تسجيل الدخول

السرايا والبعوث بعد الرجوع من غزوة الفتح وإسلام عدي بن حاتم

بعد الرجوع من هذا السفر الطويل الناجح الذي تم فيه فتح مكة، وهزيمة هوازن وثقيف في غزوة حنين، أقام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالمدينة يستقبل الوفود، ويبعث العمال، ويبث الدعاة، ويكبت من بقي فيه الاستكبار عن الدخول في دين الله.
ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى بعث عدة سرايا؛ لضمان سيادة الأمن على عامة مناطق الجزيرة، ومن تلك السرايا:
1 ــ سرية عيينة بن حصن الفزاري ــ في المحرم سنة تسع للهجرة ــ إلى بني تميم في خمسين فارسًا، لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري؛ وسببه أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية.
وخرج عيينة بن حصن يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراء؛ فولى القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلًا، وإحدى وعشرين امرأة، وثلاثين صبيًا، وساقهم إلى المدينة، فأنزلوا في دار رملة بنت الحارث.
وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاءوا إلى باب النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فنادوا: يا محمد اخرج إلينا، فخرج؛ فتعلقوا به وجعلوا يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى حتى صلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عطارد بن حاجب فتكلم، فأمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس ــ خطيب الإسلام ــ فأجابهم، ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر، فأنشد مفاخرًا، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة دون سابق استعداد.
ولما فرغ الخطيبان والشاعران؛ قال الأقرع بن حابس: خطيبه أخطب من خطيبنا، وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، ثم أسلموا، فأجازهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم.
2 ــ سرية قطبة بن عامر إلى حي من خثعم بناحية تبالة، بالقرب من تربة في صفر سنة تسع للهجرة، خرج قطبة في عشرين رجلًا على عشرة من البعير يتناوبون ركوبها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعًا، وقتل قطبة مع من قتل، وساق المسلمون النعم والنساء والشاء إلى المدينة.
3 ــ سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع هجرية، بعثت هذه السرية إلى بني كلاب؛ لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم رجلًا.
4 ــ سرية علقمة بن مجزر المدلجي إلى سواحل جدة في شهر ربيع الآخر سنة تسع للهجرة في ثلاثمائة مقاتل، بعثهم إلى رجال من الحبشة كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القرصنة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا.
5 ــ سرية علي بن أبي طالب إلى صنم لطيء، يقال له: القلس؛ ليهدمه، في شهر ربيع الأول سنة تسع هجرية، بعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في خمسين ومائة رجل على مائة بعير وخمسين فرسًا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة حاتم مع الفجر، فهدموه وملأوا أيديهم من السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون في خزانة القلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم، وعزلوا نصيب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولم يقسموا آل حاتم.
وكان عدي بن حاتم يقول: ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حين سمع به منى، أما أنا فكنت امرءًا شريفًا، وكنت نصرانيًا، وكنت أسير في قومي بالمرباع ــ أي يأخذ ربع الغنائم.
فكنت في نفسي على دين، وكنت ملكًا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كرهته، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيًا لإبلي: لا أبا لك ــ كلمة دعاء ــ أعدد لي من إبلي أجمالًا ذللًا ــ أي مروضة سهلة الركوب ــ سمانًا فاحتبسها قريبًا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذني ــ أي أخبرني ــ ففعل.
ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عدي، ما كنت صانعًا إذا غشيتك خيل خالد فاصنعه الآن، فإني قد رأيت رايات فسألت عنها، فقالوا: هذه جيوش محمد. فقلت: فقرب إلي أجمالي، فقربها فاحتملت بأهلي وولدي ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشية، وخلفت بنتًا لحاتم في الحاضر ــ أي الحي ــ فلما قدمت الشام أقمت بها. وتخالفني خيل لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في سبايا من طيء، وقد بلغ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم هربي إلى الشام، فجعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيها، فمر بها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة ــ يعني بليغة ــ فقالت: يا رسول الله هلك الوالد، وغاب الوافد ــ تقصد حاميها وولي أمرها ــ فامنن علي من الله عليك! قال: "ومن وافدك؟" قالت: عدي بن حاتم. قال: "الفار من الله ورسوله؟" قالت: ثم مضى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد مر بي، فقلت له مثل ذلك، وقال لي مثل ما قال بالأمس، حتى إذا كان بعد الغد مر بي، وقد يئست منه، فأشار إلى رجل من خلفه: أن قومي فكلميه، فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد، فامنن علي من الله عليك، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "قد فعلت، فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك، ثم آذنيني" ــ أي أخبريني ــ فسألت عن الرجل الذي أشار إلي أن أكلمه فقيل: علي بن أبى طالب ــ رضوان الله عليه. وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة، وإنما أريد أن آتي أخي بالشام، فجئت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، فكساني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وحملني ــ أي أعطاني دابة أركبها ــ وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عدي: فوالله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة ــ الظعينة: المرأة ــ تصوب إلي تؤمنا ــ أي تقبل نحونا ــ فقلت: ابنة حاتم!؟ قال: فإذا هي هي. فلما وقفت علي انسحلت ــ أي راحت تعاتب وتلوم ــ تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك، عورتك! قلت: أي أخية، لا تقولي إلا خيرًا فوالله مالي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت.
ثم نزلت فأقامت عندي، فقلت لها ــ وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعًا، فإن يكن الرجل نبيًا فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكًا فلن تذل في عز اليمن وأنت أنت! قلت: والله إن هذا الرأي.
فخرجت حتى أقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة، فدخلت عليه وهو في مسجده فسلمت عليه، فقال: "من الرجل؟" فقلت: عدى بن حاتم، فانطلق بي إلى بيته، فوالله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلًا تكلمه في حاجتها، قلت في نفسي: والله ما هذا بملك.
ثم مضى بي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم ــ أي جلد مدبوغ ــ محشوة ليفًا فقذفها إلي، فقال: "اجلس على هذه"، قلت: بل أنت فاجلس عليها، فقال: "بل أنت"، فجلست عليها، وجلس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالأرض، قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك.
فلما جلست بين يديه حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "ما يفرك؟ أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم من إله سوى الله؟". قال عدي: لا، ثم تكلم ساعة ثم قال: "إنما تفر أن يقال: الله أكبر، فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟" قال: لا. قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضالون"، قال عدي: فإني حنيف مسلم، فانبسط وجهه فرحًا وأمر به فنزل عند رجل من الأنصار، وجعل يأتي النبي صَلَّى الله عليه وسلم طرفي النهار.
وفي رواية لأحمد أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "يا عدي، أسلم تسلم"، فقلت: إني من أهل دين، قال: "أنا أعلم بدينك منك"، فقلت: أنت أعلم بديني مني!؟ قال: "نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك؟" فقلت: بلى، قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك"، قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل.
وروى البخاري عن عدي قال: بينا أنا عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟" ــ بلد معروف في الشام ــ "فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة ويطلب من يقبله، فلا يجد من يقبله منه"، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صَلَّى الله عليه وسلم: "يخرج ملء كفه".
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال