مصعب ابن امرأة الجلاس
روى عبد الله بن هارون بن عنترة قال: حدثني أبي، عن جدي، عن عمير بن سعد الأنصاري قال: بعثه عمر بن الخطاب عاملًا على حمص، فمكث حولا لا يأتيه خبره، فقال عمر لكاتبه: اكتب إلى عمير فوالله ما أراه إلا قد خاننا "إذا جاءك كتابي هذا فأقبل، وأقبل بما جبيت من فيء المسلمين، حين تنظر في كتابي هذا"
قال: فأخذ عمير جرابه، فوضع فيه زاده وقصعته، وعلق إدواته، وأخذ عنزته، ثم أقبل يمشي من حمص، حتى قدم المدينة قال: فقدم وقد شحب لونه، واغبر وجهه، وطالت شعرته، فدخل على عمر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله، قال عمر: ما شأنك؟ قال: ما ترى من شأني ألست تراني صحيح البدن، ظاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرونها، قال عمر: وما معك؟ وظن عمر أنه جاءه بمال قال: معي جرابي أجعل فيه زادي، وقصعتي آكل فيها، وأغسل فيها رأسي، وثيابي، وإدواتي أحمل فيها وضوئي، وشرابي، وعنزتي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوا إن عرض لي فوالله ما الدنيا إلا تبع لمتاعي.
قال عمر: فجئت تمشي، قال: نعم، قال: أما كان لك أحد يتبرع لك بدابة تركبها، قال: ما فعلوا وما سألتهم ذلك، فقال عمر: بئس المسلمون خرجت من عندهم، فقال عمير: اتق الله يا عمر قد نهاك الله عن الغيبة، وقد رأيتهم يصلون صلاة الغداة، قال عمر: فأين بعثتك؟ وأي شيء صنعت؟ قال: وما سؤالك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: سبحان الله، فقال عمير: أما إني لولا أخشى أن أغمك ما أخبرتك؛ بعثتني حتى أتيتُ البلد، فجمعت صلحاء أهلها، فوليتهم جباية فيئهم؛ حتى إذا جمعوه وضعته مواضعه، ولو نالك منه شيء لأتيتك به، قال: فما جئتنا بشيء، قال: لا، قال: جددوا لعمير عهدا، قال: إن ذلك شيء لا أعمله لك، ولا لأحد بعدك، والله ما سلمت بل لم أسلم، لقد قلت لنصراني: أخزاك الله، فهذا ما عرضتني له يا عمر، وإن أشقى أيامي يوم خلفت معك.
ثم استأذنه فأذن له، فرجع إلى منزله، وبينه وبين المدينة أميال، فقال عمر حين انصرف عمير: ما أراه إلا قد خاننا؛ فبعث رجلا يقال له: الحارث، وأعطاه مائة دينار، وقال: انطلق إلى عمير حتى تنزل به كأنك ضيف، فإن رأيت أثر شيء فأقبل، وإن رأيت حالا شديدا، فادفع إليه هذه المائة دينار، فانطلق الحارث فإذا هو بعمير جالس يفلي قميصه إلى جنب الحائط، فقال له عمير: أنزل رحمك الله، فنزل ثم ساءله، فقال: من أين جئت، فقال: من المدينة، فقال: كيف تركت أمير المؤمنين؟ فقال: صالحا، قال: فكيف تركت المسلمين؟ قال: صالحين، قال: أليس يقيم الحدود؟ قال: بلى؛ ضرب ابنا له على فاحشة، فمات من ضربه، فقال عمير: "اللهم أعن عمر فإني لا أعلمه إلا شديدا حبه لك".
قال: فنزل به ثلاثة أيام، وليس لهم إلا قرصه من شعير؛ كانوا يخصونه بها ويطوون حتى أتاهم الجهد، فقال له عمير: إنك قد أجعتنا فإن رأيت أن تتحول عنا فافعل، قال: فأخرج الدنانير فدفعها إليه فقال: بعث بها أمير المؤمنين فاستعن بها، قال: فصاح وقال: لا حاجة لي فيها فردها، فقالت له امرأته: إن احتجت إليها وإلا فضعها في مواضعها، فقال عمير: والله ما لي شيء أجعلها فيه، فشقت المرأة أسفل درعها، فأعطته خرقة، فجعلها فيها، ثم خرج فقسمها بين أبناء الشهداء والفقراء، ثم رجع والرسول يظن أنه يعطيه منها شيئا، فقال له عمير: أقرىء مني أمير المؤمنين السلام.
فرجع الحارث إلى عمر فقال: ما رأيت، قال: رأيت يا أمير المؤمنين حالا شديدا قال: فما صنع بالدنانير؟ قال: لا أدري، قال: فكتب إليه عمر "إذا جاءك كتابي هذا فلا تضعه من يدك حتى تقبل".
فأقبل إلى عمر فدخل عليه، فقال له عمر: ما صنعت بالدنانير؟ قال: صنعت ما صنعت، وما سؤالك عنها؟ قال: أنشد عليك لتخبرني ما صنعت بها؟ قال: قدمتها لنفسي، قال: رحمك الله، فأمر له بوسق من طعام وثوبين، فقال: أما الطعام فلا حاجة لي فيه قد تركت في المنزل صاعين من شعير إلى أن آكل ذلك، قد جاء الله بالرزق، ولم يأخذ الطعام، وأما الثوبان فإن أم فلان عارية فأخذهما، ورجع إلى منزله.
فلم يلبث أن هلك رحمه الله، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وترحم عليه، وخرج يمشي ومعه المشاؤون إلى بقيع الغرقد، فقال لأصحابه: ليتمن كل رجل منكم أمنية، فقال رجل: يا أمير المؤمنين وددت أن عندي رقيقًا؛ فأعتق لوجه الله كذا وكذا، وقال آخر: وددت أن عندي مالا؛ فأنفق في سبيل الله، وقال آخر: وددت أن لي قوة؛ فأميح بدلو زمزم لحجاج بيت الله، فقال عمر بن الخطاب: وددت أن لي رجلا مثل عمير بن سعد أستعين به في أعمال المسلمين، رحمه الله، ورضي الله عنه.