تسجيل الدخول


عويمر أبو الدرداء

عويمر، أبو الدرداء:
مشهور بكنيته وباسمه جميعًا، واختلف في اسمه؛ فقيل: هو عامر، وعُويمر لقَب، واختلف في اسم أبيه، فقيل: عامر، أو مالك، أو ثعلبة، أو عبد الله، أو زَيد، وأبوه ابن قيس بن أمية بن عامر الأنصاري الخزرجي، وقيل: عُوَيْمر بن عامر، وقيل: عُوَيمر بن قَيْس بن زيد، وقيل: عويمر بن ثعلبة بن عامر، وقيل: عُويمر بن زيد بن قيس، وقيل: عُويمر بن ثعلبة بن زيد، وقيل: عَامِرُ بنُ بَلْحَارِث، وقيل: عامر بن ثَعْلبة بن زَيْد، وقيل: عامر بن زيد بن قيس، وهو مشهور بكُنيته أبي الدّرداء.
أَخرجه أَبو موسى، وأَبو عمر. وأمه مَحَبَّةُ بنت واقد، وقيل: بنت وافد بن عمرو، وقيل: أمه واقدة بنت واقد بن عمرو. ووَلَدَ أبو الدرداء: بلالًا، وأمُّه أم محمد بنت أبي حَدرَد بن أسلم، ويزيدَ لا عَقِب له، والدرداءَ تزوجها عبد الله بن سعد بن خيْثَمة الأوسي، فولدت له، ونَسِيَبةَ بنت أبي الدرداء تزوجها سَعِيد بن سَعْد بن عُبادَةَ، فولدت له، وأمهم مَحَبّة بنت الربيع بن عَمرو، أخت سَعْد بن الربيع، ولهم بقيةٌ وعَقِبٌ، وهم بدمشق، وليس بالمدينة والعراق منهم أحد.
وكان أَبو الدرداء أَقنى أَشهل، يخضب بالصُّفرة، عليه قلنسوة وعمامة قد طرحها بين كتفيه، وكان أبو الدرداء آخِرَ أهل داره إسلاَمًا مُتَعلّقًا بصَنَمٍ له قد وضع عليه منديلًا، فكان عبدُ الله بن رواحَةَ يدعوه إلى الإسلام فَيَأْبَى مُمْسِكًا بذلك الصنم، فَتَحَيَّنَهُ عبدُ الله بن رواحةَ وكان له أخًا في الجاهلية والإسلام، فلما رآه قد خرج من بيته خَالفَ فَدَخَلَ بيتَه وأعجَل امرأتَهُ وإنها لتمشُط رَأسَها، فقال: أَيْنَ أبُو الدرداء؟ قالت: خرج أخوك آنِفَا، فدخل إلى بيتهِ الذي كان فيه ذَلِكَ الصَّنم ومعه القَدُومُ، فَأَنزلَهُ، وجعل يَفْلُذُهُ فِلْذًا فِلذًا وهو يَرْتَجِزُ ويقول:
تَبَرَّأْ مِنَ أسماء الشياطين كُلِّها ألا كلّ مايُدْعَى مع الله بَاطِلُ
ثم خرج، وسَمِعَت المرأة صَوتَ القَدُوم وهو يَضرِبُ ذلك الصنم، فقالت: أهلكتني يا ابن رَوَاحة، فخرجَ على ذلك فلم يكن شيء، حتى أَقبلَ أبو الدرداءِ إلى منزلِه، فوجد المرأةَ قاعدةً تبكي شَفَقًا مِنهُ، فقال: ما شأنك؟ فقالت: أخوك عبد الله بن رواحة دخل إلَيّ فَصَنَعَ مَاترى، فَغَضِبَ غَضَبًا شديدًا، ثم فَكَّر في نَفْسِهِ فقال: لو كانَ عندَهُ خيرٌ لدفع عن نفسه، فانطلق حتى أتى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ومعهُ ابن رَوَاحة، فأسْلَم. وروى أبُو شَهْرٍ، عن سعيد بن عبد العزيز قال: أسلم يوم بدر. وقيل: شهد أُحُدًا وما بعدها من المشاهد، وقد قيل: إنه لم يشهَدْ أُحُدًا لأنه تأخَّر إسلامُه، وشهد الخَنْدَق وما بعدها من المشاهد. قال محمّد بن عمر: وروى بعضهم أنّ أبا الدّرداء شهد أُحُدًا.
وروى أبو معاوية الضرير، عن أبي الدَّرْدَاء قال: كنتُ تاجرًا قبل أن يُبْعَثَ محمد صَلَّى الله عليه وسلم، فلما بُعثَ محمد صَلَّى الله عليه وسلم زاولتُ التجارةَ والعِبَادَةَ فلم تجتمعا، فَأخذتُ العبادة وتركتُ التجارة. قال عبدُ الوهَّاب بن عطاء: أخبرني أبو سِنَان، عن بعض أصحابه أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم آخَى بين أبي الدرداءِ وبين عَوفِ بن مالك الأشجعيِّ. وقال محمد بن عمر: ويُقال إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم آخى بين أبي الدَّرْدَاءِ وسلمانَ الفارِسيّ، وَنَظَرَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى أبي الدَّرْدَاءِ والناسُ منهزمون كلُ وجهٍ يَومَ أُحدٍ، فقال: "نعمَ الفارِسُ عُوَيْمِر غَيرَ أُفَّةٍ"، يعني: غير ثقيل(*). وقال محمد بن عمر: وقد سمعت من يَذكر أن أبا الدرداءِ لم يشهد أحدًا، وقد كان من عِلْيةِ أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأهل النيَّةِ منهم، وقد حدّث عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً، وشهد معه مَشَاهِدَ كثيرةً. وروى محمد بن عمر، عن أبي الدَّرْداء أنه كان إذا حَدّثَ الحديثَ عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول: اللهم إن لمْ يكن هكذا فَشِبْهُهُ، فَشَكْلُهُ. وروى موسى بن مسعود النَّهْدِيّ، عن أُمّ الدَّرْدَاءِ قالت: كان لأبي الدرداء ستونَ وثلاثمائة خليل في الله، يدعُو لهم في الصلاةِ، فقلتُ لهُ في ذلك، فقال: إنه ليس رجل يدعو لأخيهِ بالغيبِ إلا وَكَّلَ الله به مَلَكَينِ يقولان: ولك بِمِثلٍ، أفلا أرغبُ أن تَدْعُو لي الملائكَةُ! وروى عَمْرو بن عاصم الكلابي، عن معاوية بن قُرّةَ، قال: دخلتُ على أم الدرداءِ فسمعْتُها تقول: كنت أسمع سَيدِي ــ تعنِي: أبا الدرداء ــ يدعو وهو ساجدٌ لثلاثمائة وخمسين اسمًا يُسمى بهنّ لناسٍ يدعو لهم. وروى عفان بن مُسلم، عن مجاهد أن عمر بن الخطاب رأى أبا الدرداء مُبَقَّعَ الرجلين، فقال: يا أبا الدرداءِ، مالك؟ قال: القُرُّ يا أمير المؤمنينَ، فبعث إليهِ بخَمِيصَةٍ، وقال: أجد الآن الطهور. وروى عفان بن مسلم، عن يحيى بن سعيد قال: استُعمل أبو الدرداءِ على القضاءِ فأصبَحَ يُهَنِّئُونه، فقال: أَتُهَنِّئُوني بالقضاء، وقد جُعِلت على رأس مَهْوَاةٍ مَزَلَّتُها أبعدُ مِنْ عَدَن أَبْيَنَ، ولو علم الناس مافي القضاءِ لأخْذوهُ بالدّوَل رغبةً عنه وكراهية له، ولو يعلم الناسُ مافي الأذان لأخذوه بالدُولِ رغبةً فيه وحرصًا عليه. وروى أبو معاوية الضرير، عن سالم بن أبي الجَعْدِ قال: قيل لأمّ الدرداءِ ما كان أفضَلُ عمل أبي الدرداءِ؟ فقالت: التَّفَكُّر. وروى أبو معاوية الضريرُ،ِ عن أبي الدرداء قال: تفكّرُ ساعةٍ خير من قيام ليلة. وروى يعقوبُ بن إسحاق الحَضرمي، عن أبي الدرداءِ قال: اطلبُوا العلم فإن عَجزتُم فأحِبُّوا أهلَهُ، فإن لم تحبوهم فلا تُبغِضُوهُم. وروى يعقوب بن إسحاق، عن أبي الدرداءِ أنّهُ قال: العالم والمتعلم في الأجر سواء، وليس في سائِر الناسِ بَعدُ خير. وروى المعلّى بن أسد، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: إنك لن تَتَفَقّه كل الفِقه حتى ترى للقرآن وجُوهًا. وروى عارم بن الفضل، عن أبي الدرداءِ قال: إنك لن تتفقّه كل الفِقْهِ حتى تَمْقُت الناسَ في جنبِ الله، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أَشَدَّ مَقتًا. وكان أبو الدرداء يقول أيضًا: من فقهِ الرجُل مجلسهُ ومدخلهُ ومَمشاهُ. وروى عَارِم بن الفضل، ويحيى بن عبادٍ، عن أُمّ الدَّرْدَاءِ أن أبا الدرداءِ كان يأتيهم بعدما يُضْحي فيسألهم الغداء فلا يجده، فيقول: فأنا إذَن صائم. وروى يحيى بن عَبّاد، عن أم الدرداء قالت: قدم علينا سَلْمَان فقال: أين أَخِي؟ قلت: هو في المسجد، فقال: كيف أخي؟ قلت: يصومُ ويُصلّى، ما يُريدُ الدُنيا وما يريدُ النساء! فأتاه في المسجد، فلما رآه أبو الدرداءِ نهض إليهِ فالتزمَهُ. وروى يحيى بن عبّاد، عن أبي الدرداء أنه كان يشترى العصافيرَ من الصبيانِ، فيرسلهن، ويقول: اذهَبْنَ فَعِشْنَ. وروى يحيى بن عبّاد، عن أبي الدرداء قال: مَن يزدد علمًا يزدد وجعًا، وقال: إن أَخَوَف ما أخاف أن يقال لي يومَ القيامة: علمتَ؟ فأقولُ، نعم، فَيُقالُ: فما عَمِلْتَ فيما عَلِمتَ؟ وروى محمد بن الصَّلت، عن أمّ الدرداءِ قالت: قلت لأبي الدرداء: أََلستُ زوجتك في الجنّةِ؟ قال: نعم مالم تَزوّجي بعدِي. وروى عمر بن سعيد الدمشقي، عن ابن حَلْبَسَ، قال: قيل لأبي الدّرداء ــ وكان لا يفتر مِن الذكر: كم تُسَبِّح يا أبا الدرداءِ في كل يومٍ؟ قال: مائة ألف إلا أن تُخْطِئَ الأصابع. وروى كثير بن هشام، عن أبي الدّرداء قال: ويلٌ للذي لا يعلم مرةً ولو شاء الله عَلّمَهُ، وويلٌ للذي يعلم ولا يعمل سبع مراتٍ. وروى كثير بن هشام، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: لا تكون عالمًا حتى تكون متعلما، ولا تكون عالمًا حتى تكون بما عَلمتَ عاملًا. وروى محمد بن ربيعة الكلابي، عن رجُلِ قال: مَرَّ رجلٌ على أبي الدرداءِ وهو يبني مسجدًا، فيسألهُ فقال: أبنيه لآل حَم. وروى عُبَيدة بن حُمَيدِ، عن مُورِّق العِجْلي قال: قال أبو الدرداءِ: ثلاثٌ من مَناقب الخير: التبكير بالإفطارِ، والتبليغُ بالإسحارِ، وَوضعُ الرجلِ يَدهُ على يدِهِ في الصلاة. وروى أحمد بن إسحاق الحضرمي، عن أم الدَّرداء قالت: كان أبو الدرداء إذا فرغ من صلاتِه بالليلِ دعا لإخوانهِ، قال: اللهم اغفر لي ولفلان وفلان، فقلتُ لهُ: لو كان هذا الدُّعاء لك أو قالت لنفسك أليس كان خيرًا؟ قال: إن الملائِكة تُؤمّن على دعاء الرجل إذا دعا لأخيهِ بظهر الغيْبِ، تقول: آمين، ولَكَ بِِِِِِِمِثلٍ، فرغبتُ في تأمين الملائِكَةِ. وروى عبد الله بن نُمَير الهَمْدَاني، عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء: إن احتجتُ بعدك آكُلُ الصدقةَ؟ قال: لا، اعملي وكُلي، قالت: فإن ضَعُفت عن العَملِ؟ قال: التقطي السُنبُلَ ولا تأكلي الصدقةَ. وروى جرير بن عبد الحميدِ الضبيّ، عن أبي وائل قال: قال أبو الدرداءِ: إنِي لآمركم بالأمر وما أفعلهُ، ولكني أرجو فيهِ الأجر، وإنَّ أبغضَ الناس إليَّ أن أَظْلِمَهُ من لا يستعين عليّ إلا الله. وقال جرير بن عبد الحميد: كان أبو الدرداء إذا خَرَج عطاؤُهُ تصدق، فإن فضل منه شييءٌ وهبه لامرأته، فإذا أصبح قال: إن شئتِ رُدِّيه عليّ. وروى محمد بن إسماعيل بن أبي فُدَيك المدَني، عن يزيد بن أبي حَبِيب المصري أن أبا الدرداء رُئِيَ عليهِ بُردٌ وثوبٌ أبيَضُ، ورُئِيَ على غُلامِهِ بُردٌ وثوبٌ أبيضُ فقيل له: يا أبا الدرداءِ لو أَخَذْتَ هذا البُردَ وأعطيتَ غُلامكَ هذا الثوبَ الأبيضَ، أو أخذتَ هذا الثوبَ الأبيضَ وأعطيتَ غلامكَ البُردَ فكانا ثوبين متفقين؟ فقال: إني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "اكسوهُم مما تلبسون وأطعموهُم مما تأكلون"(*). وروى وهب بن جرير، وهشام بن الوليد، عن أبي الدرداءِ أنه قال: أُحبُّ الفقرَ تواضعًا لربي، وأحبُّ الموتَ اشتياقًا إلى ربي، وأحبُّ المرضَ تكفيرًا لخطيئتي، وكان يقول: ثلا ث يبغضهُن الناسُ أنا أُحِبهُنَّ: الموتُ، والفقرُ، والمرض. وروى أبو معاوية الضرير، عن أبي الدرداء قال: قيل له: ما تُحبُّ لمن تُحِب؟ قال: الموتَ، قالوا: فإن لم يمت، قال: يَقِلُّ مالُه وولدهُ. وروى مسلم بن إبراهيم، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: لولا ثلاث لم أُبَالِ متى مُتُّ، لولا أن أظمأ بالهَواجر، ولولا أُعِفِّرُ وجهي بالتراب، ولولا أن آمر بمعروف أو أنهَى من منكرٍ. وروى عبد الله بن جعفر، عن مَيْمون قال: مَرِضَ أبو الدرداء فَفَزِعَ إلى نفقَةٍ كانت عنده فوجدها خمسةَ عشرَ درهمًا، فقال: ما كانت هذه مُبقية مني شيئًا، إن كانت لمُحرقةً ما بين عانتي إلى ذَقَنِي. وروى عفان بن مسلم، وسُليمانَ بن حربٍ، عن معاوية بن قُرَّةَ أن أبا الدرداءِ اشتكى فدخل عليه أصحابُه، فقالوا له: يا أبا الدرداءِ، ما تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا: فما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة، قالوا: أفلا ندعوا لك طبيبًا؟ قال: هو الذي أَضْجَعَنِي.
وكان أبو الدّرداء أحد الحكماء العلماء والفضلاء، وروى خلف بن قاسم، عن يزيد بن عُميرة، قال: لما حضرت معاذ الوفاة قيل له: يا أبا عبد الرّحمن، أوصِنا، قال: أجلسوني، إنَّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما ــ يقولها ثلاث مرات ــ التَمِسُوا العلمَ عند أربعة رَهْط‏: عند عُويمر، أبو الدّرداء، وسلمان الفارسيّ، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، الذي كان يهوديًّا فأسلم، فإنّي سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "‏إنه عاشر عشرة في الجنَّة‏"‏‏(*). وقال القاسم بن محمد: كان أبو الدّرداء من الذين أُوتوا العلم‏. وقال أبو مُسهر: ولا أعلم أحدًا نزل دمشق من أصحابِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم غيْرَ أبي الدّرداء، وبلال مؤذّن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وواثلة بن الأسقع، ومعاوية، ولو نزلها أحَدٌ سواهم ما سقط علينا. وروى منصور بن المعتمر، عن مسروق قال‏:‏ شافهْتُ أَصحابَ محمد صَلَّى الله عليه وسلم فوجَدْتُ عِلْمَهم انتهى إلى ستة:‏ عمر، وعليّ، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ، وأَبي الدَّرداء، وزيد بن ثابت‏. وروى اللّيث بن سعد، عن عوف بن مالك أَنه رأَى في المنام قُبّة أَدم في مَرْج أَخضر، وحَوَل القبة غنم ربوض تَجْتَرّ وتبعر العجوة، قال‏:‏ فقلت‏:‏ لمن هذه القبة؟ قيل‏:‏ هذه لعبد الرّحمن بن عوف، فانتظرناه حتى خرج، فقال‏:‏ يا عوف، هذا الذي أَعطانا الله بالقرآن، ولو أَشرفت على هذه الثنيَّة لرأَيْتَ بها ما لم تَرَ عينك، ولم تسمع أُذنك، ولم يخطر على قلبك مثله؛ أَعدَّه الله لأبي الدَّرداء، إنه كان يدفع الدّنيا بالراحتين والصّدْرِ‏. وذكر عبد الله بن وهب أن أَبا ذرّ قال لأبي الدّرداء:‏ ما حمَلَت ورقاء، ولا أَظَّلتْ خضراء أَعلم منك يا أَبا الدّرداء. وروى سفيان بن عيينة، عن يزيد بن معاوية قال: إِن أَبا الدْرداء من الفقهاء العلماء الذين يشفون من الدّاء. ورُوي عن النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال:‏ ‏"‏حَكِيم أُمَّتِي أبو الدَّرْدَاء عُوَيمُر"(*) ذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم (33508).، وقال أبو عمر:‏ له حِكمٌ مأثورة مشهورة، منها قوله:‏ "وجدتُ النّاس أخبر تقل"،‏ ومنها قوله‏: "‏مَنْ يأت أبوابَ السلطان يقوم ويقعد"،‏ ووصف الدنيا فأَحسن؛ فمن قوله فيها‏: "الدّنيا دار كدر، ولن ينجو منها إلا أهلُ الحذر، ولله فيها علامات يسمعها الجاهلون، ويَعتبِرُ بها العالمون، ومن علاماتهِ فيها أنْ حفَّها بالشَّبُهَات، فارتطم فيها أهلُ الشّهوات، ثم أعقَبها بالآفاتِ، فانتفع بذلك أهل العِظَات، ومزج حلالها بالمؤنات وحرامها بالتّبعات؛ فالمُثْرِي فيها تَعِب، والمقلُّ فيها نصب‏...‏" في كلام أكثر من هذا، وروى أَبو قلابة أَن أَبا الدرداء مَرَّ على رجل قد أَصاب ذنبًا، وكانوا يسبونه، فقال: أَرأَيتم لو وجدتموه في قَلِيب أَلم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أَخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أَفلا تُبْغِضه؟ قال: إِنما أَبغض عمله، فإِذا تركه فهو أَخي. وروى سفيان، عن خالد بن معدان، قال‏:‏ كان عبد الله بن عمرو يقول‏: حَدّثونا عن العالَمِيْن العامِلَين:‏ معاذ، وأبي الدّرداء. ورُوي ابن عيينة، وإسماعيل بن عياش أَنه قيل لأبي الدّرداء‏:‏ ما لَكَ لا تقول الشِّعر،‏ وكلُّ لبيبٍ من الأنصار قال الشّعر!‏ ‏فقال‏: وأَنا قد قلت شعرًا، فقيل: وما هو؟ فقال‏:
يُريدُ المَرْءُ أَنْ يُؤْتِي مُنَاه وَيَأبَـى
اللَّـهُ
إِلَّا مَـا أَرَادَا
يَقُولُ المَرْءُ فَائِدَتِي وَمَالِي وَتَقْوَى اللَّهِ أَفْضَلُ مَااسْتَفَادَا
وروى أبو الدرداء عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وعن زيد بن ثابت، وعائشة، وأبي أمامة، وفضالة بن عبيد، روى عنه أَنس بن مالك، وفضالة بن عَبِيد، وأَبو أُمامة، وعبد اللّه بن عُمَر، وابن عبّاس، وابن المسيَّب، وروى عنه ابنه بلال، وزوجته أم الدرداء، وأبو إدريس الخولاني، وسُويد بن غَفَلة، وجُبير بن نُفير، وزيد بن وهب، وعلقمة بن قيس، وآخرون. روى عبد الله بن أَحمد الخطيب، عن أَبي الدرداء أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "أَيُعْجِزُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَقْرَأَ كُلَّ لَيْلَةٍ ثُلْثَ الْقُرْآنِ"؟ قالوا: نحن أَعجز من ذلك وأَضعف، قال: "فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ جَزَّأَ الْقُرْآنَ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ، فَجَعَلَ" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} "جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ الْقُرْآنِ"(*) أخرجه أحمد في المسند 6/443 والدارمي 2/461 والطبراني في الكبير17 /255 وفي البخاري حديث رقم 6/233(5015).، وروى محمد بن حكيم، عن أبي الدّرداء قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَنا فَرَطَكُم عَلَى الحَوْض فَلَا أَلَفينَّ مَا نُوزِعْتُ فِي أَحَدِكُم فَأَقُولُ: هَذَا مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَ بَعْدَكَ"، فقلت:‏ يا رسولَ الله، ادْعُ الله ألّا يجعلني منهم،‏ قال:‏ ‏ ‏"‏لَسْتَ مِنْهُمْ‏"(*) أخرجه البخاري في الصحيح 8/ 148، 150، 158، 9/ 58، ومسلم في الصحيح كتاب الفضائل حديث رقم 25، 26، 32، وابن ماجة في السنن حديث رقم 4306، وأحمد في المسند 1/ 257، 384، 406، 425..
وروى خلف بن قاسم، عن سعيد بن عبد العزيز أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه هو وَلّى أبا الدّرداء على القضاء بدمشق، وكان القاضي خليفة الأمير إذا غاب‏. وروى جعفر بن زيد العبدي أن أَبا الدرداء لما نزل به الموت بكى، فقالت له أُم الدرداء: وأَنت تبكي يا صاحب رسول الله؟! قال: نعم، وما لي لا أَبكي ولا أَدرى علام أَهجم من ذنوبي. وقال شُمَيط بن عجلان: لما نزل بأَبي الدرداءِ الموت جزع جزعًا شديدًا، فقالت له أُم الدرداء: أَلم تك تخبرنا أَنَّك تحب الموت؟ قال: بلى وعِزَّة ربي، ولكن نفسي لما استيقنت الموت كَرِهته، ثمّ بكى، وقال: هذه آخر ساعاتي من الدنيا، لَقِّنوني "لا إِله إِلا الله" فلم يزل يرددها حتى مات. وقيل: دعا ابنه بلالًا، فقال: ويحك يا بلال! اعمل للساعة، اعمل لمثل مصرع أَبيك، واذكر به مصرعك وساعتك، فكأَنْ قَدِ، ثمّ قُبِض، وتوفي قبل عثمان بسنتين، وقيل: توفي سنة ثلاث وثلاثين بدمشق، وذكرت طائفة من أهل الأخبار‏ أن أبا الدرداء مات بعد صِفّين سنة ثمان أو تسع وثلاثين‏، ‏والأكثَرُ والأشهَرُ والأصحّ عند أهل الحديث أنه تُوفِّي في خلافة عثمان رضي الله عنه بعد أنْ ولّاهُ معاوية قضاء دمشق‏، وقيل:‏ بل ولّاه عثمان والأمير معاوية، ولو بقي لكان له ذكر بعد قتل عثمان؛ إِما في الاعتزال؛ وإِما في مباشرة القتال، ولم يسمع له بذكر فيهما البتة، وقال محمد بن كعب القُرظي: لما حضر أبا الدرداءِ الموتُ جاءهُ حبيب بن مسلمة، فقال: كيف تجدك يا أبا الدرداءِ؟ قال: أجدني ثقيلًا، قال: ما أراه إلاّ الموت، قال: أجل: جزاك الله خيرًا. وقال محمد بن عمر: تُوفي أبو الدرداءِ بدمشقَ سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان بن عفان، وله عقب بالشام. وروى ابن سعد، عن خالد بن معدان قال: توفي أبو الدرداء بالشام سنة إحدى وثلاثين. وقال محمّد بن عمر: وخرج أبو الدّرداء إلى الشام فَنَزَلَ بها إلى أن مات.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال