الرئيسية
الصحابة
فضائل
مواقف إيمانية
كرامات
الأوائل
الأنساب
الغزوات
فوائد
مسابقات
تسجيل الدخول
البريد الالكتروني :
كلمة المرور :
تسجيل
تسجيل مشترك جديد
المصادر
موجز ما ذكر عنه في الكتب الأربعة
تفصيل ما ذكر عنه في الكتب الأربعة
ما ذكر عنه في الإصابة في تميز الصحابة
مواقف أخرى
كراماته
طرف من كلامه
الخضر صاحب موسى عليه السلام
# الخَضِر صاحب موسى عليه السلام:
اختلف في نسبه على أقوال، القول الأول: هو "ابن آدم" لصلبه، وهو قولٌ ضعيف. القول الثاني: أنه "ابن قابِيل بن آدم"، وذكره أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِي في كتاب "المعمّرين"، وهو ضعيف أيضا، وحكى صاحب هذه المقالة أن اسمه خَضْرُون وهو الخَضِرُ، وقيل اسمه "عامر". القول الثالث: جاء عن وَهْب بن مُنَبه أنه "بَلْيا بن ملكان بن فالغ"، من نسل نوح عليه السلام؛ وبهذا قال ابْنُ قُتيبَة، وحكاه النَوَوي، وزاد: وقيل "كلمان" بدل "ملكان". القول الرّابع: جاء عن إسماعيل بن أبي أويس أنه "المعمر بن مالك بن عبد الله بن الأزد". القول الخامس: هو "ابن عمائيل بن النوار بن العيص بن إسحاق"؛ حكاه ابن قتيبة أيضًا، وكذا سمى أباه "عمائيل" مقاتلُ. القول السّادس: إنه "من سبط هارون أخي موسى"؛ روى عن الكلبيّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن ابن عباس؛ وهو بعيد، وأعجبُ منه قول ابن إسحاق أنه "أرميا بن خلفيا"؛ وقد رد ذلك أبو جعفر بن جرير. القول السابع: أنه "ابن بنت فِرْعَوْنَ"؛ حكاه محمد بن أيوب، عن ابن لَهِيعَة، وقيل: ابن فرعون لصلبه؛ حكاه النقاش. القول الثامن: أنه "اليسع"؛ حكى عن مقاتل، وهو بَعيد أيضًا. القول التاسع: أنه من وَلد فارس؛ جاء ذلك عن ابن شوذب؛ أخرجه الطّبري بسند جَيّد من رواية ضمرة بن ربيعة، عن ابن شَوْذَب. القول العاشر: أنه مِنْ ولد بعض مَنْ كان آمنَ بإبراهيم، وهاجر معه من أرض بابل؛ حكاه ابن جرير الطبري في تاريخه، وقيل: كان أبوه فارسيًا وأمّه روميّة، وقيل: كان أبوه روميًا وأمه فارسيّة.
وثبت في الصّحيحين أنَّ سبب تسميته الخضر أنه جلس على فَرْوَة بيضاء، فإذا هي تهتزُّ تحته خضراء، هذا لفظ أحمد من رواية ابن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، والفروة: الأرض اليابسة، وقيل: الحشيش الأبيض، وقال أَحْمَدُ: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن همام، عن أبي هريرة ــ رفعه ــ
"إِنَّمَا سُمِّي الخضْرُ خضرًا لأنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ فَاهْتَزَّتْ تَحْتَهُ خَضْرَاءَ"
(*)
، قال عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ: أظنه تفسير عبد الرزاق، وفي الباب عن ابن عباس. قال النوويّ: كنيته أبو العباس، وهذا متفق عليه.
روى الدّارقطنيّ بالإسناد الماضي، عن ابن عباس قال: "نُسِئ لِلْخِضَرِ فِي أَجَلِهِ حَتَّى يُكَذِّبَ الدَّجَالَ"
(*)
، وذكر ابْنُ إِسْحَاقَ في "المبتدأ" قال: حدثنا أصحابُنا أن آدمَ لما حضره الموتُ جمع بَنيه وقال: إن الله تعالى منزّل على أهل الأرض عذابًا؛ فليكن جِسدي معكم في المغَارة حتى تدفنوني بأرض الشام، فلما وقع الطّوفان قال نوحٌ لبنيه: إن آدمَ دَعَا الله أن يُطيلَ عُمْرَ الذي يَدْفنه إلى يوم القيامة، فلم يزل جَسَدُ آدمَ حتّى كَانَ الخَضِرُ هو الذي تولّى دَفْنه، وأنجز الله له ما وَعَدَهُ، فهو يحيا إلى ما شاء الله أن يحيا، وقال أبو مِخْنَف لوط بن يحيى في أول كتاب "المعمّرين" له: أجمع أهلُ العلم بالأحاديث والجَمْعِ لها أنّ الخَضِر أطولُ آدمي عمرًا، وأنه خَضْرون بن قابيل بن آدم.
وروى ابْنُ عَسَاكِرَ في ترجمة ذِي القَرْنَين، عن أبي جعفر، عن أبيه أنه سُئل عن ذي القرنين، فقال: كَانَ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللهِ صَالِحًا، وكان من الله بمنزل ضَخْم، وكان قد ملك ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليلٌ من الملائكة يقال له رفائيل، وكان يزوره؛ فبينما هما يتحدثان إذ قال له: حدثني كَيْفَ عِبَادَتِكُمْ فِي السَّمَاءِ؟ فَبَكَى، وَقَالَ: وَمَا عِبَادَتُكُمْ عِنْدَ عِبَادَتِنَا؟ "إن فِي السَّمَاءِ لمَلاَئِكَةٌ قِيَامًا لاَ يَجْلِسُونَ أَبَدًا، وَسُجُودًا لاَ يَرْفَعُونَ أَبَدًا، وَركّعًا لاَ يَقُومُونَ أَبَدًا، يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا عَبَدْنَاك حَقَّ عِبَادَتِكَ"، فبكى ذو القرنين ثم قال: يا رفائيل؛ إني أحب أن أعمَّر حتى أبلغ عبادةَ ربي حقّ طاعته، قال: وتحبُّ ذلك؟ قال: نعم، قال: فإنَّ لله عَيْنًا تسمَّى عَيْن الحَياةِ، مَن شَرِبَ منها شربةً لم يمت أبدًا، حَتَّى يكونَ هو الذي يَسْأل رَبه الموت، قال ذُو الْقَرْنَيْنِ: فهل تعلم مَوْضِعَها؟ قال: لاَ، غير أَنّا نتحدّث في السّمَاء أنَّ للهِ ظلمةً في الأرْضِ لم يَطَأْها إنسٌ ولا جانّ، فنحن نظنُّ أن تلك العين في تلك الظلمة، فجمع ذو القرنين علماءَ الأرض، فسألَهم عن عَيْنِ الحياة، فقالوا: لاَ نَعْرِفُهَا، قال: فهل وجدْتُم في علمكم أنّ لله ظلمة؟ فقال عالم منهم: لِمَ تسأل عن هذا؟ فأخبره، فقال: إني قرأتُ في وصية آدم ذكر هذه الظّلمة، وأنها عند قَرْن الشمس، فتجهَّزَ ذو القَرْنين، وسار اثنتي عشرة سنة، إلى أَنْ بلغ طرف الظلمة، فإذا هي ليست بليل، وهي تفور مثل الدّخان، فجمع العساكر، وقال: إني أريدُ أنْ أسلكها، فمنعوه، فسأله العلماء الذين معه أن يكفّ عن ذلك لئلا يسخطَ اللهُ عليهم، فأبى، فانتخب من عسكره ستةَ آلاف رجل على ستة آلاف فَرس أنثى بِِكر، وعقد للخَضِر على مقدمته في ألفي رجل، فسار الخضر بين يديه، وقد عرف ما يطلبُ؛ وكان ذو القرنين يكْتُمه ذلك، فبينما هو يسير إذ عارضه وادٍ، فظنَّ أن العينَ في ذلك الوادي، فلما أتى شَفِير الوادِي استوقف أصحابَه، وتوجَّه فإذا هو على حافة عَيْنٍ من ماء، فنزع ثيابَه، فإذا ماء أشدُّ بياضًا من اللبن، وأَحْلَى من الشّهد، فشرب منه، وتوضَّأ واغتسل، ثم خرج فلبس ثيابه، وتوجّه؛ ومَرّ ذو القرنين فأخطأ الظّلمة، وذكر بقية الحديث.
ويُروى عن كعب الأحبار، أنَّ الخضر كان وزير ذي القَرْنين، وأنه وقف معه على جبل الهند، فرأى ورقة فيها: "
{بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
، مِنْ آدَم أَبِي البَشَرِ إِلَى ذُرِّيَتِهِ: أوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرَكُمْ كَيْدَ عَدِّوي وَعَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ؛ فَإِنَّهُ أَنْزَلَنِي هُنَا"؛ قال: فنزل ذو القرنين، فمسح جلوسَ آدم، فكان مائة وثلاثين ميلًا.
ويُروى عن الحسن البصريّ، قال: وُكل إلياس بالفيافي، ووُكل الخضر بالبحور، وقد أعطيا الخُلْدَ في الدّنيا إلى الصيحة الأولى، وأنهما يجتمعان في مَوْسم كل عام.
وروى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ في "مسنده"، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
"إِنَّ الْخَضِرَ فِي البَحْرِ، واليَسعَ فِي البَرِّ، يَجْتَمِعَانِ كُلَّ ليَلَْةٍ عِنْدَ الرَّدْمِ الَّذِي بَنَاهُ ذُو القَرْنَيْنِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَيَحُجَّانِ وَيَعْتَمرانِ كُلَّ عَامٍ، وَيَشْرَبَانِ مِنْ زَمْزَمِكم شَرْبَةً تَكْفِيهِما إِلَى قَابِلٍ"
(*)
أورده المتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم 34051، والسيوطي في الدر المنثور 4 / 240
، قال ابن حجر العسقلاني: حديث متروك.
وروى عَبْدُ اللهَ بْنُ المُغِيرَةِ بسنده، عن كعب، قال: الخَضِر على منبر من نُورٍ بين البحر الأعلى والبحر الأسفل، وقد أمرت دوابّ البحر أن تسمع له وتُطيع، وتعرض عليه الأرواح غدوةً وعشية
(*)
ذكره العقيلي، وقال: عبد الله بن المغيرة يحدّث بما لا أصل له، وقال ابْنُ يُونُسَ: إنه منكر الحديث.
وروى ابْنُ شَاهِينَ بسند ضعيف إلى خُصيف، قال: أربعة من الأنبياء أحياء: اثنان في السماء؛ عيسى، وإدريس، واثنان في الأرض؛ الخَضِر، وإلياس، فأما الخضر فإنه في البحر، وأما صاحبه فإنه في البرّ.
وقال الثعلّبِيُّ: يقال إن الخَضِر لا يموت إلا في آخر الزمان عند رَفْع القرآن.
وقال النَّوَوِيُّ في تهذيبه: قال الأكثرون من العلماء: هو حيٌّ موجود بين أظهرنا؛ وذلك متفق عليه عند الصّوفية وأهل الصلاح والمعرفة؛ وحكايتُهم في رؤيتِه والاجتماعِ به والأخذِ عنه وسؤالِه وجوابه ووجودِه في المواضع الشريفة ومواطِن الخير أكثر مَنْ أن تُحْصَى، وأشهر من أن تذكر.
وقال أَبُو عَمْرو ابْنُ الصَّلاح في فتاويه: هو حيٌّ عند جماهير العلماءِ الصّالحين، والعامة منهم، قال: وإنما شَذّ بإنكاره بعضُ المحدثين.
قال ابن حجر العسقلاني: اعتنى بعضُ المتأخرين بِجَمْع الحكايات المأثورة عن الصّالحين وغيرهم ممن بعد الثلثمائة وبعد العشرين مع ما في أَسانيد بعضها ممن يُضعف، لكثرة أغلاطه أو اتهامه بالكذب، كأبي عبد الرحمن السلمي، وأبي الحسن بن جَهضم؛ ولا يقال يستفاد من هذه الأخبار التواتر المعنويّ؛ لأن التواتر لا يشترط ثقة رجاله ولا عدالتهم، وإنما العمدة على وُرود الخبر بعدَدٍ يستحيلُ في العادة تواطؤهم على الكذب؛ فإن اتفقت ألفاظُه فذاك وإن اختلفت فمهما اجتمعت فيه فهو التواتر المعنوي، وهذه الحكاية تجتمع في أَنَّ الخَضِر حيّ، لكن بطرق حكاية القَطْع بحياته قول بعضهم: إنَّ لكل زمانٍ خَضِرًا، وإنه نقيبُ الأولياء، وكلما مات نقيبٌ أقيم نقيبٌ بعده مكانه، ويسمى الخَضِر، وهذا قولٌ تداولته جماعةٌ من الصّوفية من غير نكِير بينهم، ولا يقطع مع هذا بأن الذي ينقل عنه أنه الخَضِر هو صاحبُ موسى؛ بل هو خضر ذلك الزمان، ويؤيده اختلافهم في صفته، فمنهم من يراه شيخًا أو كهلًا أو شابًا؛ وهو محمول على تغايُر المرئي وزمانه، والله أعلم.
وقال السُّهَيلِيُّ في كتاب "التعريف والأعلام": اسم الخَضِر مختلف فيه؛ فذكر بعضَ ما تقدم، وذكر في قول مَنْ قال: "إنه ابن عاميل بن سماطين بن أرما"، من نسل إسحاق، وأنَّ أباه كان مَلِكًا وأمُّه كانت فارسية اسمها "إلها"، وأنها ولدته في مغَارَةٍ، وأنه وجد هناك شاة تُرضعه في كل يوم من غَنَمِ رَجل من القرية، فأخذه الرجل ورَبّاه، فلما شبَّ طلب الملكُ كاتبًا يكتب له الصّحف التي أنزلت على إبراهيم، فجمع أهلَ المعرفة والنبالة، فكان فيمن أَقدم عليه ابنه الخَضِر وهو لا يعرفه؛ فلما استحسن خَطّه ومعرفتَه بحث عن جَلِيّة أمره حتى عرف أَنه ابنه فضمّه إلى نفسه وولاه أمر الناس، ثم إنّ الخَضِر فَرَّ من الملك لأسباب يطول ذكرها إلى أن وَجد عَيْنَ الحياة فشرب منها فهو حيٌّ إلى أن يخرج الدجّال؛ فإنه الرّجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه، قال السهيلي: وقيل إنه لم يدرك زمن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم؛ وهذا لا يصح، قال السهيلي: وقال البخاريّ، وطائفة من أهل الحديث: مات الخَضِر قبل انقضاء مائة سنة من الهجرة، وقال: ونصر شيخنا أبو بكر بن العربي هذا لقوله صَلَّى الله عليه وسلم:
"عَلَى رَأْسِ مَائةِ سَنَةٍ لاَ يَبْقَى عَلَى الأرْضِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدٌ"
(*)
، يريد ممَّن كان حيًا حين هذه المقالة، قال السهيلي: وأما اجتماعه مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم وتعزيته لأهل البيت وهم مجتمعون لغسله عليه الصلاة والسلام فرُويَ من طرقٍ صِحَاحٍ، منها: ما ذكره ابنُ عبد البر في "التمهيد"، وكان إمام أهل الحديث في وقته، فذكر الحديث في تعزية الصحابة بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم يسمعونَ القولَ ولا يرون القائل، فقال لهم عَلِي: هو الخَضِر، قال: وقد ذكر ابن أبي الدنيا من طريق مكحول، عن أنس، اجتماعَ إلياس النبيِّ بالنبيِّ صَلَّى الله عليه وسلم، وإذا جاز بقاء إلياس إلى العهد النبوي جاز بقاءُ الخَضِر، وتعقّبه أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةَ بأن الطرق التي أشار إليها لم يصح منها شيء، ولا يثبت اجتماعُ الخضِر مع أحدٍ من الأنبياء إلاّ مع موسى كما قصَّه الله مِنْ خبره، قال أبو الخطاب: وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهلِ النّقل، وإنما يَذْكرُ ذلك مَنْ يروي الخبر، ولا يذكر عِلّته، إما لكونه لا يعرفها، وإما لوضوحها عند أهل الحديث؛ قال أبو الخطاب: وأما ما جاء عن المشايخ فهو مما ينقم منه كيف يجوزُ لعاقلٍ أن يلقى شخصًا لا يعرفه، فيقول له: أنا فلان فيصدّقه؟ قال أبو الخطاب: وأما حديث التّعزية الذي ذكره أبو عُمَر فهو موضوع، رواه عَبْدُ اللهِ بْنُ المحرر، عن يزيد بن الأصم، عن عليّ، وابن محرر متروك، وهو الذي قال ابن المبارك في حقه كما أخرجه مُسلم في مقدّمة صحيحه: فلما رأيته كانت بعرة أحبّ إليّ منه؛ ففضل رؤيةَ النجاسة على رؤيته، قال ابن حجر العسقلاني: قد جاء ذكر التعزية المذكورة من غير رواية عبد الله بن محرر، كما سأذكره بعد؛ وأما حديثُ مكحول عن أنس فموضوع، ثم نقل تكذيبه عن أحمد، ويحيى، وإسحاق، وأبي زُرْعة؛ قال: وسياق المتنِ ظاهرُ النكارة، وأنه من الخرافات، وتمسَّك مَنْ قال بتعميره بقصة عَيْن الحياة، واستندوا إِلى ما وقع مِنْ ذِكْرها في "صحيح البخاري"، و "جامع الترمذي"؛ لكن لم يثبت ذلك مرفوعًا، فليحرر.
ذِكْر شيء من أخبار الخَضِر قبل بعثة النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: قد قص اللهُ تعالى في كتابه ما جرى لموسى عليه السلام، وأخرجه الشيخان مِنْ طرق، عن أُبيِّ بن كعب؛ وفي سياق القصّة زيادات في غير "الصّحيح"، وثبت في الصّحيحين أنَّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال:
"وَدِدتُ أنَّ مُوسَى صَبَرَ حَتَى يُقَصَّ علْينَا مِنْ أمْرِهمَا"
(*)
وهذا مما استدل به من زعم أنه لم يكن حالة هذه المقالةِ موجودًا؛ إذ لو كان موجودًا لأمكن أن يصحبه بعضُ أكابر الصحابة فيرى منه نحوًا مما رأى موسى، وقد أجاب عن هذا من ادَّعى بقاءَه بأن التمني إنما كان لما يقَعُ بينه وبين موسى عليه السلام، وغير موسى لا يقوم مقامه.
ومِنْ أخباره مع غير موسى ما أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" مِنْ وجهين: عن بقية بن الوليد، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
"أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ عَن الخضِر؟"
قالوا: بلى يا رسول الله قال:
"بَيْنَمَا هُوَ ذَات يَوْمٍ يَمْشِي في سُوقِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَبْصَرَهُ رَجُلٌ مُكَاتِبٌ، فَقَالَ: تَصَدَّقْ عَليَّ بَارَكَ الله فِيكَ، قَالَ الخضرُ: آمنتُ بِالله، مَا شَاءَ الله مِنْ أمرٍ يَكُنْ، مَا عِنْدِي مِنْ شَيْءٍ أُعْطِيكَه فَقَالَ المِسْكِينُ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ الله لَمَا تَصَدَّقْتَ علَيَّ، فَإِنِّي نَظَرْتُ السماحةَ في وَجْهِكَ، وَرَجَوْتُ البَرَكَةَ عِنْدَكَ، فَقَالَ الخَضِرُ: آمَنْتُ بِالله، مَا عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيكَهُ إِلاَّ أَنْ تأْخُذَ بِي فَتَبِيعَنِي، فَقَال الْمِسْكِينُ: وَهَلْ يَسْتَقيم هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، الحقُّ أَقولُ، لَقَدْ سَأَلْتَنِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، أَمَا إِنِّي لاَ أُخَيِّبُكَ بِوَجْهِ رَبِّي، بعْني، قَالَ: فَقَدَّمَهُ إِلَى السُّوق فَبَاعَهُ بِأَرْبَعمائَةِ دِرْهَمٍ، فَمَكَث عِنْدَ المُشْتَرِي زَمَانًا لاَ يَسْتَعْمِلُهُ في شَيْءٍ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ إِنمَا اشْتَرَيْتَنِي التماسَ خَيْرٍ عِنْدِي، فَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، إِنَّكَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعِيفٌ، قَالَ: لَيْسَ يَشُقُّ عَلَيَّ، قَالَ: فقم فَانْقلْ هذه الحِجَارَةَ، وكَانَ لاَ يَنْقِلُهَا دُونَ سِتَّةِ نَفَرٍ في يومٍ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَقَدْ نَقَلَ الْحِجَارَة في سَاعةٍ: فَقَالَ: أَحْسَنْتَ وأجْمَلْتَ، وأَطَقْتَ مَا لَمْ أَرَكَ تَطِيقُهُ قَالَ: ثمَّ عَرَضَ لِلرَّجُلِ سَفَرٌ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْسَبُكَ أَمِينًا، فَاخْلُفِني في أَهْلِي خِلاَفةً حَسَنَةً، قَالَ: نَعَمْ، وَأَوْصِنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ، قَالَ: لَيْسَ يَشُقُّ علَيَّ، قَالَ: فَاضْرِبْ مِنْ اللَّبِنِ لِبَيْتِي حَتَّى أَقْدِمَ عَلَيْكَ، قَالَ: وَمِرَّ الرَّجُلُ لَسَفرِه، ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ شَيَّد بِنَاءَهُ فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِوَجْهِ الله مَا سَبِيلُكَ وَمَا أَمْرُك؟ قَالَ: سَأَلْتَنِي بِوَجْهِ الله، ووَجْهُ الله أَوْقَعَنِي في العُبُودِيّة، فَقَالَ الخضِرُ: سَأُخْبِرُك مَنْ أَنَا؟ أَنَا الخَضِرُ الَّذِي سَمِعْتَ بِِهِ، سَأَلَنِي مِسْكِينٌ صَدَقَةً فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي شَيْءٌ أُعْطِيهُ فَسَأَلَنِي بِوَجِهْ الله، فمَكَّنْتُه مِنْ رَقَبَتِي فَبَاعَنِي، وَأُخْبِرُكَ أَنَّهُ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ الله فَرَدَّ سَائِلَهُ وَهُوَ يَقْدِرُ وَقَفَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِهِ جِلْدٌ وَلاَ لَحْمٌ وَلاَ عَظْمٌ يَتَقَعْقَعُ". فَقَالَ الرَّجُلُ: آمَنْتُ بِالله، شَقَقْتُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ الله وَلَمْ أَعْلَمْ قَالَ: لاَ بَأْسَ، أَحْسَنْتَ وَأَبْقَيْتَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: بأَبي وَأُمِّي يَا نَبِيَّ الله، احْكُمْ في أَهْلِي وَمَالِي بِمَا شِئْتَ، أَوْ اخْتَرْ فأُخلِّي سَبِيلَكَ قَالَ: أُحِبُّ أَنْ تَخلِّي سَبِيلي، فَأَعْبُدَ رَبِّي، قَالَ: فَخَلّى سَبِيلَهُ، فَقَالَ الخَضِرُ: الْحَمْدُ لله الَّذِي أَوْثَقَنِي في العُبُودِيَّةِ ثُمَّ نَجَّانِي مِنهَا
(*)
"، قال ابن حجر العسقلاني: وسندُ هذا الحديث حسن لولا عَنْعنة بقية، ولو ثبت لكان نصًّا أن الخَضِر نبي لحكاية النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم وقول الرجل: يا نبيّ الله، وتقريره على ذلك.
وقد اختلف في كون الخضر نبيًا، وفي طول عُمْره، وبقاءِ حياته؛ وعلى تقدير بقائه إلى زمنِ النبي صَلَّى الله عليه وسلم وحياته بعده، فهو داخل في تعريف الصّحابي على أحد الأقوال؛ قال ابن حجر العسقلاني: ولم أََرَ منْ ذكَره فيهم من القدماء، مع ذهاب الأكثر إلى الأخْذِ بما ورد من أخباره في تعميره وبقائه، وقد جمعتُ من أخباره ما انتهى إليَّ علمه مع بيانِ ما يصحُّ من ذلك، وما لا يصح.
وذكر الْفَاكِهِيُّ في "كتاب مكّة"، عن جعفر بن محمد بن علي هو الصادق بن الباقر، قال: كنت مع أبي بمكة في ليالي العشر وأبي قائمٌ يُصلّي في الحِجْر، فدخل عليه رجل أبيض الرأس واللحية، شَثن الآراب، فجلس إلى جنب أبي فخفّف، فقال: إني جئتُك يرحمك الله تُخبرني عن أول خَلْق هذا البيت، قال: ومَنْ أنت؟ قال: أنا رجل من أهل هذا المغرب، قال: إنّ أول خَلْق هذا البيت أن الله لما ردّ عليه الملائكة حيث قالوا:
{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا}
[البقرة: 30] غضب، فطافوا بعَرْشِه، فاعتذروا فرَضِيَ عنهم، وقال: اجعلوا لي في الأرض بيتًا يطوفُ به من عبادي مَنْ غَضبت عليه، فأرْضَى عنه كما رضيت عنكم، فقال له الرجل: إي يرحمك الله، ما بقي مِنْ أهل زمانك أعلم منك، ثم وَلَّى فقال لي أبي: أدرك الرجل فردّه علي، قال: فخرجتُ وأنا أنظر إليه، فلما بلغ بَابَ الصَّفَا مثَل فكأنه لم يكُ شيئًا، فأخبرت أبي، فقال: تَدْري مَنْ هذا؟ قلت: لا، قال: هذا الخَضِرُ، وهكذا ذكره الزُّبَيْرُ في "كتاب النّسب" بهذا السّند؛ وفي روايته: أبيض الرأس واللحية، جليل العِظام، بَعِيد ما بين المنكبين، عَريض الصدر، عليه ثوبان غليظان في هيئة المحرم، فجلس إلى جَنْبه فعلم أنه يريد أَنْ يخفّف، فخفف الصلاة فسلم ثم أقبل عليه، فقال له الرجل: يا أبا جعفر... وأخرج ابْنُ عَسَاكِرَ من طريق إبراهيم بن عبد الله بن المغيرة، عن أبيه، حدّثني أبي أنَّ قوّام المسجد قالوا للوليد بن عبد الملك: إنّ الخَضِرَ كلّ ليلة يُصلّي في المسجد، وذكر إسحاق بن إبراهيم الجَبلي في كتاب "الدّيباج" له، عن داود بن يحيى مولى عَوْن الطُّفَاوي، عن رجل كان مُرابطًا في بيت المقدس، وبعَسْقَلان قال: بينا أنا أسير في وادي الأرْدنّ إذا أنا برجل في ناحية الوادي قائم يصلي، فإذا سحابة تظلُّه من الشمس، فوقع في قلبي أنه إلياس النبي، فأتيته فسلمت عليه؛ فانفتل مِنْ صلاته فردّ عليّ السلام، فقلت له مَنْ أنتَ يرحمك الله؟ فلم يرد علىّ شيئًا، فأعَدْتُ عليه القولَ مرّتين، فقال: أنا إلياس النبيّ فأخذتني رِعْدَةٌ شديدة خشيتُ على عَقْلي أن يذهب، فقلت له: إنْ رأيت يرحمك الله أنْ تدعو لي أن يُذْهِب الله عني ما أجِدُ حتى أفهم حديثك، قال: فدعا لي بثمان دعوات، فقال: يا برّ يا رَحيم، يا حيّ يا قيّوم، يا حنّان يا منّان، "يا هياشر" اهيا، فذهب عني ما كنْتُ أجد فقلت له: إلى مَنْ بُعثت؟ قال: إلى أهل بعلبك قلت: فهل يُوحى إليك اليوم؟ فقال: أما بعد بَعْثِ محمد خاتم النبيّين فلا، قلت: فكم من الأنبياء في الحياة؟ قال: أربعة، أنا والخَضِر في الأرض، وإدريس وعيسى في السماء، قلت: فهل تلتقي أنت والخَضِر؟ قال: نعم في كل عام بعرفات، قلت: فما حديثُكما؟ قال: يأخذ من شِعْري وآخذ من شِعْره، قلت: فكم الأبدال؟ قال: هم ستون رجلًا: خمسون ما بين عريش مصر إلى شاطىء الفرات، ورجلان بالمصيصَة، ورجل بأنطاكية، وسبعة في سائر الأمصار بهم تُسْقَون الغَيث، وبهم تُنصرون على العدوّ، وبهم يُقيم اللهُ أمْر الدنيا حتى إذا أراد أن يُهلك الدنيا أماتهم جميعًا. وفي إسناده جهالة ومتروكون.
وذكر ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في "التفسير"، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، أنَّ عليَّ بن أبي طالب قال لما تُوفي النبي صَلَّى الله عليه وسلم وجاءت التعزية، فجاءهم آتٍ يسمعون حِسَّهُ ولا يرون شَخْصه، فقال: السّلام عليكم أهْلَ البيت ورحمة الله وبركاته، كُلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموت، وإنما تُوَفَّوْنَ أجورَكم يوم القيامة، إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وخَلَفًا من كل هالك، ودركًا من كل ما فات، فبالله فثقُوا، وإياه فارجوا؛ فإن المصاب مَنْ حرم الثواب، قال جَعْفَرُ: أخبرني أبي أنَّ عليّ بن أبي طالب قال: تَدْرَون مَنْ هذا؟ هذا الخَضِر. قال ابْنُ الْجَوزِيِّ: تابعه محمد بن صالح، عن محمد بن جعفر؛ ومحمد بن صالح ضَعِيف، قال ابن حجر العسقلاني: ورواه الواقديّ، وهو كذّاب؛ قال: ورواه محمد بن أبي عمر، عن محمد بن جعفر وابن أبي عمر مجهول، وهذا الإطلاق ضعيف، فإنّ ابن أبي عمر أَشهر من أن يُقال فيه هذا، هو شيخ مسلم وغيره من الأئمة، وهو ثقةٌ حافظ، صاحبُ مسند مشهور مرويّ.
وروى محمد بن جعفر بن محمد، قال: كان أبي ــ هو جعفر بن محمد الصّادق ــ يذكر عن أبيه، عن جده، عن عليّ بن أبي طالب أنه دخل عليهم نَفَرٌ من قريش فقال: ألا أحدِّثكم عن أبي قاسم؟ قالوا: بلى، فذكر الحديث بطوله في وفاة النبي صَلَّى الله عليه وسلم: وفي آخره: فقال جِبْرَائِيلُ: "يَا أَحْمَدُ، عَلَيْكَ السَّلاَمُ، هَذَا آخِرُ وَطْئِي الأرْضَ، إِنَّمَا كُنْتَ أنْتَ حَاجَتِي مِنَ الدُّنْيَا"، فلما قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وجاءت التعزية جاء آتٍ يسمعون حِسَّهُ ولا يرون شخصه، فقال: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ وَرَحْمَةُ اللهِ، إنّ في اللهَ عزاءً عَنْ كُلّ مُصيبَةٍ، وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَركًا مِنْ كُلّ فَائِتٍ، فَبالله فَثِقُوا، وَإِيَّاهُ فَارْجُوا؛ فَإِنَّ الْمَحْرُومَ مَنْ حُرِمَ الثّوابَ، وإن المصَابَ مَنْ حُرم الثّواب، والسّلام عليكُم
أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 7/268
. فقال عليّ: هل تَدْرُونَ مَنْ هذا؟ هذا الخَضِر. قال ابن حجر: ومحمد بن جعفر هذا هو أخو موسى الكاظم حدَّث عن أبيه وغيره، وروى عنه إبراهيم بن المنذر وغيره، وكان قد دَعَا لنفسه بالمدينة ومكة، وحجَّ بالنّاس سنة مائتين، وبايعوه بالخلافة، فحجَّ المعتصم فظفر به، فحمله إلى أخيه المأمون بخُرَاسان، فمات بجرجان سنة ثلاث ومائتين، وذكر الْخَطِيبُ في ترجمته أنه لما ظفر به صعد المنبر فقال: أيُّها الناس، إني قد كنتُ حدَّثتكم بأحاديث زَوَّرْتُهَا، فشقّ الناسُ الكتبَ التي سمعوها منه، وعاش سبعين سنة، قال البُخَارِيُّ: أخوه إسحاق أوثق منه، وأخرج له الحاكم حديثًا: قال الذهبي: إنه ظاهر النكارة في ذِكْرِ سليمان بن داود عليهما السلام.
وأخرج البَيْهَقِيُّ في "الدَّلائِلِ" بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: لما تُوفِّي رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم عَزَّتْهم الملائِكَة يَسْمَعُون الحِسّ ولا يرَوْنَ الشَّخْصَ، فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إن في الله عزاءً من كلّ مصيبة، وخلفًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المحروم مَنْ حُرِم الثّواب، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(*)
، وأخرج سَيْفُ بْنُ عُمَر التَّمِيميُّ في كتاب "الردّة" له، عن سعيد بن عبد الله، عن ابن عمر قال: لما تُوفِّي رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم جاء أبو بكر حتى دخل عليه، فلما رآه مسجىً قال:
{إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
[البقرة: 156]؛ ثم صلى عليه، فرفع أهلُ البيت عجيجًا سمعه أهلُ المصلى، فلما سكن ما بهم سمعوا تسليمَ رجُل على الباب صيِّت جليد، يقول: السَّلام عليكم يا أهل البيت، كُلُّ نَفْسٍ ذَائقَة المَوْتِ، وَإِنَّمَا توفوْنَ أُجُورَكم يَوْمَ القِيَامَةِ، ألا وإنّ في الله خلفًا من كلّ أحد، ونجاةً من كل مخافة، والله فارجوا، وبه فثِقُوا؛ فإنّ المصَاب مَنْ حُرمَ الثواب، فاستمعوا له، وقطعُوا البكاء، ثم اطلعوا فلم يروا أحدًا، فعادُوا لبكائهم فناداهم منادٍ آخر: يا أهل البيت، اذكروا الله واحمدوه على كل حال تكونوا من المخلصين؛ إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضًا من كل هلكة، فبالله فثقوا، وإياه فأطيعوا، فإن المصاب مَنْ حُرم الثواب، فقالَ أَبُو بَكْرٍ: هذا الخَضِر وإلياس قد حضرا وفاةَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: وَسنده فيه مقالٌ، وشيخَه لا يُعرف.
وقال ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حدثنا كامل بن طلحة، حدثنا عباد بن عبد الصّمد، عن أَنس ابن مالك، قال: لما قُبض رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم اجتمع أصحابُه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل أشعر طَويل المنكبين في إزارٍ ورداءٍ، يتخطَّى أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى أخذ بعضادتي باب البيت، فبكى ثم أقبل على أصحابه، فقال: إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وعوضًا مِنْ كل ما فات، وخلفًا من كل هالك؛ فإلى الله فأنِيبوا، وبنظره إليكم في البلاء فانظروا؛ فإنما المصاب منْ لم يُجْزَ الثّوابَ؛ ثم ذهب الرجل، فقال أَبُو بَكْرٍ: عليّ بالرجل، فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا فقال أبو بكر: لعل هذا الخَضِر، أخو نبينا جاء يعزِّينا عليه صَلَّى الله عليه وسلم. قال ابن حجر: و"عباد" ضعَّفه البخاريّ، والعقيليّ؛ وقد أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ في "الأوسط"، عن موسى بن أبي هارون، عن كامل، وقال: تفرد به عباد، عن أنس.
وذكر ابْنُ شَاهِينَ في كتاب "الجنائز" له، عن محمد بن المنكدر قال: بينما عُمر بن الخطاب يصلي على جنازة إذا هاتفٌ يهتِفُ مِنْ خَلْفه: ألا لا تسبقنا بالصلاة يرحمك الله، فانتظره حتى لحق بالصفِّ فكبر، فقال: إن تعذّبه فقد عَصَاكَ، وإن تغفر له فإنه فقير إلى رحمتك، فنظر عُمر وأصحابه إلى الرجل، فلما دفن الميت سوَّى الرجل عليه من تراب القبر، ثم قال: طوبَى لك يا صاحبَ القبر إن لم تكن عريفًا أو خائنًا أو خازنًا أو كاتبًا أو شرطيًّا، فقال عُمَرُ: خذوا لي هذا الرجل نسأله عن صلاته وعن كلامه، فتولى الرجل عنهم، فإذا أثر قدمه ذراع، فقال عمر: هذا هو والله الخَضِر الذي حدثنا عنه النبي صَلَّى الله عليه وسلم. قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: فيه مجهول وانقطاع بين ابن المنكدر وعمر.
وذكر ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عن عمر بن محمد بن المنكدر قال: بينما رجل يَمْشي يبيع شيئًا ويحلف قام عليه شيخ فقال: يا هذا، بِعْ ولا تحلف؛ فعاد يحلف فقال: بِعْ ولا تحلف فقال: أَقْبِل على ما يعنيك، قال: هذا ما يعنيني، ثم قال: آثر الصدق على ما يضرك على الكذب فيما ينفعك، وتكلَّم فإذا انقطع علمك فاسكت، واتَّهم الكاذب فيما يحدثك به غيرك فقال: أكتِبني هذا الكلام، فقال: إن يقدر شيء يكن، ثم لم يره، فكانوا يَرَوْن أنه الخضر. قال ابْنُ الجَوْزِيِّ: فكأن هذا أصل الحديث، وقد رواه أبو عمرو بن السّماك في فوائده، عن يحيى بن أبي طالب، عن علي بن عاصم، عن عبد الله بن عُبيد الله قال: كان ابن عمر قاعدًا؛ ورجل قد أقام سِلْعَتَهُ يُريد بَيْعها، فجعل يكرر الأيمان، إذ مَرَّ به رجل، فقال: اتَّق الله ولا تحلف به كاذبًا، عليك بالصِّدق فيما يضرُّك، وإياك والكذب فيما ينفعك، ولا تزيدنَّ في حديث غيرك، فقال ابن عمر لرجل: اتبعه فقل له: أكتبني هذه الكلمات، فتبعه، فقال: ما يُقْضى من شيء يَكُنْ، ثم فقده، فرجع فأخبر ابْنَ عمر، فقال ابن عمر: ذاك الخَضِر، قال ابْنُ الجَوْزِي: علي بن عاصم ضعيف سيّىء الحفظ، ولعله أراد أن يقول: عمر بن محمد بن المنكدر، فقال: ابن عمر، قال: وقد رواه أحمد بن محمد بن مصعب أحد الوضَّاعين، عن جماعة مجاهيل، عن عطاء، عن ابن عطاء، عن ابن عمر، قال ابن حجر العسقلاني: وجدتُ له طريقًا جيدة غير هذه عن ابن عمر؛ فذكر البيهقيّ في "دَلاَئِلِ النبوّة" نحوه.
وذكر ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا بسنده، عن محمد بن يحيى، قال: قال علي بن أبي طالب: بينما أنا أطوفُ بالبيت إذا أنا برجل معلَّق بالأستار وهو يقول: يا مَنْ لا يشغله شيء عن سَمع، يا من لا يغلظه السّائلون، يا مَنْ لا يتبرم بإلحاح الملحّين، أذِقْني بَرْدَ عفوك، وحلاوة رحمتك، قال: قلت: دعاؤك هذا عافاك الله أعِدْه، قال: وقد سمعته؟ قلت: نعم، قال: فادْع به دُبُرَ كلِّ صلاَةٍ، فوالذي نَفْسُ الخَضِر بيده لو أن عليك من الذنوب عددَ نجوم السماء، وحصى الأرض، لغفر الله لك أسرع من طُرفة عَيْنٍ. وأخرجه الدينوريّ في "المجالسة" مِن هذا الوجه، وقد روى يزيد بن الأصمّ، عن علي بن أبي طالبّ، فذكر نحوه، لكن قال: فقلْتُ: يا عبد الله، أعِد الكلام، قال: وسمعته؟ قلتُ: نعم، قال: والذي نفسُ الخضر بيده ــ وكان الخضر يقولهنّ عند دُبُرِ الصّلاة المكتوبة ــ لا يقولها أحد دُبُرَ الصّلاة المكتوبَةِ إلا غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وإن كَانَتْ مِثْلَ رَمْلِ عَاِلجٍ، وعَدَد القَطْرِ، وَوَرَقِ الشَّجَرِ. ورواه محمد بن معاذ الهروي، عن محمد بن حُميد، عن سفيان الثوري نحوه.
وروى سَيْفٌ في "الفتوح" أن جماعة كانوا مع سعد بن أبي وقاص فرأوا أبا مِحْجَن وهو يقاتل، فذكر قصّة أبي مِحْجن بطولها، وأنهم قالوا ــ وهم لا يعرفونه: ما هو إلا الخَضِر؛ وهذا يقتضي أنهم كانوا جازمين بوجود الخَضِر في ذلك الوقت، وروى أَبُو عَبْدِ الله بن بَطّة العُكْبَرِي الحنبلي بسنده، عن أبين بن سفيان، عن غالب بن عبد الله العُقيلي، عن الحسن البصري، قال: اختلف رجل مِنْ أهل السنّة، وغيلان القَدَري في شيء من القَدر، فتراضيا بينهما على أول رجل يطلع عليهما من ناحية ذكَرَاها، فطلع عليهما أعرابيٌّ قد طوى عباءته فجعلها على كتفه، فقالا له: رضيناك حَكَمًا فيما بيننا، فطوى كساءه، ثم جلس عليه، ثم قال: اجلسا، فجلسا بين يديه، فحكم على غيلان، قال الحسن: ذاك الخَضِرُ. وفي إسناده أبين بن سفيان متروك الحديث.
وقال حَمَّاد بْنُ عُمَرَ النَّصِيبي، أحَد المتروكين: حدّثنا السّري بن خالد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، أنَّ مولى لهم ركب في البحر فكسر به، فبينما هو يسير على ساحله إذ نظر إلى رجُل على شاطىء البحر ونظر إلى مائدةٍ نزلت من السّماء، فوُضعت بين يديه، فأكل منها، ثم رفعت، فقال له: بالذي وفقك لما أرى، أيّ عباد الله أنتِ؟ قال: الخَضِر الذي تسمع به، قال: بماذا جاءك هذا الطّعامُ والشّراب؟ فقال: بأسماء الله العِظَام.
وأخرج أحمد في كتاب "الزُّهْدِ" لَهُ بسنده، عن عَوْن بن عبد الله بن عتبة، قال: بينما رجل في بستانٍ بمصر في فتنة ابن الزبير مهمومًا مُكِبًّا ينكث في الأرض بشيءٍ إذ رفع رأسه، فإذا بفتى صاحب مسْحاة قد سنح له قائمًا بين يديه، فرفع رأسه، فكأنه ازدَرَاه، فقال له: ما لي أراكَ مهمومًا؟ قال: لا شيء، قال: أما الدنيا فإنَّ الدّنيا عَرَضٌ حاضر يأكل منه البَرُّ والفَاجِر، وإنّ الآخرة أَجَلٌ صَادِق يَحْكُم فِيهِ مَلِكٌ قَادِرٌ، حتى ذكر أنَّ لها مفصلًا كمفاصل اللحم، مَنْ أخطأ شيئًا منها أخطأ الحق، قال: فلما سمع ذلك منه أعجبه، فقال: اهتمامي بما فيه المسلمون، قال: فإن الله سيُنجيك بشفقتِك على المسلمين، وسأل مَنْ ذَا الّذِي سأل الله فلم يُعطِهِ، أو دَعَاه فلم يُجِبْهُ، أو تَوَكَّل عَلَيْه فَلَمْ يَكْفِهِ، أو وَثِق به فلم يُنْجه قال: فطفقتُ أقول: اللهم سَلّمني وسلّم منّي قال: فتجلَّت ولم يُصَبْ فيها بشيء، قال مِسْعَر: يرون أنه الخضر. وأخرجه أَبُو نُعَيْمٍ في "الحلية" في ترجمة عَوْن بن عبد الله، وقال بعده: ورواه ابن عيينة، عن أبي مِسْعر، وروى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بسنده، عن أبي سعيد، في قصة الدجال الحديث بطوله؛ وفيه قصة الذي يقتله، وفي آخره: قال معمر: بلغني أنه يجعل على حلقه صفيحة مِنْ نحاس، وبلغني أنه الخَضِر؛ وهذا عزاه النوويّ لـ"مسند معمر"، فأوهم أنَّ له فيه سندًا؛ وإنما هو قول معمر. وروى أَبُو نُعَيْمٍ في "الحلية" بسنده، عن أحمد بن حميد، عن سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ قال: بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا برجل مُشرِف على الناس حسَن الشيبة، فقلنا بعضُنَا لبعض: ما أشبه هذا الرجل أن يكون مِنْ أهل العلم، فاتبعناه حتى قضى طوافه فسار إلى المقام فصلّى ركعتين، فلما سلّم أقبل على القبلة فدعا بدعوات، ثم التفت إلينا فقال: هل تدْرُون ماذا قال ربكم؟ قلنا: وماذا قال ربُّنا؟ قال: قال ربكم: أنا المَلِكُ أَدْعُوكُمْ إلَى أَنْ تَكُُونُوا مُلُوكًا، ثم أقبل على القبلة فدعا بدعوات، ثم التفت إلينا، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قلنا له: وماذا قال ربنا؟ حدثنا يرحمك الله، قال: قال ربكم: أَنَا الحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، أَدْعُوكُمْ إلَى أَنْ تَكُونُوا أحْيَاء لا تَمُوتُونَ. ثم أقبل على القبلة فدعا بدعوات، ثم التفت إلينا فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم: قلنا: ماذا قال ربنا؟ حدِّثْنا يرحمك الله قال: قال ربكم: أَنَا الَّذِي إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا كَانَ، أَدْعُوكُمْ إلَى أَنْ تَكُونُوا بِحَالٍ إِذَا أَرَدْتُمْ شَيْئًا كَانَ لَكُمْ، قال ابْنُ عُيَيْنَةَ: ثم ذهب فلم نره، قال: فلقيت سفيان الثوريّ، فأخبرته بذلك: فقال: ما أشبه أن يكون هذا الخَضِر، أو بعض هؤلاء الأبدال.
وروى أَبُو سَعِيدٍ في "شرف المصطفى" بسنده، عن مَيْسرة بن سعيد، عن أبيه: بينما الحسن في مجلس والناس حوْله إذا أقبل رجل مخضرة عيناه، فقال له الحسن: أهكذا ولدتك أمك أم هي بلية؟ قال: أو ما تعرفني يا أبا سعيد؟ قال: من أنت؟ فانتسب له فلم يَبْقَ في المجلس أحد إلا عرفه، فقال: يا هذا، ما قِصَّتُك؟ قال: يا أبا سعيد، عمدت إلى جميع مالي فألقيته في مركب فخرجت أريد الصّين، فعصفَت علينا ريح فغرقت، فخرجت إلى بعض السّواحل على لوح فأقمت أتردَّد نحوًا من أربعة أشهر آكُلُ ما أصيب من الشّجر والعشب، وأشرب من ماء العيون، ثم قلت لأمضينَّ على وجهي إما أن أهلك وإما أن ألحق الجواء، فسِرْتُ فرُفِع لي قصر كأنه بناء فضة، فدفعتُ مِصْراعه، فإذا داخله أَرْوِقة في كل طاق منها صندوق من لؤلؤ وعليها أقفال مفاتِيحُها رأى العين، ففتحتُ بعضها فخرجت من جَوْفه رائحة طيبة، وإذا فيه رجالٌ مدرجون في ألوان الحرير، فحرَّكتُ بعضهم، فإذا هو ميت في صفة حيّ، فأطبقتُ الصّندوق وخرجت، وأغلقت بابَ القصر ومضيت فإذا أنا بفارسين لم أرَ مِثْلَهُما جمالًا على فرسين أَغَرَّين محجَّلَين، فسألاني عن قصتي فأخبرتهما، فقالا: تقدَّم أمامك، فإنك تصل إلى شجرة تحتها رَوْضَة، هنالك شيخٌ حسن الهيئة على دكّان يصلّي فأخبِره خبرك، فإنه سَيُرْشِدك إلى الطريق، فمضيت فإذا أنا بالشّيخ، فسلّمت فردّ علي وسألني عن قصتي، فأخبرته بخبري كله، ففزع لما أخبرته بخبر القَصْر، ثم قال: ما صنعتَ؟ قلت: أطبقت الصناديق، وأغلقتُ الأبواب: فسكن؛ وقال: اجلس، فمرَّت به سحابة؛ فقالت: السّلام عليك يا وليّ الله، فقال: أين تريدين؟ قالت: أريد بلد كذا وكذا، فلم تَزلْ تمرُّ به سحابةٌ بعد سحابة حتى أقبلت سحابة فقال: أين تريدين؟ قالت: البصرة، قال: انزلي، فنزلت فصارت بين يديه، فقال: احملي هذا حتى تردِّيه إلى منزله سالمًا، فلما صرت على مَتْنِ السّحابة قلت: أسألك بالذي أكرمك إلاّ أخبرتني عن القصر، وعن الفارسين، وعَنك قال: أما القصر فقد أكرم الله به شهداء البحر، ووكل بهم ملائكة يلقطونهم من البحر فيصيرونهم في تلك الصّناديق مُدْرَجين في أكفان الحرير، والفارسان مَلَكان يَغدُوان ويروحان عليهم بالسّلام مِنَ الله، وأما أنا فالخَضِر؛ وقد سألتُ رَبّي أنْ يحشرني مع أمّة نبيكم، قال الرّجل: فلما صرتُ على السّحابة أصابني من الفزَع هَوْلٌ حتى صرت إلى ما ترى، فقال الحسن: لقد عايَنْت عَظِيمًا.
وروى الطّبراني في كتاب "الدعاء" له بسنده، عن أبي عبد الله بن التوأم الرقاشي، أنَّ سليمان بن عبد الملك أخافَ رجلًا وطلبه ليقتله، فهرب الرجل، فجعلت رسلُه تختلف إلى منزل ذلك الرجل يطلبونه فلم يظفروا به، فجعل الرجلُ لا يأتي بلدة إلا قيل له: قد كنت تُطْلَب هاهنا، فلما طال عليه الأمْرُ عزم أن يأتي بلدةً لا حُكْم لسليمان عليها، فذكر قصّة طويلة فيها: فبينا هو في صحراء ليس فيها شَجَر ولا ماء إذ هو برجل يصلّي، قال: فَخِفْتُه، ثم رجعتُ إلى نفسي فقلت: والله ما معي راحلة ولا دابة؛ قال: فقصدت نحوه فركع وسجد، ثم التفت إليّ فقال: لعل هذا الطّاغي أخافَك؟ قلت: أجل، قال: فما يمنعك من السّبع؟ قلت: يرحمك الله، وما السّبْعُ؟ قال: قل سُبْحَان الوَاحِد الذي ليسَ غيره إله، سبحان القديم الذي لا بادئ له، سبحان الدائم الذي لا نفاد له، سبحان الذي كلّ يوم هو في شأنٍ، سبحان الذي يحيي ويميت، سبحان الذي خلق ما نرى وما لا نرى، سبحان الذي علم كل شيء بغير تعليم، ثم قال: قُلْها فقُلْتُها وحفظتها والتفتُّ فلم أرَ الرجل، قال: وألقى الله في قلبي الأمْن، ورجعت راجعًا من طريقي أرِيدُ أهلي، فقلت: لآتين باب سليمان بن عبد الملك، فأتيت بابَه فإذا هو يوم إذْنه وهو يأذَنُ للنّاس، فدخلتُ وإنه لعلى فراشِه، فما عَدَا أنْ رآني فاستوى على فِراشه، ثم أومأ إليّ، فما زال يُدْنِيني حتى قعدتُ معه على الفراش، ثم قال: سحرتني، وساحر أيضًا ما بلغني عنك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، ما أنا بساحر، ولا أعرف السّحر ولا سحرتك، قال: فكيف؟ فما ظننت أن يتمَّ مُلْكي إلا بقتلك، فلما رأيتك لم أستقرّ حتى دعوتك، فأقعدتك معي على فراشي، ثم قال: أصدقني أمرك، فأخبرته، قال: يقول سُلَيْمَانُ: الخَضِر والله الّذِي لا إله إلا هو علَّمكها، اكتبوا له أمانًا، وأحسنوا جائزته، واحملوه إلى أهله.
وأخرج أَبُو نُعَيْمٍ في "الحلية" بسنده، عن رجاء بن حَيْوَة، قال: إني لواقفٌ مع سليمان بن عبد الملك، وكانت لي منه منزلة إذ جاء رجل ذَكَر رجاء من حسن هيئته، قال: فسلَّم فقال: يا رجاء، إنك قد ابتليتَ بهذا الرجل وفي قربِهِ الزيغ، يا رجاء، عليك بالمعروف، وعَوْن الضعيف، واعلم يا رجاء: أنه مَنْ كانت له منزلة من السلطان، فرفع حاجة إنسان ضعيف، وهو لا يستطيع رَفْعها لقي الله يوم القيامة وقد ثبت قدميه للحساب، واعلم أنه مَنْ كان في حاجة أخيه المسلم كان الله في حاجته، واعلم يا رجاء أنَّ من أحب الأعمال إلى الله فَرَجًا أدخلته على مسلم، ثم فقده، وكان يرى أنه الخَضِر عليه السّلام.
وذكر الزُّبَيْر بْنُ بَكَّار في "الموفقيات" بسنده، عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، وكان يصلّي في اليوم والليلة ألْفَ ركعة، ويصوم الدَّهْرَ قال: بِتُّ ليلة في المسجد، فلما خرج الناسُ إذا رجل قد جاء إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم فسلم، ثم أسندَ ظهره إلى الجدار، ثم قال: اللهم إنك تعلم أني كنْتُ أمسي صائمًا، ثم أمسيتُ فلم أفطر على شيء، وظللتُ اليوم صائمًا، ثم أمسيت فلم أفطر على شيء، اللهم وإني أمسيت أشْتَهي الثريد، فأطعمنيها مِنْ عندك، قال: فنظرت إلي وَصِيفٍ داخلٍ من خَوْخَة المنارة ليس في خلقه صفة النّاس، معه قصْعة فأَهْوَى بها إلى الرجل، فوضعها بين يديه، وجلس الرجل يأكل وحَصَبني، فقال: هلُمّ، فجئت وظننتُ أنها من الجنة فأحببتُ أن آكلَ منها، فأكلت منها لقمةً فإذا طعام لا يُشْبه طعام أهل الدّنيا، ثم احتشمت فقمْتُ فرجعت إلى مكاني، فلما فرغ من أَكِله أخذ الوصيفُ القصعةَ ثم أهوى راجعًا من حيث جاء، ثم قام الرجل منصرفًا فاتبعته لأعرفه، فمَثَلَ، فلا أدري أين سلك، فظننته الخَضِر.
وروى أبو عمر النَّصيبي، قال: خرجت أطلبُ مسلمة بن مَصْقلة بالشام، وكان يقال: إنه من الأبدال، فلقيته بوادِي الأُردنّ، فقال لي: ألا أخبرك بشيء رأيْتُه اليوم في هذا الوادي؟ قال: قلت: بلى؛ قال: دخلتُ اليوم هذا الوادي فإذا أنا بشيخ يصلِّي إلى شجرة، فألقي في روعي أنه إليَاس النبيّ، فدنوت منه فسلّمْتُ عليه، فركع، فلما جلس سَلّم عن يمينه وعن شماله، ثم أقبل عليّ فقال: وعليك السلام؛ فقلت مَنْ أَنْتَ يرحمك الله؟ قال أنا إلياس النبيّ، قال: فأخذتني رِعْدَةٌ شديدة حتى خررت على قَفَاي، قال: فدنا مني فوضع يَده بين يدي فوجدتُ بَرْدَهَا بين كتفي، فقلت: يا نبي الله، ادْع الله أن يُذهب عني ما أجِدُ حتى أفهم كلامك عنك فدعا لي بثمانية أسماء: خمسة منها بالعربية، وثلاثة بالسريانية، فقال: يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا فرد، يا وتر. ودعا بالثلاثة الأسماء الأخر فلم أعرفها، ثم أخذ بيدي فأجلسني؛ فذهب عني ما كنْتُ أجد، فقلت: يا نبيّ الله، ألم تر إلى هذا الرجل ما يَصنع؟ يعني مروان بن محمد، وهو يومئذ يحاصِرُ أَهْلَ حِمص؛ فقال لي: مَا لَكَ وَمَا لَهُ؟ جَبَّارٌ، عَاتٍ على الله فقلت: يا نبيّ الله، أما إني قد مررتُ به قال: فأعرض عني، فقلت: يا نبي الله، أما إني وإن كنت قد مررت بهم فإني لم أَهْو أحدًا مِن الفريقين، وأنا أستغفر الله وأتوبُ إليه، قال: فأقبل عَلَيّ بوجهه، ثم قال لي: قد أحسنت، هكذا فقل ثم لا تعد، قلت: يا نبيّ الله، هل في الأرض اليوم من الأبدال أحد؟ قال: نعم، هم ستون رجلًا، منهم خمسون فيما بين العريش إلى الفرات، ومنهم ثلاثة بالمِصيّصة، وواحد بأنطاكية، وسائر العشرة في سائر أمصار العرب. قلت: يا نبي الله، هل تلتقي أنْتَ والخضر؟ قال: نعم، نلتقي في كل موسم بمنى. قلت: فما يكون من حديثكما؟ قال: يأخذ من شعري وآخذُ مِن شعره، قلت: يا نبي الله، إنّي رجل خلو ليست لي زَوْجة ولا وَلد، فإن رأيت أن تأذَنَ لي فأصحبك وأكون معك، قال: إنك لن تستطيع ذلك، وإنك لا تقدر على ذلك، قال: فبينما هو يحدِّثُني إذ رأيت مائدةً قد خرجت مِن أصْلِ الشجرة فوُضِعت بين يديه، ولم أر مَنْ وضعها، عليها ثلاثةُ أرغفة، فمدّ يدَهُ ليأكل، وقال لي: كُلْ وسمِّ، وكل مما يــَليكَ، فمددت يدي فأكلت أنا وهو رغيفًا ونصفًا، ثم إنّ المائدة رُفعت ولم أر أحدًا رفعها، وأتى إناء فيه شراب فوُضع في يده لم أر أحدًا وضعهُ فشرب، ثم ناولني فقال: إشرب فشربت أحْلَى من العسل وأشد بياضًا من اللّبن؛ ثم وضعْتُ الإناء فرُفع فلم أر أحدًا رفعه، ثم نظر إلى أسفل الوادي فإذا دابَّةٌ قد أقبلت فوق الحمار ودونَ البغل، عليه رِحَالة، فلما انتهى إليه نزل، فقام ليركب ودُرْت به لآخذ بِغَرْزِ الرِّحَالة، فركب ثم سار، ومشيتُ إلى جَنْبه وأنا أقول: يا نبيّ الله، إن رأيتَ أن تأذن لي فأصحبك وأكون معك؟ قال: ألم أقل لك: لَنْ تَسْتَطيعَ ذَلِكَ؟ فقلت له: فكيف لي بلقائك؟ قال: إني إذا رأيتك رأيتني، قلت: على ذلك؟ قال: نعم، لعلك تلقاني في رمضان مُعْتكِفًا ببيت المقدس، واستقبلته شجرةٌ فأخذ من ناحية ودرْت من الجانب الآخر أستقبله فلم أر شيئًا. قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: مسلمة، والراوي عنه، وأبو جعفر الكوفي لا يُعرفون.
وروى حبيب أبو محمد أنه رأى رجلًا فقال له: مَنْ أنت؟ قال: أنا الخَضِرُ، وروى جعفر الصادق أنه كان مع أبيه، فجاءه رجلٌ فسأله عن مسائل، قال: فأمرني أن أردَّ الرّجل فلم أجده، فقال: ذاك الخَضِرُ، وسمع أَبِو جَعْفَر المنصور رجلًا يقول في الطّواف: أشكُو إليك ظهورَ البَغْي والفساد، فدعاه فوعظه وبالغ، ثم خرج، فقال: اطلبوه، فلم يجدوه، فقال: ذاك الخَضِرُ.
وأخرج ابْنُ عَسَاكِرَ بسنده، عن كرز بن وبرة قال: أتاني أخٌ لي مِنَ الشام، فأهدى إليّ هدّية، فقلت: منْ أهداها إليك؟ قال: إبراهيم التيمي، قلت: ومَنْ أهداها إلى إبراهيم التيمي؟ قال: كنتُ جالسًا في فناء الكعبة فأتاني رجل، فقال: أنا الخضر، وأهداها إليّ، وذكر لي تسبيحات ودعوات.
وروى عمر بن عبد العزيز قال: رأيت الخضر وهو يمشي مشيًا سريعًا وهو يقول: صبْرًا يا نفس صبرًا لأيام تنفد، لتلك أيام الأبد، صبرًا لأيامِ قِصَار، لتلك الأيام الطوال.
وقال يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ في تاريخه: عن رياح بن عَبيدة قال: رأيتُ رجلًا يمَاشي عُمر بن عبد العزيز معتمدًا على يده، فقلت في نفسي: إنَّ هذا الرجل جاف، فلما صلّى قلت: يا أبا حفص، من الرجل الذي كان معك معتمدًا على يدك آنفًا؟ قال: وقد رأيته يا رياح؟ قلت: نعم، قال: إني لأراك رجلًا صالحًا، ذاك أخي الخَضِر، بَشّرني أني سألي فأعدل. قال ابن حجر العسقلاني: هذا أصلح إسناد وقفْتُ عليه في هذا الباب، وقد أخرجه أبو عَروبة الحراني في تاريخه، وأخرجه أَبُو نُعَيْمٍ في "الحلية". وقال أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ في تصنيفه: سمعت محمد بن عبد الله الرّازي يقول: سمعت بلالًا الخواص يقول: كنت في تِيه بني إسرائيل، فإذا رجل يُماشيني فتعجَّبْتُ ثم أُلهمتُ أنّه الخضر، فقلت: بحق الحق، مَنْ أنت؟ قال: أنا أخوك الخضر، فقلت: ما تقول في الشافعيّ،؟ قال: من الأبدال، قلت: فأحمد بن حنبل؟ قال: صديق، قلت: فبشر بن الحارث؟ قال: لم يخلف بعده مثله، قلت: بأيّ وسيلةٍ رأيتك؟ قال: ببرِّكَ لأمك. ورواه أَبُو نُعَيْمٍ في "الحلية"، وروى بشر الحافي قال: كانت لي حجرة، وكنت أغلقها إذا خرجتُ ومعي المفتاح، فجئت ذات يوم وفتحتُ الباب ودخلتُ فإذا شخص قائم يصلي فراعني، فقال: يا بشر، لا ترع؛ أنا أخوك أبو العباس الخضر، قال بشر: فقلتُ له: علمني شيئًا، فقال: قل أستغفر الله من كل ذنب تُبْت منه ثم عدت إليه، وأسأله التوبة، وأستغفر الله من كل عقد عقدته على نفسي ففسخته ولم أَفِ به، وذكر عَبْدُ المُغيثِ من حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال:
"مَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تُكَفِّرُوا ذُنُوبَكُمْ بِكَلِمَاتِ أَخِي الخَضِر"
(*)
أخرجه السيوطي في الجامع الكبير 2 /501
، فذكر نحو الكلمات المذكورة في حكاية بشر.
وروى أَبُو نُعَيْمٍ بسنده، عن أبي إسحق المرستاني قال: رأيت الخضر فعلّمني عشر كلمات وأحصاها بيده: اللّهُمَّ إني أسألك الإقبالَ عليك، والإصغاء إليك، والفَهْمَ عنك، والبصيرة في أمرك، والنفاذ في طاعتك، والمواظبة على إرادتك، والمبادرة إلى خدمتك، وحسن الأدب في معاملتك، والتسليم والتفويض إليك.
وروى أَبُو الْحَسَنِ بْنُ جَهْضَم بسنده، عن عمران الخياط قال: قال ليَ الخَضِر: ما كنت أظن أن لله وَليًّا إلا وقد عرفتُهُ، فكنتُ بصنعاء اليمن في المسجد والناسُ حولَ عبد الرزاق يسمعون منه الحديث، وشابٌّ جالس ناحية المسجد، فقال لي: ما شأْنُ هؤلاء؟ قلت: يسمعون من عبد الرزّاق قال: عمَّنْ؟ قلت: عن فلان، عن فلان، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم: فقال: هلا سمعوا عن الله عز وجل؟ قلت: فأنتَ تسمع عن الله عز وجل؟ قال: نعم، قلت: مَنْ أنت؟ قال: الخَضِر، قال: فعَلْمت أن لله أولياء ما عرفتهم. قال ابن حجر: ابن جَهْضَم معروف بالكذب.
وروى الحسن بن غالب قال: حَجَجت فسبقت الناسَ وانقطع بي فلقيتُ شابًّا فأخذ بيدي فألحقني بهم، فلما قدمت قال لي أهلي: إننا سمعنا أنك هلكت فرُحْنَا إلى أبي الحسن القزْوِيني، فذكرنا ذلك له، وقُلنا: ادع الله له، فقال: ما هلك، وقد رأى الخَضِر، قال: فلما قدمت جئت إليه فقال لي: ما فعل صاحبك؟ قال الحسن بن غالب، وكنتُ في مسجدي فدخل عليّ رجل فقال: غدًا تأتيك هديّة فلا تقبلها، وبعدها بأيام تأتيك هدية فاقبلها، قال: فبلغني أن أبا الحسن القزويني قال عَنِّي: قد رأى الخَضِر مرتي. قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: الحسن بن غالب كذبوه.
وأخرج ابْنُ عَسَاكِرَ في ترجمة أبي زُرعة الرازي بسندٍ صحيح إلى أبي زُرعة أنه لما كان شابًّا لقي رجلًا مخضوبًا بالحناء، فقال له: لا تَغْشَ أبوابَ الأمراء، قال: ثم لقيته بعد أن كبرت وهو على حالته، فقال لي: أَلَم أَنهَك عن غشيَانِ أَبْوَابِ الأمرَاِء، قال: ثم التفت فلم أره، فكأنّ الأرض انشقت فدخل فيها فخُيّل لي أنه الخَضِر، فرجعت فلم أزر أميرًا ولا غَشيتُ بابه ولاَ سألته حاجة.
وذكر ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في "الجرح والتعديل" عبدَ الله بن عمر روى كلامًا في الزهد عن رَجُل تراءى له ثم غاب عنه، فلم يَدْر كيف ذهب، فكان يرى أنه الخضر.
وروي في أخبار إبراهيم بن أدهم: قال إبراهيم بن بشار خادم إبراهيم بن أدهم: صحبتُه بالشّام فقلتُ: يا أبا إسحاق، أخبرني عن بَدْءِ أمرك، قال: كنْتُ شابًّا قد حُبّب إليّ الصيد، فخرجت يومًا فأَثَرْت أرنبًا أو ثعلبًا، فبينا أنا أطرده إذ هتف بي هاتف لا أراه: يا إبراهيم، ألهذا خُلقت؟ أبهذا أُمرت؟ ففزعتُ ووقفت ثم تعوَّذْتُ وركضتُ الدابة، ففعل ذلك مرارًا، ثم هتف بي هاتف من قَربُوس السّرج؛ والله ما لهذا خلقتَ ولا بهذا أُمرت، قال: فنزلت فصادفتُ راعِيًا لأبي يَرْعَى الغَنم، فأخذت جبة الصوفِ فلبستها، ودفعت إليه الفرس وما كان معي، وتوجهتُ إلى مكة، فبينا أنا في البادية إذا أنا برجل يَسير ليس معه إناءٌ ولا زاد، فلما أمسى وصلّى المغرب حَرّك شفتيه بكلام لم أفهمه، فإذا أنا بإناء فيه طعام وإناء فيه شراب، فأكلتُ معه وشربت، وكنت على هذا أيامًا، وعلمني اسم الله الأعظم، ثم غاب عنّي، وبقيتُ وحدي، فبينا أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة دعوتُ الله فإذا شخص آخذ بحُجْزتي، فقال لي: سَلْ تعطه فراعني قوله فقال لي: "لاَ رَوْعَ عَلَيْكَ، أَنَا أَخُوكَ الخَضِرُ".
وذكر عَبْدُ الْمُغِيثِ بْنُ زُهَيْرٍِ الحَرْبِيُّ الحَنْبَلِيُّ في جُزْءٍ جمعه في أخبار الخضر، عن أحمد بن حنبل، قال: كنت ببيت المقدس، فرأيت الخضر وإلياس. وعن أَحْمَدَ قال: كنت نائمًا فجاءني الخضر فقال: قل لأحمد: إن ساكني السماء والملائكة راضُون عنك. وعن أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَل أنه أخرج إلى مكة فصحب رجلًا، قال: فوقع في نفسي أنه الخَضِر.
قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ في نقض ما جمعه عبد المغيث: لا يثبت هذا عن أحمد، قال: وذكر فيه عن معروف الكرخي أنه قال: حدّثني الخَضِر.. قال: ومن أين يصح هذا عن معروف؟ وقال أَبُو حَيَّان في تفسيره: أولع كثير ممَّنْ ينتمي إلى الصلاح أن بعضهم يرى الخضر، وكان الإمام أبو الفتح القشَيري يذكر عن شيخ له أنه رأى الخَضِر وحدثه فقيل له: مَنْ أعلمه أنه الخضر، أم كيف عرف ذلك؟ فسكت، قال: ويزعم بعضهم أن الخضرية يتولاها بعضُ الصّالحين على قِدم الخَضِر، ومنه قول بعضهم لكل زمان خضر، قال ابن حجر العسقلاني: وهذا فيه تسليم أن الخَضِر المشهور مات، قال أَبُو حَيَّان: وكان بعض شيوخنا في الحديث وهو عبد الواحد العباسي الحنبليّ يعتقد أصحابه فيه أنه يجتمع بالخَضِر، قال ابن حجر العسقلاني: وذكر لي الحافظ أبو الفضل العراقي بن الحسين شيخنا أنَّ الشيخ عبد الله بن أسعد اليافعيَّ كان يعتقدُ أنَّ الخضر حَيّ، قال: فذكرت له ما نُقل عن البخاريّ، والحربي وغيرهما مِنْ إنكار ذلك، فغضب، وقال: مَنْ قال إنه مات غضبت عليه، قال: فقلنا رجعنا عن اعتقاد موته، وأدركنا بَعْضَ مَنْ كان يَدَّعي أنه يجتمع بالخَضِر، منهم القاضي علم الدين البساطي الذي ولي قضاء المالكية في زَمَن الظاهر بَرْقوق، والله تعالى أعلم، وبغَيْبِه أحكم.
روى ابْنُ عَدِيِّ في "الكامل" بسنده، عن كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف، عن أبيه، عن جده أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمع كلامًا مِن ورائه، فإذا هو بقائل يقول: اللَّهُمَّ أَعِنِّي على ما يُنَّجِّيني مِمَّا خَوّفتَنِي؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حين سمع ذلك:
"أَلاَّ تَضُمَّ إِلَيْهَا أُخْتَها؟"
فقال الرجل: اللهم ارزقني شوْقَ الصالحين إلى ما شوّقْتَهم إليه، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم لأنس بن مالك:
"اذْهَبْ إِلَيْهِِ فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم تَسْتَغْفِرْ لِي"
فَجَاءه أنس فبلّغه، فقال الرجل: يا أنس، أنْتَ رسولُ رَسولِ الله إليَّ، فارجع فاستثبته، فقال النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم:
"قُلْ لَهُ نَعَمْ"
، فقال له: اذهبْ فقل له: إن الله فَضّلَك على الأنبياء مثل ما فضل به رمضانَ على الشّهور، وفضَّل أمتك على الأمم مثل ما فضّل يوم الجمعة على سائر الأيام، فذهب ينظر إليه فإذا هو الخَضِر
(*)
، قال ابن حجر: وكثير بن عبد الله ضعَّفَه الأئمة، لكن جاء من غير روايته؛ وأخرج ابنُ عساكر بسنده، عن أنس بن مالك قال: خرْجتُ ليلةً أحملُ مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم الطهور، فسمع مناديًا ينادي، فقال لي:
"يا أنس صَه"
قال فسكت فاستمع فإذا هو يقول: اللهم أعنّي على ما ينجيني مما خوفتني منه، قال: فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
"لَوْ قَالَ أُخْتَهَا مَعَهَا"
، فكأن الرجل لقن ما أراد النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال: وَارْزُقني شَوْقَ الصّالحين إلى ما شوّقتهم إليه؛ فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
"يَا أَنَسُ، ضع الطّهُورَ، وائت هَذَا المُنَادِي فَقُلْ لَهُ: ادْعُ لِرَسُولِ الله أَنْ يُعِينَهُ الله عَلَى مَا ابْتَعَثَهُ بِهِ؛ وَادْعُ لأُمَّتِهِ أَنْ يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ بِهِ نَبِيّهم بِالحَقِّ"
قال: فأتيته، فقلت: رحمك الله، ادْعُ الله لرسول الله أنْ يُعينه على ما ابتعثه به، وادْع لأمته أنْ يأخذوا ما أتاهم به نبيهم بالحق، فقال لي: ومَن أرسلك؟ فكرهت أن أخبره، ولم أستأمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقلت له: رحمك الله، ما يضرك مَن أرسلني، ادْعُ بما نقلت لك، فقال: لا، أو تخبرني بمن أرسلك، قال: فرجعت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله، أَبَى أن يَدْعُو لك بما قلت له حتى أخبره بمن أرسلنى، فقال: "ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ:
"أَنَا رَسُولُ رَسُولِ الله"
، فرجعت إليه فقلت له، فقال لي: مَرْحبًا برسولِ رسولِ الله، أنا كنتُ أحقُّ أنْ آتيه، اقرأ عَلَى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له يا رسولَ الله، الخَضِرُ يقرأُ عليك السلام ورحمة الله، ويقول لك: يا رسول الله، إنَّ الله فَضَّلَك على النبيين كما فَضَل شَهْرَ رمضانَ على سائر الشّهور، وفضَّل أُمتك على الأمم كما فضَّل يوم الجمعة على سائر الأيام، قال: فلما وليت سمعته يقول: اللهم اجعلني من هذه الأمة المرشدة المرحومة
(*)
، وأخرجه الطبرانيّ في "الأوسط"، قال ابن حجر العسقلاني: وقد جاء من وجهين آخرين عن أنس، وقال أَبُو الحُسَيْنِ بْنُ المُنَادي: هذا حديث وَاهٍ بالوضاح وغيره، وهو منكَرُ الإسناد، سقيم المَتْنِ، ولم يراسل الخَضِر نبينا صَلَّى الله عليه وسلم ولم يَلقَه، واستبعد ابْنُ الجَوْزِيِّ إمكان لقيه النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم واجتماعه معه، ثم لا يجيء إليه، وأخرج ابْنُ عَسَاكِرَ بسنده، عن أنس، فذكر نحوه. ورواه ابْنُ شَاهِين بسنده، عن أنس، وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في "الأفراد" بسنده، عن محمد بن عبد الله به نحوه، ومحمد بن عبد الله هذا هو أبو سلمة الأنصاريّ، وهو وَاهِي الحديث جدًّا، وليس هو شيخ البخاريّ، قاضي البصرة، ذاك ثقة، وهو أقدَمْ من أبي سلمة.
وروى الدارقُطْني بسنده، عن الحسن بن رزين، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن ابن عباس ــ لا أعلمه مرفوعًا إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم ــ قال:
"يَلْتقي الخَضِرُ وإِلْيَاسُ في كُلِّ عَامٍ في المَوْسِمِ فَيَحْلِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَيَتَفَرّقَانِ عَنْ الْكَلِماتُ: بِسْم الله مَا شَاءَ الله، لاَ يَسُوقُ الخَيْرَ إلاّ الله، بِسْمِ الله مَا شَاءَ الله، لاَ يَصْرِفُ السُّوءَ إِلاَّ الله، بِسْمِ الله مَا شَاءَ الله، مَا كَانَ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله، بِسْمِ الله مَا شَاءَ الله، لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله"
، وزاد: قال ابْنُ عَبَّاس: قال رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم:
"مَا مِنْ عَبْد قَالَها فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلاَّ أَمِنَ مِنَ الحَرقِ والْغَرَقِ وَالسّرقِ، وَكُلِّ شَيْءٍ يَكْرَهُهُ حَتَّى يُمْسِي"
؛ وكَذَلِكَ قَالَ:
"حِينَ يُصْبِحُ"
(*)
، قال الدارقُطْنيّ في "الأفراد": لم يحدث به عن ابن جريج غير الحسن بن رزين، وقال أَبُو جَعْفَر العقيلي: لم يتابع عليه، وهو مجهول، وحديثه غير محفوظ، وقال أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ المُنَادي: هو حديث واهٍ بالحسن بن رزين، وقد جاء من غير طريقه، لكن من وَجهٍ واهٍ جدًا، وأخرجه ابن الجوزي من طريق أحمد بن عمار، حدثنا محمد بن مهدي، حدثنا مهدي بن هلال، حدثني ابن جريج، فذكره بلفظ:
"يجتمع البري والبَحْري إلياس والخضر كلّ عام بمكة"
، قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: أحمد بن عمار متروك عند الدارقطني، ومهدي بن هلال مثله، وقال ابْنُ حِبَّانَ: مهدي بن هلال يروي الموضوعات. وروى عبيد بن إسحاق العطار قال، حدثنا محمد بن ميسر، عن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ قال: يجتمع في كل يوم عرفة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل والخَضِر، فيقول جبرائيل: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، فيرد عليه ميكائيل: ما شاء الله، كلّ نعمة فمِنَ الله، فيرد عليهما إسرافيل: ما شاء الله الخير كلَه بيد الله، فيرد عليهم الخَضِر: ما شاء الله لا يدفعُ السوء إلا الله، ثم يتفرقون ولا يجتمعون إلى قابل في مثل ذلك اليوم. قال ابن حجر: وعبيد بن إسحاق متروك الحديث.
وأخرج عَبْد الله بْنُ أَحْمَدَ في "زوائد كتاب الزهد" لأبيه بسنده، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، قال: يجتمع الخضر وإلياس ببيت المقدس في شهر رمضان من أوله إلى آخره، ويُفطران على الكرَفْس، وإقبالَ الموسم كل عام. قال ابن حجر: وهذا حديث مُعْضل.
وروى عبد الرحيم بن حَبيب الفرْيَابي، حدّثنا صالح، عن أسد بن سعيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي، قال: كنتُ عند النبي صَلَّى الله عليه وسلم فذكر عنده الأدهان، فقال:
"وفَضْلُ دُهْنِ البَنَفْسج عَلَى سَائِرِ الأَدْهَانِ كفَضْلِنَا أَهْلَ البَيْتِ عَلَى سَائِرِ الخَلْقِ"
(*)
أورده السيوطي في اللآلىء المصنوعة 2/121 والعجلوني في كشف الخفاء 2/237، 576
. قال: وكان النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم يدهن به ويستعط، فذكر حديثًا طويلًا فيه:
"الكراث والباذَرُوج "الجرجير" والهِنْدَباء، والكمأة، والكَرَفْس، واللّحم، وَالحيتان"
. وفيه:
"الْكَمَأةُ مِنَ الْجَنَّةِ، مَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ مِنَ السُّمّ، وَهُمَا طَعَامُ إِلْيَاسَ وَالْيَسَعَ يَجْتَمِعَانِ كُلَّ عَامٍ بِالمَوْسِمِ، يَشْرَبَانِ شُرْبَةً مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، فَيَكْتَفِيَانِ بِهَا إلَى قَابِلٍ، فَيَرُدّ الله شَبَابَهُمَا فِي كُلِّ مَائَةِ عَامٍ مَرّةً، وَطَعَامُهُمَا الكَمَأةُ وَالكَرَفْسُ"
(*)
أخرجه أحمد 1/87، 188، 2/301، 3/48 والبخاري 6/22 ومسلم في الأشربة (157) والطبراني في الكبير 12/63 وفي الصغير 1/125 والحميدي (82) والبيهقي 9/345
. قال ابْنُ الْجَوْزِيِّ: لا شك في أنّ هذا الحديث موضوع، والمتهم به عبد الرحيم بن حبيب، فقال ابْنُ حِبَّانَ: إنه كان يضَعُ الحديث، وقد تقدم عن مقاتل أن اليسع هو الخضر.
وروى ابْنُ شَاهِينَ قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز الحراني، حدّثنا أبو طاهر خَيْر بن عَرَفة، حدثنا هانئ بن المتوكل، حدثنا بقية، عن الأوزاعي، عن مكحول، سمعتُ وائلة بن الأسْقَع، قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم غزوة تبوك، حتى إذا كنا ببلاد جذام، وقد كان أصابنا عَطَش، فإذا بين أيدينا آثار غَيْثٍ، فسرنا ميلًا، فإذا بِغَدير، حتى إذا ذهب ثلث الليل إذا نحن بمنادٍ ينادي بصوتٍ حَزين: اللهم اجعلني من أمّة محمّد المرحومة المغفور لها المستجاب والمبارك عليها، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
"يَا حُذَيْفَةُ، وَيَا أَنَسُ، ادْخُلاَ إلَى هَذَا الشِّعْب فَانْظُرَا مَا هَذَا الصَّوْتُ"
ذكره المتقي الهندي في الكنز (37834)
، قال: فدخلنا فإذا نحن برجل عليه ثيابٌ بيض أشدّ بياضًا من الثلج، وإذا وجهه ولحيته كذلك، وإذا هو أعْلى جسمًا منا بذراعين أو ثلاثة، فسلمنا عليه فردّ علينا السلام، ثم قال: مرحبا أنتما رسولا رسول الله؟ فقلنا: نعم، من أنت؟ يرحمك الله، قال: أنا إلياس النبي، خرجتُ أرِيدُ مكة فرأيت عسكركم، فقال لي جنْدٌ من الملائكة على مقدمتهم جبرائيل، وعلى ساقتهم ميكائيل: هذا أخوك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فسلّم عليه والقَه؛ ارجعا إليه، فاقرآه مني السلام، وقولا له: لَم يمنعني مِن الدّخول إلى عسكركم، إلا أنِّي تخوفْتُ أن تُذعَرَ الإبل، ويفزع المسلمون من طولي؛ فإن خَلْقِي ليس كخلقكم، قولا له صَلَّى الله عليه وسلم يأتيني، قال حُذَيْفَةُ وَأنسٌ: فصافحناه، فقال لأنس: يا خادم رسول الله، مَنْ هذا؟ قال: هذا حذيفة صاحِبُ سر رسولِ الله، فرحب به ثم قال: وإنه لفي السّماء أشهر منه في الأرض، يسمِّيه أهل السّماء صاحبَ سِرِّ رسول الله، قال حذيفة: هل تَلقَى الملائكة؟ قال: ما مِن يوم إلا وأنا ألقاهم يسلمون عليّ وأسلّم عليهم، فأتينا النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم فخرج معنا حتى أتينا الشِّعْبَ فإذا ضوْءُ وَجهِ إلياس وثيابه كالشمس فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
"عَلَى رِسْلِكُمْ"
، فتقدمنا قَدْر خمسين ذراعًا فعانقه مليًّا، ثم قعدا فرأينا شيئًا يشبه الطير العظام قد أحدقت بهما، وهي بيضٌ وقد نشرَتْ أجنحتَها فحالت بيننا وبينهما؛ ثم صرخ بنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال:
"يَا حُذَيْفَةُ وَيَا أَنَسُ تَقَدَّما"
، فإذا أيديهما مائدة خَضْرَاء لم أرَ شيئًا قطّ أحسن منها قد غلبت خضرتها بياضنا، فصارت وجوهنا خضراء وثيابنا خضراء، وإذا عليها جبن، وتَمْر، ورُمّان، وموز، وعنب، ورطب، وبَقْل، ما خلا الكراث فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم:
"كُلُوا بِسْم الله"
، فقلنا: يا رسول الله، أمن طعام الدنيا هذا؟ قال:
"لاَ"
، قال لنا: "هَذَا رِزْقِي، وَلِي فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَة أكلة تَأْتِيني بِهَا المَلاَئِكَةُ، فَكَانَ هَذَا تَمَامُ الأرْبَعِينَ، وَهُوَ شَيْءٌ يَقُولُ الله لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ"، فقلنا: مِنْ أين وجهك؟ قال: من خلف رومية كنْتُ في جيْش من الملائكة مع جيشٍ من مسلمي الجن غَزَوْنا أمة من الكفار، قلنا: فكم مسافة ذلك الموضع الذي كنت فيه؟ قال: أربعة أشهر: وفارقتهم أنا منذ عشرة أيام، وأنا أُريد مكّة أشرب منها في كل سنة شربة، وهي ريّي وعِصمتي إلى تمام الموسم من قابل، قلنا: وأي المواطن أكثر مَثْواك؟ قال: الشّام، وبيت المقدس، والمغرب، واليمن، وليس من مسجدٍ مِنْ مساجد محمّد إلا وأنا أدخله صغيرًا أو كبيرًا، فقلنا: متى عَهدُك بالخضر؟ قال: منذ سنة، كنْتُ قد التقيتُ أنا وهو بالموسم وأنا ألقاه بالموسم، وقد كان قال لي: إنك ستلقى محمدًا قَبْلي فأقرئه مني السلام وعانِقه، وبكى وعانقنا وبكى وبكينا، فنظرنا إليه حين هوى في السماء كأنه حمل حملًا، فقلنا: يا رسول الله، لقد رأينا عجبًا إذ هوى إلى السماء قال:
"يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد"
(*)
، قال ابْنُ الجَوزِيِّ: لعل بقيةَ سمع هذا من كذَّاب فدلسه عن الأوزاعي؛ قال: وخير بن عرفة لا يُدرى مَنْ هو، قال ابن حجر العسقلاني: هو محدّث مصري مشهور، واسم جده عبد الله بن كامل، يكنى: أبا الطاهر، روى عنه أبو طالب الحافظ به شيخ الدارقطني وغيره، ومات سنة 283، وقد رَوَاه غير بَقِية عن الأوزاعي على صفة أخرى، وروى ابْنُ جَرِيرٍ في تاريخه بسنده، عن عبد الله بن شَوْذب، قال: الخَضِر من ولد فارِس، وإلياس من بني إسرائيل، يلتقيان في كل عام بالموسم.
قال الله تعالى في خبره مع موسى حكاية عنه:
{وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}
[الكهف: 82]؛ قال ابن حجر: وهذا ظاهره أنه فعله بأَمْرِ الله، والأصل عدم الواسطة، ويحتمل أن يكون بواسطة نَبيّ آخر لم يُذْكر؛ وهو بعيد، ولا سبيل إلى القول بأَنه إلهام؛ لأن ذلك لا يكون من غير النبيّ وَحْيًا حتى يعمل به مِنْ قَتْل النفس وتعريض الأنفس للغَرق، فإن قلنا إنه نبيٌّ فلا إنكار في ذلك وأيضًا فكيف يكون غير النبيّ أعلم من النبي؟ وقد أخبر النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أن الله قال: لموسى
"بَلَى، عَبْدُنَا خَضِرٌ"
(*)
. وأيضًا فكيف يكون النبي تابعًا لغير نبيّ؟ وقد قال الثَّعْلَبِيُّ: هو نبي في سائر الأقوال، وكان بعضُ أكابر العلماء يقول: أول عقد يحلّ من الزندقة اعتقاد كون الخضر نَبِيًا؛ لأن الزنادقة يتذرعون بكونه غَيْرَ نبيّ إلى أن الوليّ أفضلُ من النبي، كما قال قائلهم:
مَقَامُ النُّبُوَّةِ
في بَرْزَخِ فُوَيقَ الرَّسُولِ وَدُونَ الوَلِيّ
ثم اختلف مَنْ قال إنه كان نبيًا، هل كان مرسلًا؟ فجاء عن ابن عباس ووهب بن مُنبه أنه كان نبيًا غير مُرْسَل، وجاء عن إسماعيل بن أبي زياد، ومحمد بن إسحاق، وبعضِ أهلِ الكتاب أنه أرسل إلى قومه فاستجابوا له، ونَصَرَ هذا القول أبو الحسن الرُّماني، ثم ابن الجوزيّ، وَقَالَ الثَّعْلَبيُّ: هو نبيٌّ على جميع الأقوال معمّر محجوب عن الأبصار، وقال أَبُو حَيَّان في تفسيره: والجمهور على أنه نبيّ، وكان علمه معرفة بواطن أوحِيت إليه، وعلم موسى الحكم بالظاهر، وذهب إلى أنه كان وليًا جماعةٌ من الصوفيّة، وقال به أبو علي بن أبي موسى من الحنابلة، وأبو بكر بن الأنباري في كتابه "الزّاهر"، بعد أن حكى عن العلماء قَوْلَيْن هل كان نبيًا أو وليًا؟ وقال أَبُو الْقَاسِمِ القُشَيْرِيُّ في رسالته: لم يكن الخضر نَبيًّا وإنما كان ولِيًّا، وحكى المَاوَرْدِيُّ قَولًا ثالثًا: إنه ملك من الملائكة يتصوّر في صورة الآدميين، وقال أَبُو الْخَطَّابِ بْنُ دِحْيَةََ: لا ندري هل هو ملك، أو نبي، أو عبد صالح، وروى خالد بن يزيد أن كَعْب الأحبار، قال: إن الخَضِرَ بن عاميل ركب في نَفَرٍ من أصحابه حتى بلغ بَحْرَ الهند، وهو بحر الصين، فقال: يا أصحابي: دَلّوْني، فدلّوه في البحر أيامًا وليالي، ثم صعد، فقالوا له: يا خضر، ما رأيت؟ فلقد أكرمك الله، وحفظ لك نفسك في لُجَّة هذا البحر؟ فقال: استقبلني ملك من الملائكة فقال لي: أيها الآدمي الخَطَّاء، إلى أين؟ ومن أين؟ فقلت أردت أن أنظر عَمْق هذا البحر، فقال لي: كيف وَقَدْ هوى رجلٌ من زمان داود النبيّ عليه السّلام ولم يبلغ ثلث قَعره حتى السّاعة؛ وذلك منذ ثلاثمائة سنة؛ أخرجه أَبُو نُعَيْمٍ في ترجمة "كَعب" من "الحلية"، وقال أَبُو جَعْفَر بْنُ جَرِيرٍ في تاريخه: كان الخضر ممن كان في أيام أفريدون الملك في قول عامّة أهلِ الكتاب الأول، وقيل: إنه كان مع ذي القَرْنَين الأكبر الذي كان أيام إبراهيم الخليل، وهو عندهم حيٌّ إلى الآن؛ وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وذكر ابن إسحاق أن الله استخلف على بني إسرائيل رجلًا منهم، وبعث الخَضِر معه نبيًا، قال ابن جرير: بين هذا الوقت وبين أفريدون أزيد من ألف عام، قال: وقول مَنْ قال إنه كان في أيام أفريدون أشبه، إلا أن يحمل على أنه لم يُبْعث نبيًّا إلا في زمان ذلك الملك، قال ابن حجر العسقلاني: بل يحتمل أن يكون قوله: "وَبُعِثَ مَعَهُ الْخَضِرُ نَبِيًّا": أي أيدَّه به، إلا أن يكون ذلك الوقت وَقْت إنشاء نبوته، فلا يمتنع أن يكون نبيًا قبل ذلك، ثم أرسل مع ذلك الملك، وإنما قلتُ ذلك؛ لأن غالب أخباره مع موسى هي الدالة على تصحيح قَوْل مَنْ قال إنه كان نبيًا.
ومما يستدلُّ به على نبوّته ما أخرجه عَبْد بن حُميد من طريق الربيع بن أنس، قال: قال موسى لما لقي الخضر: "السَّلاَمُ عَلَيْكَ يا خضرُ"، فقال: "وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا مُوسَى"؛ قال: "وَمَا يُدْرِيكَ أَنِّي مُوسَى"؟ قال: "أدْرَانِي بِكَ الَّذِي أَدْرَاكَ بِي"
(*)
، وقال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه في "المبتدأ": قال الله تعالى للخضر: لَقَدْ أَحْبَبْتُكَ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَكَ، وَلَقَدْ قَدَّسْتُكَ حِينَ خَلَقْتُكَ، وَلَقَدْ أَحْبَبْتُكَ بَعْدَمَا خَلَقْتُكَ، وكان نبيًّا مبعوثًا إلى بني إسرائيل بتجديد عَهْد موسى، فلما عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وسلّط عليهم بختنصر ساح الخَضِر في الأرض مع الوحش، وأخَّرَ اللهُ عمره إلى ما شاء، فهو الذي يراه الناس.
وذكر البعض أن الخضر قد مات؛ فقد نقل أبو بكر النقاش في تفسيره عن علي بن موسى الرضا، وعن محمد بن إسماعيل البخاريّ أن الخَضِر مات، وأن البخاري سُئِل عن حياة الخضر، فأنكر ذلك واستدلَّ بالحديث...
"أن على رَأْس مائة سنة لا يبقى على وَجه الأرض ممن هو عليها أحد"
، وهذا أخرجه هو في "الصّحيح"، عن ابن عمر، وهو عمدة مَنْ تمسَّك بأنه مات، وأنكر أن يكون باقيًا، وذكر أبُو حَيَّان في تفسيره أن الجمهور على أنه مات، ونقل عن ابن أبي الفضل المرسي أنّ الخَضِر صاحبَ موسى مات، لأنه لو كان حيًا لزمه المجيء إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم والإيمان به واتباعه، وقد روي عن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال:
"لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتّبَاعِي"
(*)
، وأشار ابن أبي الفضل المرسي إلى أن الخَضِر هو غَيْر صاحبِ موسى، وقال غيره لكل زمان خَضِر، وهي دَعْوى لا دليل عليها ونقل أبو الحسين بن المنادي في كتابه الذي جمعه في ترجمة الخَضِر، عن إبراهيم الحربي أنَّ الخَضِر مات؛ وبذلك جزم ابْنُ المُنَادي المذكور، ونقل أيضًا عن علي بن موسى الرضا، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: صَلّى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ذات ليلة صلاةَ العشاء في آخرِ حياته، فلما سلّم قال:
"أَرَأْيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مائَةِ سنَةٍ لاَ يَبْقَى عَلَى وَجهِ الأرْضِ أَحَدٌ"
(*)
، وأخرجه مُسْلِمٌ من حديث جابر، قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم قبل مَوْتِه بِشهر:
"تَسْأَلُونِي السَّاعَةَ، وَإِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ الله أُقْسِمُ مَا عَلَى الأَرضِ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ يَأْتِي عَلَيْهَا مائة سَنَةٍ"
(*)
أخرجه مسلم في الصحيح 4/1966 كتاب فضائل الصحابة حديث رقم 218/2538، وأحمد في المسند 1/293، 3/326، البيهقي في دلائل النبوة 6/501.
، هذه رواية أبي الزبير عنه. وفي رواية أبي نَضْرة عنه، قال قبل موته بقليل أو بشهر:
"مَا مِنْ نَفْسٍ..."
وزاد في آخره:
"وَهِيَ يَوْمَئِذٍ حَيّةٌ"
، وأخرجه التّرْمِذِيُّ من طريق أبي سفيان، عن جابر نحو رواية أبي الزبير، وذكر ابْنُ الجَوْزِيِّ في جُزْئه الذي جمعه في ذلك، عن أبي يعلى بن الفراء الحنبلي، قال: سُئِل بعضُ أصحابنا عن الخضر هل مات؟ فقال: نعم، قال: وبلغني مثل هذا عن أبي طاهر بن العبادين، وكان يحتج بأنه لو كان حيًّا لجاء إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال ابن حجر العسقلاني: ومنهم أبو الفضل بن ناصر، والقاضي أبو بكر بن العربي، وأبو بكر بن محمد بن الحسين النقاش؛ واستدل ابن الجوزيّ بأنه لو كان حيًّا مع ما ثبت أنه كان في زمنِ موسى وقَبل ذلك، لكان قَدْر جسده مناسبًا لأجساد أولئك، ثم ساق بسندٍ له إلى أبي عمران الجوني، قال: كان أنف دانيال ذراعًا، ولما كشف عنه في زَمَن أبي موسى قام رجلٌ إلى جنبِه فكانت ركبة دانيال محاذيةً لرأسه؛ قال: والذين يدَّعون رؤية الخَضِر ليس في سائر أخبارِهم ما يدلُّ على أنَّ جسده نَظِير أجْسَادِهم؛ ثم استدلّ بما أخرجه أحمد من طريق مجاهد، عن الشعبي، عن جابر أنَّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال:
"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إلا أَنْ يَتَّبِعَنِي"
(*)
أخرجه مسلم في المسند 3/387، وأورده الهيثمي في الزوائد 1/178 ـ 179
، قال: فإذا كان هذا في حقّ موسى فكيف لم يتبعه الخَضِر: إذ لو كان حيًّا فيصلّي معه الجمعة والجماعة، ويجاهد تحْتَ رايته، كما ثبت أن عيسى يصلي خلْف إمام هذه الأمة واستدلَّ أيضًا بقوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيْثَاقَ النَّبِيّيْنَ...}
[آل عمران: 11] الآية، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: ما بعث الله نبيًا إلا أخذ عليه الميثاق "إنْ بُعث محمد وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه"؛ فلو كان الخضر موجودًا في عهد النبي صَلَّى الله عليه وسلم لجاء إليه ونَصره بيده ولسانه، وقاتَلَ تحت رايته، وكان من أعظم الأسباب في إيمان معظم أهل الكتاب الذي يعرفون قصتَه مع موسى.
وقال أبُو الْحُسَيْنَ بْنُ الْمُنَادي: بحثْتُ عن تعمير الخَضِر، وهل هو بَاقٍ أم لا؟ فإذا أكثر المغّفلين مغتَرُّون بأنه باقٍ مِنْ أجل ما روي في ذلك؛ قال: والأحاديثُ المرفوعة في ذلك واهيةٌ، والسَّنَدُ إلى أهل الكتاب ساقطٌ لعدم ثِقَتَهم، وخبر "مسلمة بن مصقله" كالخرافة، وخبر "رياح" كالريح، قال: وما عدا ذلك كلّه من الأخبار كلها واهيةُ الصدور والأعجاز، حالُها مِنْ أحدِ أمرين؛ إما أن تكون أُدخلت على الثقات استغفالًا، أو يكون بعضُهم تعمَّد ذلك، وقد قال الله تعالى:
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ}
[الأنبياء:34]، قال: وأهل الحديث يقولون: إن حديث أنس منكر السند، سَقيم المتن، وإن الخَضِرَ لم يراسل نبّيًا ولم يَلْقَه؛ قال: ولو كان الخضر حيًّا لما وسعه التخلّف عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم والهجرة إليه، قال: وقد أخبرني بعضُ أصحابنا أنّ إبراهيم الحربي سُئل عن تعمير الخَضِر فأنكر ذلك، وقال: هو مُتَقَادِمُ الموت، قال: وروجع غَيْره في تعميره، فقال: مَنْ أَحال على غائب حَيّ، أو مفقود مَيِّت لم ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشّيطان، وقد ذكرتُ الأخبارَ التي أشار إليها، وأضفْتُ إليها أشياء كثيرة مِنْ جنسها، وغالِبُها لا يخلو طريقه مِنْ علّة، والله المستعان.
وفي تفسير الأصبهاني، روى عن الحسن أنه كان يَذْهب إلى أن الخَضِر مات، وروى عن البخاريّ أنه سُئل عن الخَضِر وإلياس هل هما في الأحياء؟ فقال: كيف يكون ذلك، وقد قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم في آخر عمره:
"أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يبْقَى عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مِمَّن هُوَ الْيَوْمَ عَلَيْهَا أَحَدٌ"
(*)
أخرجه البخاري في صحيح 1/148، 156، ومسلم 4/1965 كتاب فضائل الصحابة باب 53 حديث رقم 217ــــ 2537 والترمذي 4/451 كتاب الفتن باب64 حديث رقم 2251 والحاكم في المستدرك 2/37 والبيهقي في السنن الكبرى 1/453، 9/7 وأحمد في المسند 2/221.
، واحتج ابن الجوزيّ أيضًا بما ثبت في "صحيح البخاريّ" أنّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال يوم بَدْر:
"اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلَكْ هَذِهِ العِصَابَةُ لاَ تُعْبد في الأرْضِ"
(*)
أخرجه مسلم في كتاب الجهاد (58) وأحمد في المسند 1/30.
، ولم يكن الخَضِر فيهم؛ ولو كان يومئذ حيًّا لورَدَ على هذا العموم، فإنه كان ممن يعبد الله قَطْعًا، واستدل ابن دحية، وغيْرُه بقوله صَلَّى الله عليه وسلم:
"لا نَبِيّ بَعْدِي"
(*)
، وهو معترض بعيسى ابن مريم، فإنه نَبِيّ قطعًا، وثبت أنه ينزل إلى الأرض في آخر الزمان، ويحْكمُ بشريعة النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم؛ فوجب حَمْلُ النفي على إنشاء النبوّة لأحد من الناس لا على نَفْي وجودِ نَبي كان قد نبئ قبل ذلك.
الصفحة الأم
|
مساعدة
|
المراجع
|
بحث
|
المسابقات
الاسم :
البريد الالكتروني :
*
عنوان الرسالة :
*
نص الرسالة :
*
ارسال