سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي الأموي
يكنى أبا عثمان، وُلِدَ عام الهجرة، ولما قتل عثمان لزم بيته واعتزل الفتنة، فلم يَشْهَد الجمل ولا صِفّين. غزَا بالنّاس طبرستان فافتتحها، ويقال: إنه افتتح أيضًا جُرجان في زمن عثمان سنة تسع وعشرين أو سنة ثلاثين، وكان أيِّدا؛ يقال: إنه ضرب ـــ بجرجان ـــ رَجلًا على جَبَل عاتقه فأخرج السيفَ من مرفقه.
وكان مشهورًا بالكرم والبِرّ، حتى كان إذا سأله السّائل وليس عنده ما يُعطيه كتب به دينًا إِلى وقت ميسرته، فلما مات كان عليه ثمانون ألفَ دينار، فوفاها عنه ولده عَمرو الأشدق، وكان حليمًا وَقورًا، وكان إذا أحبَّ شيئًا أو أَبْغَضه لم يذكر ذلك، ويقول: إنَّ القلوبَ تتغيرَّ، فلا ينبغي للمرءِ أن يكون مادحًا اليوم عائبًا غدًا، ومن محاسن كلامه: لا تمازح الشّريف فيحقد عليك، ولا تمازح الدنيء فتهون عليه، ومن كلامه: موطنان لا أعتذِرُ من العِيّ فيهما؛ إذا خاطبْتُ جاهلًا، أو طلبت حاجةً لنفسي.
ورَوَى الزُّبَيْرُ، عن ابن عمر، قال: جاءت امرأةٌ إلى النّبي صَلَّى الله عليه وسلم ببُرْدَةٍ، فقالت: إني نذرْتُ أن أُعطي هذه البردة لِأكرم العرب، فقال: "أَعْطِيهَا لِهَذَا الْغُلاَمِ"، وهو واقف ــ يعني سعيدًا.
وكان من فصحاء قريش؛ ولهذا ندبه عثمان فيمن ندب لكتابة القرآن، وكان يجمع إِخوانه كل جُمعة يومًا فيصنع لهم الطعام، ويخلع عليهم، ويرسل إِليهم بالجوائز، ويبعث إِلى عيالاتهم بالبر الكثير، وكان يبعث مولى له إِلى المسجد بالكوفة في كل ليلة جمعة ومعه الصرر فيها الدنانير، فيضعها بين يدي المصلين، وكان قد كثر المصلون بالمسجد بالكوفة في كل ليلة جمعة، وقُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وسعيد بن العاص ابن تسع سنين أو نحوها.
وقال عمر بن الخطّاب لسعيد بن العاص: ما لي أراك مُعْرِضًا كأنّك ترى أني قتلتُ أباك؟ ما أنا قتلته، ولكنّه قتله عليّ بن أبي طالب، ولو قتلتُه ما اعتذرتُ من قتل مُشرِك، ولكني قتلتُ خالي بيدي: العاصَ بن هشام بن المغيرة، فقال سعيد بن العاص: يا أميرَ المؤمنين، لو قتلتَه كنتَ على حقّ وكان على باطل، فَسَرَّ ذلك عمرَ منه، وأتَى سعيد بن العاص عمر يستزيده في داره التي بالبلاط وخِطَط أعمامه مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال عمر: صَلّ معي الغداة وغَبِّشْ ثمّ أذْكرْني حاجتك، قال سعيد: ففعلتُ حتى إذا هو انصرف قلتُ: يا أمير المؤمنين حاجتي التي أمَرتَني أن أذكرها لك، فوثب معي ثمّ قال: امْضِ نحو دارك، حتى انتهيتُ إليها فزادني وخطّ لي برجله فقلتُ: يا أمير المؤمنين زِدْني؛ فإنّه نبتت لي نابتة من ولد وأهل، فقال: حسبُك وأخْتَبِىء عندك أن سيَلي الأمرَ بعدي من يصل رحمك ويقضي حاجتك، فمكثتُ خلافة عمر بن الخطّاب حتى استُخلف عثمان وأخذها عن شورى ورِضًى، فوصلني وأحسن وقضى حاجتي وأشركني في أمانته.
لما عُزل سعيد بن العاص عن المدينة انصرف عن المسجد، فرأَى رجلًا يَتْبَعه، فقال له: أَلك حاجة؟ قال: لا؛ ولكني رأيْتُك وحدك فوصلْتُ جناحَك، فقال له: وصلك اللَّهُ يا بْنَ أَخي، اطلب لي دواة وجلدًا، وادْعُ لي مولاي فلانًا، فأتى بذلك، فكتب له بعشرين أَلف درهم دَيْنًا عليه، وقال له: إِذا جاءت غلّتنا دفعْنَا ذلك إِليك؛ فمات في تلك السّنة، فأَتى بالكتاب إِلى ابنه، فدفع إِليه عشرين أَلف درهم، وابنه ذلك عمرو بن سعيد الأشدق.
ولما حضرته الوفاة قال لبنيه: أَيكم يقبل وصيتي؟ قال ابنه الأَكبر: أَنا يا أَبه، قال: إِن فيها وفاء ديني، قال: وما دينك؟ قال: ثمانون أَلف دينار، قال: وفيم أَخذتها؟ قال: يا بني في كريم سددت خَلَّته، وفي رجل جاءني ودمه ينزوي في وجهه من الحياءِ، فبدأْته بحاجته قبل أَن يسأَلَنيها، ومات سعيد في قَصْره بالعَقِيق سنة ثلاث وخمسين، وقيل: تُوفِّي في خلافة معاوية سنة تسع وخمسين.