تسجيل الدخول


برير مثله

1 من 2
أبوذَرّ واسمه جُنْدُب

ابن جُنادة بن كُعيب بن صُعَيْر بن الوَقْعة بن حَرام بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار بن مُلَيْل بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر.

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: سمعتُ موسى بن عُبيدة يُخْبرُ عن نُعيم بن عبد الله المٌُجْمِر عن أبيه قال: اسم أبي ذرّ جندب بن جُنادة. وكذلك قال محمد بن عمر وهشام ابن محمد بن السائب الكلبيّ وغيرهما من أهل العلم.

قال: محمد بن عمر: وسمعت أبا معشر نَجيحًا يقول: واسم أبي ذرّ بُرير بن جُنادة.

قال: أخبرنا هاشم بن القاسم الكِنانيّ أبو النضْر قال: حدّثنا سليمان بن المغيرة عن حُميد بن هلال عن عبد الله بن الصامت الغِفاريّ عن أبي ذرّ قال: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يُحِلّون الشهرَ الحرامَ، فخرجتُ أنا وأخي أُنيس وأُمّنا فانطلقنا حتى نزلنا على خالٍ لنا فأكرمنا خالُنا وأحسن إلينا، قال فحسدنا قومُه فقالوا له: إنّك إذا خرجتَ عن أهلك خالف إليهم أُنيس. قال فجاء خالنا فنثا علينا ما قيل له فقلتُ: أما ما مضى من معروف فقد كدّرت ولا جماعَ لك فيما بعدُ. قال فقرّبنا صِرْمَتَنا فاحتملنا عليها وتغطّى خاُلنا بثوبه وجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أُنيس عن صِرْمتنا وعن مثلها فأتيا الكاهن فخبَر أُنيسًا بما هو عليه، قال فأتانا بصرمتنا ومثلها معها وقد صلّيتُ يابن أخي قبل أن ألْقى رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثلاث سنين، فقلتُ: لمن؟ قال: لله. فقلتُ: أين تَوَجّهُ؟ قال: أتَوَجّهُ حيث يُوَجّهُني الله، أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ أُلْقيتُ كأنْي خفاءٌ حتى تعلوني الشمس.

فقال أُنيس: إنّ لي حاجة بمكّة فاكْفِني حتى آتيَك. فانطلق أُنيس فراث عَلَيَّ، يعني أبطأ، ثمّ جاء فقلتُ: ما حبسك؟ قال: لقيتُ رجلًا بمكّة على دينك يزعم أنّ الله أرسله. قال: فما يقول الناس له؟ قال: يقولون شاعر كاهن ساحر. وكان أُنيس أحد الشعراء، فقال أُنيس: والله لقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشّعْر فلا يلتئِمُ على لسان أحدٍ بعيد أنّه شعر، والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون! فقلتُ اكفني حتى أذهب فأنظر!

قال: نعم، وكُنْ من أهل مكّة على حَذَرٍ فإنّهم قد شَنِفُوا له وتَجهَّمُوا له. فانطلقتُ فقدمتُ مكّة فاستضعفتُ رجلُا منهم فقلتُ أين هذا الذي تَدْعونَ الصابئ؟ قال فأشار إليّ فقال: هذا الصابئ. فمال عليّ أهلُ الوادي بكلّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ فخررتُ مغشيًّا عليّ فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأنّي نَصْب أحمر، فأتيتُ زمزمَ فشربتُ من مائِها وغسلتُ عني الدّماء فلبثتُ بها يا بن أخي ثلاثين من بين ليلةٍ ويومٍ ما لي طعام إلاّ ماء زمزم، فسَمِنْتُ حتى تكسّرتْ عُكَنُ بطني وما وجدتُ على كبدي سَخْفَة جوعٍ.

قال فبينا أهلُ مكّة في ليلةٍ قَمْراءَ إضْحِيان إذ ضرب اللهُ على أصْمِخَتِهِم فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين فأتتا عليّ وهما تدعوان إسافًا ونائلَةَ. قال فقلتُ أنْكِحا أحدهما الأخر، فما ثناهما ذاك عن قولهما.

قال: فأتتا عليّ فقلتُ هَنًا مثلُ الخشَبَةِ غير أني لم أكْنِ، فانطلقتا تُوَلْوِلان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا. قال فاستقبلهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وهما هابطان من الجبل فقال: "ما لكما؟" قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: "فما قال لكم؟" قالتا قال لنا كلمة تَمْلأ الفَمَ.

فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وصاحبه فاستلما الحجَرَ وطافا بالبيت ثمّ صلّى فأتيتُه حين قضى صلاتَه فكنتُ أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام، فقال: "وعليك رحمة الله، ممّن أنت؟" قال قلتُ: من غِفار فأهْوى بيده إلى جَبْهَته هكذا.

قال قلتُ في نفسي: كَرِهَ أني انتميتُ إلي غِفار. فذهبتُ آخذ بيده فَقَدَعَنى صاحبه وكان أعلم به مني فقال: "متى كنتَ هاهنا؟" قلتُ: كنتُ هاهنا منذ ثلاثين من بين ليلةٍ ويوم، قال: "فمن كان يُطْعِمُك؟" قال قلتُ: ما كان لي طعام إلاّ ماء زمزم فسَمِنْتُ حتى تكسّرت عُكَنُ بطني فما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جوعٍ. فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّها مباركة، إنّها طعام طُعْمٍ".

قال أبو بكر: يا رسول الله ائْذَنْ لي في طعامه الليلةَ، قال ففعل فانطلق النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف. فقال أبو ذرّ: فذاك أوّل طعامٍ أكلتُه بها.

قال فغبرتُ ما غبرتُ فلقيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: "إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟" فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أُنيسًا فقال: ما صنعتَ؟ قلتُ صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ. قال أُنيس: ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ.

قال فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ قال فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينة. وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ أسلمنا. فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم وجاءت أسْلَمُ فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم إخوتُنا. فأسلموا فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "غِفارٌ غَفَرَ الله لها وأسْلَمُ سالَمها الله"(*).

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سَبرة عن يحيَى بن شِبْل عن خُفاف بن إيماء بن رَحَضَةَ قال: كان أبو ذرّ رجلًا يصيب الطريق وكان شجاعًا يتفرّد وَحْدَه يقطع الطريق ويُغير على الصِّرم في عَماية الصبح على ظهر فرسه أو على قدميه كأنّه السّبُعُ، فيطرق الحيّ ويأخذ ما أخذ، ثمّ إنّ الله قذف في قلبه الإسلام وسمع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يومئذٍ بمكّة يدعو مختفيًا، فأقبل يسأل عنه حتى أتاه في منزله، وقبل ذلك قد طلب مَن يوصله إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلم يجد أحدًا فانتهى إلى الباب فاستأذن فدخل، وعنده أبو بكر وقد أسلم قبل ذلك بيوم أو يومين، وهو يقول: يا رسول الله والله لا نستسرّ بالإسلام وَلنُظْهِرَنّه. فلا يردّ عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، شيئًا فقلت: يا محمد إِلاَمَ تدعو؟ قال: "إلى الله وَحْدَه لا شريك له وخَلْعِ الأوثان وتشهد أني رسول الله". فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّك رسول الله. ثمّ قال أبو ذرّ: يا رسول الله إني منصرف إلى أهلي وناظرٌ متى يُؤمَرُ بالقتال فألحَقُ بك فإني أرى قومك عليك جميعًا. فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أصبتَ فانصرف". فكان يكون بأسفل ثنيّة غَزال فكان يعترض لعِيَرات قريش فيقتطعها فيقول لا أردّ إليكم منها شيئًا حتى تشهدوا ألاّ إلهَ إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئًا. فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومضى بدر وأُحُد، ثمّ قدم فأقام بالمدينة مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم(*).

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني نَجيح أبو معشر قال: كان أبو ذَرّ يَتَألّهُ في الجاهليّة ويقول: لا إله إلاّ الله، ولا يعبد الأصنام.

فمرّ عليه رجل من أهل مكّة بعدما أوحي إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم. فقال: يا أبا ذرّ إنّ رجلًا بمكّة يقول مثل ما تقول لا إله إلاّ الله، ويزعم أنّه نبيّ. قال: ممّن هو؟ قال: من قريش، قال فأخذ شيئًا من بَهْشٍ وهو المُقْلُ فتزوّده حتى قدم مكّة فرأى أبا بكر يُضيف الناس ويُطْعِمُهُم الزبيب، فجلس معهم فأكل ثمّ سأل من الغد: هل أنكرتم على أحدٍ من أهل مكّة شيئًا؟ فقال رجل من بني هاشم: نعم ابن عمّ لي يقول لا اله إلاّ الله ويزعم أنّه نبيّ. قال: فدُلّني عليه قال فدلّه، والنبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، راقد على دُكّان قد سدل ثوبَه على وجهه، فنبّهه أبو ذرّ فانتبه فقال: انْعَمْ صباحًا، فقال له النبيّ: "عليك السلام"، قال له أبو ذرّ: أنْشِدْني ما تقول، فقال: "ما أقول الشعر ولكنّه القُرآنُ، وما أنا قلتُه ولكنّ الله قاله"، قال: اقْرَأ عليّ. فقرأ عليه سورة من القرآن فقال أبو ذرّ أشهد ألاّ إله ألاّ الله وأشهد أنّ محمدًا رسوله. فسأله النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "ممّن أنت؟" فقال: من بني غفار.

قال فعجب النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، أنّهم يقطعون الطريق، فجعل النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، يرفع بَصَرَه فيه ويصوّبه تعجبًا من ذلك لِما كان يعلم منهم ثمّ قال: "إن الله يَهْدي مَن يشاء". فجاء أبو بكر وهو عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأخبره بإسلامه فقال له أبو بكر: أليس ضيفي أمْسِ؟ فقال: "بلى"، قال: فانْطلقْ معي. فذهب مع أبي بكر إلى بيته فكساه ثوبين ممشّقين فأقام أيَامًا ثمّ رأى امرأة تطوف بالبيت وتدعو بأحسن دُعاء في الأرض تقول: أعْطني كذا وكذا وافعلْ بي كذا وكذا، ثمّ قالت في آخر ذلك: يا إساف ويا نائلة، قال أبو ذرّ: أنْكِحي أحدهما صاحبه. فتعلّقت به وقالت: أنت صابئٌ. فجاء فِتْيَةٌ من قريش فضربوه، وجاء ناس من بني بكر فنصروه وقالوا: ما لصاحبنا يُضرَبُ وتتركون صُباتَكم؟ فتحاجَزوا فيما بينهم فجاء إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أمّا قريش فلا أدعُهم حتى أثْأرَ منهم، ضربوني.

فخرج حتى أقام بعُسْفان وكلّما أقبلت عِيرٌ لقريش يحملون الطعام يُنَفِّرُ بهم على ثنيّة غَزال فتلقى أحمالها فجمعوا الحِنَطَ، قال يقول أبو ذرّ لقومه: لا يمسّ أحد حَبّة حتى تقولوا لا إله إلاّ الله، فيقولون لا إله إلا الله ويأخذون الغرائر(*).

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن موسى ابن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ قال: كنتُ في الإسلام خامسًا.

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني نجيح أبو معشر عن محمد بن قيس عن حكّام ابن أبي الوضّاح البصريّ قال: كان إسلام أبي ذرّ رابعًا أو خامسًا.

قال: أخبرنا عمرو بن حكّام البصريّ قال: حدّثنا المثنى بن سعيد القسّام القصير قال: أخبرنا أبو جَمْرة الضُّبَعيّ أنّ ابن عبّاس أخبرهم ببَدءِ إسلام أبي ذرّ قال: لما بلغه أنّ رجلًا خرج بمكّة يزعم أنّه نبيّ، أرسل أخاه فقال: اذهب فأتني بخبر هذا الرجل وبما تسمع منه. فانطلق الرجل حتى أتَى مكّة فسمع من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فرجع إلى أبي ذرّ فأخبره أنّه يأمر بالمعروف ويَنْهَى عن المُنْكَر ويأمر بمكارم الأخلاق. فقال أبو ذرّ: ما شفيتَني. فخرج أبو ذرّ ومعه شَنّة فيها ماؤه وزادُه حتى أتى مكّة ففَرِقَ أن يسأل أحدًا عن شيءٍ ولما يَلْقَ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأدركه الليل فبات في ناحية المسجد. فلمّا أعْتَمَ مرّ به عليّ فقال: ممّن الرجل؟ قال: رجل من غفار، قال: قُمْ إلى منزلك.

قال فانطلق به إلى منزله ولم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيءٍ. وغدا أبو ذرّ يطلب فلم يَلْقَه، وكره أن يسأل أحدًا عنه، فعاد فنام حتى أمسى فمر به عليّ فقال: أما آنَ للرجل أن يعرف منزله؟ فانطلق به فبات حتى أصبح لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيءٍ، فأصبح اليوم الثالث فأخذ على عليّ لَئِنْ أفْشي إليه الذي يريد ليَكتمنّ عليه وليسترنّه، ففعل فأخبره أنّه بلغه خروج هذا الرجل يَزعم أنّه نبيّ فأرسلتُ أخي ليَأتيَني بخبره وبما سمع منه فلم يأتني بما يَشْفيني من حديثه، فجئتُ بنفسي لألقاه. فقال له عليّ إني غادٍ فاتْبَعْ أثري فإني إن رأيتُ ما أخاف عليك اعتللتُ بالقيام كأنّي أهريق الماء فآتيك، وإن لم أرَ أحدًا فاتْبَعْ أثري حتى تدخل حَيْثُ أدخل. ففعل حتى دخل على أثر عليّ على النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فأخبره الخبر، وسمع قول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم من ساعته، ثمّ قال: يا نبيّ الله ما تأمرني؟ قال: "ترجع إلى قومك حتى يبلغك أمري"، قال فقال له والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخَ بالإسلام في المسجد.

قال فدخل المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا عبده ورسوله صَلَّى الله عليه وسلم، قال فقال المشركون: صبأ الرجل صبأ الرجل. فضربوه حتى صُرعَ، فأتاه العبّاس فأكبّ عليه وقال: قتلتم الرجل يا معشر قريش، أنتم تُجّار طريقكم على غفار، فتريدونَ أن يُقْطَعَ الطريق؟ فأمسكوا عنه ثمّ عادَ اليومَ الثاني فصنعَ مثل ذلك ثمّ ضربوه حتى صُرِعَ، فأكبّ عليه العبّاس وقال لهم مثل ما قال في أوّل مرّة، فأمسكوا عنه وكان ذلك بَدْءَ إسلام أبي ذَرّ(*).

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: أخبرنا من سمع إسماعيل بن أبي حكيم يُخبر عن سليمان بن يسار قال: قال أبو ذرّ حِدْثانَ إسلامه لابن عمّه يا ابن الأمَة. فقال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "ما ذهَبتْ عنك أَعرابِيَّتُكَ بعدُ"(*).

قال محمد بن إسحاق: آخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، بين أبي ذرّ الغفاري والمُنْذرِ بن عَمرو، أحد بني ساعدة وهو المُعْنِق لِيَمُوتَ(*)، وأنكر محمد بن عمر هذه المؤاخاة بين أبي ذرّ والمنذر بن عَمرو، وقال لم تكن المؤاخاة إلاّ قبل بدر فلمّا نزلت آية المواريث انقطعت المؤاخاة، وأبو ذرّ حين أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام بها حتى مضت بدر وأحُد والخندق ثمّ قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، المدينةَ بعد ذلك.

قال أخبرنا محمد بن الفُضيل عن مطرّف عن أبي الجَهْم عن خالد بن وهبان وكان ابن خالة أبي ذرّ، عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟" قال قلت: إذًا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به. فقال: "أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني"(*).

قال: أخبرنا هُشيم قال: أخبرنا حُصين عن زيد بن وهب قال: مررتُ بالرّبَذةِ فإذا أنا بأبي ذرّ، قال فقلتُ ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}[سورة التوبة: 34]، وقال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب، قال فقلتُ نَزَلَتْ فينا وفيهم. قال فكان بيني وبينه في ذلك كلام فكتب يشكوني إلى عثمان، قال فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ وكَثُر الناسُ علي كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك. قال فذُكِرَ ذلك لعثمان فقال لي: إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريبًا. فذاك أنزلني هذا المنزل ولو أُمّرَ عليّ حَبَشيّ لسمعتُ ولأطَعْتُ.

قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا هشام بن حسّان عن محمّد بن سيرين أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال لأبي ذرّ: "إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعًا فاخرج منها"، ونحا بيده نحو الشأم، "ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!" قال: يا رسول الله أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟ قال: " لا"، قال فما تأمرني؟ قال: "اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشيّ"(*).

قال: فلمّا كان ذلك خرج إلى الشأم فكتب معاوية إلى عثمان: إنّ أبا ذرّ قد أفسد الناس بالشأم، فبعث إليه عثمان فقدم عليه، ثمّ بعثوا أهله من بعده فوجدوا عنده كيسًا أو شيئًا فظنّوا أنّها دراهم، فقالوا: ما شاء الله! فإذا هي فلوس. فلمّا قدمَ المدينةَ قال له عثمان: كُنْ عندي تغدو عليك وتروح اللقاح، قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثمّ قال: ائْذَنْ لي حتى أخرج إلى الرّبَذَة، فأذن له فخرج إلى الربذة وقد أقيمت الصلاةُ وعليها عبدٌ لعثمان حبشيّ فتأخّر فقال أبو ذرّ: تَقَدّمْ فصلّ فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ.

قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا العوّام بن حَوْشَب قال: حدّثني رجل من أصحاب الأجُرّ عن شيخين من بني ثَعْلَبَة رجل وامرأته قالا: نَزَلْنا الرّبذة فمرّ بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. فاستأذنّاه أن نغسل رأسه فأذن لنا واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق، حَسِبْتُه قال من أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا ذرّ فعل بك هذا الرجل وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً؟ فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟ فقال: يا أهل الإسلام لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم ولا تُذِلّوا السلطان فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له، والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي، ولو سيّرني ما بين الأفق إلى الأفق، أو قال ما بين المشرق والمغرب، لسمعتُ وأطَعْتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي. ولو ردّني إلى منزلي لسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبتُ ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي.

قال: أخبرنا الفضل بن دكين قال: حدّثنا جعفر بن بُرْقان عن ثابت بن الحجّاج عن عبد الله بن سيدان السّلَميّ قال: تَناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّمًا فقال له الناس: ما لك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامعٌ مُطيعٌ ولو أمرني أن آتيَ صَنْعاءَ أو عَدَنَ ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ، وأمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.

قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا سفيان بن حُسين عن الحكم بن عُيينة عن إبراهيم التيميّ عن أبيه عن أبي ذرّ قال: كنتُ رِدْفَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو على حمار وعليه بَرْدَعَةٌ أو قطيفة.

قال: أخبرنا عبد الله بن نُمير قال: أخبرنا الأعمش عن عثمان بن عُمير عن أبي حَرْب ابن أبي الأسود الدّيْليّ عن عبد الله بن عمرو قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "ما أقَلّت الغَبْراءُ ولا أظَلّت الخضراءُ من رجل أصدق لهجة من أبي ذرّ"(*).

قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو أميّة بن يعلى عن أبي الزّناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَةٍ أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى تواضع عيسى بن مريم فَلْيَنْظُرْ إلى أبي ذرّ"(*).

قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا سلام بن مسكين قال: حدّثنا مالك بن دينار أنّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟" فقال أبو ذرّ: أنا، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "صدقتَ". ثمّ قال: "ما أظَلّتِ الخَضْراءُ ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَة أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى زُهْدِ عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ"(*).

قال: أخبرنا سليمان بن حرب والحسن بن موسى قالا: حدّثنا حمّاد بن سلمة عن عليّ بن زيد عن بلال بن أبي الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما أظَلّتِ الخَضْراء ولا أقَلّتِ الغَبْراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ"(*).

قال: أخبرنا عبيد الله بن عبد المجيد الحَنَفيّ قال: حدّثنا أبو حُرّة عن محمد بن سيرين قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ"(*).

قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا محمد بن عمرو قال: سمعتُ عِراك بن مالك يقول: قال أبو ذرّ: إني لأقرَبُكم مجلسًا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يوم القيامة وذلك أني سمعتُه صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة مَن خرج من الدنيا كهيئة ما تركتُه فيها، وإنّه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد تشبّث منها بشيء غيري"(*).

قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا أبو كعب صاحب الحرير قال: حدّثنا أبو الأصفر عن الأحنف بن قيس قال: أتيتُ المدينةَ ثمّ أتيتُ الشأم فَجمَّعت فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلا فَرَّ أهلها، يصلّي ويُخِفّ صلاته، قال فجلستُ إليه فقلتُ له: يا عبد الله مَن أنت؟ قال: أنا أبو ذرّ فقال لي: فأنتَ من أنت؟ قال قلتُ: أنا الأحنف بن قيس. قال قُمْ عني لاَ أعُرُّكَ، فقلتُ له: كيف تَعُرُّنِي بشرّ؟ قال: إنّ هذا، يعني معاوية، نادى مناديه ألاّ يجالسَني أحد.

قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا سلاّم أبو المُنْذِر عن محمد بن واسع عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذرّ قال: أوصاني خليلي بسبعٍ: أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش(*).

قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا همّام قال: أخبرنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن عن عبد الله بن الصامت أنّه كان مع أبي ذرّ فخرج عطاؤه ومعه جارية له، قال فجعلت تقضي حوائجَه، قال ففضل معها سِلَعٌ، قال فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال قلتُ لو اذّخرتَه للحاجة تبوء بك أو للضيف ينزل بك، قال: إنّ خليلي عهدَ إليّ أن أيّ مالٍ ذَهَبٍ أو فضّةٍ أُوكِيَ عليه فهو جَمْرٌ على صاحبه حتى يُفَرّغَه في سبيل الله(*).

قال: أخبرنا سليمان بن حرب قال: حدّثنا أبو هلال قال: حدّثنا قتادة عن سعيد بن أبي الحسن أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوسًا بما بقي وقال: إنّه ليس من وعى ذهبًا أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه.

قال: أخبرنا يعقوب بن إسحاق الحضرميّ قال: حدّثنا حمّاد بن سلمة عن أبي نعامة السَّعْديّ عن الأحنف بن قيس قالك قال لي أبو ذرّ خُذ العطاء ما كان مُتْعَةً فإذا كان دَيْنًا فارفضه.

قال: أخبرنا عبد الله بن عمرو أبو معمر المِنْقَريّ قال: حدّثنا عبد الوارث بن سعيد عن الحسين المعلّم عن أبي بُريدة قال: لما قدم أبو موسى الأشعريّ لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري رجلًا خفيف اللحم قصيرًا، وكان أبو ذرّ رجلًا أسود كَثّ الشعر. فجعل الأشعريّ يلزمه ويقول أبو ذرّ: إليك عني، ويقول الأشعريّ، مَرْحَبًا بأخي، ويدفعه أبو ذرّ ويقول: لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ.

قال ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه وقال: مرحبًا بأخي، فقال أبو ذرّ إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟ قال: نعم، قال: هل تطاولتّ في البِناء أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟ قال: لا، قال: أنت أخي أنت أخي.

قال: أخبرنا الفضل بن دُكين قال: حدّثنا صالح بن رُسْتُم أبو عامر عن حُميد بن هلال عن الأحنف بن قيس قال: رأيتُ أبا ذرّ رجلًا طويلًا آدم أبيض الرأس واللحية.

قال: أخبرنا الفضل بن دُكين قال: حدّثنا شريك عن إبراهيم بن مُهاجِر عن كُليب بن شهاب الجرْميّ قال: سمعتُ أبا ذرّ يقول: ما يُوئسني رِقّة عَظمي ولا بياض شَعْري أن ألقى عيسى بن مريم.

قال: أخبرنا عبيد الله بن موسى قال: حدّثنا موسى بن عُبيدة عن عبد الله بن خِراش قال: رأيتُ أبا ذرّ في مظَلّةٍ وتحته امرأة سَحْماء.

قال: محمد بن سعد: وقال غير عبيد الله في هذا الحديث مظلّة شَعْرٍ.

قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا محمد بن دينار قال: حدّثنا يونس عن محمد قال: سألتُ ابنَ أختٍ لأبي ذرّ ما ترك أبو ذرّ؟ فقال: ترك أتانَين وعَفْوًا وأعْنُزًا وركائب. قال: العَفْوُ الحمار الذّكَرُ.

قال: أخبرنا عبد الله بن يزيد أبو عبد الرحمن المُقْرئ قال: حدّثنا سعيد بن أبي أيّوب عن عبد الله بن أبي جعفر القرشيّ عن سالم بن أبي سالم الجَيْشانيّ عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ إني أراك ضعيفًا وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين ولا تَوَلَيَّنَ مالَ يَتيمٍ"(*).

قال: أخبرنا خالد بن مخلد البَجَليّ قال: حدّثني سليمان بن بلال قال: حدّثني يحيَى ابن سعيد قال: أخبرني الحارث بن يزيد الحضرميّ أنّ أبا ذرّ سأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، الإمارة فقال: "إنّك ضعيف وإنّها أمانةٌ وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها وأدّى الذي عليه فيها"(*).

قال: أخبرنا كثيير بن هشام قال: حدّثنا جعفر بن بُرْقان قال: حدّثنا غالب بن عبد الرحمن قال: لقيتُ رجلًا قال: كنتُ أصلّي مع أبي ذرّ في بيت المقدس فكان إذا دخل خلع خُفّيْه فإذا بزق أو تنخَّع تَنَخَّع عليهما، قال ولو جُمِعَ ما في بيته لكان رِداء هذا الرجل أفضل من جميع ما في بيته. قال جعفر: فذكرت هذا الحديث لمهران بن ميمون فقال: ما أراه كان ما في بيته يَسْوي درهمَينِ.

قال: أخبرنا مالك بن إسماعيل أبو غسّان النَّهْدِيّ قال: حدّثنا مسعود بن سعد الجُعْفيّ عن الحسن بن عبيد الله عن رياح بن الحارث عن ثعلبة بن الحكم عن عليّ أنّه قال: لم يبقَ اليومَ أحد لا يبالي في الله لومةَ لائم غير أبي ذرّ ولا نفسي، ثمّ ضرب بيده على صدره.

قال أخبرنا حجّاج بن محمد عن ابن جُريج قال: أخبرني أبو حرب بن أبي الأسود عن أبي الأسود، قال ابن جُريج ورجل عن زاذان قالا: سُئِلَ عليّ عن أبي ذرّ فقال: وعى علمًا عجز فيه وكان شحيحًا حريصًا، شحيحًا على دينه حريصًا على العلم، وكان يُكْثرُ السّؤالَ فيُعْطى ويُمْنَعُ أما أن قد مُلِئَ له في وِعائِه حتى امتَلأ. فلم يدروا ما يريد بقوله وعى علمًا عجز فيه، أعجز عن كَشْفِ ما عنده من العلم أم عن طَلَبِ ما طلب من العلم إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم.
قال: أخبرنا عفّان بن مسلم وعمرو بن عاصم الكلابيّ قالا: حدّثنا سليمان بن المغيرة عن حُميد بن هلال قال: حدّثنا عبد الله بن الصامت قال: دخلتُ مع أبي ذرّ في رَهْطٍ من غِفار على عثمان بن عفّان من الباب الذي لا يُدْخَلُ عليه منه، قال: وَتَخَوَّفْنَا عثمانَ عليه، قال فانتهى إليه فسلّم عليه، قال: ثمّ ما بدأه بشيء إلاّ أن قال: أحَسِبْتَني منهم يا أمير المؤمنين؟ والله ما أنا منهم ولا أدركهم، لو أمرتَني أن آخذ بِعَرْقُوَتَيْ قَتَبٍ لأخذتُ بهما حتى أمرتَ. قال ثمّ استأذنه إلى الرّبَذَةِ، قال فقال: نعم نأذن لك ونأمر لك بنَعَمٍ من نعم الصدقة فتُصيبُ من رِسْلها. فقال فنادى أبو ذرّ: دونكم معاشر قريش دنياكم فاعْذَمُوها لا حاجة لنا فيها. قال فما بزاه بشيء. قال فانطلق وانطلقتُ معه حتى قدمنا الرّبَذَةَ، قال: فصادفنا مولًى لعثمان غلامًا حبشيًّا يؤمّهم فنُودِيَ بالصلاة فتقدّم فلمّا رأى أبا ذرّ نكص، فأومأ إليه أبو ذرّ: تَقَدّمْ فصلّ. فصلّى خلفه أبو ذرّ.

قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا وُهيب بن خالد قال: حدّثنا عبد الله بن عثمان بن خُيثم عن مُجاهِد عن إبراهيم، يعني ابن الأشتر، أنّ أبا ذرّ حضره الموت وهو بالرَّبَذَة فبَكَت امرأته فقال: وما يُبْكيكِ؟ فقالت: أبكي أنّه لا يدَ لي بتغيبك وليس عندي ثوبٌ يَسَعُك كَفَنًا.

فقال: لا تبكي فإنّي سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ذاتَ يوم وأنا عنده في نفرٍ يقول: "لَيموتنّ رجلٌ منكم بفَلاةٍ من الأرض تَشْهَدُه عِصابة من المؤمنين"، قال: فكلّ مَن كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية فلم يَبْقَ منهم غيري وقد أصبحتُ بالفلاةِ أموت، فراقِبي الطريقَ فإنّكِ سوف تَرَيْنَ ما أقول لك فإنّي والله ما كذبتُ ولا كُذِبْتُ. قالت: وأنّي ذلك وقد انقطع الحاجّ؟

قال: راقِبي الطريق. فبينا هي كذلك إذا هى بالقوم تَجُدّ بهم رواحلهم كأنّهم الرّخَم، قال عفّان: هكذا قال: تجدّ بهم، والصوابُ تَخُدّ بهم رواحلُهم، فأقبل القوم حتى وقفوا عليها قالوا: ما لكِ؟ قالت: امرؤ من المسلمين تُكَفّنونه وتُؤجَرُونَ فيه، قالوا: ومَن هو؟ قالت: أبو ذرّ. ففَدّوه بآبائهم وأمّهاتهم ووضعوا سياطَهم في نُحورها يبتدرونه.

فقال: أبْشِرُوا أنتم النفر الذين قال فيكم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ما قال أبشروا سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "ما من امرأيْنِ من المسلمين هلك بينهما ولدان أو ثلاثة فاحتسباه وصبرا فيريان النار أبدًا".

ثمّ قال: قد أصبحتُ اليومَ حيثُ ترون ولو أنّ ثوبًا من ثيابي يسعني لم أُكَفّنْ إلاّ فيه، أنشدكم الله ألاّ يُكَفّني رجلٌ منكم كان أميرًا أو عريفًا أو بريدًا.

فكلّ القوم كان نال من ذلك شيئًا إلاّ فَتًى من الأنصار كان مع القوم قال: أنا صاحبك، ثوبان في عَيْبتي من غَزْل أمّي وأحَدُ ثَوْبَيَّ هذَين اللذين عليّ، قال: أنت صاحبي فكَفّني(*).

قال: أخبرنا إسحاق بن أبي إسرائيل قال: حدّثنا يحيَى بن سُليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن إبراهيم بن الأشتر عن أبيه أنّه لما حضر أبا ذرّ الموتُ بكت امرأته فقال لها: ما يُبْكيك؟ قالت: أبكي لأنّه لا يدان لي بتغييبك وليس لي ثوب يسعك، قال: فلا تبكي فإنّي سمعتُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول لنفر أنا فيهم:"لَيموتنّ منكم رجل بفلاةٍ من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين"، وليس من أولئك النفر رجل إلاّ قد مات في قريةٍ وجماعةٍ من المسلمين وأنا الذي أموت بفلاة والله ما كذبتُ ولا كُذِبْتُ فأبْصرِي الطريق. فقالت: أنّي وقد انقطع الحاجّ وتقطّعت الطّرُق؟ فكانت تَشُدّ إلى كَثيبٍ تقوم عليه تنظر ثمّ ترجع إليه فَتُمَرّضُه ثمّ ترجع إلى الكثيب.

فبينا هي كذلك إذا هي بنفر تَخُدّ بهم رواحلهم كأنّهم الرّخَمُ على رحالهم، فألاحت بثوبها فاقبلوا حتى وقفوا عليها قالوا: ما لك؟ قالت: امرؤ من المسلمين يموت تكفّنونه، قالوا: ومن هو؟ قالت: أبو ذرّ. فَفَدوْه بآبائهم وأمّهاتهم ووضعوا السيّاط في نحورها. يستبقون إليه حتى جاءوه.

فقال: أبْشِروا. فحدّثهم الحديث الذي قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ قال: إني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "لا يموت بين امْرَأينِ مسلمين ولدان أو ثلاثة فيحتسبان ويصبران فيريان النار"، أنتم تسمعون، لو كان لي ثوب يسعني كَفَنًا لم أُكَفّنْ إلاّ في ثوب هو لي، أو لامرأتي ثوب يسعني لم أُكَفّنْ إلاّ في ثوبها، فأنشدكم الله والإسلام ألاّ يُكَفّني رجل منكم كان أميرًا أو عريفًا أو نقيبًا أو بريدًا.

فكلّ القوم قد كان قد قارف بعضَ ذلك إلا فتًى من الأنصار قال: أنا أكَفّنُك، فإنّي لم أُصِبْ ممّا ذكرتَ شيئًا، أكَفّنك في ردائي هذا الذي عليّ وفي ثَوبينِ في عَيْبَتي من غَزْل أمّي حاكتهما لي. قال: أنت فكفّني، قال فكفّنه الأنصاري في النفر الذين شهدوه، منهم حُجْر ابن الأدبر ومالك الأشتر في نفرٍ كلّهم يَمانٍ(*).

قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أيّوب قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق قال: حدّثني بُريدة بن سفيان الأسلميّ عن محمد بن كعب القُرَظي عن عبد الله ابن مسعود قال: لما نفى عثمان أبا ذرّ إلى الرّبَذَةِ وأصابه بها قدرهُ ولم يكن معه أحد إلاّ امرأتهُ وغلامه فأوصاهما أن اغسلاني وكفّناني وضعاني على قارعة الطريق فأوّل رَكْبٍ يمرّ بكم فقولوا هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دَفْنِه. فلمّا مات فعلا ذلك، ثمّ وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط ٍمن أهل العراق عُمّارًا فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام فقال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله، "تمشي وحدك وتموت وحدك وتُبْعَثُ وحدك". ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه، ثمّ حدّثهم عبد الله بن مسعود حديثَه وما قال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، في مَسيره إلى تَبوك(*).

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثنا سعيد بن عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن أبي ذرّ أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِرًا بها قائمًا يصلّي فقلتُ يا أبا ذرّ أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيتَه عليّ، قلتُ: فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين، فقال: يا ابن أخي أعطيتَهما مَن هو أحوج إليهما مني، قلتُ: والله إنّك لمحتاج إليهما، قال: اللهمّ غفرًا، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة ولي أُخْرى للمسجد ولي أعْنُزٌ نحلبها ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثنا سفيان الثوري عن عمّار الدّهْني عن أبي شُعْبة قال: جاء رجل من قومنا أبا ذرّ يعرض عليه فأبَى أبو ذرّ أن يأخذ وقال: لنا أحمرة نحتمل عليها وأعْنُزٌ نحلبها ومُحرَّرة تخدمنا وفضل عباءة عن كِسْوتنا وإني لأخاف أن أحاسَبَ بالفضلِ.

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثنا يزيد بن عليّ الأسلميّ قال: حدّثني عيسى بن عُميلة الفَزاريّ قال: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ مَصَرَه، وقرّب إليهم تمرًا وهو يسير، ثمّ تعذّر إليهم وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به. قال وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئًا.

قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثنا خالد بن حيان قال: كان أبو ذرّ وأبو الدَّرداء في مِظَلَّتَيْنِ من شَعْر بدمشق.

قال: أخبرنا محمد بن عمر عن موسى بن عبيدة قال: حدّثني عبد الله بن خِراش الكعبيّ قال: وجدتُ أبا ذرّ في مظَلّةِ شَعْرٍ بالرّبَذَةِ تحته امرأة سحماء فقلتُ: يا أبا ذرّ تَزَوّج سحماء! قال: أتزوّج من تضعني أحبّ إليّ ممّن ترفعني، وما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقًا.

قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا همّام بن يحيَى قال: حدّثنا قَتادة عن أبي قِلابة عن أبي أسماء الرّحبيّ أنّه دخل على أبي ذرّ وهو بالرّبَذة وعنده امرأة له سوداء مشنّفة ليس عليها أثر المَجاسِد ولا الخلوقِ، قال فقال: ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السّويداء؟ تأمرني أن آتي العراق فإذا أتيتُ العراق مالوا عليّ بدنياهم، ألا وإنّ خليلي عهد إليّ أنّ دون جِسْر جهنّم طريقًا ذا دَحْضٍ ومَزَلّة، وإنّا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير(*).

قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا حمّاد بن سَلَمة قال: أخبرنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النّهْديّ قال: رأيتُ أبا ذرّ يميد على راحلته وهو مستقبل مَطْلِعَ الشمس فظننتُه نائمًا فدنوتُ منه فقلتُ أنائم أنت يا أبا ذرّ؟ فقال: لا بل كنتُ أصلّي.

قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا أبو عَقيل قال: حدّثنا يزيد بن عبد الله أنّ أبا ذرّ تَبِعَتْه جُويرية سوداء فقيل له: يا أبا ذرّ هذه ابنتُك؟ قال: تزعم أمّها ذاك.

قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا قرّة بن خالد قال: حدّثنا عون بن عبد الله ابن عتبة بن مسعود قال: كُسِيَ أبو ذرّ بُرْدَينِ فأتَزَرَ بأحدهما وارتدي بشِمْلَةٍ وكسا أحدهما غلامَه ثمّ خرج على القوم فقالوا له: لو كنتَ لبستَهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل ولكني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "أطْعِموهم ممّا تأكلون وألبسوهم ممّا تكسون"(*).

قال: أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال: حدّثنا قرّة بن خالد قال: حدّثنا بُدَيل بن مَيْسَرَةَ عن مطرّف عن رجل من أهل البادية قال: صحبتُ أبا ذرّ فأعجبَتْني أخلاقُه كلّها إلاّ خُلقٌ واحد. قلتُ: وما ذاك الخلق؟ قال: كان رجلًا فَطِنًا فكان إذا خرج من الخلاء انتضح‏.
(< جـ4/ص 205>)
2 من 2
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال