تسجيل الدخول


عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس

عمر بن عبد العزيز بن مَرْوان:
يكنى أبا حفص، وُلد عمر سنة ثلاثٍ وستّين وهي السنة التي ماتت فيها ميمونة زوج النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وقال نافع: كنتُ أسمع ابن عمر كثيرًا يقول: ليت شعري مَنْ هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة يملأ الأرض عدلًا. وروى عبد الله بن دينار، قال: قال ابن عمر إنّا كنّا نتحدّث أنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يلي هذه الأمّة رجلٌ من ولد عمر يسير فيها بسيرة عمر بوجهه شامةٌ، قال: فكنّا نقول: هو بلال بن عبد الله بن عمر، وكانت بوجهه شامة، قال: حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز وأمّه أمّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطّاب. قال يزيد: ضربتْه دابّة من دوابّ أبيه فشجّته، قال: فجعل أبوه يمسح الدم ويقول: سعدتَ إن كنتَ أشجّ بني أميّة.
وروى ابن شَوْذَب قال: لما أراد عبد العزيز بن مروان أن يتزوّج أمّ عمر بن عبد العزيز قال لقَيّمه: اجْمع لي أربعمائة دينار من طيّب مالي فإنّي أريد أن أتزوّج إلى أهل بيتٍ لهم صلاح، قال: فتزوّج أمّ عمر بن عبد العزيز.
وَلَدَ عُمَرُ بن عبد العزيز: عبدَ الله، وبكرًا، وأمَّ عمّار؛ وأمّهم لَميس بنت عليّ بن الحارث، وإبراهيمَ بن عمر؛ وأمّه أمّ عثمان بنت شُعيب بن زبّان، وإسحاقَ بن عمر، ويعقوبَ، وموسى درجوا؛ وأمّهم فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وعبدَ الملك بن عمر، والوليدَ، وعاصمًا، ويزيد، وعبدَ الله، وعبدَ العزيز، وزبّانًا، وأمَةَ وأمَّ عبد الله؛ وأمّهم أمّ ولد.
وروى عليّ بن عبد الله بن جعفر قال: قال سفيان: قالوا لعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز: أبوك خالَف قومه وفعل وصنع، فقال: إنّ أبي يقول: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام: 15] قال: ثمّ دخل على أبيه فأخبره فقال: فأيّ شيء قلتَ، ألا قلتَ إنّ أبي يقول: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؟ قال: قد فعلتُ. وروت حُميدة حاضنة عمر بن عبد العزيز أنّ عمر بن عبد العزيز كان ينهَى بناته أن يَنَمْنَ مستلقياتٍ وقال: لايزال الشيطان مُطِلًّا على إحداكنّ إذا كانت مستلقية يَطْمَع فيها.
وروى إسماعيل بن عيّاش قال: قلتُ لعمرو بن المهاجر صاحب حرس عمر بن عبد العزيز: ما كان عمر يلبس في بيته؟ قال: جبّة سوداء مبطّنة. وروى يَعْلى بن حكيم قال: كانت أردية عمر بن عبد العزيز ستّة أذرع وشبرًا في سبعة أشبار. وروى عُمارة بن أبي حفصة أنّ مَسْلَمة بن عبد الملك دخل على عمر بن عبد العزيز فقال لأخْته فاطمة بنت عبد الملك، وهي امرأة عمر بن عبد العزيز: إني أرى أمير المؤمنين قد أصبح اليوم مُفيقًا وأرى قميصه دَرِنًا فألْبسيه غير هذا القميص حتى نأذن للناس عليه، فسكتت فقال: ألْبسي أمير المؤمنين غير هذا القميص، فقالت: والله ما له غيره. وروى عمرو بن ميمون قال: أتيتُ سليمان بن عبد الملك بهذه الحريرة فرأيتُ عنده عمر وهو كأشدّ الرجال وأغلظهم عنقًا، فما لبثتُ بعدما استُخلف عمر إلاّ سنة حتى أتيتُه، فخرج يصلّي بنا الظهر وعليه قميصٌ ثمنُ دينارٍ أو نحوه ومُلَيّة مثله وعمامة قد سدلها بين كتفيه، وقد نحل ودقّت عنقه. وروى رجاء بن حَيْوة قال: كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس وألبس الناس وأخيلهم مشيةً، فلمّا استُخلف قوّموا ثيابه باثني عشر درهمًا من ثياب مصر، كُمّتُه وعمامته وقميصه وقباؤه وقُرْطَقة وخفّاه ورداؤه. وروى سعيد بن سُويد أنّ عمر بن عبد العزيز صلّى بهم الجمعة وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فلمّا فرغ جلس وجلسنا معه، قال: فقال له رجل من القوم: يا أمير المؤمنين! إنّ الله قد أعطاك فلو لبستَ وصنعتَ. فنكّس مليًّا حتى عرفنا أنّ ذلك قد ساءه، ثمّ رفع رأسه فقال: إنّ أفضل القصد عند الحِدّة وأفضل العفو عند القدرة.
وروى عبد الله بن إدريس قال: سمعتُ أبي يذكر عن أزهر صاحب كان له قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز بخُناصِرَة يخطب الناس وقميصه مرقوع. وروى عمرو بن مهاجر قال: رأيتُ قُمُص عمر بن عبد العزيز وجِبابه فيما بين الكعب والشراك. وروى مُعَرِّف بن واصل قال: رأيت عمر بن عبد العزيز قدم مكّة وعليه ثوبان أخضران. وروى عُبيد بن الوليد بن أبي السائب الدمشقي قال: سمعتُ أبي يذكر أنّ عمر بن عبد العزيز كانت له جبّة خزّ غبراء وجبّة خزّ صفراء وكساء خزّ أغبر وكساء خزّ أصفر، فكان إذا لبس الجبّة الغبراء لبس الكساء الأصفر وإذا لبس الجبّة الصفراء لبس الكساء الأغبر، قال: ثمّ ترك ذلك.
وروى محمد بن هلال قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز لا يُحْفي شاربه جدًّا، يأخذ منه أخذًا حسنًا. وقال أبو الغُصْن: كنتُ أجد من عمر بن عبد العزيز ريح المسك. وروى معن عن أبي الغُصْن ومحمد بن هلال أنّهما رأيا عمر بن عبد العزيز وليس بين عينيه أثر السجود. وروى أبو الغُصْن أنّه لم ير على عمر بن عبد العزيز على المنبر سيفًا قطّ. وروى صالح بن محمد بن زائدة أنّه سمع عمر بن عبد العزيز لا يرى بالتدخين على العدو بَأْسًا في الحصون.
وروى عمرو بن المهاجر، عن عمر بن عبد العزيز أنّه أُتي برجلين مسلم وذِمّي جاسوسين أُخذا في أرض الروم، فقتل الذمّي وعاقب المسلم. وروى مَعْقِل بن عبيد الله، عن عمر بن عبد العزيز أنّه نهَى عن عقر الدابّة إذا هي قامت. وروى عمرو بن عثمان قال: سمعتُ القاسم بن محمد يقول: أحسن عمر بن عبد العزيز حين أخذ من المعادن الصدقة، هكذا كان الأمر الأول. وروى مُبَشِّر بن عُبيد، عن عمر بن عبد العزيز أنّه أباح الغوص. وروى ليث بن أبي سُليم، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب في العنبر الخُمْس. وروى إسماعيل بن أبي حكيم قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز آخر عمره يقول: ليس في العنبر شيء.
وروى محمد بن بشر بن حُميد، عن أبيه، عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال: الرسول والبريد والوكيل يُبْعَثون من العسكر يُجْرى لهم سهامهم مع المسلمين. وروى معاوية بن صالح، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يأمر ببيع الغنائم فيمن يزيد. وروى عمرو بن شَراحيل قال: كتب عمر بن عبد العزيز لا بأس بذبائح السامرة. وروى صالح بن محمد بن عمر قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يقول: يُسْهَم لفرسَين وما كان بعدُ فجنائب. وروى عبد العزيز بن عمر قال: كان سيف أبي محلّى بفضة فنزعها وحلاّه حديدًا. وروى خالد بن القاسم قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يركب على النمور. وروى عمرو بن الحارث، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يُظْهِر التكبير عند الفتح. وروى عيسى بن أبي عطاء، عن عمر بن عبد العزيز قال: من آمنّا بأيّ لسان كان فقد أمِن.
وروى عيّاش بن سُليم، عن عمر بن عبد العزيز في الذمّيّ يوصي بالكنيسة يُوقف وقفًا ماله للنصارى أو لليهود قال: يجوز ذلك. وروى مَخْرَمة بن بُكير عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تُنْكَح امرأةُ الأسيرِ أبدًا ما دام أسيرًا. وروى عمرو بن المهاجر، عن عمر بن عبد العزيز قال: إذا كان الرجل في الحرب على ظهر فرسه يقاتل فما صنع في ماله فهو جائز. وروى المنذر بن عُبيد، عن عمر بن عبد العزيز قال: لا يجوز أمان الذمّي.
وروى عمرو بن ميمون قال: ما زلتُ ألطف أنا وعمر في أمر الأمّة حتى قلتُ له: يا أمير المؤمنين ما شأن هذه الطوامير التي يُكتب فيها بالقلم الجليل يُمَدّ فيها وهي من بيت مال المسلمين؟ فكتب في الآفاق أن لا يُكْتَبنّ في طومار بقلم جليل ولا يُمَدّنّ فيه. قال: فكانت كتبه إنّما هي شبر أو نحوه. وروى حفص بن عمر بن أبي الزّبير قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: أمّا بعد فكتبتَ تذكر أنّ القراطيس التي قِبَلَك قد نفدتْ وقد قطعنا لك دون ما كان ُيقطع لمن كان قبلك، فأدِقّ قلمك وقاربْ بين أسطرك واجمع حوائجك فإنّي أكره أن أُخْرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به. وروى عبد الله بن دينار قال: لم يرتزق عمر من بيت مال المسلمين شيئًا ولم يرزأه حتى مات.
وروى سَبرة بن عبد العزيز بن الربيع بن سَبرة قال: حدّثني أبي، عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز يومًا والله لوددتُ لو عدلتُ يومًا واحدًا وأنّ الله تَوَفّى نفسي، فقال له ابنه عبد الملك: وأنا والله يا أمير المؤمنين لوددتُ لو عدلتَ فُواق ناقة وأنّ الله توفّى نفسك. فقال: {اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [طه: 98] فقال: الله الذي لا إلَهَ إلاّ هُوَ، ولو حُشّتْ بي وبك القدور، فقال عمر: جزاك الله خيرًا. وروى سعيد بن عامر، عن جُويرية بن أسماء قال: قال عمر بن عبد العزيز: إنّ نفسي هذه نفس توّاقة، وإنّها لم تُعْطَ شيئًا إلاّ تاقت إلى ما هو أفضل منه، فلمّا أُعْطيت الذي لا شيء أفضل منه في الدنيا تاقت إلى ما هو أفضل من ذلك، فقال سعيد: الجنّة أفضل من الخلافة. وروى ميمون قال: أقمتُ عند عمر بن عبد العزيز ستّة أشهر ما رأيته غيّر رداءه، إلاّ أنّه كان يُغْسَل من الجمعة إلى الجمعة ويُتَبَّنُ بشيء من زعفران. وروت أمّ ولد عمر بن عبد العزيز قالت: سألني عمر دهنًا فأتيتُه به وبمشط من عظام الفيل فردّه وقال: هذه ميتة، قلت: وما جعله ميتةً؟ قال: ويحك من ذبح الفيل؟
وروى إسماعيل بن أبي حكيم قال: بعث عمر بن عبد العزيز إليّ وإلى مزاحم صلاة الصبح قبل أن يصلّي الغداة فأتيناه ولم يدّهن ولم يتهيّأ، فقال: هذا عجلتم عن الدهن، أيعجز أحدكم أن يدعو بالمشط فيسرّح به لحيته؟ وروى إبراهيم بن محمد بن عمّار بن سعد القَرَظ، عن أبيه قال: كنّا نُؤذِن عمر بن عبد العزيز في داره للصلاة فنقول: السلام عليك أيّها الأمير ورحمة الله وبركاته حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الصلاةَ رحمك الله. وفي الناس الفقهاء لا يُنْكِرون ذلك. وروى إبراهيم بن محمد، عن أبيه قال: قال عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة: إذا أذّنتَ للظهر أو العتمة فصَلّ ركعتين ثمّ اقْعد قدر ما تظنّ أن قد سمعك رجل من أقصى المدينة فقضى حاجته وتوضّأ ولبس ثيابه ومشى مشيًا رفيقًا حتى يأتي المسجد فيصلّي فيه أربع ركعات ثمّ قعد، فأقِمْ بقدر ذلك. وروى محمد بن عمر قال: سمعت عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فَرْوة يقول: كان عمر بن عبد العزيز يؤمّنا بالمدينة فلا يجهر بـ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
وروى عمران بن أبي أنَس، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يسلّم واحدةً وِجاهَ القبلةِ: السلام عليكم. وروى حفص بن عمر بن أبي طلحة الأنصاري قال: لما أراد عمر بن عبد العزيز أن يحجّ من المدينة وهو واليها في خلافة الوليد بن عبد الملك دخل عليه أنَس بن مالك وهو يومئذٍ بالمدينة فقال: يا أبا حمزة ألا تخبرنا عن خُطَب النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال: خَطَبَ رسول الله بمكّة قبل التروية بيوم، وخطب بعَرَفة يوم عَرَفة، وخطب بمنًى الغد من يوم النحر والغد من يوم النفر.(*). وروى أنَس بن مالك قال: ما صلّيتُ وراء أحدٍ أشبه صلاةً برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من هذا الفتى ــ يعني: عمر بن العزيز. قال الضحّاك: فكنتُ أصلّي وراءه فيُطيل الأوّلتين من الظهر ويخفّف الآخرتين ويُخِفّ العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصّل ويقرأ في العشاء بوسط المفصّل ويقرأ في الصبح بطوال المفصّل. وروى الضحّاك قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز ذهب به الكلام وهو على المنبر ثمّ رجع فقال: أستغفر الله أستغفر الله! وروى عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فَرْوة قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يمشي إلى العيد. وروى عليّ بن بَذيمة قال: رأيتُه بالمدينة ــ يعني: عمر بن عبد العزيز ــ وهو أحسن الناس لباسًا ومن أطيب الناس ريحًا ومن أخيل الناس في مشيه، ثمّ رأيتُه بعدُ يمشي مشية الرهبان، فمن حدّثك أنّ المشي سَجيّة فلا تصدّقه بعد عمر.
وروى أسامة بن زيد قال: قال عمر بن عبد العزيز لقاضيه أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم: ما وجدتُ من أمر هو ألَذّ عندي من حقّ وافق هَوًى. وروى حمّاد بن زيد قال: حدّثنا يحيَى أنّ عمر بن عبد العزيز كان يصوم الاثنين والخميس. وروى عبد الجبّار بن أبي معن قال: سمعتُ سعيد بن المسيّب وسأله رجل فقال له: يا أبا محمد من المهديّ؟ فقال له سعيد: أدَخلتَ دار مروان؟ قال: لا، قال: فادْخل دار مروان ترَ المهديّ، قال: فأذن عمر بن عبد العزيز للناس فانطلق الرجل حتى دخل دار مروان فرأى الأمير والناس مجتمعين، ثمّ رجع إلى سعيد بن المسيّب فقال: يا أبا محمد دخلتُ دار مروان فلم أرَ أحدًا أقول هذا المهديّ، فقال له سعيد بن المسيّب وأنا أسمع: هل رأيتَ الأشجّ عمر بن عبد العزيز القاعد على السرير؟ قال: نعم، قال: فهو المهديّ. وروى مَسْلَمة أبو سعيد قال: سمعتُ العَرْزَمي يقول: سمعتُ محمد بن عليّ يقول: النبيّ منّا والمهدي من بني عبد شمس ولا نعلمه إلاّ عمر بن عبد العزيز. قال: وهذا في خلافة عمر بن عبد العزيز.
وكان عمر بن عبد العزيز ثقة مأمونًا، له فقه وعلم وورع، وروى حديثًا كثيرًا، وكان إمام عدل، رحمه الله ورضي عنه. روى حفص بن عمر قال: احتبس عمر بن عبد العزيز غلامًا له يحتطب عليه ويلقط له البَعْر، فقال له الغلام: الناس كلهم بخيرٍ غيري وغيرك، قال: فاذْهب فأنت حرّ. وروى إبراهيم السّكّري قال: كان بين موالٍ لسليمان بن عبد الملك وبين موالٍ لعمر بن عبد العزيز كلام، فذكر ذلك سليمان لعمر، فبينا هو يكلّمه إذ قال سليمان لعمر: كذبتَ، فقال: ما كذبتُ منذ علمتُ أنّ الكذب شَين لصاحبه. وروى مجاهد قال: أتينا عمر بن عبد العزيز ونحن نرى أنّه سيحتاج إلينا فما خرجنا من عنده حتى احتجنا إليه. وقال خصيف: ما رأيتُ رجلًا قطّ خيرًا من عمر بن عبد العزيز. وروى مَزْيَد بن حَوْشَب أخي العوّام قال: ما رأيتُ أخْوَف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأنّ النار لم تُخْلَقْ إلاّ لهما. وروى عمر بن حفص قال: حدّثنا شيخ قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز بدابِق خرج ذات ليلة ومعه حرسيّ فدخل المسجد فمرّ في الظلمة برجل نائم فعثر به فرفع رأسه إليه فقال: أمجنون أنت؟ قال: لا. فهم به الحرسيّ، فقال له عمر: مَهْ إنّما سألني أمجنون أنت فقلت لا.
وروى سفيان قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: لو تفرّغتَ لنا، فقال عمر: وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلاّ عند الله. وروى سفيان قال: قال عمر بن عبد العزيز: أريحوني فإنّ لي شأنًا وشئونًا. وروى السريّ بن يحيَى أنّ عمر بن عبد العزيز حمد الله ثمّ خنقتْه العبرة، ثمّ قال: أيّها الناس أصلحوا آخرتكم تَصْلح لكم دُنْياكم، وأصْلِحوا سرائركم تَصْلح لكم علانيتكم، والله إنّ عبدًا ليس بينه وبين آدم أب له إلاّ قد مات إنّه لمُعْرَق له في الموت.
وروى خالد بن يزيد بن بشر، عن أبيه قال: أصاب المسلمون في غزوهم الصائفة غلامًا من أبناء الروم صغيرًا فبعث أهله فدائه، فشاور فيه عمر فاختلفوا عليه فقال: ما عليكم أن نفديه صغيرًا ولعلّ الله أن يُمْكِنَ منه كبيرًا ففدوه بمال عظيم ثمّ أُخذ أسيرًا في آخر خلافة هشام فقُتل. وروى محمد بن الزّبير الحَنْظلي قال: رأى عمر بن عبد العزيز رجلًا يكتب على الأرض: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فنهاه وقال: لا تَعُدْ. وروى يونس بن أبي شَبيب قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يطوف بالبيت قبل أن يُسْتَخْلف وإنّ حُجْزة إزاره لغائبة في عُكَنه، ثمّ رأيته بعدما استُخلف ولو شئتُ أن أعدّ أضلاعه من غير أن أمسّها لفعلتُ. وروى يونس بن أبي شَبيب قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز في بعض الأعياد، وقال: جاء أشراف الناس حتى حفّوا بالمنبر وبينهم وبين الناس فُرْجة، فلمّا جاء عمر بن عبد العزيز صعد المنبر وسلّم عليهم، فلمّا رأى الفُرْجة أومأ إلى الناس أن تقدّموا فتقدّموا حتى اختلطوا بهم.
وروى طلحة بن يحيَى قال: كان عمر بن عبد العزيز لا يكبّر على جنازة حتى ينفض الحنوط عنها. وروى عبد العزيز بن محمد، عن أبي سُهيل نافع بن مالك قال: تلا عمر بن عبد العزيز: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 ـــ 163] فقال لي: يا أبا سُهيل ما تركتْ هذه الآية للقَدَرِيّة حجّة، الرأي فيهم ما هو؟ قال: قلت: أن يُسْتتابوا فإن تابوا وإلاّ ضُربت أعناقهم. قال: ذاك الرأيُ ذاك الرأيُ. وروى إبراهيم بن مَيْسَرَة قال: ما رأيتُ عمر بن عبد العزيز ضرب أحدًا في خلافته غير رجل واحدٍ تناول من معاوية فضربه ثلاثة أسواط. وروى عبد الرحمن بن حسن، عن أبيه قال: حضرتُ عمر بن عبد العزيز وهو يختصم إليه ناسٌ من قريش فطفق بعضهم يرفد بعضًا فقال لهم عمر: إيّاي والترافُدَ، لو كان هذا أمرًا تقدّمتُ إليكم فيه لأنكرتموني. قال: ثمّ جاءه شهود يشهدون فطفق المشهود عليه يحمّج إلى الشاهد النظر فقال عمر: يا ابن سُراقة يوشك الناس أن لا يُشْهَدَ بينهم بحقّ، إني لأراه يحمّج إلى الشاهد النظر، فأيّما رجلٍ آذى شاهدَ عدلٍ فاضْربه ثلاثين سوطًا وقِفْه للناس. وروى ابن شهاب أنّه دخل على عمر بن عبد العزيز فحدّثه فأكثر فقال عمر: ما تحدّثنا شيئًا إلاّ وقد سمعناه، ولكنّك تذكر وتَنْسى.
وروى موسى بن عُقْبة قال: قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن أُنعش سنّةً أو أسير بحقّ ما أحببتُ أن أعيش فُواقًا. وروى سفيان، عن رجل، عن عمر بن عبد العزيز قال: قال له رجل: أبقاك الله، فقال: هذا قد فُرغ منه، ادْعُ بالصلاح. وروى عون عن عمر بن عبد العزيز قال: ما يسرّني باختلاف أصحاب النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، حُمْرُ النَّعَم. وروى جعفر بن بُرْقان أنَ عمر بن عبد العزيز كتب في رسالته: إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، كتب بها أمّا بعدُ. وروى عمر بن سعيد بن أبي حسين قال: كان مؤذّن لعمر بن عبد العزيز إذا أذّن رَعَد فسمع جاريةً له تقول: قد أذّن الرَّاعِبي، فبعث إليه: أذّنْ أذانًا سَمْحًا ولا تغنّه وإلاّ فاجْلس في بيتك. وروى طلحة ابن يحيَى قال: بَعَث ببغلة له ــ يعني: عمر بن عبد العزيز، إلى الرِّعْي ما قدر على علفها، قال ثمّ باعها. وروى محمد بن النّضر قال: ذكروا اختلاف أصحاب محمد عند عمر بن عبد العزيز فقال: أمرٌ أخرج الله أيديكم منه ما تُعْمِلون ألسنتكم فيه. وروى قتَادة قال: كان عمر بن عبد العزيز يأخذ من أهل الديوان صَدَقَةَ الفطر نصف درهم.
وروى يحيَى بن سعيد بن إسماعيل بن أبي حكيم، عن عمر بن عبد العزيز قال إنّ الله لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة فإذا المعاصي ظهرتْ فقد استحلّوا العقوبة جميعًا. وروى عبد العزيز بن أبي حازم، عن أسامة قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا صلّى الجمعة بعث الحرس وأمرهم أن يقوموا على أبواب المسجد ولا يمرّ عليهم رجل مصفّف شعره لا يفرقه إلاّ جزّوه. وروى وُهيب بن الورد قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز اتَّخذَ دَارًا لطعام المساكين والفقراء وابن السبيل، وتقدّم إلى أهله: إيّاكم أن تصيبوا من هذه الدار شيئًا من طعامها فإنّما هو للفقراء والمساكين وابن السبيل، فجاء يومًا فإذا مولاة له معها صحفة فيها غرفة من لبن فقال لها: ما هذا؟ قالت: زوجتك فلانة حامل كما قد علمتَ واشتهت غرفةً من لبن، والمرأة إذا كانت حاملًا فاشتهت شيئًا فلم تُؤتَ به تخوّفت على ما في بطنها أن يسقط، فأخذتُ هذه الغرفة من هذه الدار. فأخذ عمر بيدها فتوجّه بها إلى زوجته وهو عالي الصوت وهو يقول: إن لم يُمْسِك ما في بطنها إلاّ طعامُ المساكين والفقراء فلا أمسكه الله، فدخل على زوجته فقالت له: ما لك؟ قال: تزعم هذه أنّه لاَ يُمْسِك ما في بطنك إلاّ طعام المساكين والفقراء، فإن لم يُمْسكه إلاّ ذلك فلا أمسكه الله، قالت زوجته: رُدّيه ويحك، والله لا أذوقه، قال: فردّته.
وروى سُهيل بن أبي صالح أنّ عمر بن عبد العزيز قال: لا يُقْتَل أحد في سبّ أحد إلاّ في سبّ نبيّ. وروى إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس قال: حدّثنا مالك بن أنَس، بلغه أنّ عمر بن عبد العزيز قال: من كان له شأن غير هذا الشأن فإنّه كان من شأني الذي كتب الله أن ألزم عاملًا منه بما عملتُ ومقصّرًا فيه عمّا قصّرتُ، فما كان من خير أتيتُه فبعون الله ودِلّيلاه وإليه أرغبُ في بركته، وما كان غير ذلك فأستغفر الله لذنبي العظيم. وروى حمّاد بن سلَمة، عن أبي سِنان قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا قدم بيت المقدس نزل الدار التي أنا فيها ثمّ قال: يا أبا سِنان لا يطبخنّ أحد من أهل الدار قدرًا حتى أخرج، وكان إذا أوى إلى فراشه قرأ بصوت له حسن حزين: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأعراف: 54] إلى آخر الآية، ثمّ يقرأ: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: 98،97] ويتتبّع نحو هذه الآيات.
وروى يحيَى بن سعيد، عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي ملامة الناس. وروى محمد بن كعب القُرَظي قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز في خلافته فقال: الحديث الذي حدّثتَني به عن ابن عبّاس أعِدْه عليّ، قال فقلتُ: حدّثنا عبد الله بن عبّاس أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "إنّ لكلّ شيء شرفًا وأشرف المجالس ما استُقبل به القبلة، وإنّما تجالسون بالأمانة ولا تيمّموا بالنيام ولا بالمتحدّثين، ولا تستروا الجُدَر، واقْتلوا الحيّة والعقرب في الصلاة"(*). وعن وُهيب بن الورد قال: بلغنا أن محمد بن كعب القُرَظي دخل على عمر بن عبد العزيز فرآه عمر يشدّ النظر إليه، قال فقال له: يا ابن كعب إني لأراك تشدّ النظر إليّ نظرًا ما كنت تنظر إليّ قبل هذا، فقال محمد: العجب العجب يا أمير المؤمنين لما تغيّر من حالك بعدنا، فقال له عمر: وهل بِنْتَ ذلك مني؟ فقال له محمد بن كعب: الأمر أعظم من ذلك إلاّ أنّه يكون استبان ذلك منك، فقال له عمر: يا ابن كعب فكيف لو رأيتَني بعد ثلاث وقد أُدْخِلْتُ قبري وقد خرجت الحَدَقتان فسالتا على الوجنتين وتقلّصت الشفتان عن الأسنان وفُتح الفم وارتفع البطن فَعَلِيَ فوق الصدر وخرج القُصْب من الدبر؟ فقال محمد بن كعب: يا عبد الله إن كنتَ قد ألهمتَ هذا الأمر نفسك فانْظر أن تُنْزِل عباد الله عندك ثلاث منازل، أمّا من هو أكبر منك فأنْزِلْه كأنّه أب لك، وأمّا من كان بسنّك فأنْزِلْه كأنّه أخ لك، وأمّا من كان أصغر منك فأنْزِلْه كأنّه ابن لك، فأيّ هؤلاء تحبّ أن تُسيء إليه أو يرى منك بعض مايكره؟ قال عمر: ولا إلى أحد منهم يا عبد الله.
وروى يحيَى بن سعيد قال: قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضًا للخصومات أكثر التنقّل. وروى ميمون بن مِهْران قال: كنتُ في سَمَر عند عمر بن عبد العزيز ليلة فتكلّم فوعظ، قال: ففطن لرجل خذف بدمعته فسكت، فقلت: يا أمير المؤمنين عُدْ لمنطقك لعلّ الله أن ينفع بك من بلغه وسمعه، فقال: ياميمون إنّ الكلام فتنة وإنّ الفعل أولى بالمرء من القول. وفي رواية: عن ميمون بن مِهْران قال: كنت ليلة في سَمَرِ عمر بن عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين ما بقاؤك على ما أرى؟ أنت بالنهار في حوائج الناس وأمورهم وأنت معنا الآن ثمّ الله أعلمُ ما تخلو عليه، قال: فعدّى عن جوابي وقال: يا ميمون إني وجدتُ لُقِيّ الرجال تلقيحًا لألبابهم. وروى عمرو بن عاصم قال: حدّثنا سلاّم أنّ عمر بن عبد العزيز صعد المنبر فقال: يا أيّها الناس اتّقوا الله فإنّ في تقوى الله خَلَفًا من كلّ شيء دونه، وليس لتقوى الله خلف، يا أيّها الناس اتّقوا الله وأطيعوا من أطاع الله ولا تطيعوا من عصى الله.
وروى رجل من أهل مكّة، عن عمر بن عبد العزيز قال: مَنْ عمل على غير علم كان ما يُفْسِد أكثر ممّا يُصْلح، ومن لم يَعُدّ كلامه من عمله كثرت خطاياه، والرضا قليل ومعوّلُ المؤمن الصبر. وروى يحيَى بن سعيد أنّ عمر بن عبد العزيز قال: ما أصبح لي اليوم في الأمور هَوًى إلاّ في مواقع قضاء الله فيها. وروى محمد بن عَمْرو أنّ عَنْبَسة بن سعيد قال لعمر بن عبد العزيز: إنّ الخلفاء قبلك كانوا يُعْطوننا عطايا وإني أراك قد ظلفت هذا المال عن نفسك وأهلك وإنّ لنا عيالات فأذَنْ لنا أن نرجع إلى ضياعنا وإخاذاتنا، فقال: أما إنّ أحبّكم إليّ مَنْ فعل ذلك، فلمّا قَفَّى دعاه عمر فقال: يا عنبسة أكْثِرْ ذكر الموت فإنّك لا تكون في ضيق من أمرك ومعيشتك فتذكر الموت إلاّ اتّسع ذلك عليك، ولا تكون في سرور من أمرك وغبطة فتذكر الموت إلاّ ضُيّق ذلك عليك. وروى عُمارة بن راشد قال: سمعتُ محمد بن الزّبير الحَنْظَليّ قال: دخلتُ على عمر بن عبد العزيز، أحسبُه قال: ليلةً وهو يتعشّى كِسَرًا وزيتًا، فقال: ادْنُ فكُلْ، قلتُ: بئس طعام المقرور، قال فأنشدني:
إذا ما ماتَ مَيْتٌ مِنْ تَميمٍ فَسَرَّ كَ
أنْ
يَعيشَ فَجِئْ بِزَادِ
بخُبْزٍ أوْ
بلَحْمٍ أوْ بتَمْـرٍ أوِ الشّيءِ المُلَفَّفِ في البِجـادِ
وأنشد بيتًا ثالثًا قافيته:
ليَأكُلَ رَأسَ لُقْمَانَ بنِ عادِ
قلت: يا أمير المؤمنين ما كنتُ أُرى هذا البيت فيها، قال: بلى هو فيها. قال عبيد الله: وصدر هذا البيت:
تَراهُ يَنْقُلُ البَطْحاءَ شَهْرًا ليَأكُلَ رَأسَ لُقمانَ بنِ عادِ
وروى عبيد الله بن محمد التيمي قال: سمعتُ أبي وغيره يحدّث أنّ عمر بن عبد العزيز لما ولي منع قرابته ما كان يُجْرى عليهم وأخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم، قال: فشكوه إلى عمّته أمّ عمر، قال: فدخلتْ عليه فقالت: إنّ قرابتك يشكونك ويزعمون ويذكرون أنّك أخذت منهم خير غيرك، قال: ما منعتُهم حقًّا أو شيئًا كان لهم ولا أخذت منهم حقًّا أو شيئًا كان لهم، فقالت: إني رأيتُهم يتكلّمون وإني أخاف أن يهيجوا عليك يومًا عصيبًا، فقال: كلّ يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني اللُّه شرّه، فدعا بدينار وخَبَث ومِجْمَرة فألقى ذلك الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار، حتى إذا احمرّ تناوله بشيء فألقاه على الخبث فَنَشَّ وقتّر فقال: أيْ عمّةِ، أما تأوين لابن أخيك من مثل هذا؟ قال: فقامت فخرجت على قرابته فقالت تزوّجون إلى آل عمر فإذا نزعوا الشِّبْهَ جزعتم؟ اصْبروا له.
وروى عبيد الله بن محمد قال: أخبرني أبي قال: قيل لعمر بن عبد العزيز غيّرتَ كلّ شيء حتى مشيتك، قال: والله ما رأيتُها كانت إلاّ جنونًا، وكان إذا مشى خطر بيديه. وروى عمر بن مجاشع قال: خرج عمر بن عبد العزيز يومًا إلى المسجد فخطر خطرة بيده ثمّ أمسك وبكى، قالوا: ما أبكاك يا أمير المؤمنين؟ قال: خطرتُ بيدي خطرةً خفتُ أن يَغُلّها الله في الآخرة. وروى جعفر بن بُرْقان قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن شيء من الأهواء فقال: الزم دين الصبي في الكتّاب والأعرابي، والْهُ عمّا سوى ذلك. وروى عمرو بن ميمون قال: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة. وروى سفيان عن رجل قال: نال رجل من عمر بن عبد العزيز فقيل له: ما يمنعك منه؟ فقال: إنّ المُتّقي مُلْجَم. وروى أبو مِجْلَز أنّ عمر بن عبد العزيز نهَى أن يُذْهَبَ إليه في النّيروز والمِهْرَجان بشيء. وروى مَخْرَمة بن بُكير، عن أبيه، عن عمر بن عبد العزيز قال: من سرق في أرض العدو ثم خرج قُطع. وروى يزيد بن أبي سُميّة قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز أقام الحد ثمانين جلدة على رجلٍ افترى على رجلٍ في أرض الحرب حين خرجوا. وفي رواية: عن خازم بن حسين قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز بخُناصرة وأُتي برجلٍ شُهد عليه أنّه شرب خمرًا بأرض العدو فجلده ثمانين.
وروى أبو صَخْر قال: أُتي عمر بن عبد العزيز بسارق سرق من المغنم ولم يُقْسَم فسأل أهو ممّن أوجف في المغنم؟ فقيل: لا، فقطع يده. وروى المنذر بن عُبيد قال: كنتُ أرى عمر بن عبد العزيز بدابِق إذا أتم الصلاة جمّع بالناس وإذا صلّى ركعتين لم يجمّع إلا أن يمر على مدينة يجمّع فيها. وروى بِشْر بن حُميد، عن عمر بن عبد العزيز قال: تمام الرباط أربعون يومًا. وروى عبد الله بن عامر قال: سمعتُ أبان بن صالح يقول: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يقول بدابق: نحن في رباط. وروى عبد الله بن عُبيدة قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يقول: ما يهلك الناس إلاّ في هذه العلاّقات، وكان يكتب: لا يذهب إلى العلاّقة إلا جماعة وقوّة ثمّ يأخذ بعضهم ببعض حتى يرجعوا جميعًا أو يَعْطَبوا جميعًا. ورورى إسماعيل بن أبي حكيم قال: كان عمر بن عبد العزيز قلّما يدع النظر في المصحف بالغداة ولا يطيل.
وروى سعيد بن عامر عن جُويرية بن أسماء قال: قال عمر يا مزاحم بعني رَحْلًا لمصحفي، قال فأتاه برَحْلٍ فأعجبه، قال: من أين أصبتَ هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين دخلتُ بعض الخزائن فوجدتُ هذه الخشبة فاتخذتُ منها رحْلًا، قال: انطلقْ فقوِّمْه في السوق، فانطلق فقوَّموه نصف دينار فرجع إلى عمر فأخبره، قال: تُرانا إن وضعنا في بيت المال دينارًا أنسلم منه؟ قال: إنّما قوَّموه نصف دينار، قال: ضَعْ في بيت المال دينارين. وروى جويرية بن أسماء أنّ عمر بن عبد العزيز عزل كاتبًا له في هذا، كتب بسم ولم يجعل السين. وروى المُغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: يا مغيرة إني قد أُرى أنّه يكون في الناس من هو أكثر صلاةً وصومًا من عمر فأمّا أن أكون رأيتُ رجلًا أشدّ فَرَقًا من ربّه من عمر فإنّي لم أره، كان إذا صلّى العشاء الآخرة ألقى نفسه في مسجده فيدعو ويبكي حتى تغلبه عينه، ثمّ ينتبه فيدعو ويبكي حتى تغلبه عينه، فهو كذلك حتى يصبح.
وروى ابن عُلاثة قال: كانت لعمر بن عبد العزيز صحابة يحضرونه يعينونه برأيهم ويسمع منهم، قال فحضروه يومًا فأطال الصبح فقال بعضهم لبعض: تخافون أن يكون تغيّر،فسمع ذلك مزاحم فدخل فأمر من أيقظه فأخبره ما سمع من أصحابه وأمره فأذن لهم فلمّا دخلوا عليه قال: إني أكلتُ هذه الليلة حِمّصًا وعَدَسًا فنفخني، فقال بعض القوم: يا أمير المؤمنين إنّ الله يقول في كتابه: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [طه: 81]. فقال عمر: هيهات ذهبتَ به إلى غير مذهبه، إنّما يريد به طيّب الكسب ولا يريد به طيّب الطعام. وروى محمد بن أبي سدرة وكان قديمًا قال: دخلتُ على عمر بن عبد العزيز ليلة وهو يتلوّى من بطنه فقلت: مالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: عدس أكلتُه فأوذيت منه، ثمّ قال: بطني بطني ملوّث في الذنوب، قال ابن أبي سدرة: وكان عمر بن عبد العزيز يأمر الناس إذا أخذ المؤذّن في الإقامة أن يستقبلوا القبلة.
وروى ميمون بن مِهْران قال: كان عمر بن عبد العزيز معلّم العلماء. وروى عبد العزيز بن عمر قال: كان عمر بن عبد العزيز يسمر بعد العشاء الآخرة قبل أن يُوتر فإذا أوتر لم يكلّم أحدًا. وروى رِياح بن عَبيدة قال: أُخْرِجَ مسك من الخزائن فلمّا وُضع بين يدي عمر أمسك بأنفه مخافة أن يجد ريحه، فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين ما ضرّك أن وجدتَ ريحه؟ فقال عمر: وهل يُبْتغى من هذا إلاّ ريحه؟. وروى مالك بن أنَس قال: قال عمر بن عبد العزيز: لستُ بقاضٍ ولكني منفّذ، ولستُ بخير من أحد ولكني أثقلكم حملًا، وأحسبُه قال: ولستُ بمبتدعٍ ولكني متّبع.
وروى نُعيم بن عبد الله أنّ عمر بن عبد العزيز قال: إنّي لأدع كثيرًا من الكلام مخافة المباهاة. وروى عمرو بن المهاجر قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يقول: الأذان مَثْنَى مَثْنَى والإقامة إحدى إحدى. قال عمرو: ورأيتُ سالم بن عبد الله وأبا قِلابة مع عمر بن عبد العزيز وأذانه مثنى مثنى وإقامته إحدى إحدى ولا يُنْكِرانه. وروى أسامة بن زيد، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يغتسل في بيته في إزار. وروى يزيد بن أبي مالك قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يتوضّأ من نحاس في نحاس. وروى المنذر بن عُبيد قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز إذا توضّأ يمسح وجهه بالمنديل. وروى عمر بن عطاء، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يتوضّأ من مَسِّ الذكر، وأنّه توضّأ ممّا مسّتْه النارُ حتى من السّكّر. وروى الزّهْريّ أنّ عمر بن عبد العزيز كان يتوضّأ بالحميم ويشربه ولا يتوضّأ منه.
وروى عبد الرحمن بن مَسْلَمة، عن مولاة لعمر بن عبد العزيز قالت: رأيتُ عمر بن عبد العزيز إذا ذهب إلى الكنيف يقنّع رأسه. وروى إسحاق بن يحيَى قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يصلّي على أخيه سُهيل بن عبد العزيز فرأيته يرفع يديه في كلّ تكبيرة حذو منكبيه ثمّ سلّم عن يمينه تسليمًا خفيفًا، ورأيته يمشي أمام جنازته، ورأيته يومئذٍ يحمل بين عمودي سريره، وصلّيتُ خلفه بخُنَاصِرة فسمعتُه يرفع صوته بالتكبيرة الأولى ويقرأ حتى يسْمع الصفّ الأول قراءةً مترسّلة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 ـــ 4] لا يذكرُ {بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}ِ. قال إسحاق فسألتُه حين انصرف: أتُسِرها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لو أسررتها لجهرتُ بها. وروى عمرو بن عثمان بن هانئ قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يجهر بخُطْبَتِه يوم الجمعة حتى يَسْمع جُلُّ أهل المسجد موعظته وليس بالصياح.
وروى سعيد بن عبد العزيز قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى واليه عثمان بن سعد على دمشق: إذا صَلّيتَ بهم فأسْمِعْهم قراءتك وإذا خطبتهم فأفْهِمْهم موعظتك. وروى عَمرو بن المهاجر قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز يخطب يوم الجمعة خطبتين ويجلس ويسكت فيهما سكتةً، يخطبنا الأولى جالسًا وبيده عصا قد عرّضها على فخذيه، يزعمون أنّها عصا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فإذا فرغ من خطبته الأولى وسكت سكتة قام فخطب الثانية متوكّئًا عليها، فإذا ملّ لم يتوكّأ وحملها حملًا، فإذا دخل في الصلاة وضعها إلى جنبه، وكان إذا قعد في التشهّد يوم الجمعه عرّض تلك العصا على فخذه حتى يسلّم، وإذا سلّم يوم الجمعة حمل العصا إلى منزله ولا يتوكّأ عليها، وإذا خرج بها من منزله حملها. وروى المنذر بن عُبيد عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يصلّي على الحُمْرة والبساط. وروى محمد بن بشر بن حُميد، عن أبيه قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز وهو خليفة يقول: الشفق البياض بعد الحُمْرة.
وروى إسحاق بن يحيَى قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز وهو بخُناصرة انصرف من العصر عَشيَّة عَرَفة فدخل منزله ولم يجلس في المسجد حتى خرج المغرب، قال ورأيتُه خرج يوم الأضحى حين طلعت الشمس وخفّف في الخطبة، ورأيتُه طوّل في الفطر أطْوَلَ من ذلك، ورأيته خرج إلى العيد ماشيًا. وروى جعفر بن بُرْقان أن عمر بن عبد العزيز كتب في خلافته: لا تركبوا إلى الجمعة والعيدين. وروى عبد الله بن العلاء، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يكبّر من صلاة الظهر يوم عَرَفة إلى صلاة العصر من آخرأيّام التشريق.
وروى عبد الله بن العلاء قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يكبّر الله أكبر ولله الحمد ثلاثًا دُبُرَ كلّ صلاة. وروى عطاء الخُراساني، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كان يأكل شيئًا قبل أن يغدو إلى العيد. وروى عمرو بن عثمان قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز بخُناصرة يمشي إلى المصلّى ثم يصعد على المنبر فيكبّر سبع تكبيرات تَتْرى، ثم يخطب خطبة خفيفة، ثم يكبّر في الثانية خمسًا، ثم يخطب خطبة أخفّ من الأخرى،ورأيته أُتي بكبش في مصلاَّه فذبحه بيده ثم أمر به فقسم ولم يُحْمَلْ إلى منزله منه شيء. وروى عمرو بن عثمان بن هانئ قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يجهر بالتكبير حتى يُسْمِع آخر الناس في الأولى سبعًا، ثمّ يقرأ، وفي الآخرة خمسًا ثمّ يقرأ في الأولى: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] وفي الثانية: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] وكان يدعو بين كلّ تكبيرتين يحمد الله ويكبّره ويصلّي على النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وقال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز إذا صعد على المنبر في العيد سلّم.
وروى عثمان بن عبد الحميد بن لاحق قال: حدّثنا أبي قال: قرأ رجل عند عمر بن عبد العزيز وعنده رهط فقال رجل من القوم: لحن، فقال عمر: أما شغلك ما سمعتَ عن اللحن؟ وروى موسى بن رِياح بن عُبيدة، عن أخيه الخيار قال: كنتُ في مجلس، قال: فجاءنا عمر بن عبد العزيز، قال: وذلك قبل أن يُسْتخلف فقعد ولم يسلّم، قال: فذكر فقام فسلّم ثمّ قعد. وروى رجاء بن حَيْوَة قال: قال عمر بن عبد العزيز لمكحول: إيّاك أن تقول في القَدَر ما يقول هؤلاء، يعني غَيْلان وأصحابه. وروى خالد بن يزيد بن بِشْر، عن أبيه قال: سُئل عمر بن عبد العزيز عن عليّ وعثمان والجَمَل وصِفّين وما كان بينهم فقال: تلك دماء كفّ الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها. وروى عبد الله بن أبي هلال قال: كتب عمر بن عبد العزيز في المحابيس: لا يُقَيَّدُ أحد بقيد يمنع من تمام الصلاة. وروى عمر بن عليّ قال: سمعتُ أبا سعيد مولى لثقيف قال: أوّل كتاب قرأه عبد الحميد من عمر بن عبد العزيز كتاب فيه سَطَر: أمّا بعد فما بقاء الإنسان بعد وسوسة شيطان وجَوْر سلطان، فإذا أتاك كتابي هذا فأعطِ كل ذي حقٍّ حقّه والسلام. وروى عمرو بن قيس أنّ عمر بن عبد العزيز بعثه على الصائفة فقال له: يا عمرو لا تكن أول الناس فتُقْتَلَ فينهزم أصحابك ولا تكن آخرهم فتثبّطهم وتجبّنهم، ولكن كن وسطهم حيث يرون مكانك ويسمعون كلامك، وفادِ من قدرت عليه من المسلمين وأرقّائهم وأهل ذمّتهم.
وروى خالد الحذاء قال: كان عمر بن عبد العزيز لا يبسط وسائد العامّة للخاصة ولا يُسْرِجُ سراج العامّة للخاصة، وكان لا يأكل من طعام الخاصة فقيل له: إنّك إذا أمسكت بيدك أمسك الناس بأيديهم، فأمر بثلاثة دراهم أو أربعة دراهم فأُلْقيت في الطعام فجعل يأكل معهم. وروى يحيَى بن سعيد قال: كتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز: إنّه رُفع إليَّ رجل يسبّك، وربّما قال حمّاد: يشتمك، فهممتُ أن أضرب عنقه فحبستُه وكتبتُ إليك لأَستَطلع في ذلك رأيك، فكتب إليه: أما إنّك لو قتلته لأقدتُك به، إنّه لا يُقْتَل أحد بسَبّ أحد إلا من سَبّ النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فاسْببه إن شئت أو خلِّ سبيله.
وروى مزاحم بن زُفَر قال: قدمتُ على عمر بن عبد العزيز في وفد أهل الكوفة فيسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا، ثمّ قال: خمسٌ إن أخطأ القاضي منهنّ خصلةً كانت فيه وَصْمة: أن يكون فهيمًا، وأن يكون حليمًا، وأن يكون عفيفًا، وأن يكون صليبًا، وأن يكون عالمًا يسأل عمّا لا يعلم. وروى سُهيل الأعشى قال: قُرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز بأرض الروم يأمر والينا بنصب المنجنيق على الحصن وسالم بن عبد الله إلى جنبي يسمع الكتاب فلم يُنْكره. وروى سُهيل بن أبي سُهيل قال: سمعت رجاء بن حَيْوَة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثيابًا خُضْرًا من خزّ ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة يصلّي بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وُعِك، فلمّا ثَقُل كتب كتابًا عَهِده إلى ابنه أيّوب، وهو غلام لم يبلغ، فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنّه ممّا يُحْفَظُ به الخليفة في قبره أن يَسْتَخلِفَ الرجل الصالح، وقال سليمان: كتابٌ أستخيرُ الله فيه وأنظر ولم أعزم عليه، فمكث يومًا أو يومين ثمّ خَرّقه ثمّ دعاني فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب بقُسْطَنْطينية، وأنتَ لا تدري أحيّ هو أم ميت، قال: يا رجاء فمن ترى؟ قال: فقلت: رأيك ــ يا أمير المؤمنين ــ وأنا أريد أن أنظر من يذكر، فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلتُ أعلمه والله فاضلًا خيارًا مسلمًا، فقال: هو على ذلك، والله لئن وَلَّيْتُه ولم أوَلّ أحدًا من ولد عبد الملك لتكوننّ فتنة، ولا يتركونه أبدًا يلي عليهم إلاّ أن أجعل أحدهم بعده ــ ويزيد بن عبد الملك يومئذٍ غائب على الموسم ــ قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإنّ ذلك ممّا يسكّنهم ويرضون به، قلت: رأيك، قال فكتب بيده: {بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني ولّيته الخلافة من بعدي ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا واتّقوا الله ولا تختلفوا فَيُطْمَعَ فيكم"، وختم الكتاب، وأرسل إلى كعب بن حَامِز صاحب شُرَطه أنْ مُرْ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب فجمعهم ثمّ قال سليمان لرجاء بعد اجتماعهم: اذْهب بكتابي هذا إليهم فأخبْرهم أنّه كتابي، ومُرْهم فليبايعوا من ولّيتُ قال: ففعل رجاء، فلمّا قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه، وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين، قال: نعم، فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب، وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة، هذا عَهْدي، فاسْمعوا، وأطيعوا، وبايعوا لمن سمّيتُ في هذا الكتاب، قال فبايعوه رجلًا رجلًا، قال ثمّ خرج بالكتاب مختومًا في يد رجاء، قال رجاء: فلمّا تفرّقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المِقْدام إنّ سليمان كانت لي به حُرْمة ومودّة، وكان بي بَرًّا مُلْطِفًا فأنا أخشى أن يكون قد أسند إليّ من هذا الأمر شيئًا فأنْشدك الله وحُرْمتي ومودّتي إلاّ علمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعةَ، فقال رجاء: لا والله ما أنا بمخبرك حرفًا واحدًا! قال: فذهب عمر غَضْبَان، قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء إنّ لي بك حرمة ومودّة قديمة وعندي شكر، فأعلمْني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إليّ علمت وإن كان إلى غيري تكلّمتُ، فليس مثلي قُصّر به، ولا نُحِّيَ عنه هذا الأمر، فَأَعْلِمْني، فلك الله أَلاّ أذكرَ اسمَك أبدًا، قال رجاء: فأبيتُ وقلتُ: لا والله لا أخبرك حرفًا واحدًا ممّا أَسَرَّ إليّ، فانصرف هشام وهو مُؤْيَسٌ وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو يقول: فإلى من إذًا نُحّيَتْ عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فوالله إني لعَين بني عبد الملك، قال رجاء: ودخلتُ على سليمان بن عبد الملك فإذا هو يموت، قال فجعلتُ إذا أخذتْه سكرة من سكرات الموت حَرَفْتُه إلى القبلة فجعل يقول وهو يفأق: لم يَأْنِ لذلك بعدُ، يا رجاء، حتى فعلتُ ذلك مرّتين، فلمّا كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء إن كنت تريد شيئًا، أشهدُ أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. قال فحرفتُه ومات، فلمّا أغمضتُه سجّيتُه بقَطيفة خضراء، وأغلقتُ الباب وأرسلتْ إليّ زوجته تنظر إليه كيف أصبح؟ فقلت: نام وقد تغطّى، فنظر الرسول إليه مغطّى بالقطيفة فرجع فأخبرها فقبلتْ ذلك وظنّت أنّه نائم، قال رجاء: وأَجْلَسْتُ على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يُُدْخَل على الخليفة أحدًا، قال: فخرجتُ فأرسلت إلى كعب بن حامز العَنْسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابِق، فقلت: بايِعوا، قالوا: قد بايعنا مرّة ونبايع أخرى! قلت: هذا أمر أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به ومن سُمّي في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية رجلًا رجلًا، قال رجاء: فلمّا بايعوا بعد موت سليمان رأيتُ أني قد أحكمتُ الأمر، قلت قوموا إلى صاحبكم فقد مات، قالوا: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [سورة البقرة: 156] وقرأتُ عليهم الكتابَ، فلمّا انتهيتُ إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبدًا، قال: قلت: أضربُ والله عنقك، قم فبايعْ، فقام يجرّ رجليه، قال رجاء: وأخذتُ بِضَبْعَيْ عمر فأجلستُه على المنبر وهو يسترجع لما وقع فيه وهشام يسترجع لما أَخطأه، فلمّا انتهَى هشام إلى عمر قال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أيّ حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، قال: فقال عمر: نعم فإنّا للهِ وَإنّا إلَيْهِ راجِعونَ، حين صار إليّ لكراهتي له، قال وغُسّل سليمان وكُفّن وصلّى عليه عمر بن عبد العزيز. قال رجاء: فلمّا فُرغ من دفنه أُتي بمراكب الخلافة البراذين والخيل والبغال ولكلّ دابّة سائس فقال: ما هذا؟ فقالوا: مراكب الخلافة، فقال عمر: دابّتي أوفقُ لي، فركب بغلته وصُرفت تلك الدّوابّ ثمّ أقبل فقيل: تنزل منزل الخلافة، فقال: فيه عيالُ أبي أيّوب وفي فسطاطي كفايةٌ حتى يتحوّلوا، فأقام في منزله حتى فرّغوه بعدُ، قال رجاء: فلمّا كان مُسْيُ ذلك اليوم قال: يا رجاء ادْعُ لي كاتبًا، فدعوتُه وقد رأيتُ منه كلّ ما يسرّني، صَنَع في المراكب ما صنع، وفي منزل سليمان، فقلتُ فكيف يصنع الآن في الكُتّاب؟ أيضعُ نُسَخًا أم ماذا؟ قال: فلمّا جلس الكاتب أملى عليه كتابًا واحدًا من فيه إلى يد الكاتب بغير نسخة، فأملى أحسن إملاء وأبلغه وأوجزه، ثمّ أمر بذلك الكتاب فَنُسِخ إلى كلّ بلد، وبلغ عبد العزيز بن الوليد، وكان غائبًا، موتُ سليمان بن عبد الملك ولم يعلم بمبايعة الناس عمر وعهد سليمان إليه فبايع من معه لنفسه ثمّ أقبل يريد دمشق يأخذها فبلغه أنّ عمر بن عبد العزيز قد بايعوا له بعد سليمان بعهد من سليمان، فأقبل حتى دخل على عمر بن عبد العزيز، فقال له عمر بن عبد العزيز: قد بلغني أنّك كنتَ بايعتَ من قِبَلكَ وأردتَ دخول دمشق، فقال: قد كان ذلك، وذلك أنّه لم يبلغني أنّ الخليفة كان عقد لأحد، ففَرِقْتُ على الأموال أن تُنْهَب، فقال عمر: والله لو بويعتَ وقمت َبالأمر ما نازعتُك ذلك ولقعدتُ في بيتي، فقال عبد العزيز: ما أحِبّ أنّه ولي هذا الأمر غيرك، وبايع عمر بن عبد العزيز.
