَدُّهم كَليلٌ، وأمرهم مُدْبِر حتى هزمهم الله(*)، وروى قتادة قال: كان العبّاس بن عبد المطّلب يومَ حُنين إِذ انهزم الناس بين يدي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "نادِ الناسَ"، قال: وكان رجلًا صَيّتًا، "نادِ يا مَعْشَرَ المهاجرين، يا معشر الأنصار"، فجعل ينادي الأنصار فَخِذًا فَخِذًا فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "نادِ يا أصحاب السّمُرة" يعني: شجرة الرضوان التي بايعوا تحتها، "يا أصحاب سورة البقرة" فما زال يُنادي حتى أقبل الناس عُنُقًا واحدًا(*)، وانهزم الناسُ عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم حُنين غيره وغير عمر، وعليّ، وأبي سفيان بن الحارث، وقد قيل‏‏ غير سبعة من أهل بيته، وذلك مذكور في شعر العبّاس الذي يقول فيه:
أَلأَهَلْ أَتَى عِرْسِي مِكَرِّي وَمَقْدِمِي بِوَادِي
حُنَينٍ وِالأَسِنَّةُ تُشْرَعُ
وَقُولِي إِذَا مَا النَّفْسُ جَاشَتْ لَهَا قدى وَهَامَ تَدَهْدَى بِالسُّيُوفِ وأَدْرُعُ
وَكَيفَ رَدَدْتُ
الخَيْلَ
وَهْيَ
مُغِيَرَةٌ يِزَوْرَاءَ تُعْطِي فِي اليَدَينِ وَتَمنَعُ
وهو شعر مذكور في "السِّيَر" لابن إسحاق، وفيه:
نَصَرْنَا رَسُولَ اللَّهِ فِي الْحَربِ سَبْعَةً وَقَدْ فَرَّ مَنْ قَدْ فَرَّ عَنْهُ وَأَقْشع
وَثَامِنُنَا
لاَقَى
الحِمَامَ
بِسَيْفِهِ بِمَا
مَسَّهُ
فِي اللَّهِ
لَا يَتَوَجَّعُ
وقال ابن إسحاق: السّبعة: علي، والعبّاس، والفضل بن العبّاس، وأبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، وربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، والثّامن أيمن بن عبيد، وجعل غير ابن إِسحاق في موضع أبي سفيان عمر بن الخطّاب، والصَّحيح أن أبا سفيان بن الحارث كان يومئذٍ معه لم يُخْتَلف فيه، واختلف في عمر‏.
كان العباس في الجاهليّة رئيسًا في قُريش، وإليه كانت عمارةُ المسجد الحرام والسّقاية في الجاهلية، فالّسقاية معروفة، وأما العمارة فإنه كان لا يَدعُ أحدًا يسبّ في المسجد الحرام، ولا يقول فيه هُجْرًا، يحملهم على عمارته في الخير، لا يستطيعون لذلك امتناعًا؛ لأنه كان مِلأُ قريش قد اجتمعوا وتعاقَدُوا على ذلك، فكانوا له أعوانًا عليه، وسلموا ذلك إليه، وكان العبّاس أنصر النّاس لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد أبي طالب، وحضر مع النّبي صَلَّى الله عليه وسلم العقبةَ يَشْتَرِط له على الأنصار، وكان على دِين قومه يومئذٍ، وأُخرج إلى بَدْرٍ مُكْرَهًا فيما زعم قوم، وفَدّى يومئذ عقيلًا ونوفلًا ابني أخويه أبي طالب، والحارث من ماله، وكان رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم يُعَظّمه ويكرمه بعد إِسلامه، وكان وصولًا لأَرحام قريش، محسنًا إِليهم، ذا رَأْيٍ سديد، وعقل غزير، وقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم له: "هَذَا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا، وَأَوْصَلُهَا"، وَقَالَ: "هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي"، أَخبرنا إِبراهيم بن محمد وإِسماعيل بن علي وغيرهما قالوا بإِسنادهم إِلى محمد بن عيسى السلمي: حدثنا قتيبة، حدثنا أَبو عوانة، عن يزيد بن أَبي زياد، عن عبد اللّه بن الحارث قال: حدثني عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب: أَن العباس دخل على النبي صَلَّى الله عليه وسلم مُغْضَبًا، وأَنا عنده، فقال: "ما أَغضبك؟" فقال: يا رسول الله، مالنا وَلقُرَيش؟ إِذا تلاقَوا بينهم تلاقوا بوجوه مُبْشَرَة وإِذا لَقُونا لقونا بغير ذلك، قال: فَغَضِب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى احمرّ وجهه، ثم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَدْخُلُ قَلْبَ رَجُلٍ الْإِيْمَانُ حَتَّى يُحِبَّكُمْ لله وَلِرَسُوْلِهِ"، ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا الْنَّاسُ، مَنْ آذَى عَمِّي فَقَدْ آذَانِي؛ فَإِنَّمَا عَمُّ الْرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيْهِ" (*)أخرجه الترمذي في السنن 5/ 610 كتاب (50) باب (29) حديث رقم 37580 وقال حديث حسن صحيح وأحمد في المسند 4/ 164.، وروى عبد اللّه بن عُمَر قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله اتَّخَذَنِي خَلِيْلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَمَنْزِلِي وَمَنْزِلُ إِبْرَاهِيمَ تُجَاهَيْنِ فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْزِلُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بَيْنَنَا مُؤمِن بَيْنَ خِلَيْلَيْنِ"(*) أخرجه ابن ماجة في السنن 1/ 50 المقدمة رقم 141 والطبراني في الكبير 8/ 237، الحاكم في المستدرك 2/ 550.، وكان الصحابة يعرفون للعباس فضله، ويقدمونه ويشاورونه ويأْخذون برأْيه، وكفاه شرفًا، وفضلًا أَنه كان يُعَزَّى بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم لما مات، ولم يَخْلُفْ من عَصَبَاتِه أَقربَ منه، وروى عثمان بن محمد الأخنسي وإسماعيل بن محمّد بن سعد بن أبي وقّاص قالا: ما أدركنا أحدًا من الناس إلا وهو يقدّم العبّاس بن عبد المطلّبِ في العقل في الجاهليّة والإسلام، وروى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي لَيْلى، عن جدّه قال: سمعتُ عليًّا بالكوفة يقول يا ليتني كنتُ أطَعْتُ عبّاسًا، يا ليتني كنْتُ أطَعْتُ عبّاسًا، قال: قال العبّاس اذهب بنا إلى رسول الله، فإن كان هذا الأمر فينا وإلّا أوصى بنا الناسَ، قال فأتوا النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فسمعوه يقول: "لعن الله اليهود اتّخَذوا قبور أنبيائهم مساجد"، قال: فخرجوا من عنده ولم يقولوا له شيئًا(*)، وروى أنس بن مالك أنـّهم كانوا إذا قُحِطوا على عهد عمر خرج بالعبّاس فاستسقى به وقال: اللهم إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا عليه السلام إذا قُحِطْنا فتسقينا، وإنـّا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا عليه السلام فاسقنا، وروى ابن أبي نَجيح قال: فرض عمر بن الخطّاب للعبّاس بن عبد المطّلب في الديوان سبعة آلاف، قال محمد بن عمر: وقد روى بعضهم أنـّه فرض له خمسة آلاف كفرائض أهل بدر لقرابته برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فألحقه بفرائض أهل بدر ولم يُفضّل أحدًا على أهل بدر إلا أزواج النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وروى الأحنف بن قيس قال: سمعتُ عمر بن الخطّاب يقول: إنّ قريشًا رؤوس الناس لا يدخل أحد منهم في باب إلّا دخل معه فيه، قال يزيد بن هارون: ناس، وقال عفّان وسليمان: طائفة من الناس، فلم أدْرِ ما تأويل قوله في ذا حتى طُعنَ فلمّا احتُضِرَ أمَرَ صُهَيْبًا أن يصلّي بالنّاس ثلاثة أيّام وأمره أن يجعل للناس طعامًا فليطعموا، وقال عفّان وسليمان: حتى يستخلفوا إنسانًا، فلمّا رجعوا من الجنازة جيء بالطّعام، ووُضعت الموائد، فأمسك الناس عنها قال يزيد: للحُزْن الذي هم فيه، فقال العبّاس بن عبد المطّلب: أيّها الناس إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قد مات فأكلنا بعده وشربنا، ومات أبو بكر فأكلنا بعده وشربنا، قال عفّان وسليمان: وإنـّه لا بُدّ من الأجَل فكُلوا من هذا الطعام، ثمّ مدّ العبّاس يده فأكل، ومدّ النّاس أيديَهم فأكلوا، فعرفتُ قولَ عمرَ: إنّهم رؤوس الناس، وروى داود بن أبي هند، عن عامر أنّ العبّاس تَحَفّى عمرَ في بعض الأمر فقال له: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ أن لو جاءك عمّ موسى مُسْلِِمًا ما كُنْتَ صانعًا به؟ قال: كنتُ والله مُحْسنًا إليه، قال: فأنا عمّ محمّد النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال: وما رَابَكَ يا أبا الفضل؟ فوالله لأبوك أحبّ إليّ من أبي، قال: آلله؟ قال: آلله، لأنّـّي كنتُ أعلم أنـّه أحب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من أبي فأنا أُوثرُ حُبّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، على حُبّي، وروى الحسن قال: بَقيَ في بيت مال عمر شيء بعدما قُسِمَ بين الناس فقال العبّاس لعمر وللناس: أرأيتم لو كان فيكم عمّ موسى أكنتم تُكرِمونه؟ قالوا: نعم، قال: فأنا أحقّ به، أنا عمّ نبيّكم صَلَّى الله عليه وسلم، فكلّم عمرُ الناسَ فأعطوه تلك البقيّة التي بقيت.
وروى عبد الرحمن بن عُويم بن ساعدة، عن أبيه قال: لما قدمنا مكّة قال لي سعد بن خيثمة، ومعن بن عديّ، وعبد الله بن جُبير: يا عُويم انطَلق بنا حتى نَأتي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فنُسْلِمَ عليه فإنّا لم نره قطّ وقد آمنّا به، فخرجتُ معهم فقيل لي هو في منزل العباس بن عبد المطّلب فرحلنا عليه فسلّمنا وقلنا له: متى نلتقي؟ فقال العبّاس بن عبد المطّلب: إنّ معكم من قومكم مَن هو مخالف لكم فأخفوا أمركم حتى يَنْصَدع هذا الحاجّ ونلتقي نحن وأنتم فنوضح لكم الأمرَ فتدخلون على أمر بيّن، فوعدهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، الليلةَ التي في صُبْحها النفر الآخر أن يوافيهم أسفَلَ العقبة حيث المسجد اليومَ وأمرهم أن لا ينبّهوا نائمًا ولا ينتظروا غائبًا(*)، وروى مُعاذ بن رِفاعة بن رافع قال: فخرج القوم تلك الليلة ليلةَ النفر الأوّل بعد هَدْأة يتسلّلون وقد سبقهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى ذلك الموضع ومعه العبّاس بن عبد المطّلب ليس معه أحد من الناس غيره، وكان يثق به في أمره كلّه، فلمّا اجتمعوا كان أوّل من تكلّم العبّاس بن عبد المطلب فقال: يا معشر الخزرج ــ وكانت الأوس والخزرج تُدْعى الخزرج ــ إنّكم قد دعوتم محمّدًا إلى ما دعوتموه إليه ومحمّد من أعزّ النّاس في عشيرته يمنعُه واللهِ مَن كان منّا على قوله، ومن لم يكن منّا على قوله مَنَعةً للحسب والشرف، وقد أبَى محمّدٌ الناسَ كلّهم غيركم فإن كنتم أهل قوّةٍ وجَلَد وبَصَر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبةً فإنّها ستَرميكم عن قوس واحدة فارتئوا رأيكم، وأتمروا أمركم، ولا تفترقوا إلا عن ملأٍ منكم واجتماع فإنّ أحسنَ الحديث أصدقُه، وفي رواية: صِفوا لي الحربَ كيف تقاتلون عدوّكم؟ قال: فأسكت القوم وتكلّم عبد الله بن عمرو بن حرام فقال: نحن والله أهل الحرب غُذينا بها وَمُرِنّا عليها وورثناها عن آبائنا كابرًا فكابرًا، نَرْمي بالنبل حتى تَفْنى، ثمّ نُطاعن بالرماح حتى تُكْسَرَ الرماح، ثم نمشي بالسيوف فنضارب بها حتى يموت الأعجل منّا أو من عدوّنا، فقال العباس بن عبد المطّلب: أنتم أصحاب حرب، فهل فيكم دُروعٌ؟ قالوا: نعم شاملة، وقال البراء بن مَعْرُور: قد سمعنا ما قلتَ، إنّا والله لو كان في أنفسنا غير ما ينطق به لقلناه، ولكنّا نريد الوفاء والصدق وبذل مُهَج أنفسنا دون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: وتلا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، القرآن، ثمّ دعاهم إلى الله ورغّبهم في الإسلام وذكر الذي اجتمعوا له فأجابه البراء بن معرور بالإيمان والتصديق فبايعهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على ذلك، والعبّاس بن عبد المطّلب آخذٌ بيد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يؤكّد له البيعةَ تلك الليلةَ على الأنصار(*)، وروى سفيان بن أبي العوجاء قال: حدّثني من حضرهم تلك الليلة والعبّاس بن عبد المطّلب آخذٌ بيد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو يقول: يا معشر الأنصار أخْفوا جَرْسَكم فإنّ علينا عيونًا، وقدّموا ذوى أسنانكم فيكونون الذين يلون كلامنا منكم فإنّا نخاف قومكم عليكم، ثمّ إذا بايعتم فتفرّقوا إلى مجالكم واكتموا أمركم فإن طويتم هذا الأمر حتى ينصدع هذا الموسم فأنتم الرجال وأنتم لما بعد اليوم، فقال البراء بن معرور: يا أبا الفضل اسمع منّا، فسكت العبّاس فقال البراء: لك والله عندنا كتمان ما تحبّ أن نكتم، وإظهار ما تحبّ أن نُظْهِر، وبذل مُهَج أنفسنا، ورضا ربّنا عنّا، إنّا أهل حلقةٍ وافرة، وأهل منعةٍ وعزٍّ، وقد كنّا على ما كنّا عليه من عبادة حجر، ونحن كذا فكيف بنا اليوم حين بَصّرَنا الله ما عَمِيَ على غيرنا وأيّدنا بمحمّد صَلَّى الله عليه وسلم؟ ابْسُطْ يدك، فكان أوّل من ضرب على يد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم البراء بن معرور، ويقال: أبو الهيثم بن التيّهان، ويقال: أسعد بن زُرارة(*)، وروى سليمان بن سُحيم قال: تفاخرت الأوس والخزرج فيمن ضرب على يد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلةَ العقبة أوّل الناس فقالوا: لا أحَدَ أعلم به من العبّاس بن عبد المطّلب، فسألوا العبّاس فقال: ما أحد أعلم بهذا مني، أوّل من ضرب على يد النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم من تلك الليلة: أسعد بن زُرارة، ثم البراء بن معرور، ثمّ أُسَيْد بن الحُضير(*)، وروى عامر الشعبي قال: انطلق النبيّ عليه السلام، بالعبّاس بن عبد المطّلب ــ وكان العباس ذا رأي ــ إلى سبعين من الأنصار عند العقبة تحت الشجرة فقال العباس: ليتكلّمْ متكلّمكم ولا يطل الخطبة؛ فإنّ عليكم من المشركين عينًا وإن يعلموا بكم يفضحوكم، فقال قائلهم وهو أبو أُمامة أسعد بن زُرارة: يا محمّد سَلْ لربّكَ ما شئْتَ ثمّ سَلْ لنفسك ولأصحابك ما شئتَ ثمّ أخبرنا ما لنا من الثّواب على الله وعليكم إذا فعلنا ذلك، فقال: "أسْألكُم لربّي أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا، وأسألكم لي ولأصحابي أن تُؤوونا وتنصرُونا وتمنعونا ممّا تمنعون أنفسكم"، قال: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: "الجنّة"، قال: فلَكَ ذلك(*)، وكان الشّعْبيّ إذا حدّث هذا الحديث يقول ما سمع الشِّيبُ والشّبّان بخطبة أكثر ولا أبلغ منها، وروى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب أنّ قريشًا لما تفرّقوا إلى بدر فكانوا بمَرّ الظّهْران هبّ أبو جَهْل من نومه فصاح فقال: يا معشر قريش ألا َتبًّا لرأيكم ماذا صنعتم، خلّفتم بني هاشم وراءكم فإن ظفر بكم محمّد كانوا من ذلك بنَحْوِه، وإن ظفرتم بمحمّد أخذوا آثاركم منكم من قريب من أولادكم وأهْليكم، فلا تَذَروهم في بيضتكم وفِنائكم ولكن أخْرِجوهم معكم وإن لم يكن عندهم غَناءٌ، فرجعوا إليهم فأخرجوا العبّاس بن عبد المطّلب ونوفلًا وطالبًا وعَقيلًا كُرْهًا، وروى عبد الله بن الحارث قال: لما كان يوم بدر جمعَتْ قريش بني هاشم وحلفاءَهم في قبّة وخافوهم فوكّلوا بهم مَن يحفظهم ويشدّد عليهم، منهم حَكيمُ بن حزام، وروى عُبيد بن أوس ــ مُقَرِّن ــ الظَفَري قال: لمّا كان يوم بَدر أسرتُ العبّاس بن عبد المطّلب، وعَقيل بن أبي طالب، وحَليفًا للعبّاس فِهْرِيًّا فَقرَّنـْتُ العبّاس وعَقيلًا، فلمّا نظر إليهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سمّاني مقرّنًا وقال: "أعانك عليهما مَلَك كريم"(*)، وروى ابن عبّاس قال: كان الذي أسر العبّاس أبو اليَسَر كعب بن عمرو، أخو بني سلمة، وكان أبو اليَسَر رجلًا مجموعًا وكان العبّاس رجلًا جسيمًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، لأبي اليَسَر: "كيف أسرتَ العبّاس يا أبا اليَسَر؟" فقال: يا رسول الله لقد أعانني عليه رجل ما رأيتُه قبلُ ولا بعدُ، هيئته كَذا، وهيئتُه كذا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لقد أعانك عليه ملك كريم"(*)، وقال غير محمد بن إسحاق في حديثه: انتهى أبو اليَسَر إلى العبّاس بن عبد المطّلب يومَ بدر وهو قائم كأنّه صَنَمٌ فقال له: جَزَتْك الجوازي، أتقتل ابن أخيك؟ فقال العبّاس: ما فعل محمّد أَصَابَهُ القتل، قال أبو اليَسَر: الله أعزُّ وأنصر، فقال العبّاس: كلّ شيء ما خلا محمّدًا خَلَلٌ فما تريد؟ قال: إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، نهى عن قتلك، فقال العبّاس: ليس بأوّل صِلَته وبرّه(*)، وروى يزيد بن الأصمّ قال: لما كانت أسارى بَدرٍ كان فيهم العبّاس عمّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسهر النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ليلتَه فقال له بعض أصحابه: ما أسهرك يا نبيّ الله؟ فقال: "أنينُ العبّاس" فقام رجل فأرخى من وِثاقه فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما لي لا أسمع أنين العبّاس؟" فقال رجل من القوم: إني أرخيتُ من وثاقه شيئًا، قال: "فافعل ذلك بالأسارى كلهم"(*)، وروى محمود بن لبيد قال: كان العبّاس بن عبد المطّلب حين قُدِمَ به في الأسارى طُلِبَ له قميص فما وجدوا له قميصًا بِيَثْرِبَ يُقْدَرُ عليه إلا قميصَ عبد الله بن أُبَيّ ألبسه إياه فكان عليه، وروى محمّد بن إسحاق قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، للعبّاس بن عبد المطّلب حين انتُهيَ به إلى المدينة: "يا عبّاس افْدِ نفسك، وابن أخيك عَقِيل بن أبي طالب، ونوفل بن الحارث، وحليفَك عُتبة بن عمرو بن جَحْدَم، أخا بني الحارث بن فهر؛ فإنّك ذو مال"، قال: يا رسول الله إني كنتُ مُسْلِمًا ولكن القوم استكرهوني، قال: "الله أعلم باسلإمك، إن يكُ ما تذكر حقًّا فالله َيجزيك به، فأمّا ظاهر أمرك فقد كان علينا، فافْدِ نفسك"(*)، وروى أنس بن مالك قال: قال رجل من الأنصار لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: اْئذَنْ لنا فَلْنَترك لابن أخينا العبّاس بن عبد المطّلب فِداه، فقال: "لا ولا درهمًا"(*)، وروى عبد الله بن الحارث قال: فدى العبّاس نفسَه وابنَ أخيه عَقيلًا بثمانين أوقيّة ذهب، ويقال: ألف دينار، قالوا: وخرج العبّاس إلى مكّة فبعث بفدائه وفداء ابن أخيه ولم يبعث بفداء حليفه فدعا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حسّان بن ثابت فأخبره ورجع أبو رافع فكان رسولَ العبّاس بفدائه فقال له العباس: ما قال لك؟ فقصّ عليه الأمرَ فقال: وأيّ قول أشدّ من هذا؟ احمل الباقي قبل أن تحُطّ رحلَك، فحمله ففداهم العبّاسُ، وروى أبو صالح، عن ابن عباس في قول الله عزّ وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70]، نزلت في الأسرى يومَ بدر، منهم العبّاس بن عبد المطّلب، ونوفل بن الحارث، وعَقِيل بن أبي طالب، وكان العبّاس قد أُسر يومئذ ومعه عشرون أوقيّة من ذهب، وقال أبو صالح ــ مولى أمّ هانئ: فسمعتُ العباس يقول: فأُخذَتْ منّي فكلّمتُ رسولَ الله أن يجعلها من فِدايَ فأبَى عليّ، فأعقبني الله مكانها عشرون عبْدًا كلّهم يُضْرَبُ بمالٍ مكان عشرين أوقيّة، وأعطاني زمزم، وما أحبّ أنّ لي بها جميعَ أموال أهل مكّة، وأنا أرجو المغفرة من ربّي، وكلّفني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فدى عَقيل بن أبي طالب فقلتُ: يا رسول الله تركتني أسْأل الناس ما بقيتُ فقال لي: "فأين الذهب يا عبّاس؟" فقلتُ: أي ذهب؟ قال: "الذي دفعته إلى أمّ الفضل يومَ خرجتَ فقلتَ لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فهذا لك وللفضل ولعبد الله وعبيد الله وقُثَمَ" فقلتُ له: مَن أخبرك بهذا؟ فوالله ما اطّلع عليه أحد من النّاس غيري وغيرها، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "الله أخبرني بذلك"، فقلت له: فأنا أشهد أنّك رسول الله حقًّا وأنّك لصادق وأنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله، وذلك قول الله: {إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا}:يقول صِدْقًا{يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة الأنفال: 70] (*)، وروى حُميد بن هِلال العَدَويّ أنّ العلاء بن الحَضْرمي بعث إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من البَحْرَين بثمانين ألفًا فما أتى رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم مال كان أكثر منه لا قبلُ ولا بعدُ، فأمر بها فنُثرَت على حصيرٍ ونودى بالصّلاة، فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فمَثَلَ على المال قائمًا وجاء الناس حين رأوا وما كان يومئذ عدد ولا وزن، ما كان إلا قبضًا، فجاء العبّاس فقال: يا رسول الله إني أعطيتُ فِدايَ وفِدى عَقِيل بن أبي طالب يومَ بدر ولم يكن لعقيل مال، فأعْطِني من هذا المال، فقال: "خُذْ"، قال: فحثا العبّاس في خَميصة كانت عليه، ثمّ ذهب ينهض فلم يستطع فرفع رأسه إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ارفع عليّ، فتبسّم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى خرج ضاحِكُه أو نابُه، قال: "ولكن أعِدْ في المال طائفةً وقُمْ بما تُطيق"، ففعل فانطلق بذلك المال وهو يقول: أمّا إحدى اللتّين وَعَدَنا الله فقد أنجزها، ولا أدري ما يصنع في الأخْرى، يعني قولَه: {قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الْأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذا خير ممّا أُخِذَ منّي ولا أدري ما يصنع في المغفرة(*)، وروى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: أسلم كلّ مَن شهد بَدرًا مع المشركين من بني هاشم، فادى العبّاس نفسَه وابنَ أخيه عقيلًا ثمّ رجعوا جميعًا إلى مكّة ثمّ أقبلوا إلى المدينة مهاجرين، وروى إسحاق بن الفضل، عن أشياخه قال: قال عقيل بن أبي طالب للنبيّ عليه السلام: من قَتَلْتَ من أشرافهم أنحن فيهم؟ قال: فقال: "قُتل أبو جهل"، فقال: الآن صُفّيَ لك الوادي، قال وقال له عقيل: إنّه لم يبق من أهل بيتك أحدٌ إلّا وقد أسلم، قال: "فقُلْ لهم فَلْيَلْحَقوا بي"، فلمّا أتاهم عقيل بهذه المقالة خرجوا وذُكر أنّ العبّاس ونوفلًا وعقيلًا رجعوا إلى مكّة، أُمروا بذلك ليقيموا ما كانوا يقيمون من أمر السقاية والرفادة والرئاسة، وذلك بعد موت أبي لهب، وكانت السقاية والرفادة والرئاسة في الجاهلية في بني هاشم ثمّ هاجروا بعدُ إلى المدينة فقدموها بأولادهم وأهاليهم(*)، وروى العبّاس بن عيسى بن عبد الله قال: حدّثنا القُرَشيّون المكّيّون الشّيْبّيون وغيرهم أنّ قدوم العبّاس بن عبد المطّلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطّلب على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من مكّة كان أيّام الخندق، وشَيّعَهُما ربيعةُ بن الحارث بن عبد المطّلب في مخرجهما إلى الأبواء ثمّ أراد الرّجوع إلى مكّة فقال له عمّه العبّاس وأخوه نوفل بن الحارث: أين ترجع إلى دَار الشّرْك يقاتلون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ويكذّبونَه، وقد عزّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكثف أصحابه، امْضِ معنا، فسار ربيعة معهما حتى قدموا إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مسلمين مهاجرين، وروى ابن عبّاس بن عبد الله بن معبد بن عبّاس أنّ جدّه عبّاسًا قدم هو وأبو هريرة في رَكْبٍ يُقال لهم: ركب أبي شِمْر فنزلوا الجُحْفة يومَ فَتْح النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، خَيْبَرَ فأخبروه أنـّهم نزلوا الُجحْفَة وهم عامدون النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وذلك يوم فتح خيبر قال: فقسم النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم للعبّاس، وأبي هريرة في خيبر(*). قال محمد بن سعد: فذكرتُ هذا الحديث لمحمد بن عمر فقال: هذا عندنا وَهَلٌ لا يشكّ فيه أهلُ العلم والرواية، إنّ العبّاس كان بمكّة ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بخيبر قد فتحها، وقدم الحجاج بن عِلاط السّلَمي مكّة فأخبر قريشًا عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بما أحبّوا أنّه قد ظُفِر به وقُتِل أصحابُه فسُرّوا بذلك، وأَفْظَع العبّاسَ خبرُه وساءه وفتح بابه وأخذ ابنه قُثَمُ فجعله على صدره وهو يقول:
يا قُثَمُ يا قُثَمُ يا شِبْهَ
ذي الكَرَمِ
حتى أتاه الحجّاج فأخبره بسلامة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأنـّه قد فتح خَيْبَر وغنّمَهُ الله تعالى ما فيها، فسُرّ بذلك العبّاس، ولبس ثيابه وغدا إلى المسجد فدخله وطاف بالبيت وأخبر قريشًا بما أخبره به الحجّاج من سلامة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأنـّه فتح خيبر وما غنّمه الله من أموالهم، فكُبتَ المشركون وساءهم ذلك وعلموا أنّ الحجّاج قد كذبهم في خبره الأول، وسرّ ذلك المسلمين الذين بمكّة وأتوا العبّاس فهنئوه بسلامة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ خرج العبّاس بعد ذلك فلحق بالنبيّ صَلَّى الله عليه وسلم بالمدينة فأطعمه بخيبر مائتي وَسْق تمر في كلّ سنة، ثمّ خرج معه إلى مكّة فشهد فتح مكّة، وحُنين، والطائف، وتَبُوك، وثبت معه يوم حنين في أهل بيته حين انكشف الناس عنه، وروى أبو عبد الله الأيلْيّ قال: جاء أسقف غَزّةَ إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، بتَبوكَ فقال: يا رسول الله هلك عندي هاشم وعبد شمس وهما تاجران وهذه أموالهما، قال: فدعا النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم عبّاسًا فقال: "اقسم مال هاشم على كبراء بَني هاشم"، ودعا أبا سفيان بن حرب فقال: "اقسم مال عبد الشمس على كبراء ولد عبد شمس"(*)، وروى سليمان بن عبد الله بن الحارث أنّ العبّاس بن عبد المطّلب، ونوفل بن الحارث لما قدما على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مهاجرين آخى بينهما وأقطعهما جميعًا بالمدينة في موضع واحد وفرع بينهما بحائط فكانا متجاورين في موضع وكانا شريكينِ في الجاهليّة متفاوِضَينِ في المال متحابّين متصافين، وكانت دار نوفل التي أقطعه إيّاهَا رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم في موضع رَحبَة الفضاء وما يليها إلى المسجد مسجد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم(*)، وروى عبيد الله بن عبّاس قال: كان للعبّاس ميزاب على طريق عمر فلبس عمر ثيابه يومَ الجمعة وقد كان ذُبِحَ للعبّاس فَرْخَانِ، فلمّا وافى الميزاب صُبّ فيه ماءٌ فيه من دم الفرخَين فأصاب عمر فأمرَ عمر بقلعه، ثمّ رجع عمر فطرح ثيابَه ولبس غيرَها ثمّ جاء فصلّى بالناس، فأتاه العبّاس فقال: والله إنّه للموضع الذي وضعه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال عمر للعبّاس: فأنا أعزم عليك لِما أصْعدتَ على ظهري حتى تضعه في الموضع الذي وضعه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ففعل ذلك العبّاس، وروى سالم أبو النّضْر قال: لما كثر المسلمون في عهد عمر ضاق بهم المسجد، فاشترى عمر ما حول المسجد من الدّور إلا دار العبّاس بن عبد المطّلب وحُجَر أمّهات المؤمنين، فقال عمر للعبّاس: يا أبا الفضل إنّ مسجد المسلمين قد ضاق بهم وقد ابْتَعْتُ ما حوْله من المنازل نُوسّع به على المسلمين في مسجدهم إلا دارَكَ وحُجَر أُمّهات المؤمنين، فأمّا حُجَر أمهات المؤمنين فلا سبيل إليها، وأمّا دارك فبِعْنِيها بما شِئْتَ من بيت مال المسلمين أوسّع بها في مسجدهم، فقال العبّاس: ما كنتُ لأفعل، قال فقال له عمر: اخْتَرْ مني إحدى ثلاثٍ، إمّا أن تبيعنيها بما شئتَ من بيت مال المسلمين، وإمّا أن أخطّطك حيثُ شئتَ من المدينة وأبنيها لك من بيت مال المسلمين، وإمّا أن تَصَدّقَ بها على المسلمين فنوسّع بها في مسجدهم، فقال: لا، ولا واحدة منها، فقال عمر: اجعلْ بيني وبينك مَن شئتَ، فقال: أُبَيّ بن كعب، فانطلقا إلى أُبَيّ فقصّا عليه القصّة فقال أُبَيّ: إن شئتما حَدّثْتُكُما بحديث سمعتُه من النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقالا: حدثنا، فقال: سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "إنّ الله أوحى إلى داود أنِ ابْنِ لي بيتًا أُذْكَرُ فيه، فخَطّ له هذه الخِطّةَ خِطّةَ بيت المقدس فإذا تربيعها يُزَوِّيه بيت رجل من بني إسرائيل، ــ وفي رواية امرأة ــ فسأله داود أن يبيعه إيـْاه فأبَى، فحدّث داود نفسه أن يأخذ منه فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتُك أن تبني لي بيتًا أُذْكَرُ فيه فأردتَ أن تُدْخِلَ في بيتي الغَصْبَ وليس من شأني الغَصْب، وإنّ عقوبتَك أن لا تبْنِيَه، قال: يا ربّ فمِن ولدي؟ قال: من ولدك"، قال: فأخذ عمر بمجامع ثياب أُبَيّ بن كعب وقال: جئتُك بشيء فجئتَ بما هو أشَدّ منه، لتخرجنّ ممّا قلتَ، فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فيهم أبو ذَرّ فقال: إني نشدتُ الله رجلًا سمع رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم يذكر حديث بيت المقدس حين أمر الله داود أن يَبْنيَه إلّا ذكرَه، فقال أبو ذرّ: أنا سمعتُه من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقال آخر: أنا سمعتُه، وقال آخر: أنا سمعتُه، يعني: من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال فأرسل عمر أُبَيًّا، قال: وأقبل أُبَيّ على عمر فقال: يا عمر أتّتّهِمُني على حديث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: يا أبا المُنذر لا والله ما اتّهَمتُك عليه ولكني كرهتُ أن يكون الحديث عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ظاهرًا، وقال عمر للعبّاس: اذهب فلا أعْرِضُ لك في دارك، فقال العبّاس: أما إذ فعلتَ هذا فإني قد تصدّقْتُ بها على المسلمين أوسّع بها عليهم في مسجدهم فأمّا وأنت تخاصمني فلا.(*)، وروى أبو جعفر محمّد بن عليّ أنّ العبّاس جاء إلى عمر فقال له: إنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم أقطعني البحرين قال: من يعلم ذلك؟ قال: المغيرة بن شعبة، فجاء به فشهد له، قال فلم يُمْضِ له عمر ذلك كأنـَّه لم يقبل شهادته، فأغلظ العبّاس لعمر فقال عمر: يا عبد الله خُذْ بيد أبيك(*)، وقال عمرللعباس: والله يا أبا الفضل لأنا بإسلامك كنتُ أسرّ مني بإسلام الخطّاب لو أسلم لمرضاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وروى عبد الله بن حارثة قال: لما قدم صَفْوان بن أُميّة بن خَلَف الجُمَحِيّ قال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "على مَن نزلتَ يا أبا وَهْبٍ؟" قال: نزلتُ على العبّاس بن عبد المطّلب، قال: "نزلتَ على أشدّ قريشٍ لقريشٍ حُبًّا"(*)، وروت هِنْد بنت الحارث، عن أمّ الفضل أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم دخل عليهم وعبّاس عمّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يشتكي، فتمنّى عبّاس الموت فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عمّ رسول الله لا تتمنّ الموتَ فإن تكن مُحْسِنًا فإنْ تُؤخرْ تَزْدَدْ إحسانًا إلى إحسانك خيرًا لك، وإن تكن مُسيئًا فإن تُؤخَّرْ فَتسْتعْتِب من إساءتك فلا تتمنّ الموتَ"(*)، وروى سعيد بن جُبير قال: أخبرني ابن عبّاس أنّ رجلًا وقع في أبٍ للعبّاس كان في الجاهليّة، فلطمه العبّاس فاجتمع قومُه فقالوا: والله لنلطمنّه كما لطمه، ولبسوا السّلاح، فبلغ ذلك رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم فجاء فصعد المنبر فحمد اللهَ، وأثنى عليه وقال: "أيّها الناس أيّ الناس تعلمون أكرمَ على الله؟" قالوا: أنتَ، قال: "فإنّ العبّاس مني وأنا منه، لا تسبّوا أمواتَنا فتُؤذوا أحياءنا"، قال فجاء القوم فقالوا: يا رسول الله نعوذ بالله من غضبك، استغفِرْ لنا يا رسول الله(*)، وروى العبّاس بن عبد الرحمن أنّ رجلًا من المهاجرين لقي العبّاس بن عبد المطّلب فقال: يا أبا الفضل أرأيتَ عبد المطّلب بن هاشم والغَيْطَلَة كاهنةَ بني سَهْم جمعهما الله جميعًا في النار؟ فصفح عنه، ثمّ لقيه الثانيةَ فقال له مثل ذلك فصفح عنه، ثم لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك فرفع العبّاس يده فوجأ أنفَه فكسره، فانْطلق الرجل كما هو إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فلمّا رآه قال: "ما هذا؟" قال العبّاس، فأرسل إليه فجاءه فقال: "ما أردتَ إلى رجل من المهاجرين؟" فقال: يا رسول الله لقد علمتُ أنّ عبد المطّلب في النّار ولكنّه لقيني فقال: يا أبا الفضل أرأيت عبد المطّلب بن هاشم والغيطلة كاهنة بني سهم جمعهما الله جميعًا في النّار؟ فصفحتُ عنه مرارًا ثمّ والله ما ملكتُ نفسي وما إيـّاه أراد ولكنّه أرادني، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما بال أحدكم يُؤذي أخاه في الأمر وإن كان حقًّا؟"(*)، وروى عليّ قال: قلتُ للعبّاس سَلْ لنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الحجابة، قال فسأله فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "أعطيكم ما هو خير لكم منها، السقاية تَرْزَؤُكم ولاَ تَرْزَءُونها"(*)، وروى نافع، عن ابن عمر قال: استأذن العبّاس بن عبد المطّلب النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم أن يبيتَ ليالي مِنًى بمكّة من أجل سقايته فأذن له(*)، وروى مجاهد قال: طاف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على ناقته بالبيت معه مِحْجَنٌ يستلم به الحجر كلّما مرّ عليه، ثمّ أتى السّقاية يستسقي، قال فقال العبّاس: يا رسول الله ألا نأتيك بماءٍ لم تمسّه الأيدي؟ قال: "بلى فاسقوني" فسقوه ثم أتى زَمْزَمَ فقال: "استقوا لي منها دَلْوًا" فأخرجوا منها دلوًا فمضمض منه ثمّ مجّه من فيه ثمّ قال: "أعيدوه فيها"، ثمّ قال: "إنّكم لعَلى عملٍ صالٍح"، ثمّ قال: "لولا أن تغلبوا عليه لَنزلتُ فنزعتُ معكم"(*)، وروى جعفر بن تمّام قال: جاء رجل إلى ابن عبّاس فقال: أرأيتَ ما تسقون الناسَ من نبيذ هذا الزبيب، أسُنّةٌ تتبعونها أم تجدون هذا أهون عليكم من اللبن والعسل؟ فقال ابن عبّاس: إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أتى العبّاس وهو يسقي الناسَ فقال اسْقِني، فدعا العبّاسُ بعِساس من نبيذ فتناول رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم عُسًّا منها فشرب ثمّ قال: "أحسنتم، هكذا اصنعوا"، قال ابن عبّاس: فما يسرّني أنّ سقايتها جَرَتْ عليّ لبنًا وعسلًا مكانَ قول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم "أحسنتم هكذا افعلوا"(*)، وروى مجاهد قال: اشربْ من سقاية آل العبّاس فإنّها من السّنّة، وروى عليّ بن أبي طالب أنّ العبّاس بن عبد المطّلب سأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحلّ فرخّص له في ذلك(*)، وروى الحجّاج عن الحكم بن عُتيبة أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعث عمرَ بن الخطّاب على الصدقة فأتى العبّاس يسأله صدقةَ ماله، قال: قد عَجَّلْتُ لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم صدقة سنتين، فرافعه إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "صدق عمّي، قد تعجّلنا منه صدقة سنتين"(*)، وروى الحكم قال: بعث النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم عمرَ على السعاية فأتى العبّاسَ يطلب منه صدقة ماله فأغلظ له، فأتى عليًّا فاستعان به على النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "تَرِبَتْ يداك! أما علمتَ أنّ عمّ الرجل صِنْوُ أبيه؟ إنّ العبّاس سلّفنا زكاة العام عَامَ أوّلَ"(*)، وروى أبو عثمان النّهْديّ أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال للعبّاس: "هاهنا فإنّك صِنْوي"(*)، وروى أبو مِجْلَز قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، "إنّما العبّاس صِنْوُ أبي فمن آذى العبّاس فقد آذاني"(*)، وروى عبد الله الورَّاق قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لا يَغْسِلُني العبّاسُ فإنّه والدي؛ والوالد لا ينظر إلى عورة ولده"(*)، وروى أبو العالية أنّ العبّاس ابتنى غرفة فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم"ألْقِها" قال العبّاس: أوَ أُنـْفِقُ مثل ثمنها في سبيل الله؟ قال: "ألْقِها"(*)، وروى محمّد بن عليّ قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يومًا وهو في مجلس بالمدينة وهو يذكر ليلةَ العقبة فقال: "أُيّدتُ تلك الليلةَ بعمّي العبّاس وكان يأخذ على القوم ويُعْطيهم"(*)، وروى العبّاس بن عبد الله بن معبد قال: لمّا دوّن عمر بن الخطّاب الديوان كان أوّل مَن بدأ به في المَدْعى بني هاشم، ثمّ كان أوّلُ بني هاشم يُدْعى العبّاس بن عبد المطّلب في ولاية عمر وعثمان، وروى ابن عبّاس قال: كان العبّاس بن عبد المطّلب في الجاهليّة الذي يَلي أَمْرَ بني هاشم، وروى ابن أبي الزّناد، عن أبيه، عن الثّقة أنَّ العبّاس بن عبد المطّلب لم يمر بعمر ولا بعثمان وهما راكبان إلّا نزلا حتى يجوز العباس إجلالًا له، ويقولان: عمّ النّبي صَلَّى الله عليه وسلم، وروى ابن العبَّاس، وأنس بن مالك أنَّ عمر بن الخطّاب كان إذا قحط أهلُ المدينة استسقى بالعبّاس، قال أبو عمر: وكان سبب ذلك أنَّ الأرض أجدبَتْ إجْدابًا شديدًا على عهد عمر زمن الرّمادة، سنة سبع عشرة، فقال‏‏ كعب: يا أمير المؤمنين، إنَّ بني إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استَسْقَوْا بعصبة الأنبياء، فقال‏ عمر: هذا عمُّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وصِنْوُ أبيه، وسَيِّدُ بني هاشم، فمشى إليه عُمَر، وشكا إليه ما فيه الناس من القَحْطِ، ثم صعد المنبر ومعه العبَّاس، فقال: اللهم إِنا قد توجَّهْنَا إليك بعمِّ نبينا وصِنْو أبيه، فاسْقِنا الغِيْثَ، ولا تجعلنا من القانطين، ثم قال عمر: يا أبا الفضل، قم فادْعُ، فقام العبّاس، فقال‏‏ بعد حمد الله تعالى والثّناء عليه: اللهم إنَّ عندك سحابًا، وعندك ماءً، فانشر السّحاب، ثم أنزل الماء منه علينا، فاشدد به الأصل، وأدِرَّ به الضَّرْع، اللهم إنك لم تنزل بلاءً إلا بذنْبٍ، ولم تكشفه إلا بتوبةٍ، وقد توجَّه القومُ إليك، فاسْقِنا الغيث، اللهم شفِّعنا في أنفسنا وأهلينا، اللهم إنا شفعنا بمنْ لا ينطق من بهائمنا وأنعامنا، اللهم اسقنا سقيًا وادعًا نافعًا، طبقًا سَحًّا عامًا، اللهم إنا لا نرجو إلا إيّاك، ولا ندعو غَيْرَك، ولا نرغب إلا إليك، اللهم إليك نشكو جوعَ كلّ جائع، وعُرْيَ كل عارٍ، وخَوْف كل خائف، وضَعْفَ كل ضعيف...‏ في دعاءٍ كثير، وهذه الألفاظ كلُّها لم تجيء في حديثٍ واحد، ولكنها جاءت في أحاديثَ جمعْتُها واختصرتها، ولم أخالفْ شيئًا منها، وفي بعضها: فسُقوا والحمد الله، وفي بعضها قال: فأرْخَتْ السَّماء عَزَالَيها، فجاءت بأمثال الجبال، حتى استوت الحفر بالآكام، وأخصبت الأرض، وعاش النّاس، قال أبو عمر: هذا والله الوسيلة إلى الله عزّ وجل والمكان منه، وقال حسان بن ثابت في ذلك:
سَأَلَ الإِمَامُ
وَقَدْ تَتَابَعَ جَدْبُنَا فَسَقَى
الغَمَامُ
بِغُرَّةِ
العَبَّاسِ
عَمِّ النَّبِيِّ
وَصِنْوِ وَالِدِهِ الَّذِي وَرِثَ الَّنبِيَّ بِذَاكَ دُونَ النَّاسِ
أَحْيَا الإِلَهُ بِهِ البِلَادَ فَأَصْبَحَتْ مُخْضَرَّةَ
الأجْنَابِ
بَعْدَ اليَاسِ
وقال الفضل بن عبّاس بنُ عتبة بن أبي لهب:
بِعَمِّي
سَقَى اللَّهُ الحِجَازَ وَأَهْلَهُ عَشِيَّةَ
يَسْتَسْقِي بِشَيْبَتِهِ عُمَلْا
تَوَجَّهَ بِالعَبَّاسِ فِي الجَدْبِ رَاغِبًا فَمَا كَرَّ حَتَّى جَاءَ بِالدِّيمَةِ المَطَرْ
ورُوي من وجوهٍ، عن عمر أنه خرج يستسقي، وخرج معه بالعبّاس، فقال: اللهم إنا نتقرَّبُ إليك بعمِّ نبيّك ونستشفع به، فاحفَظْ فيه نبيَّك كما حفظت الغُلامين لصلاحِ أبيهما، وأتيناك مُستغفرين ومستشفعين، ثم أقبل على النّاس فقال: ‏‏{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10، 11، 12]، ثم قام العبّاسُ وعيناه تنضحان، فطالع عمر، ثم قال: اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالّة، ولا تَدع الكسير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير، ورَقّ الكبير، وارتفعت الشّكوى، وأنت تعلم السرَّ وأخفى، اللهم فأغِثْهُم بغياثك من قبل أن يَقْنَطوا فيهلكوا، فإنه لا ييأس من رَوْحِك إِلّا القوم الكافرون، فنشأت طُرَيرة مِنْ سحاب، فقال النّاس: ترون‏ ترون! ثم تلاءمت واستتمَّت ومشت فيها ريح، ثم هرّت ودَرّت، فوالله ما برحوا حتى اعتلوا الجدار، وقلصوا المآزر، وطفق النّاس بالعبّاس يمسحون أركانه، ويقولون: هنيئًا لك ساقي الحرمين.
حدّث العباس عن النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم بأحاديث، وروى عنه أولاده، وعامر بن سعد، والأحنف بن قيس، وعبد الله بن الحارث، وغيرهم، فقد روى عامر بن سعد، عن العباس عبد المطلب قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ذَاقَ طَعْمَ الْإِيْمَانِ؛ مَنْ رَضِيَ بالله رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِيْنًا، وَبمُحَمَّدٍ رَسُولًا"(*) أخرجه مسلم في الصحيح في كتاب الإيمان باب 11 حديث رقم 56 والترمذي في السنن 5/ 16 كتاب الإيمان (41) باب (10) حديث رقم 2623 وقال أبو عيسى حديث حسن صحيح وأحمد في المسند 1/ 208.، وروى أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة القُشيريْ قال: حدّثني رجل من بني عبد المطّلب قال: قدم علينا عليّ بن عبد الله بن عبّاس فأتيناه فأخبرنا أنّ عبد الله بن عبّاس قال: أخبرني أبي العبّاسُ أنـّه أتى رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنا عمّك، كَبرَتْ سني، واقترب أجَلي، فعَلّمْني شيئًا ينفعني الله به، فقال: "يا عبّاس أنت عمّي، وإني لا أُغْني عنك من الله شيئًا، ولكن سَلْ ربـّك العَفْوَ والعافية"(*)، وروى أيـّوب قال: قال العبّاس يا رسول الله مُرْني بدُعاءٍ، قال: "سل الله العفو والعافية"(*)، وروى عليّ رضي الله عنه قال: قلتُ للعبّاس سل النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم يستعملك على الصدقة، فسأله فقال: "ما كنتُ لأستعملك على غُسالة ذنوب الناس"(*)، وروى محمّد بن المنكدر قال: قال العبّاس يا رسول الله ألا تُؤمّرني على إمارة؟ فقال: "نَفْسٌ تُنْجيها خيرٌ من إمارة لا تُحصيها"(*)، وروى عليّ بن عبد الله بن عبّاس قال: أعتق العبّاس عند موته سبعين مملوكًا.
توفّي العبّاس رضي الله عنه يوم الجمعة لأربع عشرة خلت من رجب سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان وهو ابن ثمانٍ وثمانين سنة، ودُفن بالبقيع في مقبرة بني هاشم، وروى نملة بن أبي نملة عن أبيه قال: لمّا مات العبّاس بن عبد المطلّب بعَثَتْ بنو هاشم مؤذّنًا يؤذّن أهل العوالي: رحم الله من شهد العبّاس بن عبد المطّلب، قال: فحشد الناس ونزلوا من العوالي، وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جارية قال: جاءنا مُؤْذِنٌ يُؤذِنّا بموت العبّاس بن عبد المطّلب بقُبَاء على حمارٍ، ثمّ جاءنا آخر على حمار فقلتُ مَن الأوّل؟ فقال: مولىً لبني هاشم والثاني رسول عثمان، فاستقبل قرى الأنصار قريةً قرية حتى انتهى إلى السافلة في بني حارثة وما ولاها حشد الناس فما غادرنا النساء، فلمّا أُتِيَ به إلى موضع الجنائز تضايق فتقدّموا به إلى البقيع، ولقد رأيتُنا يومَ صلّينا عليه بالبقيع وما رأيتُ مثل ذلك الخروج على أحد من الناس قطّ وما يستطيع أحد من النّاس أن يَدْنوَ إلى سريره، وغُلب عليه بنو هاشم فلمّا انتهوا إلى اللحد ازدحموا عليه فأرى عثمان اعتزل وبعث الشّرْطة يضربونَ الناس عن بني هاشم حتى خلص بنو هاشم، فكانوا هم الذين نزلوا في حُفْرَته ودَلّوه في اللحد، ولقد رأيتُ على سريره بُرْدَ حِبَرَةٍ قد تقطّع من زِحامهم، وروت عائشة بنت سعد قالت: جاءنا رسول عثمان ــ رحمه الله ــ ونحن بقصرنا على عشرة أميال من المدينة أنّ العبّاس قد تُوفّي، فنزل أبي ونزل سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، ونزل أبو هُريرة من السّمرة قالت عائشة: فجاءنا أبي بعد ذلك بيومٍ فقال: ما قدرنا على أن نَدْنُوَ من سريره من كثرة الناس، غُلبْنا عليه، ولقد كنْتُ أحِبّ حَمْلَه، وروت أمّ عُمارة قالت: حضرنا نساء الأنصار طُرًّا جنازةَ العبّاس، وكنّا أوّلَ مَن بكَى عليه ومعنا المهاجرات الأُوَلُ المبايعاتُ، وروت عباس بن عبد الله بن سعيد قال: لما مات العبّاس أرسل إليهم عثمان إن رأيتم أن أحضرَ غَسْلَه فعلتم، فأذنوا له، فحضر فكان جالسًا ناحيةَ البيت، وغسله عليّ بن أبي طالب، وعبد الله، وعبيد الله، وَقُثَمُ بنو العبّاس، وحدَّتْ نساءُ بني هاشم سنةً، وروى ابن عبّاس قال: أوصى العبّاس أن يُكْفَنَ في بُرْدِ حِبَرَةٍ وقال إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كُفِنَ فيه(*)، وروى عيسى بن طلحة قال: رأيتُ عثمان يكبّر على العبّاس بالبقيع وما يقدر من لَغَطِ الناس، ولقد بلغ الناس الحِشّانَ، وما تخلّفَ أحد من الرجال والنساء والصبيان، وقيل: تُوفِّي العبّاس بالمدينة يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلَتْ من رجب، وقيل: بل من رمضان سنة اثنتين وثلاثين قبل قَتْل عُثمان بسنتين، وصلَّى عليه عثمان ودُفن بالبقيع، وهو ابنُ ثمان وثمانين سنة، وقيل ابن تسع وثمانين، وقد أدرك في الإسلام اثنتين وثلاثين سنة، وفي الجاهليّة ستًا وخمسين سنة، وقال خليفة بن خياط‏: ‏كانت وفاة العبّاس سنة ثلاث وثلاثين، ودخل قبره ابنه عبد الله بن عبَّاس.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال