معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس بن عائذ بن عدي بن كعب بن عمرو بن أدى بن...
الإمام المقدّم في علم الحلال والحرام، كان معاذ بن جبل رجلًا طُوالًا، أبيض، حَسَنَ الثّغْر، عظيم العينين، مجموع الحاجبين، جَعْدًا، إمام الفقهاء، وكنز العلماء؛ وكان من أفضل شباب الأنصار حِلْمًا، وحياء، وسخاء، وكان جميلًا وسيمًا.
كان معاذ بن جبل لما أسلم يكسر أصنام بني سلمة هو وثعلبة بن عَنَمَة، وعبد الله بن أُنَيس، وشهد العَقَبة في روايتهم جميعًا مع السبعين من الأنصار، وشهد بدرًا وهو ابن عشرين أو إحدى وعشرين سنة، وشهد أيضًا معاذ أُحُدًا، والخندق، والمشاهد كلّها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وكان معاذ يصلّي مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ يجيء فيؤم قومَه.
وقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "مُعَاذٌ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِرَتْوَةِ أَوْ رَتْوَتَيْنِ" ، وكان عمره لما أَسلم ثماني عشرة سنة، وقال عبد اللّه بن عَمْرو: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمِ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ" . وقال أنس بن مالك: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ" وذكر الحديث، وقال: "وَأعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ"، وقال أَنس بن مالك: أَتاني معاذ بن جبل من عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: من شهد أَن لا إِله إِلا الله مخلصًا بها قلبُه، دخل الجنة، فذهبت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، حدثني معاذ أَنك قلت: "مَنْ شَهِدَ أَنَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله، مُخْلِصًا بِهَا قَلْبُهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ"، قال: "صدق معاذ، صدق معاذ، صدق معاذ" .
بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فلم يزل بها حتى تُوفّي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولما ودّعه صلى الله عليه وسلم قال له: "حَفظَكَ الله مِنْ بَيْن يَدَيْكَ وَمِنْ خَلفِك، وَعَنْ يَمِينكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ فَوْقِكَ وَمِنْ تَحْتِكَ، وَأَدْرَأ عَنْكَ شُرُورَ الإنْسِ وَالْجِنّ". وقال ابن أبي نَجيح: كتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إلى أهل اليمن وبعث إليهم معاذًا: "إني قد بعثتُ عليكم من خير أهلي واليَ عِلْمِهم واليَ ديِنِهِم".، عن معاذ بن جبل قال: لما بعثني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إلى اليمن قال لي: "بِمَ تَقْضي إن عُرض لك قضاء؟" قال: قلت: أقْضي بما في كتاب الله، قال: "فإن لم يكن في كتاب الله؟" قلتُ: أقضي بما قضى به الرسول، قال: "فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟" قال: قلت: أجْتَهِدُ رأيي ولا آلو، قال فضرب صدري وقال: "الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم لما يُرضي رسول الله".
قال بُشَير بن يسار: لمّا بُعث مُعاذ بن جبل إلى اليمن مُعَلّمًا ــ قال: وكان رجلًا أعرج ــ فصلّى بالناس في اليمن فبسط رجله فبسط القوم أرجلهم، فلمّا صلّى قال: قد أحسنتم ولكن لا تعودوا فإني إنّما بسطتُ رجلي في الصلاة لأني اشتكيتُها.
ووافَى السنةَ التي حجّ فيها عمر بن الخطّاب، فالتقيا يوم التّرْوِية بِمنًى فاعتنقا، وعزّى كلّ واحد منهما صاحبَه برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ أخلدا إلى الأرض يتحدّثان.
وقال ابن كعب بن مالك: كان معاذ شابًّا، جميلًا، سمحًا لا يسأل الله شيئًا إلا أعْطَاه، وقال عمر: عجزت النساء أن يلِدْنَ مِثْلَ معاذ؛ ولولا معاذ لهلك عمر؛ وروى سهل بن أَبي حَثْمَةَ، عن أَبيه قال: كان الذين يُفتُون على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من المهاجرين: عمر، وعثمان، وعلي، وثلاثة من الأنصار: أُبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت.
قال ابن مسعود: إنّ معاذ بن جبل كان أمّةً قانتًا لله حنيفًا، ولم يكُ من المشركين! فقلتُ: غلط أبو عبد الرّحمن، إنّما قال الله: }إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ {[سورة النحل: 120]، فأعادها عليّ فقال: إنّ معاذ بن جبل كان أمّةً قانتًا لله حنيفًا ولم يكُ من المشركين، فعرفتُ أنّه تعمّد الأمر تعمّدًا، فسكتّ فقال: أتدري ما الأمّةُ وما القانت؟ فقلتُ: اللهُ أعلمُ! فقال: الأمّةُ الّذي يُعَلّمُ النّاسَ الخيرَ، والقانت المطيع لله ولرسوله، وكذلك كان مُعاذ، كان يعلّم النّاسَ الخيرَ، وكان مطيعًا لله ولرسوله.
وروى مجاهد: أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، خَلّفَ مُعَاذَ بن جَبَل بمكّة حين وجّه إلى حُنين يُفَقّه أهلَ مكّة، ويُقرئهم القرآن
قال أبو إدريس الخَوْلانيّ: دخلتُ مسجد دمشق فإذا فتًى برّاق الثنايا، وإذا ناس معه إذا اختلفوا في شيءٍ أسْنَدوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألتُ عنه فقالوا: هذا معاذ بن جبل، فلمّا كان من الغد هجّرت فوجدته قد سبقني بالتهجير، فوجدتُه يصلّي، قال: فانتظرتُه حتى قضى صلاته، ثمّ جئته من قِبَلِ وجهه، فسلّمتُ عليه، وقلتُ له: والله إني لأحبّك لله، قال: فقال: الله، فقلت: الله، فقال: الله، فقلت: الله، قال: فأخذ بحُبوة ردائي فجبذني إليه وقال: أبْشِرْ فإنّي سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "قال الله تبارك وتعالى: وجَبت رحمتي للمتحابّين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتباذلين فيّ، والمتزاورين فيّ".
وقال ثور بن يزيد: كان معاذ إِذا تهجد من الليل قال: اللهم، نامت العيون، وغارت النجوم، وأَنت حَيُّ قيوم، اللهم، طلبي الجنة بطيء، وهَرَبي من النار ضعيف، اللهم، اجعل لي عندك هُدًى تردّه إِليّ يوم القيامة، إِنك لا تخلف الميعاد.
وفاته:
ومات معاذ، رحمه الله، وهو ابن ثلاثٍ وثلاثين سنة، وقال عمرو بن قيس: إِن معاذ بن جبل لما حضره الموت قال: انظروا، أَصبحنا؟ فقيل: لم نصبح، حتى أُتِيَ فَقِيل: أَصبحنا، فقال: أَعوذ بالله من ليلة صباحها إِلى النار! مرحبًا بالموت، مرحبًا زائر حبيب جاءَ على فاقة! اللهم، تعلم أَني كنت أَخافُك، وأَنا اليوم أَرجوك، إِني لم أَكن أَحب الدنيا وطول البقاء فيها لكَرْي الأَنهار، ولا لغَرْسِ الأَشجار، ولكن لظمإِ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلَق الذكر. وقال الحسن: لما حضر معاذًا الموت جعل يبكي، فقيل له: أَتبكي وأَنت صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأَنت، وأَنت؟ فقال: ما أَبكي جَزَعًا من الموت، إِن حل بي، ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن إِنما هي القبضتان، فلا أَدري من أَيِّ القبضتين أَنا.
وقال الحارث بن عميرة الزبيديّ: إني لجالس عند معاذ بن جبل وهو يموت فهو يُغْمَى عليه مَرّةً ويُفِيق مَرّةً، فسمعته يقول عند إفاقته: اخنُق خَنِقَك، فَوَعِزّتك إني لأحبّك. وقال سلمة بن كُهيل: أخذ معاذًا الطاعونُ في حَلْقه فقال: يا ربّ، إنّك لتَخنُقُني، وإنّك لتعلم أني أُحبّك. وقال أبو مسهر: قرأت في كتاب زيد بن عبيدة توفي معاذ بن جبل، وأبو عبيدة سنة تسع عشرة. قال أبو زرعة: قال لي أحمد بن حنبل: كان طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، وفيه مات معاذ وأبو عبيدة.