وروى يعقوب بن داود الثقفي، عن أشياخ من ثقيف قال: قُرئ عهد عمر بعد وفاة سليمان بالخلافة وعمر ناحيةً وهو بدابق، فقام رجل من ثقيف يقال له سالم من أخوال عمر، فأخذ بضبعه فأقامه فقال عمر: أما واللهِ ما الله أردتَ بهذا ولن تصيب بها مني دنيا. وروى خالد بن بِشْر عن أبيه قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز خطب الناس وفُرش له فنزل وترك الفَرْش وجلس ناحيةً، فقيل: لو تحوّلتَ إلى حُجْرة سليمان، فتمثّل:
فلَوْلا التّقى ثمّ النّهى خَشيَـة
الـرَدى لَعاصَيتُ في حبّ الصِّبا كلّ زاجرِ
قضى ما قضى فيما مضى ثمّ لا تَرى له صَبْوَةً أُخرى اللّيالـي الغوابـرِ
وروى سيّار أبي الحكم قال: كان أوّل ما أُنْكِر من عمر بن عبد العزيز أنّه لما دَفَن سليمان بن عبد الملك أُتي بدابّة سليمان التي كان يركب فلم يركبها وركب دابّته التي جاء عليها، فدخل القصر وقد مُهّدت له فُرُش سليمان التي كان يجلس عليها فلم يجلس عليها، ثمّ خرج إلى المسجد فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعدُ فإنّه ليس بعد نبيّكم نبيّ ولا بعد الكتاب الذي أُنزل عليه كتاب، ألا إنّ ما أحلّ الله حلال إلى يوم القيامة وما حرّم الله حرام إلى يوم القيامة، ألا إني لستُ بقاضٍ ولكني منفّذ، ألاّ إني لستُ بمبتدع ولكني متّبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لستُ بخيركم ولكني رجل منكم غير أنّ الله جعلني أثقلكم حملًا، ثمّ ذكر حاجته. وروى إسماعيل بن إبراهيم ــ كاتب كان لزياد بن عبيد الله، عن أبيه قال: لما انصرف عمر عن قبر سليمان قال: إذا دوابّ سليمان قد عُرضت له، قال: فكشّر ثمّ أشار إلى بُغيلة شهباء فأُتي بها فركبها، قال: فانصرف فإذا فُرُش سليمان في منزله، قال: فقال: لقد عجلتم، ثمّ تناول وسادةً أرْمنيّة فطرحها بينه وبين الأرض، قال ثم قال: أما والله لولا أني في حوائج المسلمين ما جلستُ عليك.
وروى المنذر بن عُبيد قال: ولي عمر بن عبد العزيز بعد صلاة الجمعة فأنْكرتُ حاله في العصر. وروى عبد الرحمن بن أَبِي الزِّناد، عن أبيه قال: كان سليمان بن عبد الملك قد ولّى أبا بكر بن محمد بن حزم المدينة، فلمّا توفّي سليمان وولي عمر بن عبد العزيز الخلافة أمّره على المدينة فاستقضى أبا طُوالة، وولّى الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطّاب، وضم إليه أبا الزناد كاتبًا فكان على حربها وخراجها حتى توفّي عمر، واستقضى عامرًا الشعبي، وولّى البصرة عدي بن أرْطأة فاستقضى الحسن بن أبي الحسن ثم استعفاه فأعفاه، وولّى اليمن عُروة بن محمد بن عَطيّة السعدي، وولّى الجزيرة عدي بن عدي الكِنْدي، وولّى إِفريقيّة إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر حتى توفّي وهو عليها، وولّى دمشق محمد بن سُويد الفِهْري، وولّى خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي.
وروى سليمان بن موسى قال: ما زال عمر بن عبد العزيز يرد المظالم منذ يوم استُخلف إلى يوم مات. وروى عبد المجيد بن سُهيل قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز بدأ بأهل بيته فرد ما كان بأيديهم من المظالم، ثم فعل بالناس بعد. قال: يقول عمر بن الوليد جئتم برجلٍ من ولد عمر بن الخطّاب فولّيتموه عليكم ففعل هذا بكم، قال أبو بكر بن أبي سَبْرة: لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إّنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي، فنظر إلى ما في يديه من أرض أو متاع فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتمٍ فقال: هذا ممّا كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه ممّا جاءه من أرض المغرب، فخرج منه.
وروى إسحاق بن عبد الله قال: ما زال عمر بن عبد العزيز يرد المظالم من لدن معاوية إلى أن استخلف، أخرج من أيدي ورثة معاوية ويزيد بن معاوية حقوقًا. وروى أيّوب السّخْتِياني أن عمر بن عبد العزيز رد مظالم في بيوت الأموال فرد ما كان في بيت المال وأمر أن يزكّى لما غاب عن أهله من السنين، ثم عقّب بكتاب آخر: إني نظرت فإذا هو ضِمار لا يزكّى إلا لسنة واحدة. وروى عبد الرحمن بن أبي الزِّناد، عن أبيه قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز بالعراق في رد المظالم إلى أهلها فرددناها حتى أنفدنا ما في بيت مال العراق، وحتى حمل إلينا عمر المال من الشأم، قال أبو الزّناد: وكان عمر يردّ المظالم إلى أهلها بغير البيّنة القاطعة، كان يكتفي بأيْسَر ذلك، إذا عرف وجهًا من مظلمة الرجل ردّها عليه ولم يكلّفه تحقيق البيّنة لما كان يعرف من غَشْم الوُلاة.
وروى إبراهيم بن جعفر، عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم كتابٌ من عمر إلاّ فيه ردّ مظلمة أو إحياء سنّة أو إطفاء بدعة أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خيرٌ، حتى خرج من الدنيا. وعن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز أن اسْتَبْرِىء الدواوين فانْظر إلى كلّ جور جاره مَنْ قبلي من حقّ مسلم أو معاهد فرُدّه عليه، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادْفعه إلى ورثتهم. وروى موسى بن عُبيدة قال: سمعتُ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم: وإيّاك والجلوس في بيتك، اخرج للناس فآسِ بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكن أحد من الناس آثَرَ عندك من أحد، ولا تقولَنّ هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإنّ أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظنّ بأهل بيت أمير المؤمنين أنّهم يقهرون من نازعهم، وإذا أشكل عليك شيء فاكتب إليّ فيه.
وروى حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: فلو كان كلّ بدعة يميتُها الله على يدي وكلّ سنّة ينعشها الله على يدي ببضعةٍ من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرًا. وروى حمّاد بن أبي سليمان أنّ عمر بن عبد العزيز قام في مسجد دمشق ثمّ نادى بأعلى صوته: لا طاعة لنا في معصية الله. وروى عبد الله بن يونس، عن سيّار قال: كان عمر بن عبد العزيز يقول للناس: الحقوا ببلادكم فإني أذكركم أمصاركم وأنساكم عندي إلا من ظلمه عامل فليس عليه مني إذْنٌ فليأتني. وروى عبد الله بن واقد قال: إنّ آخر خطبةٍ خطبها عمر بن عبد العزيز حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيها الناس الحقوا ببلادكم فإني أذكركم في بلادكم وأنساكم عندي، ألا وإني قد استعملت عليكم رجالًا لا أقول هم خياركم ولكنّهم خير ممّن هو شرّ منهم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذْنَ له عليّ، والله لئن منعتُ هذا المال نفسي وأهلي ثمّ بخلتُ به عليكم إني إذًا لضنين، والله لولا أن أنعِشَ سُنَّةً أَوْ أَسِيرَ بحقٍّ ما أحببتُ أن أَعِيشَ فُواقًا. وروى إسماعيل بن أبي حكيم قال: أتَى عمرَ بن عبد العزيز كتاب من بعض بني مروان فأغضبه، فاستشاط غضبًا ثمّ قال: إنّ لله في بني مَرْوان ذبحًا وايمُ الله لئن كان ذاك الذبح على يديّ، فلمّا بلغهم ذلك كفّوا وكانوا يعلمون صرامته وأنّه إن وقع في أمر مضى فيه. وعن أبي عمرو الباهلي قال: جاء بنو مروان إلى عمر فقالوا: إنّك قصّرت بنا عمّا كان يصنعه بنا مَنْ قبلك، وعاتبوه فقال: لئن عدتم لمثل هذا المجلس لأشدّنّ ركابي ثمّ لأقدمنّ المدينة ولأجعلنّها أو أصيّرها شورى، أما إني أعرف صاحبها الأُعَيْمِش ــ يعني القاسم بن محمد بن أبي بكر الصدّيق.
وروى أفلح بن حُميد قال: سمعتُ القاسم بن محمد يقول: اليوم ينطق كلّ من كان لا ينطق، وإّنا لنرجو لسليمان بتوليته لعمر بن عبد العزيز، وقال عمر بن عبد العزيز عند الموت: لو كان لي من الأمر شيء ما عدوتُ بها القاسم بن محمد، فبلغَت القاسم بن محمد فرحّم عليه وقال: إنّ القاسم ليضعف عن أُهَيْلِه فكيف يقوم بأمر أمّة محمد!. وفي رواية: قال عمر بن عبد العزيز: لو كان إليّ من الأمر شيء ما عدوتُ به القاسم بن محمد وصاحب الأعْوَص إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص. قال محمد بن عمر: وكان إسماعيل بن عمرو عابدًا منقطعًا قد اعتزل فنزل الأعوص. وروى سلمة بن عثمان القُرَشي قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز لما استُخلف نظر إلى ما كان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غِنًى فبلغ ثلاثةً وعشرين ألف دينار فجعله في السبيل.
وروى عبد الرحمن بن عبد العزيز قال: أخبرني ابن لعمر بن عبد العزيز أنّه أخبره خادم عمر بن عبد العزيز أنّه لم يتملأ من طعام من يوم ولي حتى مات. وروى محمد بن قيس قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز وضع المكس عن كل أرض ووضع الجزية عن كل مسلم. وروى زُفَر بن محمد بن إسماعيل بن أبي حكيم عن عمر بن عبد العزيز أنّه لما استُخلف أباح الأحْماء كلّها إلا النّقيع. وروى يحيَى بن واضح قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن تُعْمَل الخانات بطريق خراسان. وروى عمرو بن عثمان بن هانئ قال: حضرتُ قسمتين قسمهما عمر بن عبد العزيز على جميع الناس كلّهم سوّى بينهم. وروى عمرو بن عثمان ومحمد بن هلال قالا: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم أن افْرض للناس إلا لتاجر. وقال ربيعة بن عطاء بن يعقوب مولى بن سِباع الخُزاعي: جلستُ إلى سليمان بن يسار فذكرتُ له كتاب أبي بكر بن حزم الذي جاءه من عمر بن عبد العزيز أن لا يفرض لتاجر فقال: أصاب عمر، التاجر مشغول بتجارته عمّا يُصْلح المسلمين. وروى محمد بن هلال، عن عمر بن عبد العزيز أنّه فرض لرجال ألفين ألفين شَرَف العطاء.
وروى غسّان بن عبد الحميد عن أبيه قال: أخرج عمر بن عبد العزيز ثلاثة أعطيةٍ لأهل المدينة في سنتين وخمسة أشهر إلا عشر ليال، يرحمه الله. وقال إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله: جرى على يدي لقومي في خلافة عمر بن عبد العزيز ثلاثة أعطية وقسمان للناس عامّان، فرحمه الله. وروى ثابت بن قيس قال: سمعتُ كتاب عمر بن عبد العزيز يُقرأ علينا: ارْفعوا كل منفوس نفرض له ارفعوا موتاكم فإنّما هو مالكم نردّه عليكم. وروى محمد بن عمر قال: حدّثني أبي قال: ذهبتْ بي حاضنتي إلى أبي بكر بن حزم فوضع في يدي دينارًا وأنا منفوس، ووُلدتُ سنة المائة، ثم كان قابل فأُعْطينا دينارًا آخر فكانا دينارين، قال وبه سُمّيتُ، وقال محمد بن عمر: حدّثني عمّي الهَيْثَم بن واقد قال: وُلدتُ سنة سبع وتسعين فاستُخلف عمر وأنا بن ثلاث سنين فأصبتُ من قَسْمه ثلاثة دنانير. وروى محمد بن هلال قال: سوّى عمر بن عبد العزيز بين الناس في طعام الجار، وكان أكثرَ ما يكون طعامُ الجارِ أربعةُ أرداب ونصف لكلّ إنسان. وروى أفلح بن حُميد قال: إنّما سوّى عمر بن عبد العزيز بين من فرض له من طعام الجار وأمّا من كان له شيء قبل ذلك فإنّه كان يأخذه، وقد فضّل عمر بن الخطّاب بين الناس في طعام الجار. وقال إبراهيم بن يحيَى: كان لي في طعام الجار عشرون إردبًّا فلمّا استُخلف عمر أُقِرّتْ وسَوّى بين من فرض له من أهل بيتي.
وروى إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: رأيتُ أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم يعمل بالليل كعمله بالنهار لاستحثاث عمر إيّاه. وروى محمد بن قيس قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز إذا صلّى العشاء دعا بشمعةٍ من مال الله ليكتب في أمر المسلمين والمظالم فتُرَدّ في كلّ أرض، فإذا أصبح جلس في ردّ المظالم وأمر بالصدقات أن تُقْسَم في أهلها،فلقد رأيتُ من يُتَصَدَّق عليه، في العام القابل له إبل فيها صدقة. وروى مهاجر بن يزيد قال: بعثَنا عمر بن عبد العزيز فقسمْنا الصدقة فيهم، فلقد رأيتُنا وإنّا لَنُصَدِّق مِنَ العامِ القابل من كان يُتَصَدَّقُ عليه، ولقد كنت أراه يكتب إلى أهله أو في الحاجة تكون له في خاصّة نفسه فيأمر بالشمعة فتُنَحّى ويأمر بشمعة أُخرى، ولقد كنتُ أراه يغسل ثيابه فما يخرج إلينا وما له غيرها، وما أحدث بنا، ولقد رأيتُ عتبة له خَرِبت فكُلّم في إصلاحها ثمّ قال: يا مزاحم هل لك أن نتركها فنخرج من الدنيا ولم نُحْدِثْ شيئًا؟ قال وحرّم الطّلاء في كلّ أرض.
وروى عبد الله بن العلاء بن زَبْر قال: قلتُ لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين عُصّبَتْ سنوات إني كنتُ في العُصاة وحُرمت عطائي، قال: فردّ عليّ عطائي وأمر أن يُخْرَج لي ما مضى من السنين. وروى خُليد بن دَعْلَج قال: لما استُخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى الحسن وابن سيرين يقول لهما: أردّ عليكما ما حُبس عنكما من أعطيتكما، فقال ابن سيرين: إن فُعل ذلك بأهل البصرة فعلتُ وأمّا غير ذلك فلا، فكتب عمر: إنّ المال لا يسع قال: وقبل الحسن. وروى إبراهيم بن يحيَى أنّ عمر بن عبد العزيز كتب أن يُعْطَى خارجة بن زيد ما قُطع عنه من الديوان، فمشى خارجة إلى أبي بكر بن حزم فقال: إني أكره أن يلزم أمير المؤمنين من هذا مقالة، ولي نظراء، فإنْ أمير المؤمنين عمّهم بهذا فعلتُ وإن هو خصّني به فإني أكره ذلك له، فكتب عمر: لا يسع المال ذلك ولو وسعه لفعلتُ. وروى يحيّى بن خالد بن دينار، عن أبي بكر بن حَزْم قال: كنّا نخرّج ديوان أهل السجون فيخرجون إلى أعطيتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز، وكتب إليّ: من كان غائبًا قريب الغيبة فأعْطِ أهل ديوانه ومن كان منقطع الغيبة فاعْزل عطاءه إلى أن يقدم أو يأتي نَعِيّه أو يوكّل عندك بوكالةٍ ببيّنة على حياته فادْفعه إلى وكيله.
وروى عيسى بن أبي عطاء قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز قضى عن غَارِم خمسةً وسبعين دينارًا من سهْم الغارمين. ووفد عاصم بن عمر بن قتادة وبَشير بن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربّه على عمر بن عبد العزيز في خلافته فدخلا عليه بخُناصرة فذكرا دَيْنًا عليهما، فقضى عن كل واحد منهما أربعمائة دينار، فخرج الصكّ يُعْطَيان من صدقة كلب ممّا عُزل في بيت المال، قال محمد بن عمر: وكان ذلك العزل قُدم به لم يوجد أحد منهم يُقضى عنه دَيْن فأُدْخل فضلُه بيت المال عزلًا لأن يُقضى به عن الدُّيّان فهذا وجهه. وقدم القاسم بن مُخَيْمرة على عمر بن عبد العزيز فسأله قضاء دَيْنه فقال عمر: كم دَيْنُك؟ قال: تسعون دينارًا، قال: قد قضيناه عنك من سهم الغارمين، قال: يا أمير المؤمنين أغْنِني عن التجارة، قال: بماذا؟ قال: بفريضة. قال: قد فرضتُ لك في ستّين وأمرنا لك بمسكن وخادم، فكان القاسم بن مخيمرة يقول: الحمد لله الذي أغناني التجارة، إني لأغلق بابي فما يكون لي خلفه همّ. وقال أبو عُفَيْر محمد بن سهل بن أبي حَثْمة: قضى عني عمر بن عبد العزيز وهو خليفة خمسين ومائتي دينار من صدقات بَني كلاب وكتب بها.
وروى طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصّدّيق أنه قال يومًا: إنّ عُمر بن عبد العزيز لم يزل رأيُه والذي يشير به على من ولي هذا الأمر من أهل بيته توفير هذا الخُمس على أهله، فكانوا لا يفعلون ذلك، فلمّا ولي الخلافة نظر فيه فوضعه في مواضعه الخمسة وآثر به أهل الحاجة من الأخماس حيث كانوا، فإن كانت الحاجة سواء وسّع في ذلك بقدر ما يبلغ الخُمس. وروى المهاجر بن يزيد أنّه رأى عمر بن عبد العزيز يُقْدَم عليه بالسّبي من الأخماس فربما رأيتُه يضعهم في الصنف الواحد، قال وسألتُ عمر بن عبد العزيز عن هذا الماء الذي يوضع في الطريق يُتصدّق به أشربُ منه؟ قال: نعم لا بأس بذلك، قد رأيتني وأنا والٍ بالمدينة وللمسجد ماء يُتصدّق به، فما رأيتُ أحدًا من أهل الفقه يزع عن ذلك الماء أن يُشْرب منه.
وروى عيسى بن أبي عطاء ــ رجل من أهل الشام كان على ديوان أهل المدينة، عن عمر بن عبد العزيز أنّه ربّما أعطى المال مَنْ يُسْتألف على الإسلام. وروى ابن أبي سَبرة، عن رجل أخبره عن عمر بن عبد العزيز أنّه أعطى بِطْريقًا ألف دينار استألفه على الإسلام. وفدى عمر بن عبد العزيز رجلًا من العدوّ ردّه بمائة ألف درهم. وروى عمرو بن المهاجر، عن عمر بن عبد العزيز أنّه لم يجعل الضيافة على أهل المُدُن. وروى عمرو بن عثمان، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب: لا ينفّل الإمام أكثر من الثّلْث. وروى عمرو بن ميمون، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب: ألحِقوا البراذين بالخيل. وكتب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة إلى عمّاله في الآفاق أن لا يفرضوا لابن أربع عشرة سنة في القتال ويفرضوا لابن خمس عشرة سنة في المقاتلة. وروى محمد بن بشر بن حُميد قال: سمعتُ أبي يقول: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يكتب إلى وُلاته حين أخرج العطاء: لا يُقْبَل من رجل له مائة دينار إلا فرس عربي ودرع وسيف ورمح ونبل. وروى ربيعة بن عطاء، عن عمر بن عبد العزيز قال: يُسْتَتاب المرتدّ ثلاثة أيّامٍ فإن تاب وإلا ضربت عنقه. وروى ابن أبي الزناد، عن أبيه عن عمر بن عبد العزيزقال: السلطان مخيّر في قوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [سورة المائدة: 33]. وقال عمر بن عبد العزيز: ليس في المصر محاربة. وروى عثمان بن سليمان قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز وهو خليفة يقول: شَيْئان ليس لأهلهما فيهما جوازُ أمرٍ ولا لوالٍ إنّما هما لله يقوم بهما الوالي: مَنْ قُتل عدوانًا وفسادًا في الأرض ومن قُتل غيلة.
ولما قدم عمر بن عبد العزيز المدينة واليًا عليها كتب حاجِبُه الناسَ ثمّ دخلوا فسلّموا عليه، فلمّا صلّى الظهر دعا عشرة نفر من فقهاء البلد: عُرْوة بن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وأبا بكر بن سليمان بن أبي حثمة، وسليمان بن يَسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد بن ثابت، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثمّ قال: إني دعوتكم لأمر تُؤجَرون عليه وتكونون فيه أعوانًا على الحقّ، ما أريد أن أقطع أمرًا إلاّ برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحدًا يتعدّى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأُحَرّج بالِله على أحدٍ بلغه ذلك إلاّ أبلغني، فَجَزَوْه خيرًا وافترقوا. وقال حجّاج الصوّاف: أمرني عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة أن أشتري له ثيابًا فاشتريت له ثيابًا فكان فيها ثوب باربعمائة، فقطعه قميصًا ثمّ لمسه بيده فقال: ما أخشنه وأغلظه! ثمّ أمر بشراء ثوبٍ له وهو خليفة فاشتروه بأربعة عشر درهمًا فلمسه بيده فقال: سبحان الله ما ألْيَنَه وأدَقّه!. وكان عمر بن عبد العزيز من أعطر قريش وألبسها، فلمّا استُخلف كان من أخسّهم ثوبًا وأجشبهم عيشًا وقدم الفضول. وروى عبد العزيز بن عمر عن أبيه أنّه كان يعرض الخيل في خلافته. وروى سهل بن شُعَيْب أنّ ربيعة الشّعْوَذي حدّثهم قال: ركبتُ البريد إلى عمر بن عبد العزيز فانقطع في بعض أرض الشأم فركبت السّخْرة حتى أتيته وهو بخُناصرة فقال: ما فعل جناح المسلمين؟ قال: قلت: وما جناح المسلمين يا أمير المؤمنين؟ قال: البريد، قال: قلت: انقطع في أرض أو مكان كذا وكذا، قال: فعلى أيّ شيء أتيتَنا؟ قال: قلت: على السّخرة تسخّرتُ دوابّ النبط، قال: تسخّرون في سلطاني؟ قال: فأمر بي فضُربتُ أربعين سوطًا، رحمه الله. وروى أبو العلاء بيّاع المشاجب قال: قُرئ علينا كتاب عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانةٌ لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوّج امرأة فلم يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله، والنبيذُ حلال فاشْربوه في السُّعْن، قال: فشربه الناس أجمعون، قال أبو العلاء: فكان إذا كان عُرْس جعلوا سُعْنًا يسع عشر خوابئ. وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز: إنّ هاهنا ألف رأس كان للحجّاج، أو عند الحجّاج، فكتب إليه عمر أن بِعْهم واقْسم أثمانهم في أهل الكوفة، فقال للناس: ارْفعوا، أي اكْتبوا، فأدغلوا وكتبوا الباطل، فكتب إلى عمر: إنّ الناس قد أدغلوا، فكتب إليه عمر نولّيهم من ذلك ما ولاّنا الله، أعْطِهم على ما رفعوا، فأصاب الناسَ سبعةُ دراهم سبعةُ دراهم، وكان كل يوم يجيء خير من عمر بن عبد العزيز.
وروى الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى صاحب بيت الضرب بدمشق: إنّ من أتاك من فقراء المسلمين بدينار ناقص فأبْدِلْه له بوازن. وروى الوليد بن مسلم، عن ابن ثَوْبان أنّ عمر بن عبد العزيز أخذ الصدقة من حقّها وأعطاها في حقّها، وأعطى العاملين بقدر عُمالتهم عليها مثل ما يعطى مثلهم وقال: الحمد لله الذي لم يُمِتْني حتى أقمتُ فريضة من فرائضه. وروى عمرو بن مهاجر أنّ عمر بن عبد العزيز كان يقول: كلّ واعظ قِبْلة. وجعل العرب والموالي في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء سواء غير أنّه جعل فريضة المولى المُعْتق خمسةً وعشرين دينارًا، وكان يقول: لو كنتُ أؤدّب الناس على شيء أضربهم عليه لضربتهم على القيام أول ما يأخذ المؤذّن في الإقامة ليعدّل الرجل مَنْ عن يمينه ومن عن يساره، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: ولا تركبنّ دابّة في الغزو إلا أضعفَ دابّة تُصيبُها في الجيش سَيْرًا، واستُؤمر في البَسْط على العُمّال فقال: يَلْقون الله بخيانتهم أحَبّ إليّ من أن ألقاه بدمائهم، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله: أمّا بعد فخَلّ بين أهل الأرض وبين بَيْع ما في أيديهم من أرض الخراج فإنّهم إنّما يبيعون فَيْءَ المسلمين والجزية الراتبة، ودخل عامل لعمر بن عبد العزيز عليه فقال: كم جمعتَ من الصدقة؟ فقال: كذا وكذا، قال: فكم جمع الذي كان قبلك؟ قال: كذا وكذا، فسمّى شيئًا أكثر من ذلك، فقال عمر: من أين ذاك؟ قال: يا أمير المؤمنين إنّه كان يُؤخَذ من الفرس دينار ومن الخادم دينار ومن الفدّان خمسة دراهم وإنّك طرحت ذلك كلّه، قال: لا والله ما ألقيتُه ولكنّ الله ألقاه. أخبرنا عبد الله بن جعفر قال: حدّثنا أبو المليح قال: كتب عمر بن عبد العزيز بإباحة الجزائر، وقال: إنّما هو شيء أنبته الله فليس أحد أحقّ به من أحد.
وروى أبو المليح قال: جاءت كتب عمر بن عبد العزيز بإحْياء السنّة وإماتة البِدَع، وإنّه ينبغي لكم أن يكون ظنّكم بي أن لا حاجة لي في أموالكم لا ما في يديّ ولا ما في أيديكم، إنّه حَرِيّ على من انتهك معاصي الله في عقوبته إيّاه. وروى فُرات بن مسلم قال: اشتهَى عمر بن عبد العزيز التفّاح فبعث إلى بيته فلم يجد شيئًا يشترون له به، فركب وركبنا معه فمرّ بدير فتلقّاه غلمان للديرانييّن معهم أطباق فيها تفّاح، فوقف على طبق منها فتناول تفّاحة فشمّها ثمّ أعادها إلى الطبق ثمّ قال: ادْخلوا ديركم، لا أعلمكم بعثتم إلى أحدٍ من أصحابي بشيء، قال فحرّكتُ بغلتي فلحقتُه فقلت: يا أمير المؤمنين اشتهيتَ التفّاح فلم يجدوه لك فَأُهْدِيَ لك فرددتَه، قال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر يقبلون الهديّة؟ قال: إنّها لأولئك هديّة وهي للعمّال بعدهم رشوة. وروى فُرات بن مسلم قال: كنتُ أعرض على عمر بن عبد العزيز كتبي في كلّ جمعة فعرضتُها عليه فأخذ منها قرطاسًا قدر شبر أو أربع أصابع بقي فكتب فيه حاجة له، فقلت: غفل أمير المؤمنين، فلمّا كان من الغد بعث إليّ أن تعالَ وجئ بكتبك، فجئته بها فبعثني في حاجة، فلمّا جئت قال: ما نال لنا أن ننظر في كتبك بعدُ، قلتُ: لا إنّما نظرتَ فيها أمس، قال: خُذْها حتى أبعث إليك، فلمّا فتحتُ كتبي وجدتُ فيها قرطاسًا قدر قرطاسي الذي أخذ. وعن مَعْمَر قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أمّا بعد فلا تُخرجنّ لأحدٍ من العمّال رزقًا في العامة والخاصّة فإنّه ليس لأحدٍ أن يأخذ رزقًا من مكانين في الخاصّة والعامّة، ومن كان أخذ من ذلك شيئًا فاقْبضه منه ثمّ أرْجِعْه إلى مكانه الذي قُبض منه والسلام. وعن معمر أنّ عمر بن عبد العزيز كتب: أمّا بعد فاستوصِ بمن في سجونك وأرضك خيرًا حتى لا تصيبهم ضيعة، وأقِمْ لهم ما يُصْلِحهم من الطعام والإدام.
وروى عبيد الله بن عمرو قال: كتب عمر بن عبد العزيز لا تخصّوني بشيء من الدعاء، ادْعوا للمؤمنين والمؤمنات عامّةً فإن أكن منهم أدخل فيهم. وروى أبو المليح قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إنّ إقامة الحدود عندي كإقامة الصلاة والزكاة. وروى جعفر بن بُرْقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إني ظننتُ إن جُعِل العمّال على الجسور والمعابر أن يأخذوا الصدقة على وجهها فتعدّى عمّال السوء غير ما أُمروا به، وقد رأيتُ أن أجعل في كلّ مدينةٍ رجلًا يأخذ الزكاة من أهلها، فخَلّوا سبل الناس في الجسور والمعابر. وروى يزيد بن الأصم قال: كنتُ جالسًا عند سليمان بن عبد الملك فجاء رجل يقال له أيّوب، وكان على جسر مَنْبِج، يحمل مالًا ممّا يُؤخذ على الجسر، فقال عمر بن عبد العزيز: هذا رجل مُتْرَف يحمل مال سوء، فلمّا قدم عمر خلّى سبيل الناس من الجسور والمعابر. وروى إسماعيل بن أبي حكيم قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز وهو خليفة يوم فطر دعا لنا بتمر من صدقة رسول الله فقال: كُلوا قبل أن تغدوا إلى العيد،فقلتُ لعمر: في هذا شيء يُؤثَر؟ فقال: نعم، أخبرني إبراهيم بن عبد الله بن قارظ عن أبي سعيد الخُدْري أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، كان لا يغدو يوم العيد حتى يَطْعم، أو قال: يأمر أن لا يغدو المرء حتى يَطْعم.(*).
وروى عَمْرو بن عثمان بن هانئ قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز بخُناصرة وهو خليفة خطب الناسَ قبل يوم الفطر بيوم وذلك يوم الجمعة، فذكر الزكاة فحضّ عليها وقال: على كلّ إنسانٍ صَاعٌ تمرً أومُدّان من حنطة، وقال إنّه لا صلاة لمن لا زكاة له، ثمّ قسمها يوم الفطر، قال وكان يُؤتى بالدقيق والسويق مُدّين مُدّين فيقبله. وروى يزيد بن أبي مالك قال: كان عمر بن عبد العزيز في خلافته أعجل الناس فطرًا، وكان يستحبّ تأخير السحور، وكان إذا شكّ في الفجر أمسك عن الطعام والشراب. وروى يحيَى بن سعيد، عن عمر بن عبد العزيز أنّه لما رأى الناس يحلفون بالقسامة بغير علم استحلفهم وجعلها ديةً، ودرأ عن القتل. وروى أيّوب أنّ قتيلًا قُتل بالبصرة فكتب سليمان بن عبد الملك أن استحلفوا خمسين رجلًا فإن حلفوا فَأَقِيدُوه، فلم يَسْتحلفوا ولم يقتلوه حتى مات سليمان واستُخلف عمر بن عبد العزيز، فكُتب إلى عمر بن عبد العزيز فيه فكتب: إن شهد ذَوا عدلٍ على قتله فَأَقِدْهُ وإلاّ فلا تُقِدْه بالقسامة. وروى عثمان البَتّيّ قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز في خلافته أن يعزَّر من حَلَفَ في القسامة بضعة عشر سَوْطًا.
وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في خلافته أن أجدّد أنصاب الحرم. وروى عبد الرحمن بن يزيد بن عقيلة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم واستعمله على الحجّ: إنّ أوّل عملك قبل التروية بيوم تصلّي بالناس الظهر، وآخر عملك أن تزيغ الشمس من آخر أيّام مِنًى، قال محمد بن عمر: فذلك الأمر عندنا. وروى عبد العزيز بن أبي روّاد قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز بمكّة سنة المائة ينهَى عن كِراء بيوت مكّة وأن لا يُبْنى بمِنًى بناء. وروى إسماعيل بن أميّة أنّ عمر بن عبد العزيز ينهَى عن كِراء بيوت مكّة. وروى عمرو بن عثمان قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يقول: المنصّف خمر. وروى هارون بن محمد، عن أبيه قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز بخُناصرة يأمر بزقاق الخمر أن تشقّق وبالقوارير أن تكسّر.
وروى هشام بن الغاز وسعيد بن عبد العزيز قالا: كتب عمر في خلافته أن لا يدخل أهل الذمّة بالخمر أمصار المسلمين فكانوا لا يُدْخِلونها. وروى عبد المجيد بن سُهيل قال: قدمتُ خُناصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز وإذا قوم في بيت أهل خمر وسَفَهٍ ظاهرٍ، فذكرتُ ذلك لصاحب شرطة عمر فقلت: إنّهم يجتمعون على الخمر إنّما هو حانوت، فقال: قد ذكرتُ ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال: من وارت البيوت فاتْركه. وروى عُبادة بن نُسَيّ قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز يضرب رجلًا حدًّا في خمر فخلع ثيابه ثم ضربه ثمانين رأيتُ منها ما بُضّع ومنها ما لم يبضّع، ثم قال: إنّك إن عدتَ الثانية ضربتُك ثم ألزمتُك الحبس حتى تُحْدث خيرًا، قال: يا أمير المؤمنين أتوب إلى الله أن أعود في هذا أبدًا، فتركه عمر. وروى محمد بن قيس قال: كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى والي مصر أن لا تزيد في عقوبة على ثلاثين ضَرْبَةً إلا أن يكون حدًّا. وروى صَخْر المُدْلجي، أن عمر بن عبد العزيز أُتي برجل وقع على بهيمة في خلافته فلم يحدّه وضربه دون الحد. وأُتي عمر بن عبد العزيز بخُناصرة في قوم وقعوا على جارية في طُهْرٍ واحد فأوجعهم عقوبة ودعا لولدها القافة.
وروى عمر بن عبد العزيز قال: إذا وقعت الشّفْعة وحُدّت الحدود وصُرفت الطرق فلا شفعة. وروى الزُّهْري قال: كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى عبد الحميد: لا يقضي بالجوار. وروى خالد الحذَّاء، عن عمر بن عبد العزيز أنّه قضى لذمّيّ بشفعته. وروى إسماعيل بن أبي حكيم قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز في خلافته يُحْلف الغائب ما بلغك فسكت فإن حلف أعطاه، يعني في الشفعة. وروى عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده أنّه كتب إلى عمر بن عبد العزيز وهو خليفة بكتابٍ فيه كتابٌ وخصوماتٌ وختمه، فخرج صاحبه به ولا شاهِدَ عليه فأجازه عمر بن عبد العزيز.
وروى موسى بن عُبيدة قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يُنْظَر في أمر السجون ويُسْتوثق من أهل الذعارات، وكتب لهم برزق الصيف والشتاء، قال موسى: فرأيتُهم ُيرْزَقون عندنا شهرًا بشهر ويُكْسون كسوة في الشتاء وكسوة في الصيف. وروى يحيَى بن سعيد مولى المَهْري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: وانْظُرُوا مَنْ في السجون ممّن قام عليه الحقّ فلا تَحْبِسْه حتى تُقيمه عليه، ومَنْ أَشكل أمْرُه فاكْتُب إليّ فيه، واستوثق من أهل الذعارات فإنّ الحبس لهم نكال، ولا تَعَدّ في العقوبة، ويعاهَد مريضهم ممّن لا أحد له ولا مال، وإذا حبست قومًا في دَيْن فلا تجمع بينهم وبين أهل الذعارات في بيت واحد ولا حبس واحد، واجْعل للنساء حبسًا على حدة، وانْظر من تجعل على حبسك ممّن تَثِق به ومن لا يرتشي فإنّ من ارتشى صنع ما أُمِر به.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد في أهل الذعارات أن يُلْزِمهم السجن ويكسوها طاقًا في الشتاء وثوبين في الصيف وكذا وكذا من مصلحتهم. وعن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: كتب إلىَّ عمر بن عبد العزيز أن احبْس أهل الذعارات في وثاقٍ وأهل الدم. فكتبتُ إليه أسأله: كيف يُصْلَوْنَ من الحديد؟ فكتب إلى عمر: لو شاء الله لابتلاهم بأشد من الحديد، يُصلون كيف تيسّر على أحدهم وهم في عُذْر، فأمّا الوثاق فإني وجدتُ أبا بكر، رحمه الله، كتب أن يُبْعَث إليه برجال في وثاق، منهم قيس بن مكشوح المُرادي وغيره.
وروى أسامة بن زيد قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز فقُرىء علينا: لا يُدْخَل الحمّام إلا بِمِئْزَر فلقد رأيتُ صاحب الحمّام يعاقب ويعاقب الذي يدخل، ورأيتُ كتاب عمر يُقْرأ: واستقبلوا بذبائحكم القبلة، قال: فالتفت إلى نافع ابن جُبير وأنا إلى جنبه فقال: ومن يجهل هذا!. وروى مَعْقِل بن عبيد الله قال: كتب عمر بن عبد العزيز: لا يدخل الحمّام من الرجال إلى بمئزر ولا يدخله النساء رَأسًا. وروى عبد الرحمن بن أَبِي الزِّنَاد، عن أبيه قال: خرجتْ حَروريّة بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز وأنا يومئذٍ بالعراق مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد عامل العراق، فلمّا انتهَى أمرهم إلى عمر كتب إلى عبد الحميد يأمره أن يدعوهم إلى العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه صَلَّى الله عليه وسلم، فلمّا أعْذر في دعائهم كتب إليه أنْ قاتلْهم فإن الله وله الحمد لم يجعل لهم سلفًا يحتجون به علينا، فبعث إليهم عبد الحميد جيشًا فهزمتْهم الحروريّة، فلمّا بلغ ذلك عمر بعث إليهم مَسْلَمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشأم وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعل جيشك جيش السوء، وقد بعثتُ إليك مسلمة بن عبد الملك فخَلِّ بينه وبينهم، فلقيهم مسلمة في أهل الشأم فلم ينشبوا هم أن أظْهَرَهُ الله عَلَيْهِمْ.
وروى عَوْن بن عبد الله بن عُتْبة قال: بعثني عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى الخوارج الذين خرجوا عليه فكلّمتهم فقلت: مالذي تنقمون عليه؟ قالوا: ما ننقم عليه إلا أنّه لا يلعن من كان قبله من أهل بيته فهذه مداهنة منه، فكف عمر عن قتالهم حتى أخذوا الأموال وقطعوا السبيل فكتب إليه عبد الحميد بذلك فكتب إليه عمر: أمّا إذا أخذوا الأموال وأخافوا السبيل فقاتِلوهم فإنّهم رِجْس. وروى عون بن عبد الله قال: كتب عمر بن عبد العزيز أن يُدْعى الخوارج. وروى خازم بن حسين قال: قرأتُ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله في الخوارج: فإن أظفرك الله بهم وأدالك عليهم فرُدّ ما أصبتَ من متاعهم إلى أهليهم. وروى المنذر بن عُبيد قال: حضرتُ كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن ابن زيد: ومَن أخذتَ من أُسراء الخوارج فاحْبِسْه حتى يُحْدِث خيرًا، قال: فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدّة. وروى كثير بن زيد قال: قدمتُ خُناصرة في خلافة عمر بن عبد العزيز فرأيته يرزق المؤذّنين من بيت المال، وقال المنذر: سمعتُ عمر بن عبد العزيز يقول لمؤذّنه: احْدر الإقامة حدرًا ولا ترجّع فيها.
وروى سليمان بن موسى قال: رأيتُ مُؤَذِّن عمر بن عبد العزيز وهو خليفة بخُناصرة يسلّم على بابه: السلام عليك أمير المؤمنين، ورحمة الله، فما يَقْضي سلامه حتى يخرج عمر إلى الصلاة. وعن أبي عُبيد مولى سليمان قال: رأيتُ المؤذّن يقف على باب عمر بخُناصرة فيقول: السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، الصلاةَ يرحمك الله، قال: فما رأيته قطّ انتظر الثاني، وربّما جلسنا معه في المسجد فإذا قال المؤذّن قد قامت الصلاة قال: قوموا، وما رأيتُ عمر بن عبد العزيز في خلافته في حلقة مستقبلي القبلة ومستدبريها فيؤذّنَ المؤذّن فيقوموا من حلقتهم حتى تقام الصلاة فيقوموا للإقامة، فرأيتُ ذلك في المغرب.
وروى محمد بن عمر قال: حدّثنا من سمع مسلم بن زياد مولى أمّ حبيبة زوج النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثة عشر مؤذّنًا مخافة أن يقطعوا قبل أن يخرج، قال مسلم: لم أرهم أذّنوا قطّ جميعًا إلاّ مرّة واحدة، وكان ربّما خرج في الأذان الأوّل، وربّما خرج في الثاني، وربّما خرج في الثالث. وروى حُصين، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب: إنْ أسْلَم والجزية في كفّة الميزان فلا تُؤخَذ منه. وروى المنذر بن عُبيد قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في الذمّيّ يغزو مع المسلمين فيُؤمن العدوّ، فكتب: لا يجوز أمانه، وقال: إنّما قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يُـُجيز على المسلمين أدناهم"، وهذا ليس بمسلم(*). وروى إسحاق بن يحيَى، عن عمر بن عبد العزيز أنّه سمعه وهو خليفة يتبرّأ من معرّة الجيش ويقول عمر: كان عمر بن الخطّاب يتبرّأ من معرّة الجيش.
وروى صَفْوان بن عمرو قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة إلى عامله أن لا تقتلنّ حصنًا من حصون الروم ولا جماعة من جماعاتهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فإن قبلوا فاكفف عنهم وإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فانْبذ إليهم على سواء. وروى خالد بن ربيعة، عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز: إذا دخلت الصائفة فلا تتركن أحدًا يدخل في أثرهم إلا في قوة وجماعة من الرجال والخيل والعُدَد. وعن ربيعة بن عطاء قال: كتب عمر بن عبد العزيز معي وبعث بمال إلى ساحل عَدَن أن أفْتدي الرجل والمرأة والعبد والذّمّي. وروى ربيعة بن عطاء عن عمر بن عبد العزيز أنّه أعطى برجلٍ من المسلمين عشرة من الروم وأخذ المسلم. وروى عبد الله بن عمرو بن الحارث من بني عامر بن لُؤي، عن عمر بن عبد العزيز أنّه أُتي بأسير أسره مَسْلَمَة بن عبد الملك وأن أهله سألوه أن يفتدوه بمائة مثقال فرده عمر إليهم وفداه بمائة مثقال.
وروى ربيعة بن عطاء، قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز وهو خليفة يكره قتل الأسرى، يُسْتَرقّون أو يُعْتَقون. وروى ابن لَهِيعَة قال: سمعتُ الربيع بن سَبْرة يقول: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله: أن لا تجعل قَريحًا في الترياق إلاّ حيّة ذكيّة. وروى عبد الرحمن بن حسن بن القاسم الأزرقي، عن أبيه، وكان خاله الجرّاح بن عبد الله الحكمي، أنّه كان عند عمر بن عبد العزيز ونفر من قريش يختصمون إليه فقضى بينهم، فقال المقضيّ عليه: أصلحك الله! إنّ لي بيّنة غائبة، فقال عمر إني لا أؤخّر القضاء بعد أن رأيتُ الحقّ لصاحبه، ولكن انطلقْ أنت فإن أتيتَني ببيّنة وحقّ هو أحقّ من حقّهم فأنا أوّل مَنْ رَدّ قضاءه على نفسه. وروى عبد الرحمن بن حسن، عن أبيه أنّ عمر بن عبد العزيز كتب وهو خليفة إلى عامله على خراسان الجرّاح بن عبد الله الحكمي يأمره أن يدعو أهل الجزية إلى الإسلام فإن أسلموا قَبِلَ إسلامهم ووضع الجزية عنهم، وكان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فقال له رجل من أشراف أهل خراسان: إنّه والله ما يدعوهم إلى الإسلام إلاّ أن توضع عنهم الجزية، فامتحنْهم بالختان، فقال: أنا أردّهم عن الإسلام بالختان؟ هم لو قد أسلموا فحسن إسلامهم كانوا إلى الطهرة أسرع، فأسلم على يده نحو من أربعة آلاف. وروى مجاهد قال: قدمتُ على عمر بن عبد العزيز فأعطاني ثلاثين درهمًا وقال: يا مجاهد هذه من عطائي.
وروى الوليد بن مسلم قال: سمعتُ محمد بن عْجَلان أنّ الولاة قبل عمر بن عبد العزيز كانوا يجْرون على إجْمار مسجد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، للجُمَع وتطييبه في شهر رمضان من العُشْر والصدقة، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز كتب بقَطْع ذلك وبمَحْوِ آثار ذلك الطيب من المسجد، قال ابن عجلان: فأنا رأيتهم يغسلون آثار ذلك الطيب بالماء والملاحف. وروى عُبيد بن الوليد قال: سمعتُ أبي يذكر أنّ عمر بن عبد العزيز كان يسخَّن له في المطبخ العامّة ماء يتوضّأ به وهو لا يعلم، ثمّ علم بعد ذلك فقال: كم لكم منذ أَسخنتموه؟ فقالوا: شهر أو نحوه، قال: فألقى في مطبخ العامّة لذلك حطبًا. وروى عُبيد بن الوليد، عن أبيه أنّ عمر بن عبد العزيز كان إذا سمر في أمر العامّة أسرج من بيت مال المسلمين، وإذا سمر في أمر نفسه أسرج من مال نفسه، قال: فبينا هو ذات ليلة إذ نعس السراج فقام إليه ليُصْلحه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنّا نكفيك، فقال: أنا عمر حين قمتُ وأنا عمر حين جلستُ. وروى أرطاة بن المنذر قال: كان عند عمر بن عبد العزيز نفر يسألونه أن يتحفّظ في طعامه ويسألونه أن يكون له حرس إذا صلّى لئلاّ يثور ثائر فيقتله، ويسألونه أن يتنحّى عن الطاعون، ويخبرونه أنّ الخلفاء قبله كانوا يفعلون ذلك، قال لهم عمر: فأين هم؟ فلما أكثروا عليه قال: اللهمّ إن كنتَ تعلم أني أخاف يومًا دون القيامة فلا تُؤمّنْ خوفي.
وروى رياح ابن زيد أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عُرْوة: إنّك تردّد إليّ الكتب فنفّذْ ما أكتب إليك من الحقّ فإنه ليس للموت ميقات نعرفه. وروى عبد الله بن أبي بكر بن حَزْم، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب في خلافته أن لا يُؤخَذ من المعادن الخُمْس وتؤخذ منها الصدقة. وروى حمّاد بن زيد، عن أبي هاشم صاحب الرّمّان أنّ رجلًا جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال: رأيتُ فيما يرى النائم كأنّ بني هاشم شكوا إلى النبيّ الحاجةَ فقال لهم: فأين عمر بن عبد العزيز؟ وروى جُويرية بن أسماء قال: سمعتُ فاطمة بنت عليّ بن أبي طالب ذكرت عمر بن عبد العزيز فأكثرت الترحّم عليه وقالت: دخلتُ عليه وهو أمير المدينة يومئذٍ فأخرج عني كلّ خَصيّ وحَرَسيّ حتى لم يبقَ في البيت غيري وغيره، ثمّ قال: يا بنت عليّ والله ما على ظهر الأرض أهل بيتٍ أحبّ إليّ منكم ولأنتم أحبّ إليّ من أهل بيتي. وروى إبراهيم بن جعفر بن محمد الأنصاري عن أبيه قال: كانت فَدَكُ صَفيًّا لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فكانت لابن السبيل، وسألتْه ابنتُه فَدَكَ أن يَهبَها لها فأبَى رسول الله ذلك عليها فلم يطمع فيها طامع، ثمّ توفّي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، والأمر على ذلك، فولي أبو بكر فسلك بها ما كان رسول الله يفعل، ثمّ توفّي أبو بكر وولي عمر فسلك بها ما كان رسول الله يفعل، ثمّ كان عثمان فمثل ذلك، فلمّا كانت الجماعة على معاوية سنة أربعين ولّى معاوية مروان بن الحكم المدينة فكتب إلى معاوية يطلب إليه فَدَكَ فأعطاه إيّاها فكانت بيد مروان يبيع ثمرها بعشرة آلاف دينار كلّ سنة، ثمّ نُزع مروان عن المدينة وغضب عليه معاوية فقبضها منه فكانت بيد وكيله بالمدينة، وطلبها الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان من معاوية فأبَى معاوية أن يُعطيه، وطلبها سعيد بن العاص فأبَى معاوية أن يعطيه، فلمّا ولّى معاوية مروان المدينة المرّة الآخرة ردّها عليه بغير طلب من مروان وردّ عليه غلّتها فيما مضى، فكانت بيد مروان فأعطى عبد الملك نصفها وأعطى عبد العزيز بن مروان نصفها، فوهب عبد العزيز نصفها الذي كان بيده لعمر بن عبد العزيز، فلمّا توفّي عبد الملك طلب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد حقّه فوهبه له وطلب إلى سليمان حقّه فوهبه له، ثمّ بقي من أعيان بني عبد الملك حتى خلصت لعمر بن عبد العزيز، قال جعفر: فلقد ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وما يقوم به وبعياله إلاّ هي تُغِلّ عشرة آلاف دينار في كلّ سنة وأقلّ قليلًا وأكثر، فلمّا ولي الخلافة سأل عن فَدَك وفحص عنها فأُخبر بما كان من أمرها في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان حتى كان معاوية، قال: فكتب عمر إلى أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم كتابًا فيه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي بكر بن محمد، سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فإنّي نظرتُ في أمر فَدَك وفحصتُ عنه فإذا هو لا يصلح لي ورأيتُ أن أردّها على ما كانت عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وأترك ما حدث بعدهم، فإذا جاءك كتابي هذا فاقبضها ووَلّها رجلًا يقوم فيها بالحقّ، والسلام عليك. وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حَزْم قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز في خلافته أن افْحصْ لي عن الكتيبة أكانت خُمْس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من خَيْبَر أم كانت لرسول الله خاصّة؟، قال أبو بكر: فسألتُ عَمْرة بنت عبد الرحمن فقالت: إنّ رسول الله لما صالح بني أبي الحُقيق جزأ النّطاة والشّقّ خمسة أجزاء فكانت الكتيبة جُزْءًا منها، ثمّ جعل رسول الله خمس بَعَرات وأعلم في بعرة منها لله مكتوبًا، ثمّ قال رسول الله: "اللهمّ اجْعل سهمك في الكتيبة". فكانت أوّلَ ما خرج السهم الذي مكتوب فيه لله على الكتيبة، فكانت الكتيبة خُمْس رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكانت السّهْمان أغفالًا ليس فيها علامات، فكانت فَوْضى للمسلمين على ثمانية عشر سهمًا، قال أبو بكر: فكتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز بذلك.
وروى محمد بن بشر بن حُميد المُزَني، عن أبيه قال: دعاني عمر بن عبد العزيز فقال لي: خذ هذا المال الأربعة آلاف دينار أو خمسة آلاف دينار فاقْدم بها على أبي بكر بن حَزْم فَقُل له فليضمّ إليه خمسة آلاف أو ستّة آلاف حتى يكون عشرة آلاف دينار وأن تأخذ تلك الآلاف من الكتيبة ثمّ تقسم ذلك على بني هاشم وتسوّي بينهم الذكر والأنثى والصغير والكبير سواء، قال: ففعل أبو بكر فغضب من ذلك زيد بن حسن فقال لأبي بكر قولًا نال فيه من عمر، وكان فيما قال يسوّي بيني وبين الصبيان، فقال أبو بكر: لا تبلغ هذه المقالةُ عنك أمير المؤمنين فيُغْضِبَهُ ذلك وهو حسن الرأي فيكم، قال زيد: فأسألك بالله ألاّ كتبتَ إليه تخبره بذلك، فكتب أبو بكر إلى عمر يذكر له أن زيد بن حسن قال مقالةً فيها غلظة وأخبره بالذي قال، وقلت: يا أمير المؤمنين إنّ له قرابة ورحمًا، فلم يبالِ عمر وتركه، وكتبتْ إليه فاطمة بنت حسين تشكر له ما صنع وتُقْسِمُ بالله: يا أمير المؤمنين لقد أخدمتَ من كان لا خادم له واكتسى منهم من كان عاريًا، فسُرّ بذلك عمر.
وروى يحيَى بن أبي يَعْلى قال: لما قدم المال على أبي بكر بن حزم فقسمه أصاب كلّ إنسان خمسين دينارًا، قال: فدعتني فاطمة بنت حسين وقالت: اكتب، فكتبتُ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}، لعبد الله عمر أمير المؤمنين من فاطمة بنت حسين، سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فأصلح الله أمير المؤمنين وأعانه على ما ولاه وعصم له دينه، فإنّ أمير المؤمنين كتب إلى أبي بكر بن حزم أن يقسم فينا مالًا من الكتيبة ويتحرّى بذلك ما كان يصنع من كان قبله من الأئمّة الراشدين المهديّين، فقد بلغنا ذلك وقسم فينا، فوصل الله أمير المؤمنين وجزاه من والٍ خير ما جزى أحدًا من الوُلاة، فقد كانت أصابتنا جَفْوة واحتجنا إلى أن يُعمل فينا بالحقّ، فأقْسِم لك بالله يا أمير المؤمنين لقد اختدم من آل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من كان لا خادم له واكتسى من كان عاريًا واستنفق من كان لا يجد ما يَسْتنفق، وبعثتْ إليه رسولًا قال: فأخبرني الرسول، قال: فقدمتُ عليه فقرأ كتابها وإنّه ليحمد الله ويشكره وأمر لي بعشرة دنانير وبعث إلى فاطمة بخمسمائة دينار وقال: استعيني بها على ما يَعْروك، وكتب إليها بكتاب يذكر فضلها وفضل أهل بيتها ويذكر ما أوجب الله لهم من الحقّ، قال: فقدمتُ عليها بذلك المال.
وروى جعفر بن محمد أنّ عمر بن عبد العزيز قسم بينهم سهم ذي القُرْبَى بين بني عبد المطّلب ولم يُعْطِ نساء بني عبد المطّلب من غير بني عبد المطّلب، وأعطى نساء بني عبد المطّلب، لم يجاوز بني عبد المطّلب. وروى يحيَى بن شِبْل قال: جلستُ مع عليّ بن عبد الله بن عبّاس وأبي جعفر محمد بن عليّ فجاءهما آتٍ فوقع بعمر بن عبد العزيز، فنهياه وقالا: ما قُسم علينا خُمس منذ زمن معاوية إلى اليوم، وإنّ عمر بن عبد العزيز قسمه على بني عبد المطّلب، فقلت: فهل أعطى بني المطّلب؟ فقالا: ما جاوز به بني عبد المطّلب. وروى يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبيه قال: لما قدم علينا مالُ الخُمْس من عند عمر بن عبد العزيز وقسم من عنده ومن الكتيبة فضّه على بني هاشم، الرجال والنساء، فكُتب إليه في بني المطّلب فكتب إنّما هم من بني هاشم فأُعْطوا، قال عبد الملك بن المُغيرة: فاجتمع نفر من بني هاشم فكتبوا كتابًا وبعثوا به مع رسول إلى عمر بن عبد العزيز يتشكّرون له ما فعله بهم من صلة أرحامهم وأنّهم لم يزالوا مَجْفيّين منذ كان معاوية، فكتب عمر بن عبد العزيز: قد كان رأيي قبل اليوم هذا ولقد كلّمت فيه الوليد بن عبد الملك وسليمان فأبيا عليّ، فلمّا وليتُ هذا الأمر تحرّيتُ به الذي أظنّه أوفق إن شاء الله.
وروى حكيم بن محمد من بني المطّلب قال: لما جاء كتاب عمر أن يُقْسَم على بني هاشم أراد أبو بكر بن حزم تَنْحِيَتَنَا فقالت بنو عبد المطّلب: لا نأخذ درهمًا واحدًا حتى يأخذوا، فردّدنا أبو بكر أيّامًا ثمّ كتب إلى عمر بن عبد العزيز، فما غاب عنّا الكتاب إلاّ بضعًا وعشرين ليلة حتى جاءه: إني لعمري ما فرّقت بينهم وما هم إلاّ من بني عبد المطّلب في الحلف القديم العتيق فاجْعلهم كبني عبد المطّلب. وروى عبد الله بن محمد ابن عَقيل بن أبي طالب، قال: أوّل مال قسمه عمر بن عبد العزيز لمالٌ بعث به إلينا أهل البيت، فأعطى المرأة منّا مثل ما يُعْطى الرجل وأعطى الصبيّ مثل ما تُعْطى المرأة، قال: فأصابنا أهل البيت ثلاثة آلاف دينار وكتب لنا: إنّي إن بقيتُ لكم أعطيتُكم جميع حقوقكم.
وروى يحيَى بن إسماعيل بن أبي المهاجر عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة: بلغني أنّ عمالك بفارس يخرّصون الثمار على أهلها ثمّ يقوّمونها بسعر دون سعر الناس الذي يتبايعون به فيأخذونه وَرِقًا على قيمتهم التي قوّموها، وإنّ طوائف من الأكراد يأخذون العُشْر من الطريق، ولو علمتُ أنّك أمرتَ بشيء من ذلك أو رضيته بعد علمك به ما ناظرتُك إن شاء الله بما تكره، وقد بعثتُ بِشْر بن صَفْوان، وعبد الله بن عَجْلان وخالد بن سالم ينظرون في ذلك، فإن وجدوه حقًّا ردّوا إلى الناس الثمر الذي أُخذ منهم وأخذوا بسعر ما باع أهل الأرض عليهم، ولا يدّعون شيئًا ممّا بلغني إلاّ نظروا فيه، فلا تعْرض لهم.
وروى يونس بن عُبيد أنّ رجلًا من الأنصار أتَى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين أنا فلان بن فلان قُتل جدّي يوم بدر وقُتل أبي يوم أُحُدٍ، فجعل يذكر مناقب آبائه، فنظر عمر إلى عَنْبَسَة بن سعيد وهو إلى جنبه فقال: هذه والله المناقب لا مناقبكم مَسْكِن ودَيْر الجماجِم:
تلكَ المَكارِمُ لا قَعْبانِ مِنْ لبنٍ شِيبا بماءٍ فَعادا بَعْدُ أبْـوالا
وروى بشر بن عبد الله بن عمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى حُميد بن سلمة: أمّا بعد، فأصْلح الذي بينك وبين الله واعلم أنّي قد أشركتُك في أمانةٍ عظيمة فإن ضيّعتَ حقًّا من حقوق الله كنتَ أهْون خلقه عليه ثمّ لا يُغْني عنك عمر من الله شيئًا. وروى خالد بن يزيد، عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى العمّال في النياحة واللهو: بلغني أن نساء من أهل السفه يخرجن عند موت الميّت منهنّ ناشرات شعورهنّ يَنُحْنَ كفعل أهل الجاهليّة، وما رُخّصَ للنساء في وضْع خُمرهنّ منذ أُمرن أن يضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ، فتقدّموا في هذه النياحة تقدّمًا شديدًا، وقد كانت هذه الأعاجم تلهو بأشياء زيّنها الشيطان لهم، فازْجر مَنْ قِبَلك من المسلمين عن ذلك، فلعمري لقد أنى لهم أن يتركوا ذلك مع ما يقرءون من كتاب الله، فازْجر عن ذلك الباطل واللهو من الغناء وما أشبهه فإن لم ينتهوا فنكّلْ من أتى ذلك منهم غير متعدٍّ في النكال.
وروى خُليد بن عَجْلان قال: كان عند فاطمة بنت عبد الملك جوهر، فقال لها عمر: من أين صار هذا إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إمّا أن تردّيه إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك فإنّي أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت، قالت: لا بل أختارُك على أضعافه لو كان لي، فوضعتْه في بيت المال، فلمّا ولي يزيد بن عبد الملك قال لها: إن شئتِ رددتُه عليك أو قيمته، قالت: لا أريده، طبتُ به نفسًا في حياته وأرجع فيه بعد موته! لا حاجة لي فيه، فقسمه يزيد بين أهله وولده.
وروى لوط بن يحيَى الغامدي قال: كان الولاة من بني أميّة قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون عليًّا، رحمه الله، فلمّا ولي عمر أمسك عن ذلك فقال كُثَيّر عَزّة الخُزاعي:
وَليـتَ فلمْ تَشتم عليًّا ولم تُخِفْ برِيًّا
ولم
تَتبَعْ
مقالةَ
مُجْرِمِ
تكَلّمْتَ
بالحَقّ
المُبينِ
وإنّما تَبَيُّنُ
آياتِ
الهُدَى
بالتّكَـلّمِ
فصَدّقتَ معرُوفَ الذي قلتَ بالذي فعلتَ فأضْحى راضيًا كُلّ مسلمِ
وروى إدريس بن قادم قال: قال عمر بن عبد العزيز لميمون بن مِهْران: يا ميمون كيف لي بأعوان على هذا الأمر أثِقُ بهم وآمنُهم؟ قال: يا أمير المؤمنين لا تشغل قلبك بهذا فإنّك سوق وإنّما يُحْمَل إلى كلّ سوق ما ينفق فيها، فإذا عرف الناس أنّه لا ينفق عندك إلاّ الصحيح لم يأتوك إلاّ بالصحيح. وروى إسماعيل بن رافع قال: أمّنا عمر بن عبد العزيز في كنيسة بعدما استُخلف. وروى محمد بن قيس أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بمصر: لا تبلغ في العقوبة أكثر من ثلاثين سوطًا إلاّ في حدٍّ من حدود الله. وعن محمد بن قيس أيضًا: أنّ عمر بن عبد العزيز أمر أن لا يسخّن ماؤه الذي يتوضّأ به ويغتسل به في مطبخ العامّة. وروى جعفر بن بُرْقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: من استطاع أن يخرج إلى العيد ماشيًا فليمشِ.
وروى يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة أن ضَعْ عن الناس المائدة والنوبة والمَكْس، ولعمري ما هو بالمكس ولكنّه البخس الذي قال الله: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [سورة هود: 85] فمن أدّى زكاة ماله فاقْبل منه ومن لم يأتِ فالله حسيبُه. وعنه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عمّاله: إن قدرتَ أن تكون في العدل والإحْسانِ والإصلاح كقدر من كان قبلك في الجور والعدوان والظلم فافْعل، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله. وروى أنّ رجلًا قال لعمر بن عبد العزيز: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: عُمّ بسلامك.
وروى يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبيه أنّ حيّان بن شُريح عامل عمر بن عبد العزيز على مصر كتب إليه: إنّ أهل الذمّة قد أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية. فكتب إليه عمر: أمّا بعد فإنّ الله بعث محمدًا داعيًا ولم يبعثه جابيًا، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان من أهل الذمّة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطْوِ كتابك وأقْبِلْ. وعن أبي هاشم أنّ عديّ بن أرطاة كتب إلى عمر بن عبد العزيز: إنّ أهل البصرة قد أصابهم من الخير خير حتى خشيتُ أن يبطروا، فكتب إليه عمر: إنّ الله رضي من أهل الجنّة حين أدخلهم الجنّة أن قالوا الحمد لله، فمُرْ مَنْ قِبَلك فليحمدوا الله. وروى مُغيرة قال: كان لعمر بن عبد العزيز سُمّار ينظرون في أمور الناس، وكان علامةُ ما بينه وبينهم إذا أراد القيام أن يقول: إذا شئتم.
وروى محمد بن أبي عُيينة المهلّبي قال: قرأتُ رسالة عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن المهلّب: سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فإنّ سليمان بن عبد الملك كان عبدًا من عباد الله قبضه الله على أحسن أحيانه وأحواله، فرحمه الله، واستخلفني فبايِعْ لي من قِبَلك وليزيد بن عبد الملك إن كان من بعدي، ولو كان الذي أنا فيه لاتّخاذ أزواج واعتقاد أموال كان الله قد بلغ بي أحسن ما بلغ بأحد من خلقه، ولكني أخاف حسابًا شديدًا ومسألة لطيفة إلاّ ما أعان الله، والسلام عليك ورحمة الله. وروى عمر بن بَهْرام الصرّاف قال: قُرئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عديّ ابن أرطأة ومن قِبَله من المسلمين والمؤمنين، سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد فانْظر أهل الذمّة فارْفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفِْقْ عليه، فإن كان له حميم فمُرْ حميمه يُنْفق عليه، وقاصّه من جراحه كما لو كان لك عبد فكبرت سِنّه لم يكن لك بدّ من أن تُنْفق عليه حتى يموت أو يَعْتق، وبلغني أنّك تأخذ من الخمر والعشور فتُبْقيه في بيت مال الله، فإيّاكَ أن تُدْخِلَ بيت مال الله إلاّ طيّبًا، والسلام عليكم.
وروى الأوزاعي، عن رجل، عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب إلى عامل له: إيّاي والمُثْلَةَ جَزّ الرأسِ واللحية. وروى عبد الرحمن الطويل قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مِهْران: كتبتَ إليّ يا ميمون تذكر شدّة الحُكم والجباية، وإنّي لم أكلّفك من ذلك ما يُعْنِتك، أجْبِ الطّيبَ من الحقّ واقضِ بما استنار لك من الحقّ فإذا التبس عليك أمر فارفعه إليّ، فلو أنّ الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه ما قام دين ولا دُنْيا. قال: وكنتُ أنا على ديوان دمشق ففرضوا لرجلٍ زَمِنٍ، فقلت: الزّمِنُ ينبغي أن يُحْسَن إليه فأمّا أن يأخذ فريضة رجل صحيح فلا، فشكوني إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا: إنّه يتعنّتنا ويشقّ علينا ويُعْسِرنا، فكتب إليّ: إذا أتاك كتابي هذا فلا تعنّت الناس ولا تُعسرهم ولا تشقّ عليهم فإنّي لا أحبّ ذلك.
وروى عبد الرحمن بن حسن، عن أبيه أنّ عمر بن عبد العزيز كتب في المعادن: إني نظرتُ فيها فوجدتُ نفعها خاصًّا وضرّها عامًّا، فامنع الناس العمل فيها، وكتب: فما حُمي من الأرض ألاّ يُمْنَع أحد مَواقع القَطْر، فأبِح الأحْماء ثمّ أبِحْها. وروى عبد الرحمن بن حسن، عن أبيه أيضًا: أنّ عمر بن عبد العزيز كتب: أن لا تُلبَّس أمة خمارًا ولا يتشبّهن بالحرائر. وروى أيّوب بن موسى قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عُرْوة عامله على اليمن: أمّا بعد فإنّي أكتب إليك آمرك أن تردّ على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف بُعْد مسافة ما بيني وبينك ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبتُ إليك أن ارْدد على مسلم مظلمة شاةٍ لكتبتُ ارْددها عفراء أو سَوداء، فانْظر أن تردّ على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني. وعن أبي يعقوب بن زيد قال: أجاز عمر بن عبد العزيز عبد الحميد بن عبد الرحمن، وكان عامله على العراق، بعشرة آلاف درهم. وروى يزيد بن عياض بن جُعْدُبة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي كَريمة: إنّ أحقّ العباد بإجْلال الله والخَشْية منه مَن ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشدّ حسابًا ولا أهْون على الله إن عصاه مني فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي وخفتُ أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكًا لي إلاّ أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنّك تريد الخروج في سبيل الله فأحبّ يا أخي إذا أخذتَ موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة فإنّ حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني.
وروى خالد بن يزيد بن بشر، عن أبيه قال: كان من خاصّة عمر بن عبد العزيز ميمون بن مِهْران، ورَجاء بن حَيْوة، ورِياح بن عُبيدة الكِنْدي، وكان قوم من دون هؤلاء عنده، عمرو بن قيس، وعون بن عبد الله بن عُتْبة، ومحمد بن الزبير الحَنْظَلي. وروى مَسْلَمة بن محارب وغيره قال: خرج بلال بن أبي بُرْدة وأخوه عبد الله بن أبي بُرْدة إلى عمر بن عبد العزيز فاختصما إليه في الأذان في مسجدهم فارتاب بهما عمر فدسّ إليهما رجلًا يقول لهما: أرأيتما إن كلّمتُ أمير المؤمنين فولاّكما العراقَ ما تجعلان لي؟ فبدأ الرجل ببلال فقال له ذلك فقال: أعطيك مائة ألف، ثمّ أتَى أخاه فقال له مثل ذلك، فأخبر الرجل عمر فقال لهما: الحقا بمصركما، وكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: لا تولّ بلالًا بلالَ الشرّ ولا أحدًا من ولد أبي موسى شيئًا، وقال بعضهم: كتب لا تولّ بُلَيِّلَ الشرّ، صغّر بلالًا.
وروى عَوانة بن الحكم الكلبي قال: مات سليمان بن عبد الملك بدابق واستُخلف عمر بن عبد العزيز، فخطب عمر الناس فقال: والله ما أردتُها ولا تمنّيتُها فاتقوا الله وأعطوا الحقّ من أنفسكم ورُدّوا المظالم، فإنّي والله ما أصبحتْ بي موجدة على أحد من أهل القبلة إلاّ موجدة على ذي إسراف حتى يردّه الله إلى قَصْد، وكتب إلى مَسْلَمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول، وأرسل إلى الناس بالإذن والقفول، وكتب إلى سالم أن يكتب إليه بسيرة عمر، فكتب إليه سالم: إنّ عمر كان في غير زمانك ومع غير رجالك، وإنّك إن عملتَ في زمانك ورجالك بمثل ما عمل به عمر في زمانه ورجاله كنتَ مثل عمر وأفضل. وروى عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قاد الناس الخيل إلى سليمان بن عبد الملك فمات قبل أن يُجْريها فاستحيا عمر من الناس فأجرى الخيل التي جُمعت، ثمّ أعطى آخر فرس جاء لم يخيّب أحدًا، ثمّ لم يُجْرِ فرسًا حتى مات.
وروى مَسْلَمة بن محارب قال: كتب عمر إلى عديّ إنّ العُرَفاء من عشائرهم بمكان فانْظر عرفاء الجند فمن رضيتَ أمانته لنا ولقومه فأثْبِتْه ومن لم تَرْضَه فاستبدلْ به من هو خير منه، وأبْلغ في الأمانة والورع. وروى الحسن بن أبي العَمَرّطة قال: رأيتُ عمر بن عبد العزيز قبل أن يُسْتخلف فكنتَ تعرف الخير في وجهه، فلمّا استُخلف رأيت الموت بين عينيه. وروى مالك بن أنس قال: لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة قال: يا مزاحم نخشى أن نكون ممّن نفت المدينة. وروى سهل بن صدقة مولى عمر بن عبد العزيز قال: حدّثني بعض خاصّة آل عمر بن عبد العزيز أنّه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عاليًا فسأل عن ذلك البكاء فقيل إنّ عمر قد خيّر جواريه، قال: قد نزل بي أمر قد شغلَنا عنكنّ فمن أحبّ أن أعْتِقه ومن أمسكتُه لم يكن مني إليه؛ شيء فبكين يأسًا منه. وعن أبي عُبيدة بن عُقبة بن نافع القُرَشي أنّه دخل على فاطمة بنت عبد الملك فقال لها: ألا تخبريني عن عمر بن عبد العزيز؟ فقالت: ما أعلم أنّه اغتسل من جنابة ولا من احتلام مذ استخلفه الله حتى قبضه. وروى هشام أنّ فاطمة بنت عبد الملك بعثت إلى رجل من الفقهاء فقالت: إنّي أخاف أن لا يسع أمير المؤمنين ما يصنع قال: وما ذاك؟ قالت: ما كان من أهله بسبيل منذ ولي، فلقي الرجل عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلغني شيء أخاف أن لا يسعك، قال: وما ذاك؟ قال: أهلك لهم عليك حقّ، فقال عمر: وكيف يستطيع رجل أن يأتي ذاك وأمرُ أمّةِ محمد في عنقه، أللهُ سائله عنها يوم القيامة؟ وروى إسماعيل بن إبراهيم عن أيّوب قال: نُبِّئْتُ أنّ عمر بن عبد العزيز ذُكر له ذاك الموضع الرابع الذي عند قبر النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فعرّضوا له به، قالوا: لو دنوت من المدينة، قال: لأن يعذّبني الله بكلّ عذاب إلاّ النار أحبّ إليّ من أن يَعْلم أني أُرى لذلك أهلًا. وقيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيتَ المدينة فإن قضى الله موتًا دُفنتَ في موضع القبر الرابع مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر، قال: والله لأن يعذّبني الله بكلّ عذاب إلاّ النار فإنّي لا صَبْرَ لي عليه أحبّ إليّ من أن يعلم الله من قلبي أنّي أُراني لذلك أهلًا. وروى الأوزاعي أنّ محمد بن المِقْدام سأل فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: ما تُرَينَ بَدْيَ مرض عمر الذي مات فيه؟ قالت: أُرَى بَدْيَه أو جُلّه الوَجَل.
وروى عبد المجيد ابن سُهيل قال: رأيتُ الطبيب خرج من عند عمر بن عبد العزيز فقلنا: كيف رأيتَ بوله اليوم؟ فقال: ما ببوله بأس إلاّ الهمّ بأمر الناس. وروى عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا ابن لَهيعة قال: وجدوا في بعض الكتب تقتله خشيةُ الله، يعني عمر بن عبد العزيز. وروى محمد بن قيس قال: حضرتُ أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أوّل مرضه اشتكى لهلال رجب سنة إحدى ومائة، فكان شَكْوُه عشرين يومًا فأرسل إلى ذمّيّ، ونحن بدَيْر سِمعان، فساومه موضع قبره فقال الذّمّيّ: يا أمير المؤمنين والله إنّها لخيرة أن يكون قبرك في أرضي، قد حلّلتُك، فأبَى عمر حتى ابتاعه منه بدينارين، ثمّ دعا بالدينارين فدفعهما إليه. وروى إبراهيم بن مَيْسَرة أنّ عمر بن عبد العزيز اشترى موضع قبره قبل أن يموت بعشرة دنانير. وروى محمد بن معن الغفاري قال: أخبرني شيخ من أهل مكّة قال: كانت فاطمة بنت عبد الملك وأخوها مَسْلَمة عند عمر بن عبد العزيز، فقال أحدهما لصاحبه: لا نكون قد ثَقُلْنَا عليه، فخرجا وهو متحرّف على غير القبلة فقالا: فقلّما لبثنا حتى عُدْنا وإذا هو موجّه إلى القبلة، قال وإذا متكلّم يتكلّم لا نراه يقول: {تلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينََ} [سورة القصص: 83].
وروى عُمارة بن أبي حفصة، أنّ مَسْلَمة بن عبد الملك دخل على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه فقال له: من توصي بأهلك؟ فقال: إذا نسيتُ الله فذكّرني، ثمّ عاد أيضًا فقال: من توصي بأهلك؟ فقال: إنّ وَليّي فيهم اللهُ {الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينََ} [سورة الأعراف: 196]. وروى سليمان بن موسى قال: لما حُضر عمر بن عبد العزيز كتب إلى يزيد بن عبد الملك: أمّا بعد فإيّاك أن تدركك الصّرْعة عند العِزّة فلا تقال العثرة، ولا تُمَكّن من الرجعة، ولا يحمدك من خلّفتَ، ولا يعذرك من تقدم عليه والسلام. وفي رواية: أنّ عمر بن عبد العزيز كتب إلى يزيد بن عبد الملك حين حضره الموت: سلام عليك، أمّا بعد فإنّي لا أُراني إلاّ لما بي ولا أُرى الأمر إلاّ سيُفضي إليك، والله الله في أمّة محمد النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فتدعُ الدنيا لمن لا يحمدك وتُفضي إلى من لا يعذرك، والسلام عليك.
وروى عبد العزيز بن عمر قال: أوصى أبي أن يكفّن في خمسة أثواب كُرْسُف. وروى خالد بن أبي بكر قال: أوصى عمر بن عبد العزيز أن يكفّن في خمسة أثواب منها قميص وعمامة، وقال: هكذا كان ابن عمر يكفّن من مات من أهله. وروى عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الله قال: أوصى عمر بن عبد العزيز عند الموت فدعا بشعر من شعر النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأظفار من أظفاره وقال: إذا متّ فخذوا الشعر والأظفار ثمّ اجعلوه في كفني، ففعلوا ذلك. وروى سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان قال: شهدتُ عمر بن عبد العزيز قال لمولاة له: إني أراكِ سَتَلينَ حنوطي فلا تجعلي فيه مسكًا، وأوصى عمر بن عبد العزيز إذا حُضر أن يوجّه إلى القبلة على شقّه الأيمن.
وروى رجاء بن حَيْوَة قال: قال لي عمر بن عبد العزيز في مرضه: كن فيمن يغسّلني ويكفّنني ويدخل قبري، فإذا وضعتموني في لحدي فحُلّ العقدة ثمّ انْظر إلى وجهي فإنّي قد دفنت ثلاثة من الخلفاء كلّهم إذا أنا وضعته في لحده حللتُ العقدة ثمّ نظرتُ إلى وجهه فإذا وجهه مُسْوَدٌّ في غير القبلة، قال رجاء: فكنتُ فيمن غسّل عمر وكفّنه ودخل في قبره، فلمّا حللتُ العقدة نظرتُ إلى وجهه فإذا وجهه كالقراطيس إلى القبلة. وروى مَخْلَد بن يزيد قال: لقيته منذ خمسين وكان نازلًا في بني غُبَر وكان فاضلًا خيّرًا كبير السن، وعن يوسف بن ماهَك قال: بينما نحن نسوّي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا رقّ من السماء فيه مكتوب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم}، أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار. وروى عمرو بن عثمان قال: مات عمر بن عبد العزيز لعشر ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسعٍ وثلاثين سنة وأشهر، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر، ومات بدَيْر سِمعان. وروى الهيثم بن واقد قال: وُلدتُ سنة سبعٍ وتسعين واستُخلف عمر بن عبد العزيز بدابِق يوم الجمعة لعشر بقين من صفر سنة تسعٍ وتسعين، فأصابني من قَسْمه ثلاثة دنانير، وتوفّي، رحمه الله، بخُناصرة يوم الأربعاء لخمس ليالٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة، وكان شَكْوُه عشرين يومًا، وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيّام، ومات وهو ابن تسعٍ وثلاثين سنة وأشهر، ودُفن بدير سمعان. وروى عبد الرحمن بن أَبي الزِّناد، عن أبيه قال: توفّي عمر بن عبدالعزيز وهو ابن تسعٍ وثلاثين سنة وخمسة أشهر.
وروى الفضل بن دُكين قال: سمعتُ سفيان بن عُيَيْنَةَ يقول: كان عمر بن عبد العزيز ابن أربعين سنة، قال سفيان بن عُيينة: وسألتُ ابنه كم بلغ من السنّ؟ قال: لم يكن بلغ إلاّ أربعين، وملك سنتين وشيئًا. وروى معاوية بن صالح قال: لما حضر عمرَ بن عبد العزيز الموتُ أوصاهم وقال: احفْروا لي ولا تُعْمِقوا فإنّ خير الأرض أعلاها وشرّها أسفلها. وروى وُهيب بن الورد قال: بلغنا أنّ عمر بن عبد العزيز لما توفّي جاء الفقهاء إلى زوجته يعزّونها به فقالوا لها: جئناك لنعزّيك بعمر فقد عَمَّت مصيبة الأمة فأخبرينا يرحمك الله عن عمر كيف كانت حاله في بيته؟ فإن أعلم الناس بالرجل أهله، فقالت: والله ما كان عمر بأكثركم صلاة ولا صيامًا ولكني والله ما رأيت عبدًا قط كان أشدَّ خوفًا لله من عمر، والله إن كان ليكون في المكان الذي إليه ينتهي سرور الرجل بأهله، بيني وبينه لحاف، فيخطر على قلبه الشئ من أمر الله فينتفض كما ينتفض طائر وقع في الماء، ثم يَنْشِج ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول والله لتخرجنَّ نفسه التي بين جنبيه، فأطرح اللحاف عني وعنه رحمة له وأنا أقول: ياليتنا كان بيننا وبين هذه الإمارة بعد المَشْرِقَينْ، فوالله ما رأينا سرورًا منذ دخلنا فيها. وكان مالك بن دينار ربما ذَكَر عمر بن عبد العزيز فبكى، وقال: لم يكن له أهل. وروى أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: سمعت أبا بكر بن عياش ــ وذكر عمر بن عبدالعزيز ــ قال: ليُحْشَرَنَّ من دَيْر سمعان رجل كان يخاف ربه.
وروى مالك بن دينار قال: لما استُعمل عمر بن عبد العزيز على الناس قالت رِعاء الشاء في رءوس الجبال: من هذا العبد الصالح الذي قام على الناس؟ قيل لهم: وما عِلْمكم بذاك؟ قالوا: إنّه إذا قام على الناس خليفة عدل كفّت الذئاب عن شائنا. وروى موسى بن أعْيَن راعٍ كان لمحمد بن أبي عُيينة قال: كنّا نرعى الشاء بكِرْمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الشاء والذئاب والوحش ترعى في موضع واحد، فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب لشاة فقلنا ما أرى الرجل الصالح إلاّ قد هلك.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال