تسجيل الدخول


برير مثله

أبو ذرّ الغفاريّ‏:
مختلف في اسمه، واسم أبيه؛ فقيل: جندب بن جُنادة، وقيل: بُرَير بن جُنادة، وقيل: بُرير بن جندب، وقيل: بُرَيْر بن عِشْرِقة، وقيل: بريق، وقيل: المشهور جندب بن جنادة بن قيس، وقيل: المشهور أنه جندب بن جنادة بن سكن، وقيل: جندب بن جنَادة بن صعَير، وقيل: جندب بن سفيان بن جنادة الغفاريّ، ويقال: جنْدب بن عبد الله، ويقال: جندب بن السّكن، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: بربر، وقيل: اسمه السكن بن جنادة بن قيس، ووقع في رواية لابن ماجه: أنّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي ذَر: "يَا جُنَيْدِبْ"(*)، وقيل في أبيه: السكن، وقيل: يزيد، وقيل: عرفة، وقيل: اسم جده سفيان.
وقيل كنيته: أبو الذّر، وأبو ذر أكْثَرُ وأشهر، ورُوِي عن يزيد بن أبي حبيب، قال: قدم أبو ذرّ على النّبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو بمكّة، فأسلم، ثم رجع إلى قومه فكانَ يَسْخَر بآلهتهم؛ ثم إنه قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة فلما رآه النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم وَهم في اسمه فقال: ‏"‏أَنْتَ أَبُو نَمْلَة‏ٍ"، فقال: أنا أبو ذر، قال: ‏"‏نَعَمْ أَبُو ذَرّ‏ٍ"‏(*).
واسم أمه: رملة بنت الوقيعة غفارية أيضًا؛ من بني غفار بن مليل، ويقال: إنه أخو عمرو بن عَبسةَ لأُمه. وكان أبو ذر طويلًا، أسمر اللون، نحيفًا، وقال أَبُو قِلَابَةَ، عن رجل من بني عامر: دخلتُ مسجد منى فإذا شيخ معروق آدَم، عليه حُلّة قِطْري، فعرفت أنه أبو ذَر بالنعت، ورُوِي عن خُفاف بن إيماء بن رَحَضَةَ قال: كان أبو ذرّ رجلًا يصيب الطريق، وكان شجاعًا يتفرّد وَحْدَه؛ يقطع الطريق، ويُغير على الصِّرم في عَماية الصبح على ظهر فرسه ـــ أو على قدميه ـــ كأنّه السّبُعُ، فيطرق الحيّ ويأخذ ما أخذ، ثمّ إنّ الله قذف في قلبه الإسلام، وسمع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يومئذٍ بمكّة يدعو مختفيًا، فأقبل يسأل عنه حتى أتاه في منزله، وقبل ذلك قد طلب مَن يوصله إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلم يجد أحدًا، فانتهى إلى الباب، فاستأذن، فدخل، وعنده أبو بكر وقد أسلم قبل ذلك بيوم أو يومين، وهو يقول: يا رسول الله، والله لا نستسرّ بالإسلام وَلنُظْهِرَنّه، فلا يردّ عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم شيئًا، فقلت: يا محمد، إِلاَمَ تدعو؟ قال: "إلى الله وَحْدَه لا شريك له، وخَلْعِ الأوثان، وتشهد أني رسول الله"، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّك رسول الله، ثمّ قال أبو ذرّ: يا رسول الله، إني منصرف إلى أهلي، وناظرٌ متى يُؤمَرُ بالقتال، فألحَقُ بك فإني أرى قومك عليك جميعًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أصبتَ فانصرف"، فكان يكون بأسفل ثنيّة غَزال، فكان يعترض لعِيَرات قريش فيقتطعها، فيقول: لا أردّ إليكم منها شيئًا حتى تشهدوا ألاّ إلهَ إلاّ الله، وأنّ محمدًا رسول الله، فإن فعلوا ردّ عليهم ما أخذ منهم، وإن أبوا لم يَرُدّ عليهم شيئًا، فكان على ذلك حتى هاجر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومضت بدر وأُحُد، ثمّ قدم فأقام بالمدينة مع النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم(*)، وحدّث نَجيح أبو معشر؛ قال: كان أبو ذَرّ يَتَألّهُ في الجاهليّة، ويقول: لا إله إلاّ الله، ولا يعبد الأصنام، فمرّ عليه رجل من أهل مكّة بعدما أوحي إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا ذرّ، إنّ رجلًا بمكّة يقول مثل ما تقول لا إله إلاّ الله، ويزعم أنّه نبيّ، قال: ممّن هو؟ قال: من قريش، قال: فأخذ شيئًا من بَهْشٍ ـــ وهو المُقْلُ ـــ فتزوّده حتى قدم مكّة، فرأى أبا بكر يُضيف الناس، ويُطْعِمُهُم الزبيب، فجلس معهم، فأكل، ثمّ سأل من الغد: هل أنكرتم على أحدٍ من أهل مكّة شيئًا؟ فقال رجل من بني هاشم: نعم؛ ابن عمّ لي يقول: لا اله إلاّ الله، ويزعم أنّه نبيّ، قال: فدُلّني عليه؛ قال: فدلّه، والنبيّ صَلَّى الله عليه وسلم راقد على دُكّان قد سدل ثوبَه على وجهه، فنبّهه أبو ذرّ، فانتبه، فقال: انْعَمْ صباحًا، فقال له النبيّ: "عليك السلام"، قال له أبو ذرّ: أنْشِدْني ما تقول، فقال: "ما أقول الشعر؛ ولكنّه القُرآنُ، وما أنا قلتُه؛ ولكنّ الله قاله"، قال: اقْرَأ عليّ، فقرأ عليه سورة من القرآن، فقال أبو ذرّ: أشهد ألاّ إله ألاّ الله، وأشهد أنّ محمدًا رسوله، فسأله النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "ممّن أنت؟" فقال: من بني غفار، قال: فعجب النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم أنّهم يقطعون الطريق، فجعل النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم يرفع بَصَرَه فيه، ويصوّبه تعجبًا من ذلك لِما كان يعلم منهم، ثمّ قال: "إن الله يَهْدي مَن يشاء"، فجاء أبو بكر وهو عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأخبره بإسلامه، فقال له أبو بكر: أليس ضيفي أمْسِ؟ فقال: "بلى"، قال: فانْطلقْ معي، فذهب مع أبي بكر إلى بيته فكساه ثوبين ممشّقين، فأقام أيَامًا، ثمّ رأى امرأة تطوف بالبيت وتدعو بأحسن دُعاء في الأرض تقول: أعْطني كذا وكذا، وافعلْ بي كذا وكذا، ثمّ قالت في آخر ذلك: يا إساف، ويا نائلة؛ قال أبو ذرّ: أنْكِحي أحدهما صاحبه، فتعلّقت به، وقالت: أنت صابئٌ، فجاء فِتْيَةٌ من قريش، فضربوه، وجاء ناس من بني بكر، فنصروه، وقالوا: ما لصاحبنا يُضرَبُ وتتركون صُباتَكم؟ فتحاجَزوا فيما بينهم، فجاء إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أمّا قريش فلا أدعُهم حتى أثْأرَ منهم؛ ضربوني، فخرج حتى أقام بعُسْفان، وكلّما أقبلت عِيرٌ لقريش يحملون الطعام يُنَفِّرُ بهم على ثنيّة غَزال، فتلقى أحمالها، فجمعوا الحِنَطَ، قال: يقول أبو ذرّ لقومه: لا يمسّ أحد حَبّة حتى تقولوا: لا إله إلاّ الله، فيقولون: لا إله إلا الله، ويأخذون الغرائر(*).
ورُوِي عن أبي ذرّ؛ قال: كنتُ في الإسلام خامسًا، ورُوِي عنه أنه قال: أنا رُبُع الإسلام، وقال حكّام بن أبي الوضّاح البصريّ: كان إسلام أبي ذرّ رابعًا أو خامسًا، جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس؛ قال: لما بلغ أبا ذَر مبعثُ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال لأخيه: "ارْكَبْ إِلَى هَذَا الوَادِي فَاعْلَمْ لِي عِلْمَ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعَمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، وَاسْمَعْ مِنْ قَوْلِهِ ثُمَّ ائْتِني"، فانطلق الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر، فقال له: رأيتهُ يأمر بمكارم الأخلاق، ويقول كلامًا ما هو بالشعر؛ فقال: ما شفَيْتَني مما أردتُ، فتزوَّد، وحمل شَنَّةً فيها ماء حتى قدم مكة، فأَتَى المسجد، فالتمس النبي صَلَّى الله عليه وسلم وهو لا يعرفه، وكرِه أن يسأل عنه حتى أدركه بعضُ الليل، فاضطجع، فرآه عليٌّ، فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه، فلم يسأل واحدٌ منهما صاحبَه عن شيء حتى أصبح، ثم احتمل قِرْبته وزَادَه إلى المسجد، وظلَّ ذلك اليوم ولا يرى النبي صَلَّى الله عليه وسلم حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمرَّ به عليّ، فقال: أما آنَ للرجل أن يعرفَ منزله؟ فأقامه، فذهب به معه لا يسأل أحدهما صاحبه عن شيء حتى كان اليوم الثالث فعل مِثْل ذلك، فأقامه؛ فقال: ألَا تحدّثني ما الذي أَقدمك؟ قال: إنْ أعطيتني عَهْدًا وميثاقًا أنْ تُرشدني فعلت، ففعل، فأخبره، فقال: إنه حقٌّ، وإنه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم؛ فإذا أصبحْتَ فاتبعني، فإني إنْ رأيتُ شيئًا أخافَهُ عليك قمْتُ كأنَي أُرِيق الماء، فإنْ مضيت فاتَّبعني حتى تدخل مَدْخلي، ففعل، فانطلق يَقْفُوه حتى دخل على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ودخل معه، وسمع مِنْ قوله، فأسلم مكانه؛ فقال له النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيكَ أَمْرِي" أخرجه البخاري في صحيحه 5/60 ومسلم 4/1923 في كتاب فضائل الصحابة باب 28 فضائل أبي ذر حديث رقم 133 ـ 2474 وأحمد في المسند 4/114، والبيهقي في دلائل النبوة 1/79.، فقال: والذي نفسي بيده لأصْرُخنَّ بها بين ظهرانيهم؛ فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فقام القومُ إليه فضربوه حتى أَضجعوه؛ وأتى العباسُ فأكبَّ عليه، وقال: وَيْلكم؛ ألستم تعلمونَ أنه من غِفَار! وأنه من طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكبَّ العباسُ عليه(*)، وروى عبد الله بن الصامت الغِفاريّ عن أبي ذرّ قال: خرجنا من قومنا غفار وكانوا يُحِلّون الشهرَ الحرامَ، فخرجتُ أنا وأخي أُنيس وأُمّنا فانطلقنا حتى نزلنا على خالٍ لنا فأكرمَنا خالُنا وأحسن إلينا؛ قال: فحسدنا قومُه، فقالوا له: إنّك إذا خرجتَ عن أهلك خالف إليهم أُنيس؛ قال: فجاء خالنا، فنثا علينا ما قيل له، فقلتُ: أما ما مضى من معروف فقد كدّرت، ولا جماعَ لك فيما بعدُ؛ قال: فقرّبنا صِرْمَتَنا فاحتملنا عليها، وتغطّى خاُلنا بثوبه وجعل يبكي، فانطلقنا حتى نزلنا بحضرة مكّة، فنافر أُنيس عن صِرْمتنا وعن مثلها، فأتيا الكاهن فخبَر أُنيسًا بما هو عليه؛ قال: فأتانا بصرمتنا ومثلها معها وقد صلّيتُ يا ابن أخي قبل أن ألْقى رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم ثلاث سنين، فقلتُ: لمن؟ قال: لله، فقلتُ: أين تَوَجّهُ؟ قال: أتَوَجّهُ حيث يُوَجّهُني الله، أصلّي عشاءً حتى إذا كان من آخر السّحَرِ أُلْقيتُ كأنْي خفاءٌ حتى تعلوني الشمس، فقال أُنيس: إنّ لي حاجة بمكّة فاكْفِني حتى آتيَك، فانطلق أُنيس فراث عَلَيَّ ـــ يعني: أبطأ ـــ ثمّ جاء فقلتُ: ما حبسك؟ قال: لقيتُ رجلًا بمكّة على دينك يزعم أنّ الله أرسله، قال: فما يقول الناس له؟ قال: يقولون: شاعر، كاهن، ساحر ـــ وكان أُنيس أحد الشعراء ـــ فقال أُنيس: والله لقد سمعتُ قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعتُ قوله على أقراء الشّعْر فلا يلتئِمُ على لسان أحدٍ بعيد أنّه شعر، والله إنّه لصادق وإنّهم لكاذبون! فقلتُ: اكفني حتى أذهب فأنظر! قال: نعم، وكُنْ من أهل مكّة على حَذَرٍ فإنّهم قد شَنِفُوا له وتَجهَّمُوا له، فانطلقتُ فقدمتُ مكّة فاستضعفتُ رجلُا منهم فقلتُ: أين هذا الذي تَدْعونَ الصابئ؟ قال: فأشار إليّ، فقال: هذا الصابئ، فمال عليّ أهلُ الوادي بكلّ مَدَرَةٍ وعَظْمٍ، فخررتُ مغشيًّا عليّ، فارتفعتُ حين ارتفعتُ كأنّي نَصْب أحمر، فأتيتُ زمزمَ فشربتُ من مائِها وغسلتُ عني الدّماء، فلبثتُ بها ـــ يا ابن أخي ـــ ثلاثين من بين ليلةٍ ويومٍ ما لي طعام إلاّ ماء زمزم، فسَمِنْتُ حتى تكسّرتْ عُكَنُ بطني، وما وجدتُ على كبدي سَخْفَة جوعٍ؛ قال: فبينا أهلُ مكّة في ليلةٍ قَمْراءَ إضْحِيان إذ ضرب اللهُ على أصْمِخَتِهِم فما يطوف بالبيت أحد منهم غير امرأتين فأتتا عليّ وهما تدعوان إسافًا ونائلَةَ؛ قال: فقلتُ: أنْكِحا أحدهما الآخر، فما ثناهما ذاك عن قولهما؛ قال: فأتتا عليّ فقلتُ: هَنًا مثلُ الخشَبَةِ غير أني لم أكْنِ، فانطلقتا تُوَلْوِلان، وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا؛ قال: فاستقبلهما رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وهما هابطان من الجبل، فقال: "ما لكما؟" قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها، قال: "فما قال لكم؟" قالتا: قال لنا كلمة تَمْلأ الفَمَ، فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وصاحبه، فاستلما الحجَرَ، وطافا بالبيت، ثمّ صلّى فأتيتُه حين قضى صلاتَه، فكنتُ أوّل من حيّاه بتحيّة الإسلام، فقال: "وعليك رحمة الله، ممّن أنت؟" قال: قلتُ: من غِفار، فأهْوى بيده إلى جَبْهَته هكذا؛ قال: قلتُ في نفسي: كَرِهَ أني انتميتُ إلي غِفار، فذهبتُ آخذ بيده فَقَدَعَنى صاحبه وكان أعلم به مني، فقال: "متى كنتَ هاهنا؟" قلتُ: كنتُ هاهنا منذ ثلاثين من بين ليلةٍ ويوم، قال: "فمن كان يُطْعِمُك؟" قال: قلتُ: ما كان لي طعام إلاّ ماء زمزم فسَمِنْتُ حتى تكسّرت عُكَنُ بطني فما وجدتُ على كبدي سَخْفَةَ جوعٍ، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إنّها مباركة، إنّها طعام طُعْمٍ" قال أبو بكر: يا رسول الله، ائْذَنْ لي في طعامه الليلةَ، قال: ففعل، فانطلق النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وانطلقتُ معهما، ففتح أبو بكر بابًا، فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف، فقال أبو ذرّ: فذاك أوّل طعامٍ أكلتُه بها؛ قال: فغبرتُ ما غبرتُ، فلقيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؛ فقال: "إنّه قد وُجّهْتُ إلى أرضٍ ذاتِ نخل ولا أحْسِبُها إلاّ يثرب، فهل أنت مبْلِغٌ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟" فانطلقتُ حتى لقيتُ أخي أُنيسًا، فقال: ما صنعتَ؟ قلتُ: صنعتُ أني قد أسلمتُ وصدّقتُ، قال أُنيس: ما بي رغبةٌ عن دينك فإني قد أَسلمتُ وصدّقتُ؛ قال: فأتينا أمّنا، فقالت: ما بي رغبةٌ عن دينكما فإنّي قد أسلمتُ وصدّقتُ؛ قال: فاحتملنا فأتينا قومَنا فأسلم نِصْفُهم قبل أن يقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة، وكان يؤمّهم إيماءُ بن رَحَضَةَ، وكان سيّدهم، وقال بقيّتهم: إذا قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينةَ أسلمنا، فقدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأسلم بقيّتهم، وجاءت أسْلَمُ فقالوا: يا رسول الله، إخوتنا، نُسْلِمُ على الذي أسلم إخوتُنا، فأسلموا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "غِفارٌ غَفَرَ الله لها، وأسْلَمُ سالَمها الله"(*).
قال الآجُري، عن أبي داود: لم يشهد أبو ذر بدرًا، ولكنّ عمر ألحقه بهم، وكان يوازي ابن مسعود في العلم، وفي "السيرة النبوية" لابن إسحاق بسند ضعيف، عن ابن مسعود قال: كان لا يزال يتخلّف الرجلُ في تَبُوك فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: "دَعُوهُ فَإِن يَكُنْ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ غَيْر ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللهُ مِنْهُ" أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 5/221 عن عبد الله بن مسعود.، فتلوَّم أبو ذَر على بعيره، فأبطأ عليه، فأخذ متاعه على ظهره، ثم خرج ماشيًا، فنظر ناظرٌ من المسلمين، فقال: إن هذا الرجل يمشي على الطريق، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "كُنْ أَبَا ذَرٍّ" أخرجه الحاكم 3/50 والبيهقي في الدلائل 5/222، فلما تأملت القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذر؛ فقال: "يَرْحَمُ اللهُ أَبَا ذَرٍّ، يَعِيشُ وَحْدَهُ، ويموتُ وَحْدَهُ، وَيُحْشَرُ وَحْدَهُ"أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 5/ 222 والحاكم في المستدرك 3/51 عن ابن مسعود بزيادة في أوله وقال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقال الذهبي صحيح فيه إرسال وأورده المتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم 33232.، فذكر قصة موته (*). ورُوِي عن سليمان بن يسار قال: قال أبو ذرّ في أول عهده بالإسلام لابن عمّه: يا ابن الأمَة، فقال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "ما ذهَبتْ عنك أَعرابِيَّتُكَ بعدُ"(*)، وقال محمد بن إسحاق: آخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بين أبي ذرّ الغفاري، والمُنْذرِ بن عَمرو؛ أحد بني ساعدة(*)، وأنكر محمد بن عمر هذه المؤاخاة بين أبي ذرّ والمنذر بن عَمرو، وقال: لم تكن المؤاخاة إلاّ قبل بدر، فلمّا نزلت آية المواريث انقطعت المؤاخاة، وأبو ذرّ حين أسلم رجع إلى بلاد قومه، فأقام بها حتى مضت بدر وأحُد والخندق، ثمّ قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينةَ بعد ذلك.
ورُوِي عن أبي ذرّ قال: قال النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ، كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يستأثرون بالفئ؟" قال: قلت: إذًا والذي بعثك بالحقّ أضرب بسيفي حتى ألحق به، فقال: "أفلا أدُلّك على ما هو خير من ذلك؟ اصْبِرْ حتى تلقاني"(*)، ورُوِي عن زيد بن وهب قال: مررتُ بالرّبَذةِ فإذا أنا بأبي ذرّ، قال: فقلتُ: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنتُ بالشأم فاختلفتُ أنا ومعاوية في هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة التوبة: 34]، وقال معاوية: نَزَلَتْ في أهل الكتاب، قال: فقلتُ: نَزَلَتْ فينا وفيهم، قال: فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب يشكوني إلى عثمان، قال: فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة، فقدمتُ المدينةَ، وكَثُر الناسُ عليّ كأنّهم لم يَرَوْني قبل ذلك، قال: فذُكِرَ ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئتَ تنحّيتَ فكنتَ قريبًا، فذاك أنزلني هذا المنزل، ولو أُمّرَ عليّ حَبَشيّ لسمعتُ ولأطَعْتُ، وروى محمّد بن سيرين أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي ذرّ: "إذا بلغ البِنَاءُ سَلْعًا فاخرج منها"، ونحا بيده نحو الشأم "ولا أرى أمراءك يَدَعونَك!" قال: يا رسول الله، أفلا أقاتل مَن يحول بيني وبين أمرك؟ قال: "لا"، قال: فما تأمرني؟ قال: "اسْمَعْ واطِعْ ولو لعبدٍ حَبَشيّ"(*)، قال: فلمّا كان ذلك خرج إلى الشأم، ثم كتب معاوية يشكوه إلى عثمان، فبعث إليه عثمان، فقدم عليه، ثمّ بعثوا أهله من بعده فوجدوا عنده كيسًا أو شيئًا، فظنّوا أنّها دراهم، فقالوا: ما شاء الله! فإذا هي فلوس، فلمّا قدمَ المدينةَ قال له عثمان: كُنْ عندي تغدو عليك وتروح اللقاح، قال: لا حاجة لي في دنياكم، ثمّ قال: ائْذَنْ لي حتى أخرج إلى الرّبَذَة، فأذن له، فخرج إلى الربذة وقد أقيمت الصلاةُ وعليها عبدٌ لعثمان حبشيّ، فتأخّر، فقال أبو ذرّ: تَقَدّمْ فصلّ، فقد أُمِرْتُ أن أسْمَعَ وأطيعَ ولو لعبدٍ حَبشيّ فأنت عبد حبشيّ، وأخبر يزيد بن هارون عن شيخين من بني ثَعْلَبَة رجل وامرأته قالا: نَزَلْنا الرّبذة فمرّ بنا شيخ أشعث أبيض الرأس واللحية، فقالوا: هذا من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فاستأذنّاه أن نغسل رأسه فأذن لنا، واستأنس بنا، فبينا نحن كذلك إذ أتاه نفر من أهل العراق ـــ حَسِبْتُه قال: من أهل الكوفة ـــ فقالوا: يا أبا ذرّ، فعل بك هذا الرجل وفعل فهل أنت ناصبٌ لنا رايةً؟ فَنُكْمِلُكَ برجال ما شئتَ؟ فقال: يا أهل الإسلام، لا تَعْرِضوا عليّ ذاكم، ولا تُذِلّوا السلطان، فإنّه مَن أذلّ السلطان فلا توبة له، والله لو أنّ عثمان صلبني على أطول خشبةٍ أو أطول جبل لَسمعتُ، وأطعتُ، وصبرتُ، واحتسبتُ، ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي، ولو سيّرني ما بين الأفق إلى الأفق ـــ أو قال: ما بين المشرق والمغرب ـــ لسمعتُ، وأطَعْتُ، وصبرتُ، واحتسبتُ، ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي، ولو ردّني إلى منزلي لسمعتُ، وأطعتُ، وصبرتُ، واحتسبتُ، ورُئيتُ أنّ ذاك خير لي، ورُوِي عن عبد الله بن سيدان السّلَميّ قال: تَناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذرّ متبسّمًا، فقال له الناس: ما لك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامعٌ، مُطيعٌ، ولو أمرني أن آتيَ صَنْعاءَ أو عَدَنَ ثمّ استطعتُ أن أفعل لفعلتُ، وأمره عثمان أن يخرج إلى الرّبَذَة.
ورُوِي عن أبي ذرّ قال: كنتُ رِدْفَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو على حمار، وعليه بَرْدَعَةٌ أو قطيفة، وحدّث مالك بن دينار: أنّ النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أيكم يلقاني على الحال التي أفارقه عليها؟"، فقال أبو ذرّ: أنا، فقال له النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: "صدقتَ"، ثمّ قال: "ما أظَلّتِ الخَضْراءُ، ولا أقَلّتِ الغَبْراءُ على ذي لَهْجَة أصدق من أبي ذرّ، مَن سرّه أن ينظر إلى زُهْدِ عيسى بن مريم فلينظر إلى أبي ذرّ"(*)، ورُوِي عن عِراك بن مالك قال: قال أبو ذرّ: إني لأقرَبُكم مجلسًا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم القيامة، وذلك أني سمعتُه صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة مَن خرج من الدنيا كهيئة ما تركتُه فيها، وإنّه والله ما منكم من أحد إلاّ وقد تشبّث منها بشيء غيري(*)، وحدّث الأحنف بن قيس قال: أتيتُ المدينةَ، ثمّ أتيتُ الشأم، فَجمَّعت، فإذا أنا برجل لا ينتهي إلى سارية إلا فَرَّ أهلها، يصلّي ويُخِفّ صلاته، قال: فجلستُ إليه، فقلتُ له: يا عبد الله، مَن أنت؟ قال: أنا أبو ذرّ، فقال لي: فأنتَ من أنت؟ قال: قلتُ: أنا الأحنف بن قيس، قال: قُمْ عني لاَ أعُرُّكَ، فقلتُ له: كيف تَعُرُّنِي بشرّ؟ قال: إنّ معاوية نادى مناديه ألاّ يجالسَني أحد، ورُوِي عن أبي ذرّ قال: أوصاني خليلي بسبعٍ: أمرني بحبّ المساكين والدّنُوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَن هو دوني ولا أنظر إلى مَن هو فوقي، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أصِلَ الرّحِم وإن أَدْبَرَتْ، وأمرني أن أقول الحقّ وإن كان مُرًّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لَوْمَةَ لائم، وأمرني أن أكْثرَ من لا حول ولا قوّة إلاّ بالله فإنّهنّ من كنز تحت العرش(*).
ورُوِي عن عبد الله بن الصامت: أنّه كان مع أبي ذرّ، فخرج عطاؤه ومعه جارية له، قال: فجعلت تقضي حوائجَه، قال: ففضل معها سِلَعٌ، قال: فأمرها أن تشتري به فلوسًا، قال: قلتُ: لو ادَّخرتَه للحاجة تبوء بك أو للضيف ينزل بك، قال: إنّ خليلي عهدَ إليّ أن أيّ مالٍ ذَهَبٍ أو فضّةٍ أُوكِيَ عليه فهو جَمْرٌ على صاحبه حتى يُفَرّغَه في سبيل الله(*)، وحدّث سعيد بن أبي الحسن: أنّ أبا ذرّ كان عطاؤه أربعة آلاف، فكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه، فسأله عمّا يكفيه لسنةٍ، فاشتراه له، ثمّ اشترى فلوسًا بما بقي، وقال: إنّه ليس من وعى ذهبًا أو فضّة يُوكي عليه إلا وهو يتلظّى على صاحبه، وحدّث الأحنف بن قيس قال: قال لي أبو ذرّ: خُذ العطاء ما كان مُتْعَةً فإذا كان دَيْنًا فارفضه، ورُوِي عن أبي بُريدة قال: لما قدم أبو موسى الأشعريّ لقي أبا ذرّ فجعل أبو موسى يلزمه، وكان الأشعري رجلًا خفيف اللحم قصيرًا، وكان أبو ذرّ رجلًا أسود كَثّ الشعر، فجعل الأشعريّ يلزمه، ويقول أبو ذرّ: إليك عني، ويقول الأشعريّ: مَرْحَبًا بأخي، ويدفعه أبو ذرّ، ويقول: لستُ بأخيك إنّما كنتُ أخاك قبل أن تُسْتَعْمَلَ؛ قال: ثمّ لقي أبا هريرة فالتزمه، وقال: مرحبًا بأخي، فقال أبو ذرّ: إليك عني، هل كنتَ عَمِلْتَ لهؤلاء؟ قال: نعم، قال: هل تطاولتَ في البِناء، أو اتْخَذتَ زَرْعًا أو ماشيةً؟ قال: لا، قال: أنت أخي، أنت أخي، ورُوِي عن الأحنف بن قيس قال: رأيتُ أبا ذرّ رجلًا طويلًا آدم أبيض الرأس واللحية، ورُوِي عن كُليب بن شهاب الجرْميّ قال: سمعتُ أبا ذرّ يقول: ما يُوئسني رِقّة عَظمي ولا بياض شَعْري أن ألقى عيسى بن مريم، ورُوِي عن عبد الله بن خِراش قال: رأيتُ أبا ذرّ في مظَلّةٍ وتحته امرأة سَحْماء، وفي رواية في هذا الحديث: مظلّة شَعْرٍ، وحدّث يونس، عن محمد قال: سألتُ ابنَ أختٍ لأبي ذرّ: ما ترك أبو ذرّ؟ فقال: ترك أتانَين، وعَفْوًا، وأعْنُزًا، وركائب؛ قال: العَفْوُ الحمار الذّكَرُ، ورُوِي عن أبي ذرّ أنّه قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أبا ذرّ، إني أراك ضعيفًا، وإني أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمُرَنّ على اثنين، ولا تَوَلَّيَنَ مالَ يَتيمٍ"(*)، وأخبر الحارث بن يزيد الحضرميّ: أنّ أبا ذرّ سأل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الإمارة، فقال: "إنّك ضعيف، وإنّها أمانةٌ، وإنّها يومَ القيامة خَزْيٌ وندامة إلاّ مَن أخذها بحقّها، وأدّى الذي عليه فيها"(*)، وحدّث غالب بن عبد الرحمن قال: لقيتُ رجلًا قال: كنتُ أصلّي مع أبي ذرّ في بيت المقدس، فكان إذا دخل خلع خُفّيْه، فإذا بزق أو تنخَّع تَنَخَّع عليهما؛ قال: ولو جُمِعَ ما في بيته لكان رِداء هذا الرجل أفضل من جميع ما في بيته؛ قال جعفر: فذكرت هذا الحديث لمهران بن ميمون فقال: ما أراه كان ما في بيته يَسْوي درهمَينِ، ورُوِي عن عليّ أنّه قال: لم يبقَ اليومَ أحد لا يبالي في الله لومةَ لائم غير أبي ذرّ ولا نفسي، ثمّ ضرب بيده على صدره، وروى ابن جُريج عن أبي الأسود، وعن زاذان قالا: سُئِلَ عليّ عن أبي ذرّ فقال: وعى علمًا عجز فيه وكان شحيحًا على دينه، حريصًا على العلم، وكان يُكْثرُ السّؤالَ فيُعْطى ويُمْنَعُ، أما أنه قد مُلِئَ له في وِعائِه حتى امتَلأ، فلم يدروا ما يريد بقوله: وعى علمًا عجز فيه، أعجز عن كَشْفِ ما عنده من العلم؟ أم عن طَلَبِ ما طلب من العلم إلى النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم؟ وحدّث سعيد بن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، عن أبي ذرّ: أنّه رآه في نَمِرَة مُؤتَزِرًا بها قائمًا يصلّي، فقلتُ: يا أبا ذرّ، أما لك ثوب غير هذه النمرة؟ قال: لو كان لي لرأيتَه عليّ، قلتُ: فإنّي رأيتُ عليك منذ أيّام ثوبين، فقال: يا ابن أخي أعطيتُهما مَن هو أحوج إليهما مني، قلتُ: والله إنّك لمحتاج إليهما، قال: اللهمّ غفرًا، إنّك لمعظّم للدنيا، أليس ترى عليّ هذه البُرْدة، ولي أُخْرى للمسجد، ولي أعْنُزٌ نحلبها، ولي أحْمِرَةٌ نحتمل عليها ميرتَنا، وعندنا مَن يخدمنا ويكفينا مهْنَةَ طعامِنا؛ فأيّ نعمةٍ أفضل ممّا نحن فيه؟ وإني لأخاف أن أحاسَبَ بالفضلِ، وحدّث عيسى بن عُميلة الفَزاريّ قال: أخبرني من رأى أبا ذرّ يحلب غُنيمة له، فيبدأ بجيرانه وأضيافه قبل نفسه، ولقد رأيتُه ليلةً حلب حتى ما بقي في ضُروع غنمه شيء إلاّ مَصَرَه، وقرّب إليهم تمرًا وهو يسير، ثمّ تعذّر إليهم، وقال: لو كان عندنا ما هو أفضل من هذا لجئنا به؛ قال: وما رأيتُه ذاق تلك الليلةَ شيئًا، وحدّث عبد الله بن خِراش الكعبيّ قال: وجدتُ أبا ذرّ في مظَلّةِ شَعْرٍ بالرّبَذَةِ تحته امرأة سحماء، فقلتُ: يا أبا ذرّ، تَزَوّج سحماء! قال: أتزوّج من تضعني أحبّ إليّ ممّن ترفعني، وما زال بي الأمر بالمعروف والنهي عن المُنْكَر حتى ما ترك لي الحقّ صديقًا، ورُوِي عن أبي أسماء الرّحبيّ: أنّه دخل على أبي ذرّ وهو بالرّبَذة وعنده امرأة له سوداء مشنّفة ليس عليها أثر المَجاسِد ولا الخلوقِ، قال: فقال: ألا تنظرون ما تأمرني به هذه السّويداء؟ تأمرني أن آتي العراق، فإذا أتيتُ العراق مالوا عليّ بدنياهم، ألا وإنّ خليلي عهد إليّ أن دون جِسْر جهنّم طريقًا ذا دَحْضٍ ومَزَلّة، وإنّا أن نأتي عليه وفي أحمالنا اقتدار أحرى أن ننجو من أن نأتي عليه ونحن مواقير(*).
ورُوِي عن أبي عثمان النّهْديّ قال: رأيتُ أبا ذرّ يميد على راحلته وهو مستقبل مَطْلِعَ الشمس فظننتُه نائمًا، فدنوتُ منه، فقلتُ: أنائم أنت يا أبا ذرّ؟ فقال: لا بل كنتُ أصلّي، وحدّث عون بن عبد الله بن عتبة قال: كُسِيَ أبو ذرّ بُرْدَينِ، فأتَزَرَ بأحدهما، وارتدي بشِمْلَةٍ، وكسا أحدهما غلامَه، ثمّ خرج على القوم، فقالوا له: لو كنتَ لبستَهما جميعًا كان أجمل، قال: أجل، ولكني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أطْعِموهم ممّا تأكلون، وألبسوهم ممّا تكسون"(*)، وحدّث مطرّف، عن رجل من أهل البادية قال: صحبتُ أبا ذرّ، فأعجبَتْني أخلاقُه كلّها إلاّ خُلقٌ واحد، قلتُ: وما ذاك الخلق؟ قال: كان رجلًا فَطِنًا، فكان إذا خرج من الخلاء انتضح، وحدّث مَرْثَد أو ابن مرثد، عن أبيه؛ قال: جلستُ إلى أبي ذرّ الغفاريّ إذ وقف عليه رجل، فقال: ألم يَنْهَكَ أَمير المؤمنين عن الفُتْيَا؟ فقال أبو ذَرّ: والله لو وضعتم الصّمصامة على هذه ـــ وأشار إلى حَلْقه ـــ على أن أترك كلمةً سمعتها من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأنْفَذْتُها قَبْلَ أن يكون ذلك، ورُوِي عن أبي ذرّ قال: لقد تركنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما يَقلب طائرٌ جَناحَيْه في السّماء إلا ذكرنا منه علمًا، وأخرج الطَّبَرَانِيُّ من حديث أبي الدرداء قال: كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يبتدئ أبا ذر إذا حضر، ويتفقده إذا غاب(*).
روى أَبُو ذَرٍّ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وروى عنه: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وأنس، وابن عباس، وأبو إدريس الخولاني، وزيد بن وهب الجهني، والأحنف بن قيس، وجُبير بن نُفير، وعبد الرحمن بن تميم، وسعيد بن المسيب، وخالد بن وهبان ابن خالة أبي ذر، ويقال: ابن أهبان، وقيل: ابن أخيه، وامرأة أبي ذر، وعبد الله بن الصامت، وخرشة بن الحر، وزيد بن ظبيان، وأبو أسماء الرَّحَبي، وأبو عثمان النهدي، وأبو الأسود الدؤلي، والمعرور بن سُوَيد، ويزيد بن شريك، وأبو مُرَاوح الغِفَاري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الرحمن بن حجيرة، وعبد الرحمن بن شماسة، وعطاء بن يسار، وآخرون، ورُوِي عن أبي ذر، عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يَا عِبَادِي، إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَّالَمُوا، يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا الَّذِي أَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَلَا أُبَالِي؛ فَاسْتَغْفِرونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعُ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسِكُمْ، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلْبِ رَجُلٍ مِنْكُمْ لَمْ يَزِدْ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنّكُمْ كانُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَا سَأَلَ، لَمْ يُنْقِصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا؛ إِلَّا كَمَا يُنْقِصُ البّحْرَ أَنْ يُغْمَسَ فِيهِ المِخْيَطُ غَمْسَةً وَاحِدَةً، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أَحْفَظُهَا عَلَيْكُمْ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمِدِ اللَّهِ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".(*) أخرجه الترمذي في السنن 4 / 566، كتاب صفة القيامة... (38) باب (48) حديث رقم 2495 وقال أبو عيسى هذا حديث حسن والبيهقي في السنن 6 / 93، وأبو نعيم في الحلية 5 / 125..
ذكر علي بن المديني، عن أم ذرّ زوجة أبي ذرّ، قالت: لما حضرت أبا ذر الوفاة بكيْتُ، فقال لي: ما يبْكيك؟ فقلت: ومَا لِي لا أَبْكي وأنت تموت بِفلَاةٍ من الأرض، وليس عندي ثوبٌ يَسَعك كفنًا لي ولا لك؟ ولا يَدَ لي للقيام بجهازك، قال: فابْشِري وَلَا تَبْكِي؛ فإني سَمِعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يقولُ:‏ "لَا يَمُوتُ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَلَدَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ فَيَصْبِرَانِ وَيَحْتَسِبَانِ فَيَرَيَانِ النَّارَ أَبَدًا‏" أخرجه البخاري في الصحيح 8/167، ومسلم في الصحيح 4/2028، كتاب البر والصلة والآداب (45)، باب فضل من يموت له ولد فيحتسبه (47)، حديث رقم (150/2632، 151/2632، 1520/2633، 153/2625)، والترمذي في السنن 4/374، كتاب الجنائز (8)، باب ما جاء في ثواب من قدم ولدًا (65)، حديث رقم 1060، قاله أبو عيسى: حسن صحيح، والبيهقي في السنن 4/67، 7/78، وأحمد في المسند 2/378.، وقد مات لنا ثلاثة من الولد، وإني سمعْتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنفَر أنا فيهم: "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلاةٍ مِنَ الأَرْضِ، تَشْهِدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏"، وليس من أولئك النفَر أحدُ إلّا وَقد مات في قَرْيَة وجماعة، فأنا ذلك الرّجل، والله ما كذَبت ولا كُذبت، فأبْصِري الطريقَ، قلت: وأنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطَّعَتِ الطّريق؟ قال: اذهبي فتبصَّري، قالت: فكنْتُ أشتدُّ إلى الكثيب فأنظر ثم أرجع إليه فأمرضُه، فبينما هو وأنا كذلك، إذ أنا برجال على رِحَالهم كأنهم الرّخم تحثّ بهم رواحلهم، فأسرعوا إليّ حتى وقفُوا عليّ، فقالوا: يا أمَةَ الله، ما لك؟ قلت: امرؤ من المسلمين يموتُ، تُكَفّنونه؟ قالوا: ومَنْ هو؟ قلت: أبو ذرّ، قالوا: صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قلت:‏ نعم، قالت: فَفَدوْه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أَبْشِروا، فإنِّي سمعْتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول لنَفَرٍ أنا فيهم:‏ "لَيَمُوتَنَّ رَجُلٌ مِنْكُمْ بِفَلَاةٍ مِنَ الأَرْضِ تَشْهَدُهُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"، وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلّا وقد هلك في قرية وجماعة، واللهِ ما كَذَبْت، ولا كذبت، ولو كان عندي ثوبٌ يسعُني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفَّنْ إلا في ثوب هو لي أو لها، وإني أنشدكم لله ألا يكفنني رجل منكم كان أميرًا، أو عريفًا، أو بريدًا، أو نقيبًا، وليس من أولئك النّفر أحدٌ إلا وقد قارف بعْضَ ما قال، إلّا فتًى من الأنصار، فقال: أنا أَكفّنك يا عم في ردائي هذا، وفي ثوبين في عَيْبتي من غزْل أمّي، قال: أنت تكفنني يا بني، قال: فكفّنه الأنصاريُّ، وغسَّله في النّفر الذين حضَرُوه، وقامُوا عليه، وَدفَنُوه في نفرٍ كلهم يَمَان(*)، وفي رواية: منهم حُجْر بن الأدبر، ومالك الأشتر في نفرٍ كلّهم يَمانٍ. وفي رواية: أقبل عبد الله بن مسعود في رَهْط ٍمن أهل العراق عُمّارًا، فلم يَرُعْهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطأها، فقام إليه الغلام، فقال: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فأعينونا على دفنه، فاستهلّ عبد الله يبكي ويقول: صدق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، "تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتُبْعَثُ وحدك"، ثمّ نزل هو وأصحابه فواروه، ثمّ حدّثهم عبد الله بن مسعود حديثَه، وما قال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، في مَسيره إلى تَبوك(*)قيل توفي أبو ذر ـــ رضي الله عنه ـــ سنة أربع وعشرين، وقيل: تُوفي بالرَّبذة سنة إحدى وثلاثين، أو اثنتين وثلاثين، وصلّى عليه ابن مسعود، ثم مات ـــ رضي الله عنه ـــ بعده في ذلك العام، وهو أصحُّ إن شاء الله تعالى، وحملوا عياله إلى عثمان بن عفان ـــ رضي الله عنهم ـــ بالمدينة، فضم ابنته إلى عياله، وقال: يرحم الله أبا ذر.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال