تسجيل الدخول


أبو عمرو جرير بن عبد الله

جرير بن عبد الله بن جابر البجليّ الصّحابي الشهير:
أخرجه ابن عبد البر، وابن منده، وأبو نعيم، وقد اختلف النسابون في بجيلة ــ التي ينسب إليهاــ فمنهم من جعلهم من اليمن، ومنهم من قال: هم من نزار، والله أعلم؛ نُسِبوا إلى أمهم: بجيلة بنت صعب بن علي، وحدّث عبد الرحمن بن أبي الزناد، وعبد الله بن جعفر؛ قالا: لما فتح الله على المسلمين يوم القادسية قال جرير بن عبد الله:
أَنَا جَرِيرٌ كُنيتي أبو عَمِرْو قد فَتَح الله وَسْعدٌ في القَصِرْ
هكذا كنيته في رواية الواقدي وغيره من أهل العلم، وجاء عن إبراهيم بن جرير بن عبد الله في حديث رواه عن أبيه: أنه كان يكنى أبا عبد الله. وكان جرير حسن الصورة؛ قال عمر بن الخطاب ـــ رضي الله عنه: جرير يوسف هذه الأمة؛ يعني: حُسْنَه، زاد هشام أبو الوليد قال: وكان يمر وعليه ثوبان مُوَرَّدَان ومُمَشَّقان، وكان يخضب لحيته بالزعفران من الليل فيخرج مثل لون التبن، وذكر عبد الملك بن عمير: أنه رأى جرير بن عبد الله أصفَر اللحية عليه ثوبان ممصَّران، فسألتُ عن خضاب لحيته، فذكروا أنه يخضبها بِوَرْس وزَعْفَران ثم يغسلها بعد، فتكون على مثل لون التبن، وروى البغويّ عن جرير، قال: رآني عمر متجرّدًا فقال: ما أرى أحدًا من الناس صوّر صورة هذا إلا ما ذكرِ من يوسف، ومن طريق إِبْرَاهِيمَ بن إسماعيل الكهيلي؛ قال: كان طول جرير ستة أذرع، وهو سيد قومه.
ورُوِي عن جرير بن عبد الله قال: لما دنوتُ من المدينة أنختُ راحلتي، ثم حَلَلْتُ عَيْبَتي، ولبست حُلتي، فدخلتُ على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وعلى المسلمين، ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يخطب، فسلّمتُ عليه فرماني الناس بالحدق، فقلت لجليسي: هل ذكر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من أمري شيئًا؟ قال: نعم، ذكَرك فأحَسن الذكر: بينا هو صَلَّى الله عليه وسلم يخطب آنفًا إذ عرض له في خطبته، فقال: "إنه سيدخل عليكم من هذا الفَجّ أو من هذا الباب الآن من خير ذيِ يَمَن، ألا وأن على وجهه مِسْحَة مَلَك" قال جرير: فحمدتُ الله تعالى على ما أبلاني(*). روى جرير عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وروى عن جرير بنوه: عبيد الله، والمنذر، وإبراهيم، وروى عنه: قيس بن أبي حازم، والشعبي، وهمام بن الحارث، وأبو وائل، وأبو زرعة بن عمرو بن جرير، وغيرهم، ورُوِي عن جرير بن عبد الله؛ قال: ما حجبني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك(*) قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، ورُوِي عن جرير بن عبد الله، قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلة البدر، فقال: "إِنّكَمْ تَرَونَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَونَ هَذَا؛ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ"(*)، ورُوِي عن جرير قال: قلت: يا رسول الله، بايعني واشترط عليّ فأنت أعلم، فَبَسَطَ يده فبايعته فقال: "لا تُشْرِك بالله شيئًا وتُقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتنصح المسلم وتفارق المشرك"(*)، وفي رواية قال جرير: فأنا لهم ناصح أجمعين، وروى أبو زُرعة بن عَمرو بن جرير، قال جرير: بايعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلم؛ فكان إذا اشترى الشيء فكان أعجب إليه من ثمنه قال لصاحبه: تعلمن والله أن ما أخذنا منك أحب إلينا مما أعطيناك؛ كأنه يريد الوفاء بذلك(*)، ورُوِي عن عبد الله قال: كان جرير إذا أقام سلعة، بَصَّر عُيُوبَها، ثم خَيَّرَه ثم قال: إن شئت فخذ وإن شئتَ فاترك، فقيل له: يرحمك الله، إنك إذا فعلتَ هذا لم ينفذ لك بيع، قال: إنا بايعنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على النصيحة لأهل الإسلام(*).
واختلف في وَقْتِ إسلامه؛ ففي "الطَّبَرَانِيِّ الَأوْسَطِ" عن جرير، قال: لما بُعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم أتيته فقال: "مَا جَاءَ بِكَ؟" قلت: جئت لأسلم، فألقى إليّ كساءه، وقال: "إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ"(*) أخرجه ابن ماجة في السنن 2/1223 في كتاب الأدب باب 19 حديث رقم 3712، والحاكم في المستدرك 4/292، والطبراني في الكبير 2/370، والطبراني في الأوسط 2/12 والبيهقي في السنن الكبرى 87/168 وأبو نعيم في الحلية 6/205، والمتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم 25484، 25487، والبيهقي في دلائل النبوة 5/347 ، وروي أنه قال ذلك في صفوان بن أمية الجُمحَي؛ ولو صحّ في جرير لحُمِل على المجاز؛ أي: لما بلغنا خبر بَعْث النبي صَلَّى الله عليه وسلم، أو على الحَذْف؛ أي: لمّا بُعث النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى الله، ثم قدم المدينة، ثم حارب قريشًا وغيرهم، ثم فتح مكة، ثم وفدت عليه الوفود، وجزم ابْنُ عَبْدِ البَرِّ بأنه أسلم قبل وفاة النبي صَلَّى الله عليه وسلم بأربعين يومًا؛ وهو غلط؛ ففي الصّحيحين عن جرير: أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال له: "اسْتَنْصت النَّاسَ" فيِ حَجَّةِ الوَدَاعِ(*) أخرجه البخاري في صحيحه 1/ 41، 5/224، 9/3 ومسلم 1/82 كتاب الإيمان باب 29 حديث رقم 118 ـ 65 والنسائي 7/128 كتاب تحريم الدم باب 29 حديث رقم 4132 وابن ماجة 2/1300 كتاب الفقه باب 5 حديث رقم 3942، أحمد في المسند 4/363، 366 والطبراني في الكبير 2/348، وابن أبي شيبة في المصنف 15/30، 31، وحدّث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: قدم جرير بن عبد الله البجلي المدينة في شهر رمضان سنة عشر، فنزل على فروة بن عمرو البياضي، ثم جاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسلّم عليه ومعه قومه، فساءله رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عما وراءه، فقال: يا رسول الله، قد أظهرَ الله الإسلام، وهدمت القبائل أصنامها التي كانت تعبد، وأظهرت الأذان في مساجدهم وساحاتهم(*)، وروى محمد بن سعيد بن المسيّب، عن أبيه؛ قال: كان سعيد بن المسيّب لا يرى الصحابة إلا من أقام مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين؛ قال الواقدي: ورأيت أهل العلم يقولون غير ذلك، ويذكرون جرير بن عبد الله، وإسلامه قبل وفاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بخمسة أشهر أو نحوها، وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم سَرية إلى ذي الخَلَصة فَهَدَمها، وأوفى معه حجة الوادع، وقالوا: كل مَنْ رأى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقد أدركَ الحلم فأسْلَم وعقَل أمر الدين وَرَضِيَه فهو عندنا ممن صَحِبَ النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ولو ساعةً من نهار، ولكن أصحابه على مَنَازلهم وطَبَقَاتهم وتَقَدّمهم في الإسلام، فيوصف كل رجل منهم بما أدرك من أمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وبما سمعه منه، فيرجع ذلك إلى صُحبته على قَدْر منازلهم من ذلك، وجزم الَواقِدِيُّ بأنه وفد على النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة عشر؛ قال ابن حجر العسقلاني: وفيه عندي نظر؛ لأن شريكًا حدَّث عن جرير، قال: قال لنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَ قَدْ مَاتَ"(*) الحديث. أخرجه الطَّبَرَانِيُّ؛ فهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشر؛ لأن النجاشي مات قبل ذلك.
قال عبد الحميد بن جعفر: عن رجل من ولد جرير بن عبد الله قال: كنتُ أسمع من أبي وغيره أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال يومًا لجرير: "يا جرير، ألا تريحني من ذي الخلصة؟" قلت: بَلَى! والله يا رسول الله، فهو مما كنت أحب وأتمنى أن لا يهدمه غيري. قال: "فاخرج إليه في قومك حتى تهدمه إن شاء الله" قال جرير: فذكرتُ بُعْدَ البلد، وإن خرجتُ على الإبل أبطأتُ، قلت: ليس يشبه جرائد الخيل، وكنت لا فروسة لي، قد خبرت نفسي؛ ما ركبتُ فرسًا إلا صَرَعني فأكون منه ضمنًا، فتركتُ ركوب الخيل حتى كان الحي يمازحوني بذلك ويقولون: اركب الحمار والبعير، فذكرتُ ذلك لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فضربَ في صدري حتى رأيتُ أثر أصابعه في صدري، ثم قال: "اللهم ثبته، واجعله هاديًا مهديًا" قال جرير: فقمتُ من عنده، والذي بَعثه بالحق ولكأني غير الذي كنت أعرف من نفسي؛ عمدتُ إلى فرس لرجل من أصحابي شَموس فركبته، ثم انطلقت عليه أشوره، فذل تحتي حتى كأنه شاة، فحمدتُ الله، ونفرتُ في خمسين ومائة رجل من أحمس، وكانوا أصحاب خَيل في الجاهلية، إنما يغيرون عليها ويُغار عليهم، فَقَلَّ ما أُصيب لهم نَهب إلا تخلصوه لنَجَابة خيلهم وفرسيتهم، وقَلَّ ما أصابوا نهبًا فأُدْرِكوا حتى يدخلوا مَأْمَنهُم؛ قال جرير: فانتهيتُ إلى ذي الخلصة فإذا قومٌ ممسكون بالشرك يقولون: أنتم تقدرون عليها؟ قال: فقلتُ: سَتَرَوْنَ إن شاء الله، فأتناول قَبسًا من نار، وصِحْتُ بأصحابي يحملون الحشيش اليابس وهو حولنا ركام، ثم أضرمته عليه حتى صار الصنم مجردًا من كل ما كان عليه مثل الجَمَل الجَرب قد هُنِئ بالقَطِرَان؛ قال: وبَعَثْتُ بشيرًا إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم؛ يقال له: أبو أَرْطَاة، واسمه حسين بن ربيعة، فقلت له: أجِدَّ السَّيْرَ حتى تقدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فتخبره بهدمها، قال: فركب فأغذّ السّير حتى قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فجعل يخبره والنبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "أفهدمتموها؟"، فجعل يقول: نعم، والذي بعثك بالحق ما جئتك حتى تركتها كأنها جَمَلٌ أجْرَب(*)، ورُوِي عن قَيْس بن أبي حازم: أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم برّك يومئذ على خَيْل أحمس ورجالها(*)، وذي الخليصة: بيت لخثعم كان يُعْبَد في الجاهلية يسمى كَعبة اليمانية(*).
وكان لجرير في القادسية وغيرها ـــ أثر عظيم: رُوِي عن البَرَاء بن عازب قال: كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة يأمره أن يسير إلى العراق، فكتب إليه خالد: إن معي قومًا قد رقوا، وكان في أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ما أعلمتك من القتل والجراح، فأمدني بجند، فقال عمر: يا خليفة رسول الله، هذا جرير بن عبد الله البجلي فأمده به في قومه، فأمدَّه أبو بكر وخرج في أربعمائة من قومه، حتى إذا كانوا قريبًا من اليمامة لقيهم مسير خالد من اليمامة إلى الحيرة، فعارضه جرير، فأدركه حين نزل على الماء، فنزل معه، قال: فلم يزل جرير مع خالد مقامه بأرض العراق حتى خرج خالد إلى الشام، وبعث خالد جرير بن عبد الله وهو مقيم بالحيرة إلى قرية بالسواد يقال لها: بانقيا، فلما اقتحم الفرات للعبور ناداه دهقانها صلوبا: لا تعبر أنا أعبر إليك، فعبر إليه فأعطاه الجزية، صالَحه على ألف درهم وطَيْلَسان، ثم شهد جرير يوم جسر أبي عُبيد، فلما قُتل أبو عُبيد وأهل الجسر نجا المثنى بن حارثة وجرير بن عبد الله بمن بقي من الناس، وقال محمد بن إسحاق: لما انتهت إلى عمر مصيبة أهل الجِسْر، وقدم عليه فَلُّهم، قدم عليه جرير بن عبد الله من اليمن في ركب من بجيلة، وعَرْفجة بن هَرْثمة، وكان عرفجة يومئذ سيد بجيلة، وكان حليفًا لهم من الأزد، فكلمهم عمر، وقال: قد علمتم ما كان من المصيبة في إخوانكم بالعراق، فسيروا إليهم، وأنا أُخرِج إليكم من كان منكم في قبائل العرب، وأجمعهم إليكم، قالوا: نفعل يا أمير المؤمنين، فأخرج إليهم: قيس كُبَّة، وسَحْمة، وعُرَيْنة؛ من بني عامر بن صعصعة، وهذه بطون من بجيلة، وأمَّر عليهم عرفجة بن هرثمة، فغضب من ذلك جرير بن عبد الله؛ فقال لبجيلة: كلموا أمير المؤمنين؛ فقالوا: استعملت علينا رجلًا ليس منا، فأرسل إلى عرفجة، فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال: صدقوا يا أمير المؤمنين، لستُ منهم؛ لكني من الأزد؛ كنا أصبنا في الجاهلية دمًا في قومنا فلحقنا ببجيلة، فبلغنا فيهم من السؤدد ما بلغك، فقال عمر: فاثبت على منزلتك؛ فدافعهم كما يدافعونك، فقال: لست فاعلًا ولا سائرًا معهم، فسار عرفجة إلى البصرة بعد أن نُزِلتَ، وأمَّر عمر جريرًا على بجيلة فسار بهم مكانه إلى العراق.
وفي جرير قال الشّاعر:
لَوْلَا جَرِيرٌ هَلََكَتْ بَجِيلَةْ نعمَ الفَتَى وَبِئْسَتِ القَبِيلَةْ
فقال عمر بن الخطّاب: ما مُدِح من هُجِي قوْمُه، وذكر الشعبي: أن عمر كان في بيتٍ ومعه جرير بن عبد الله، فوجدَ عمر ريحًا فقال: عزمتُ على صاحب هذه الريح لما قام فتوضأ، فقال جرير: يا أمير المؤمنين أو يَتَوَضّأ القوم جميعًا؟ فقال عمر: رحمك الله، نعم السيد كنتَ في الجاهلية، ونِعم السيد أنت في الإسلام، وقال جرير فيما يعظ قومه: والله لَوَدِدْتُ أني لم أكُن بنيتُ فيها شيئًا قط، وأخبر قيس قال: شهدتُ الأشعثَ وجريرًا حضرا جنازة، فقدَّم الأشعثُ جريرًا، ثم التفت إلى الناس فقال: إني ارتددتُ وإنه لم يرتد، وروى الطَّبَرَانِيُّ من حديث علي ـــ مرفوعًا: "جَرِير مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ"(*) أخرجه الطبراني في الكبير 2/328، وأورده الهيثمي في الزوائد 9/376. وأورده المتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم 33184، وروى عنه من الصَّحَابَةِ أنس بن مالك، قال: كان جرير يخدمني، وهو أكبر مني؛ أخرجه الشّيخان، وقدم جرير بن عبد الله على عُمَر بن الخطّاب من عند سعد بن أبي وقّاص فقال له: كيف تركْتَ سعدًا في ولايته؟ فقال: تركتُه أكرم النّاسِ مقدرة، وأحسنهم معذرة، هو لهم كالأم البَرَّة، يجمعُ لهم كما تجمع الذَّرة، مع أنه ميمونُ الأثَرِ، مرزوق الظَّفر، أشدّ النّاس عند البأس، وأحب قريش إلى النّاس، قال: فأخبرني عن حالِ النّاس، قال: هم كسهام الجَعْبة، منها القائم الرائش، ومنها العضِل الطائش، وابنُ أبي وقّاص ثقَافُها يغمز عَضِلها، ويُقيم ميَلها، والله أعلم بالسّرائر يا عمر، قال: أخبرني عن إسلامهم، قال: يقيمون الصّلاةَ لأوْقاتها، ويُؤْتون الطّاعة لوُلاتها، فقال عمر: الحمدُ لله إذا كانت الصّلاةُ أوتيت الزّكاة، وإذا كانت الطاعةُ كانت الجماعة.
ورُوِي عن سعيد بن أبي صالح قال: لما انتهى إلى عمر مصاب أهل الجسر وقدم عليه جرير بن عبد الله من أُلَّيْس في ركب من بجيلة، فكلّمهم عمر فقال: إنكم قد علمتم ما كان من المصيبة فاخرجوا إليهم. فقال جرير: يا أمير المؤمنين، قومي لهم عدد كثر وهم متفرقون في العرب، فقال: فاخرجوا وأنا أُخرِج معكم مَنْ كان منكم في قبائل العرب، فأُخرِجوا من القبائل، وقال له جرير: اجعل لي من السواد جعلًا إن ظفرت به، فجعل له ربع السواد بعد الخمس، فانتدب معه أربعة آلاف من بجيلة والنخع وغير ذلك من أفناء العرب، وذلك في سنة أربع عشرة، وأقبل جرير حتى بلغ الكوفة، فلما دنا من المثنى بن حارثة الشيباني كتب إليه: أن أَقْبِلْ إِلَيّ، فإنما أنت مَدَدٌ لي، فكتب إليه جرير: إني لستُ بفاعل إلا أن يأمرني أمير المؤمنين، فأنت أمير وأنا أمير، فسار جرير، وقد بعث ملكُ الزَّارَة قائدَه مِهْران في جَمْعٍ من فارس لقتال المسلمين، فأقبل حتى قطع الفرات إلى جرير، فالتقوا بالنُّخَيْلَة فاقتتلوا قتالًا شديدًا، فَبَارَزَ مِهْران جَريرًا، فقتله جرير، وأخذ سَلَبه وقلنسوة كانت عليه، وانهزمت الفُرس حتى جاءوا المدائن، وفتح جرير بعض السواد، وسار جرير حتى لقي الحاجب بقس الناطف فقاتله فهزمه، واجتمعت الأعاجم، وبعثوا إلى الكور فاجتمعوا إلى المدائن فاستُعْمِل عليهم رستم، فلما بلغ ذلك جريرًا وأنه لا يدان له بهم، كتب إلى عمر يخبره بجمعهم، فكتب إليه عمر: جاءك ما لا يدان لك به، فالحق بالمثنى بن حارثة، وكتب عمر إلى المثنى بن حارثة أن انضم إلى جرير، وأقبل أنس بن مدرك الخثعمي في خمسمائة من حَيّة فنزلوا مع جرير النُّخَيلة، وأقبل رستم وكان منجمًا، وكان يرى أن العرب قاتلوه ومَنْ معه إن قاتلهم، وكان يريد أن ينفيهم ولا يقاتلهم، فلما دنا من جرير شخص إلى القادسية، وخندق جرير عليه وجعل يطاوله، حتى بعث عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص فقدم فيمن معه من أهل المدينة والشام فشخص إليه جرير فلقيه، ورُوِي عن الشعبي قال: بعث عمر سعدًا في أربعة آلاف، وأمره في عهده أن لا يدنوا من العدو حتى يأتيه أمره، ورُوِي عن أبان بن صالح قال: بعث عمر مع سعد ستة آلاف، وكتب إلى المثنى وجرير: إني لم أكن لأستعمل أحدًا منكما على رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من أهل بدر، فاجتمعا إلى سعد بن أبي وقاص فهو عاملي عليكما وعلى جندكما، فسار المثنى وجرير حتى قدما عليه بشراف، ورُوِي عن سعيد بن أبي صالح المكي قال: كتب عمر إلى سعد: أن سبّع القبائل عندك أسباعًا، واجعل على كل سُبع رجلًا، فكان أول سبع بجيلة وَحْدَها، عليهم جرير بن عبد الله، وحدّث طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز؛ قال: سمعت عدة من قومي يقولون: كان سعد يبعث الطلائع في الوجه الذي يريد، فيأتونه بالخبر، وذلك على عهد عمر إليه، فبعث ليلة من العُذَيب طليعة عليهم جرير بن عبد الله وهم خمسمائة قبل السَّيْلَحِين، فوجد بها جماعة من الناس معهم الشمع والصُّنُوج والطُّبول والمزامير والخمور، فإذا بنت الآزاذيه تهدى إلى ملك الصين، فحَمَلوا عليها فأخذوها وما معها، وأسَروا منهم أسارى، فأتوا بذلك إلى سعد العذيب، فكانت أول غنيمة أصيبت من الفرس، وقال الشعبي: استعمل سعد بن أبي وقاص على الناس يوم القادسية خالد بن عُرْفُطَة، وعلى ميمنته جرير بن عبد الله البجلي، وعلى ميسرته قيس بن مكشوح، وحدّث إسماعيل قال: سمعتُ قيسًا يقول: سمعتُ جرير بن عبد الله يقول يوم القادسية: أي قوم، إليّ، إليّ، أنا جرير. قال قيْس: وكنا يوم القادسية رُبع الناس، وساق المشركون ثمانية عشر فيلًا فوجهوا إلينا منها ستة عشر وإلى الناس فيلين، وروى جرير بن يزيد بن جرير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده جرير: أن عمر بن الخطاب قال له ـــ والناس يَتَحَامَون العراقَ وقتالَ الأعاجم: سِرْ بقومك، فما غَلَبْتَ غدًا عليه فلك رُبْعُه، فلما جُمِعَت الغنائُم ـــ غنائم جَلُولاء ـــ ادعى جرير أن له ربع ذلك، فكتب سعد إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه عمر: صدق جرير قد قلت ذلك له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جُعْلٍ فأعطوه جُعْلَه، وإن يكن إنما قاتل لله ولرسوله ولدينه وحسبه فهو رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، وكتب عمر بذلك إلى سعد، فلما قدم الكتاب على سعد دعا جريرًا، فأخبره ما كتب به إليه عمر، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين، لا حاجة لي به، بل أنا رجل من المسلمين، لي ما لهم وعليَّ ما عليهم، ورُوِي عن قيس بن أبي حازم قال: كان عمر قد جعل لبجيلة رُبع السواد ثلاث سنين، فدخل جرير على عمر فقال: يا جرير لولا أني قاسم مسئول لكنت على ما جعلته لك، فرده جرير وأجازه عمر بثمانين دينارًا، وبعثه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ذي كُلاع، وذي رُعَين باليمن، وقيل: ذي ظليم، ورُوِي عن قيْس بن أبي حازم قال: بعثَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جريرًا إلى اليمن وفيها رجل يَضربُ بالأزْلاَم، قال: فقيل له: هذا رسولُ رسولِ الله إليك، لئن أخذكَ ليقتلنك، قال: فبينا جرير يسير إذ وقف على رأسه، فقال: والله لتكسرنهن وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أو لأقتلنك. قال: فكسرهن وشهد(*).
حدّث إبراهيم بن جرير عن أبيه قال: بعث إليّ عليٌّ ابنَ عباس والأشعثَ بن قيس، فأتياني وأنا بقرقيسيا فقالا: إن أمير المؤمنين يقرئك السلام، ويخبرك أنه نعم ما أراك الله من مفارقتك معاوية، وإني أنزلك منزلة نبي الله صَلَّى الله عليه وسلم الذي أنزلكها، فقال لهما جرير: إن نبي الله صَلَّى الله عليه وسلم بعثني إلى اليمن أُقاتلهم وأدعوهم إلى الإسلام، فإذا قالوا: لا إله إلا الله حرمت أموالهم ودماؤهم، ولا أُقاتِل رجلًا يقول لا إله إلا الله أبدًا، فرجعا على ذلك(*)، ورُوِي عن ابن أبي عون قال: أرسل عليّ بن أبي طالب جرير بن عبد الله إلى معاوية يعلمه حاله وما يريد ويكلمه، فخرج حتى قدم الشام فنزل على معاوية، ثم قام فحمد الله وأثْنَى عليه وصلَّى على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ثم قال: أما بعد، يا معاوية، فإنه قد اجتمع لابن عمك الحَرَمان، والناس لهما تبع، مع أن معه أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل مصر، وأهل اليمن قد بايعوا، فبايع ابن عمك، ولا تخالف، ولا تعند عن الحق، وما أنت فيمن أنت فيه، فَلاَ تُلَفِّف على أصحابك، واصدقهم، وأجلِ لهم الأمر وناصحهم في الحق والدين، وهو معطيك الشام ومصر تكون عليهما ما دمت حيًا على أن تعمل بكتاب الله وسُنة نبيه صلوات الله عليه وسلامه. وكان عند معاوية يومئذ وجوه أهل الشام: ذو الكلاع، وشرحبيل بن السمط، وأبو مسلم الخولاني، ومَسْروق العكي، فتكلّموا بكلام شديد، وردوا أشد الرد، وتهدّدوا معاوية أشد التهدّد إن هو أجاب إلى هذا القول وترك الطلب بدم عثمان، فقال جرير: الله الله في حقن دماء المسلمين، ولمّ شَعثهم، وجَمْع أمر الأمة؛ فإن الأمر قد تقارَب وصلح؛ قالوا: لا نريد هذا الصلح حتى نقاتل قَتَلَة عثمان، فنحن وُلاته والقائمون بدمه، فقال معاوية: على رِسْلكم أنا معكم على ما تريدون وتقولون ما بقيت أرواحنا، فَجَزَاه القوم خيرًا وكَفّوا عنه، وخرج جرير حتى قدم على عليّ بن أبي طالب فقال: ما وراءك؟ قال: الشر؛ أما معاوية فهو يرضى بما يعطى، ولكنه مع قوم لا أمر له معهم، كلهم يقوم بدم عثمان وهم مائة ألف، والقوم مقاتلوك، أما والله لقد ناصحتك يا أمير المؤمنين وجئتك بالصدق؛ قال الواقدي: فلم يزل جرير معتزلًا لعلي ومعاوية بالجزيرة ونواحيها حتى توفي بالشراة في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة، وكانت ولايته سنتين ونصف بعد زياد بن أبي سفيان، وقيل: لما أتى عليّ الكوفة وسكنها، سار جرير عنها إلى قَرْقيِسْياء، فمات بها، وقيل: مات بالسراة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة أربع وخمسين.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال