تسجيل الدخول

سبب غزوة تبوك

إن غزوة فتح مكة كانت غزوة فاصلة بين الحق والباطل، لم يبق بعدها مجال للريبة والظن في رسالة محمد صَلَّى الله عليه وسلم عند العرب، ولذلك انقلب المجرى تمامًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وانتهت المتاعب الداخلية واستراح المسلمون؛ لتعليم شرائع الله، وبث دعوة الإسلام؛ إلا أنه كانت هناك قوة تعرضت للمسلمين من غير مبرر، وهي قوة الرومان ــ أكبر قوة عسكرية على وجه الأرض في ذلك الزمان ــ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفير رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ــ الحارث بن عمير الأزدي ــ على يدي شرحبيل بن عمرو الغساني، حينما كان السفير يحمل رسالة النبي صَلَّى الله عليه وسلم إلى عظيم بصرى، وأن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة التي اصطدمت بالرومان اصطداما عنيفا في مؤتة، وهي إن لم تنجح في أخذ الثأر من أولئك الظالمين المتغطرسين، إلا أنها تركت أروع أثر في نفوس العرب، قريبهم وبعيدهم.
ولم يكن قيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من الأثر الكبير لصالح المسلمين، وعما كان يطمح إليه بعد ذلك كثير من قبائل العرب من استقلالهم عن قيصر، ومساندة المسلمين، إن هذا كان خطرا يتقدم ويخطو إلى حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية التي تجاور العرب، فكان الرومان يرون أنه يجب القضاء على قوة المسلمين قبل أن تتجسد في صورة خطر عظيم لا يمكن القضاء عليه، وقبل أن تثير القلاقل والثورات في المناطق العربية المجاورة للرومان.
ونظرا إلى هذه المصالح لم يقض قيصر بعد معركة مؤتة سنة كاملة؛ حتى أخذ يهيئ الجيش من الرومان والعرب التابعة لهم من آل غسان وغيرهم، وبدأ يجهز لمعركة دامية فاصلة، وكانت الأنباء تترامى إلى المدينة بإعداد الرومان للقيام بغزوة حاسمة ضد المسلمين، حتى كان الخوف يسيطر عليهم كل حين، لا يسمعون صوتا غير معتاد إلا ويظنونه زحف الرومان، ويظهر ذلك جليا مما وقع لعمر بن الخطاب، فقد كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم آلى من نسائه ــ أي حلف ألا يقربهن ــ شهرا في هذه السنة (9هـ) وكان هجرهن واعتزل عنهن في مشربة له ــ أي ولم يفطن الصحابة إلى حقيقة الأمر في بدايته فظنوا أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم طلقهن، فسرى فيهم الهم والحزن والقلق، يقول عمر بن الخطاب ــ وهو يروي هذه القصة: وكان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر، وإذا غاب كنت آتيه أنا بالخبر ــ وكانا يسكنان في عوالي المدينة، ويتناوبان إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم ــ ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا، فقد امتلأت صدورنا منه، فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساني؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أزواجه.
كانت هذه هي الأحوال والأخبار التي واجهها ويتلقاها المسلمون، إذ بلغهم من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة أن هرقل قد هيأ جيشا عرمرما قوامه أربعون ألف مقاتل، وأعطى قيادته لعظيم من عظماء الروم، وأنه جلب معهم قبائل لخم وجزام وغيرهما من مرتزقة العرب، وأن مقدمتهم بلغت إلى البلقاء، وهكذا تمثل أمام المسلمين خطر كبير.
والذي كان يزيد خطورة الموقف أن الزمان كان فصل القيظ الشديد، وكان الناس في عسرة وجدب وقلة من الظهر ــ أي الدواب، وكانت الثمار قد طابت، فكانوا يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الخروج على تلك الحال، وفي الزمان الذي هم فيه، ومع هذا كله كانت المسافة بعيدة، والطريق وعرة صعبة.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال