تسجيل الدخول


عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم الهاشمي

عَبْدُ اللّهِ بنُ جَعْفَر بن أَبي طالب، القُرَشِيّ الهَاشِمي:
وكنيته أبو محمد، وأبو جعفر؛ وهي أشهر، وَحَكَى الْمَرْزَبَانِيُّ أنه كان يُكْنَى أبا هاشم. ولد بأَرض الحبشة، وكان أَبواه رضي الله عنهما هاجرا إِليها، فوُلِد هناك، وهو أَول مولود وُلِد في الإِسلام بأَرض الحبشة، وقيل: مولده قبل الهجرة بثلاث. وأمه أسماء بنت عُمَيْس بن مَعَدّ، قالوا: ولما هاجَر جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية، حَمَل معه امرأته أسماء بنت عُمَيْس الخثعمية، فولدت له هناك عبد الله، وعونًا، ومحمدًا، ثم وُلِدَ للنجاشي بعدما ولدت أسماء ابنها عبد الله بأيام ابنٌ، فأرسل إلى جعفر، ما سميتَ ابنك؟ قال: عبد الله، فسمى النجاشي ابنه عبد الله، وأخذته أسماء بنت عميس، فأرضعته حتى فطمته بلبن عبد الله بن جعفر، ونزلت أسماء بذلك عندهم منزلة، فكان مَن أسلم من الحبشة يأتي أسماء بَعْدُ فيخبرها خبرهم، فلما ركب جعفر بن أبي طالب مع أصحاب السفينتين منْصَرَفَهم من عند النجاشي، حمل معه امرأته أسماء بنت عميس، وولده منها الذين ولدوا هناك، عبد الله، وعونا، ومحمدًا، حتى قدم بهم المدينة، فلم يزالوا بها حتى وَجّه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جعفرًا إلى مؤتة فقُتل بها شهيدا، وروى محمد بن عمر، عن يحيى بن أبي يَعْلَى قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عَلَى أُمِّي؛ فنعَى لها أبي، فأنظر إليه، وهو يمسح على رأسي، ورأس أخي، وعيناه تُهْرَاقان الدموعَ حتى تقطر لِحْيَتُه، ثم قال: "اللهم إن جعفرًا قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلُفْه في ذريته بأحسن ما خَلَفْتَ أحدًا من عبادك في ذريته"، ثم قال: "يا أسماء: ألا أبشرك؟" قالت: بلى بأبي أنت وأمي، قال: "إن الله جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة"، قالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فأَعْلِم الناسَ بذلك، فقام رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأخذ بيدي يمسح رأسي حتى رَقِي على المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يُعرف عليه، فتكلم فقال: "إن المرء كثير بأخيه وابن عمه ألا إن جعفرًا قد استشهد، وقد جُعِل له جناحان يطير بهما في الجنة"، ثم نزل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فدخل بيته وأدخلني معه، وأمر بطعامٍ فَصُنِع لأهلي، وأرسل إلى أخي، فتغدينا عنده، والله، غداءً طيبًا مباركًا، عَمَدَتْ سَلْمَى خادِمُه إلى شعير فطحنته، ثم نَسَفَتْه ثم أنضجته وأَدَمَتْه بزيت وجعلت عليه فُلْفُلًا، فتغذيت أنا وأخي معه، فأقمنا ثلاثة أيام في بيته ندور معه كلما صار في بيت إحدى نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتانا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأنا أساوم بشاة أخ لي فقال: "اللهم بارك له صفقته"، قال عبد الله: فما بعتُ شيئًا ولا اشتريت إلا بُورك لي فيه(*)، وروى عفان بن مسلم، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي، قال: أمْهَل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم آل جعفر ثلاثًا بعدما جاءه نَعِيّهُ، ثم أتاهم النبي صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "لاتبكوا على أخي بعد اليوم، ادعو لي بَنِي أخي" قال: فَجِيءَ بأُغْيلِمَةٍ ثلاثة كأنهم أفرخ؛ محمد، وعون الله، وعبد الله، قال: فقال: "ادعوا لي الحلاق"، قال: فَجِيءَ بالحلاق فحَلَق رءوسهم، فقال: "أما محمد فشبيهُ عَمِّنا أبي طالب، وأما عَون الله فشبيه خَلْقِى وخُلُقي"، ثم أخذ بيد عبد الله فأشالها، ثم قال: "اللهم اخلف جعفرًا في أهله، وبارك لعبد الله في صفقة يمينه"، فجاءت أمهم فجعلت تُفْرَحُ لهم، فقال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "أتخافين عليهم العيلة، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة"(*)، وروى رَوْح بن عبادة، عن جابر بن عبد الله يقول: إن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال لأسماء بنت عُمَيس: "ما شأن أجسام بني أخي ضارعة أتصيبهم حاجة؟" قالت: لا، ولكن تسرع إليهم العين، أفأرقيهم؟ قال: "وبماذا" فَعَرَضَت عليه فقال: "أرقيهم"(*)، وروى الفضل بن دُكَيْن، عن عبد الله بن جعفر، قال: علمتني أمي أسماء بنت عُمَيْس شيئا أمرها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن تقوله عند الكرب: "الله اللهُ ربي لا أشرك به شيئا"(*)، وقد تزوج أمَّه أبو بكر الصديق، فكان محمد أخاه لأمه، ثم تزوجها عليّ فولدت له يحيى، وروى عفان بن مسلم، عن أم حميد أم ولد عبد الله بن جعفر، أنها كانت حاملًا ـــ وهي أول عجمية لعبد الله بن جعفر ـــ فمرّت بعليّ بن أبي طالب، فدعاها فوضع يده على بطنها وقال: اللهم اجعله ذَكَرًا ميمونًا، وروى عفان بن مسلم، عن علي بن السائب، أن عبد الله بن جعفر تزوج ليلى امرأة علي بن أبي طالب، وزينب بنت علي من غيرها. وولد عبدُ الله بن جعفر: جعفرًا الأكبر وبه كان يُكَنّي، وأمه الأُمَيّة وتكنى أم عمرو بنت خِرَاش بن جَحْش، من بني عَبْس بن بَغِيض، وعليًا وعونًا الأكبر، ومحمدًا وعباسًا، وأم كلثوم وأمهم زينب بنت علي بن أبي طالب وأمها فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وحسينًا دَرَجَ، وعونًا الأصغر قُتل مع الحسين بن علي لا بقية له، وأمهما جُمَانة بنت المُسَيَّب، من بني فَزَارة، وولد أيضًا أبا بكر، وعبيدَ الله، ومحمدًا، وأمهم الخوصاء بنت خَصَفَة بن ثَقَف، وصالحًا لا بقية له، ويحيى وهارونَ لا بقية لهما، وموسى لا بقية له، وجعفرًا، وأمَّ أبيها، وأمَّ محمد، وأمهم ليلى بنت مسعود بن خالد، وحميدًا والحسنَ لأم ولد، وجعفرًا، وأبا سعيد، وأمهما أم الحسن بنت كعب بن عبد الله، ومعاوية، وإسحاق، وإسماعيل وقُثَم لا بقية له، وعباسًا، وأم عون، لأمهات أولاد شتى.
وروى محمد بن سعد، عن محمد بن عمر: وكان عبد الله بن جعفر قد خَرِبَ فُوْهُ وسقطت أسنانُه، فكان يُعْمَل له الثريد والشيء اللين فيأكله، وكان إذا قيل له: إنك ليس تأكل، شَقّ عليه ذلك، وقَالَ ابْنُ حِبَّان: كان يقال له قطب السخاء، وروى أَبو محمد القاسم بن علي بن الحسن الدمشقي، عن العمري، وغيره أَن عبد اللّه بن جعفر أَسلف الزبير بن العوام أَلف أَلف درهم، فلما قتل الزبير قال ابنه عبد اللّه لعبد اللّه بن جعفر: إِني وجدت في كتب أَبي أَن له عليك أَلف أَلف درهم، فقال: هو صادق فاقبضها إِذا شئت، ثم لقيه فقال: يا أَبا جعفر وَهَمْتُ، المالُ لَكَ عَلَيْه، قال: فهو له، قال: لا أَريد ذاك، قال: فاختر إِذا شئت فهو له، وإِن كرهت ذلك فله فيه نَظِرَةٌ ماشئت، وإِن لم ترد ذلك فبعني من ماله ماشئت، قال: أَبيعك ولكن أُقوِّم، فَقَوَّم الأَموال ثم أَتاه فقال: أُحِبُّ أَن لا يحضرني وإِياك أَحد، قال: فانطَلِقْ، فمضى معه فأَعطاه حرابًا وشيئًا لا عمارة فيه وقَوَّمه عليه، حتى إِذا فرغ قال عبد اللّه بن جَعفر لغلامه: أَلق لي في هذا الموضع مصلى، فأَلقى له في أَغلظ موضع من تلك المواضع مُصَلَّى، فصلى ركعتين وسجد فأَطال السجود يدعو، فلما قضى ما أَراد من الدعاءِ قال لغلامه: احفر في موضع سجودي فحفر، فإِذا عين قد أَنْبَطَها، فقال له ابن الزبير: أَقلني، قال: أَمَّا دعائي وأَجابهُ الله إِيَّاي فلا أُقِيُلك فصار ما أَخذ منه أَعمر مما في يد ابن الزبير، وقَدْ أَخْرَجَ الْبَغَوِيّ، عن عُروة، عن أبيه أنَّ عبد الله بن جعفر، وعَبْدَ الله بن الزبير بايعَا النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم وهما ابنا سَبع سنين، والصَّحيح أن ابْنَ الزبير وُلد عام الهجرة، وَأَخْرَجَ ابنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْخَرَائِطِيّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ إِلَى مُحَمد بْنِ سيرين أنَّ دهقًانا من أهل السَّوَاد كلّم ابن جعفر في أن يكلِّم عليًّا في حاجةٍ، فكلمه فيها، فقضاها، فبعث إليه الدهقان أرْبعين ألفًا، فقالوا: أرسلَ بها الدهقان فردّها، وقال: "إنا لا نبيع معروفًا"، وأَخرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ في "الأفْرَادِ"، عن محمد بن سيرين، قال: جلب رجل من التجار سكرًا إلى المدينة فكسد عليه، فبلغ عبد الله بن جعفر، فأمر قهرمانه أنْ يشتريه وينْهبه الناسَ، وأَخْرَجَ الطَّبَرِيِّ، والبَيْهَقِيّ في "الشُّعَبِ"، مِنْ طريق ابن إسحاق المالكي، قال: وجَّه يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر مالًا جليلًا هدية؛ ففرَّقه في أهل المدينة، ولم يُدْخل منزله منه شيئًا، وفي ذلك يقول عبيد الله بن قيس الرقيّات:
وَمَا كُنْتُ
إِلاَّ كَالأَغَرِّ بْنِ جَعْفَرٍ رَأَى الَمالَ لاَ يَبْقَي فَأَبْقَى لَهُ ذِكْرا
وَروى أَبُو زُرْعَة الدّمشِْقيّ، عن علي بن أبي حَمَلة، قال: وفد عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية فأمر له بألفي درهم، وَروى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، عن خلف الأحمر قال: قال الشماخ بن ضِرَار يمدح عبد الله بن جعفر:
إِنَّكَ
يَا ابْنَ جَعْفَرٍ
نِعْمَ
الفَتَى وَنِعْمَ
مَأْوَى
طَارِقٍ
إِذَا أَتَى
وَرُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الحَيَّ سُرَى صَادَفَ زَادًا وَحَدِيثًا مَا اشْتَهَى
وروى الضحاك بن مخلد، وروح بن عبادة، عن جعفر بن خالد بن سَارّة، سمعه يذكر عن أبيه، أن عبد الله بن جعفر قال له: مر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على دابة، وأنا وعبيد الله بن العباس وقُثَم نلعب، فقال رسول الله: "احملوا إليّ هذا"، فوضعني بين يديه، ثم قال: "ارفعوا لي هذا"، فحمل قُثَم خلفه، وترك عبيد الله، ولم يستحِ من عمه أن حمل قثم وترك عبيد الله، وكان عبيد الله أحب إلى العباس من قثم، فمسح رأسي ثم قال: "اللهم اخلف جعفرًا في ولده"، قلت: ما فعل قثم؟ قال: استشهد، قلت: الله ورسوله أعلم بالخيرة قال: أجل(*)، وروى الفضل بن دكين، عن عمرو بن حريث، قال: انطلق بي أبي إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأنا غلام شاب، فمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم على عبد الله بن جعفر وهو يبيع شيئا، فقال: "اللهم بارك له في تجارته"(*)، وروى الفضل بن دكين، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: أمر أبو بكر بقتل الكلاب، ولعبد الله بن جعفر كلب تحت سرير أبي بكر فقال: يا أبتِ كلبي فقال: لا تقتلوا كلب ابني، ثم أمر به فأُخِذ قال: وكان أبو بكر قد خلف على أمه أسماء بنت عُمَيس بعد جعفر، وروى محمد بن عبد الله الأسدي، عن عبد الله بن شداد، أن عليًا قال لعبد الله بن جعفر رحمهم الله: ألا أعلمك كلماتٍ لم أعلمهن حَسنًا ولا حُسينًا، إذا سألتَ الله مسألة فأردتَ أن تَنْجح، فقل: "لا إله إلا الله وحْدَه لا شريك له العَلِيّ العظيم، لا إله إلا هو وحده لا شريك له الحليم الكريم"، وروى عفان بن مسلم، عن محمد قال: مَرّ عثمان بن عفان بِسَبَخة فقال: لمن هذه؟ قيل: لفلان، اشتراها عبد الله بن جعفر بستين ألفا، قال: ما يسرني أنها لي بنعْليّ، قال: ثم لقى عليّ بن أبي طالب فقال: ألا تأخذ على يَدي ابن أخيك وتحجر عليه، اشترى سبخة ما يسرني أنها لي بنعْلَيّ، قال: فجزأها عبد الله على ثمانية أجزاء وألقى فيها العمال فأقبلت، فركب عثمان رَكْبَة فمَرّ بها فقال: لمن هذه؟ قالوا: هذه الأرض التي اشتراها عبد الله بن جعفر من فلان، فأرسل إليه أن ولّنِي جزئين منها، قال: أما والله دون أن ترسل إلى الذين سفّهتني عندهم فيطلبون ذلك إليّ فلا أفعل، ثم أرسل إليه أني قد فعلت قال: والله لا أنقصك جزأين من عشرين ومائة ألف قال: قد أخذتها.
وتوفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولعبد اللّه عشر سنين، وكان عبدُ الله بن جعفر كريمًا، جوادًا ظريفًا، خليقًا عفيفًا سخِيًّا يسمَّى "بحر الجود"، ويقال‏: إنه لم يكن في الإسلام أسْخَى منه، وكان لا يرى بسماع الغناء بأسًا، وُروي أنَّ عبد الله بن جعفر كان إِذا قدم على معاوية أنزله دارَه، وأظهر له من برِّه وإِكرامه ما يستحقُّه، فكان ذلك يغيظ فاختة بنت قَرَظة بن عَبْد عمرو ــ زوجة معاوية ــ فسمعت ليلة غناءً عند عبد الله بن جعفر؛ فجاءت إلى معاوية، وقالت:‏ هلم فاسمع ما في منزل هذا الرّجل الذي جعلْتَه بين لحمك ودمك‏، قال:‏ فجاء معاوية فسمع وانصرف، فلما كان في آخر الليَّل سمع معاويةُ قراءةَ عبد الله بن جعفر، فجاء فأَنْبَهَ فاختة، فقال‏:‏ اسمعي مكانَ ما أَسمعتني، ويقولون‏:‏ إن أَجواد العرب في الإسلام عشرة‏، فأَجواد أهل الحجاز: عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن عباس بن عبد المطّلب، وسعيد بن العاص، وأجود أهل الكوفة: عتاب بن ورقاء، أحد بني رباح بن يربوع، وأسماء بن خارجة بن حصن الفزاريّ، وعِكْرِمة بن ربْعي الفياض، أحد بني تيم الله بن ثعلبة، وأجود أَهل البصرة: عمرو بن عبيد الله بن معمر، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعيّ، ثم أحد بني مليح، وهو طلحة الطلحات، وعبيد الله بن أَبي بكرة‏، وأجودُ أهل الشّام: خالد بن عبيد الله بن خالد، وليس في هؤلاء كلِّهم أجودُ من عبد الله بن جعفر، ولم يكن مُسْلِمٌ يبلغ مبلغه في الجود، وعُوتب في ذلك فقال:‏ إنَّ الله عوَّدني عادة، وعوَّدْتُ الناسَ عادة، فأنا أخاف إنْ قطعتها قُطعت عني، ومدحه نُصيبٌ فأعطاه إبلًا وخيلًا وثيابًا ودنانيرَ ودراهم، فقيل له‏: تُعْطى لهذا الأسود مِثْلَ هذا؟ فقال:‏ إن كان أسوَد فشِعْرُه أبيض، ولقد استحقّ بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ما يَبْلَى ويَفْنَى، وأعطانا مَدْحًا يُرْوى، وثناءً يَبْقَى، وقد قيل‏: إنَّ هذا الخبر إنما جرى لعبد الله بن جعفر مع عبد الله بن قيس الرّقيات‏، وأخبارُه في الجود كثيرة جدًا، وروى يزيد بن هارون، عن عامر قال: كان ابن عمر إذا سَلّم على ابن جعفر قال: سلام عليك يابن ذي الجناحين، وروى عفان بن مسلم، عن ابن أبي رافع ــ مولى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ــ قال: كان عبد الله بن جعفر يتختم بيمينه، وزعم أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم كان يتختم بيمينه(*)، وروى أبو أسامة، عن محمد قال: جَلَبَ رَجُلٌ من أهل البصرة سُكّرًا إلى المدينة فكسد عليه، فذكر لعبد الله بن جعفر، فأمر قهرمانه أن يشتريه فيدعو الناس إليه فَيُنْهِبهُم إياه، وروى محمد بن عمر، قال: حدثنا يحيى بن سعيد بن دينار قال: بينا عبد الله بن جعفر ذات ليلة عند معاوية بالخضراء بدمشق، إذ وَرَدَ على معاوية كتاب غَمَّه من حُسين بن علي، فضرَبَ به الأرض، ثم قال: مَن يعذرني من الحسين، والله لَهَمَمْتُ أن أفعلَ به وأفعل، قال: فجعلَ عبد الله بن جعفر يجيبه بنحو مما يشتهي ويُداريه، حتى قام فانصرف، قال: وكانت بينهما خَوخَة، فلما صار إلى منزله دعا برَوَاحله فقعدَ عليها وخرَج من ساعته متوجهًا إلى المدينة، قال: ودخل معاوية على امرأته بنت قَرَظَة مغتمًا فقال: ماذا صَنَعَتُ الليلة بابن جعفر فحَشْتُ عليه وأسمعته في ابن عمه ما يكره، وحال ابن جعفر حاله وحبه لنا ومودته إيانا، فقالت: بئس والله ما صنعت، ما أقبح ما أتيت إليه! فبات ليلته مغتمًا يتذكر صنيعه به، ولا يأخذه النوم حتى أسْحَرَ، فقام فتوضأ وقال: والله لا يُنبهه من فراشه غيري، فمشى إليه، فدخل منزله، فإذا ليس فيه أحد فسأل عنه فقيل له: رحل إلى المدينة ساعة جاء عندك، فبعث في إثره، وقال: أدركوه فَرُدُّوه ولو دخل منزله، فلحقوه فردوه إليه، فجعل معاوية يعتذر إليه ويقول: لا والله لا تسمع مني أمرًا تكرهه أبدًا، وأخبره باغتمامه بما كان منه تلك الليلة، وقال: قد أطعتك ووهبت لك كُلّ شيء مررتَ به في مسيرك، قال: وقد كان مَرّ بإبل وغنم كثيرة لمعاوية فأمر بها فقبضها وذهب ما كان في نفسه، وروى محمد بن عمر قال: أخبرنا يحيى بن سعيد بن دينار قال: حج معاوية فنزل في دار مروان بالمدينة، فطال عليه النهار يومًا، وفزع من القائلة، فقال: يا غلام، انظر من بالباب، هل ترى الحسن بن علي أو الحسين أو عبد الله بن جعفر أو عبد الله بن أبي أحمد بن جَحش فأَدْخِلْهُ عَلَيّ، فخرج الغلام فلم ير منهم أحدًا، وسأل عنهم فقيل: هم مجتمعون عند عبد الله بن جعفر يتغدون عنده، فأتاه فأخبره، فقال: والله ما أنا إلا كأحدهم، وقد كنت أجامِعُهم في مثل هذا، فقام فأخذ عصًا فتوكأ عليها وقال: مُرَّ يا غلام، فخرج بين يديه حتى دَقّ عليهم الباب، فقال: هذا أمير المؤمنين، فدخل فأوسع له عبد الله بن جعفر عن صدر فراشه فجلس، فقال: غداءك ياابن جعفر فقال: ما يشتهي أمير المؤمنين من شيء فَلْيَدْعُ به، فقال: أطعمنا مُخًّا، فقال: يا غلام، هات مُخًّا، قال: فأتِيَ بصحفة فيها مخّ، فأقبل معاوية يأكل، ثم قال عبد الله، زدنا مخًا، فجاء فزاد، ثم قال: يا غلام، زدنا مخًا، فزاد ثم قال: يا غلام، زدنا مخًا، فقال معاوية: إنما كنا نقول: يا غلام زدنا سَخِينا، فأما قولك يا غلام زدنا مخًا فلم أسمع به قبل اليوم، ياابن جعفر ما يسعك إلا الكثير، فقال عبد الله بن جعفر: يُعِينُ الله على ما ترى يا أمير المؤمنين، قال: فأمر له يومئذ بأربعين ألف دينار، قال: وكان عبد الله بن جعفر قد ذبح ذلك اليوم كذا وكذا من شاة وأمر بمخّهن فنكِتَ له، فوافق ذلك معاوية، وروى محمد بن عمر، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد بن دينار قال: لما حضرت معاوية الوفاة قال ليزيد: يا بنّي إنّ لِي خليلًا بالمدينة فاستوص به خيرا وأعرف له مكانه مني ــ يعني: عبد الله بن جعفر ــ قال: فلما مات معاوية رحل عبد الله بن جعفر إلى يزيد فأكرمه وألطفه، وقال له: ياأبا جعفر، كم كان أمير المؤمنين يجيزك به كل سنة؟ قال: كذا وكذا ألف دينار، قال: قد أضعفتها لك، قال: بأبي أنت ما قلتها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحد بعدك، وروى محمد بن عمر، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: خرج عبد الله بن جعفر، والحسن، والحسين ابنا علي،ّ وعبيد الله بن العباس، وعبد الله بن أبي أحمد بن جحش ــ وكان كأحدهم ــ إلى ينبع، فلما كانوا بطاشا أصابتهم السماء؛ فلجأوا إلى خِبَاء رجل فنزلوا به، فذبح لهم وقراهم، فلما سكنت السماء ركبوا، وقالوا له: الحقنا بالمدينة، فقال: والله ما أعرفكم وإني لأرى وجوهًا حسانًا، فقال عبد الله بن جعفر: أنا عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وهذان الحسن، والحسين ابنا علي بن أبي طالب، وهذا عبيد الله بن العباس، وهذا عبد الله بن أبي أحمد بن جحش، فقال الرجل: هذا والله الغنى، فتحين رجوعهم من ينبع ثم لحقهم بالمدينة فبدأ بالحسن بن علي فأعطاه خمسمائة شاة وراع، ثم مر عليهم كلهم فأعطاه كل رجل منهم مثل ذلك، وروى محمد بن عمر، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه قال: قيل: أي هؤلاء الثلاثة أسخى؟ عبد الله بن جعفر، أو الحسن بن علي، أو عبيد الله بن العباس؟ فقيل: ما رأينا أحدًا أعطى لجزيل من الحسن بن عليّ، وما رأينا أحدًا أعطى لجزيل وغير جزيل من عبد الله بن جعفر، وما مررنا بباب عبيد الله بن العباس في ساعة قط إلا رأينا عنده فَرْثًا رَطْبا، قال: وكان ينحر كل يوم جزورًا في مجزرته فيقسمها، وبه سميت مجزرة ابن عباس، قال: فغلتِ الجُزر حتى بلغت خمسة عشر دينارًا، وعشرين دينارًا، فعاتبه عبد الله بن جعفر على ذلك وقال: لا يقوم لهذا مال، فقال: والله لا أدع هذا أبدا، وروى محمد بن عمر، عن عمرو بن دينار قال: رأيت الحجاج بن يوسف بين عبد الله بن جعفر وبين محمد بن الحنفية.
وروى أَبو يَعْلَى المَوْصِلي، عن عبد اللّه بن جعفر ـــ قال: أَردفَنِي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وراءَه ذات يوم، فأَسَرَّ إِليَّ حديثًا لا أُحَدِّثُ به أَحَدًا من الناس، وكان أَحبَّ ما استتر به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لحاجته هَدَفٌ أَو حَائِشُ نَخْلٍ ــ يعني: حائطًا ــ فدخل حائطًا لرجل من الأَنصار، فإِذا فيه جَمَل، فلما رأَى النبي صَلَّى الله عليه وسلم جَرْجَر وذَرِفت عيناه، قال: فأَتاه النبي صَلَّى الله عليه وسلم فمسح رأْسه إِلى سَنَامه وذِفْرَيْه فسكن فقال: "من رب هذا الجمل؟" فجاءَ فتى من الأَنصار فقال: هو لي يا رسول الله، قال: "أَفَلَا تَتَّقِي الله فِي هَذِهِ الْبُهَيْمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ الله إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ شَكَى أَنَّكَ تُجِيْعُهُ وَتُدْئِبُهُ"(*) أخرجه أحمد في المسند 1/ 204.، وروى هِشام بنُ عروة، عن أَبيه، عن عبد اللّه بن جَعْفر قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيْجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ"(*) أخرجه البخاري في الصحيح 4/ 200، 5/ 47 ومسلم في الصحيح 4/ 1886 كتاب فضائل الصحابة (44) باب (12) حديث رقم (69/ 2430) والترمذي في السنن 5/ 659 ـــ 660 كتاب المناقب (50) باب (62) حديث رقم 3877 قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وأحمد في المسند 1/ 84، 116، 132، 143 والبيهقي في السنن 6/ 367، والحاكم في المستدرك 2/ 497، 3/ 184.، حفِظَ عبد الله عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وروى عنه أَحاديث، ورَوَى عن أبويه، فروى عن أُمه أَسماءَ، وروى عن عَمّه علي بن أَبي طالب، وأبي بكر، وعثمان، وعمار بن ياسر، وروى عنه بنوه إِسماعيلُ، وإِسحاقُ، ومعاويةُ، وروى عنه محمد بن علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وعُرْوة بن الزُّبَيْر، والشَّعْبِي، وأبو جعفر الباقر، وغيرهم، وروى أبو معاوية الضرير، عن عبد الله بن جعفر قال: كان النبي صَلَّى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر يُلَقَّى بصبيان أهل بيته، وإنه جاء مَرّة من سفر فسُبِقَ بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جِيءَ بأحد ابني فاطمة الحسن أو الحسين فأردفه خلفه، فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة(*). وقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ: كان أحد أمراءِ عليٍّ يوم صِفّين.
وتُوفِّي عبد الله بالمدينة سنة ثمانين، وهو ابنُ تسعين سنة، وقيل‏:‏ إنه تُوفِّي سنة أربع أو خمس وثمانين، وهو ابنُ ثمانين سنة، قال ابن عبد البر: "والأوَّلُ عندي أَوْلَى‏، وعليه أكثرهم أَنه تُوفِّي سنة ثمانين"، وروى محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن رفاعة بن ثعلبة، عن أبيه، عن جَدّه، قال: حضرتُ يوم مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعلى المدينة يومئذ أبان بن عثمان، وكان لابن جعفر صديقًا، كان كثير الغِشْيَانِ له، وكان ممن حضر غسله وكفنه، ولقد رأيته أخرج به من داره وعلى كفنه لفافة بُرْد مُبَرَّك إني لأراه ثمن مائة دينار، والولائد خلف سريره قد شققن الجيوب، والناس يزدحمون على سريره، وأبان بن عثمان قد حمل السرير بين العمودين فما فارَقَه حتى وضَعه بالبقيع، وإن دموعه لتسيل على خديه وهو يقول: كنتَ والله خيرًا لا شَرّ فيك، وكنت والله شريفًا واصلًا بَرّا، كنتَ والله وكنتَ، قال محمد بن عمر: مات عبد الله بن جعفر سنة ثمانين، وهو عام الجُحَاف: سيل كان ببطن مكة جحف الحاج وذهب بالإبل وعليها الحمولة، وكان الوالي يومئذ على المدينة أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو صلّى عليه، وكان عبد الله جعفر يوم توفي ابن تسعين سنة، ورُئي على قبره مكتوب:
مُقِيمٌ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ الْلَّهُ خَلْقَهُ لِقَاؤُكَ
لاَ يُرْجَى
وَأَنْتَ قَرِيبُ
تَزِيدُ بِلًى
فِي كُلِّ
يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَتُنْسَى كَمَا تَبْلَى وَأَنْتَ حَبِيبُ
قال خليفة: مات سنة اثنتين، وقيل سنة أربع وثمانين، وَقَالَ ابْنُ البُرْقِي، ومصعب: في سنة سبع وثمانين فهذا يمكن أن يصحّ معه قَوْلُ الواقدي إنه مات وله تسعون سنة.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال