تسجيل الدخول


عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي

عَبْدُ اللّهِ بنِ عَباسِ بنِ عبد المُطَّلِبِ، القُرَشِيّ الهاشمي، ابنُ عَمِّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:
يُسمَّى حَبْرُ الأُمة، من كثرة عِلْمِه، وكان يقال له: حبر العرب؛ ويقال: إن الذي لقبه بذلك جرجير ملك المغرب، وكان قد غزا مع عبد الله بن أبي سَرْح إفريقية، فتكلم مع جرجير فقال له: ما ينبغي إلا أن تكون حبر العرب؛ ذكر ذلك ابن دُرَيد في الأخبار المنثورة له، ويُكْنَى أبا العبّاس.
وُلِد وبنو هاشم بالشِّعْبِ، فأُتِيَ به النبيَّ صَلَّى الله عليه وسلم فحنكه بريقه، وذلك قبل الهجرة بثلاث، وقيل: بخمس، والأول أثبت، وهو يقارب ما في الصحيحين عنه، قال: مررتُ في حجة الوداع على حِمَار أنا والفضل، وقد راهقت يومئذ الاحتلام، والنبي صَلَّى الله عليه وسلم يصلي بالناس فدخلنا في الصف، وتركنا الحمار أمام الناس فلم يُنكر علينا.(*) قال محمد بن عمر: لا اختلاف عند أهل العلم أن ابن عباس وُلد في الشِّعب، وبنو هاشم محصورون، فوُلد ابن عباس قبل خروجهم منه بيسير، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، فتوفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة، ألا تراه يقول في حديث مالك، عن الزهري، عن عُبيد الله بن عبد الله: راهقت الاحتلام في حجة الوداع، قال ابن الأثير: وهذا أثبت مما ُروى عن سَعيد بن جُبَير في سِنّه؛ فقد روى سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس، قال: توفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر حِجج، وقرأتُ المحكَم على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يعني المُفَصَّل، وروى سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: إن الذي تَدعون المُفَصَّل هو المُحْكَم، وقال سعيد بن جبير: سُئل ابن عباس مثل من كنت يوم توفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: أنا يومئذ مختون، وفي رواية: وكانوا لا يختنون الرجلَ حتى يُدرك، وفي طريق أخرى: قُبِض وأنا ابنُ عشر سنين؛ وهذا محمول على إلغاء الكسر.
أمّه أم الفضل وهي لُبابة الكبرى بنت الحارث بن حَزْن، وهو ابن خالة خالد بن الوليد، وقال عبيد الله بن أبي يزيد: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين، وأنا ممن قدّم رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة في ضَعَفَة أهله.
وروى موسى بن ميسرة ــ وهو خال ثور، وكان يكنى موسى أبا عروة ــ أن العباس بن عبد المطلب أرسل ابنه عبد الله إلى النبي صَلَّى الله عليه وسلم يكلمه بحاجة فوجد عنده رجلًا فرجع فلم يكلمه من أجل مكان الرجل معه، فلقي النبيَ صَلَّى الله عليه وسلم العباسُ بعد ذلك فقال: أرسلت إليك ابني فوجد عندك رجلًا فلم يستطع أن يكلمك فرجع. قال النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "وقد رآه؟" فقال العباس: نعم. قال: "وتدري مَن ذلك الرجل؟" قال: لا. قال: "ذلك جبريل صَلَّى الله عليه وسلم لعسى أن لا يموت ابنك حتى يؤتى علمًا ويذهب بصره".(*) وروى عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: كنت عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مع أبي، ورسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مقبل على رجل يناجيه، وهو كالمعرض عن العباس، فلما خرجنا قال لي أبي: ألم تر إلى ابن عمك كالمعرض عني؟! فقلت: ياأبتِ إنه كان عنده رجل يناجيه، فقال: أَوَ كان عنده أحد؟ قلت: نعم. فرجعنا فقال: يارسول الله إني قلت لعبد الله كذا وكذا فقال: إنه كان عندك رجلٌ يناجيك، فهل كان عندك أحد؟ قال: "وهل رأيته ياعبد الله؟" قلت: نعم: قال: "ذاك جبريل وهو الذي كان شغلني عنك".(*)
وَلَدَ عبدُ الله بن العباس: العباسَ بنَ عبد الله، وبه كان يُكْنَى وهو أكبر ولده، وليس له عقب، وعلي بن عبد الله وهو أصغر ولده، وكان أجمل قرشي على الأرض، وأوسمه، وأكثر صلاة، وكان يدعى السّجّاد، وله عقب، وفي ولده الخلافة، والفضل بن عبد الله لا بقية له، ومحمد بن عبد الله لا بقية له، وعُبيد الله بن عبد الله لا بقية له، ولُبابة بنت عبد الله كانت عند علي بن أبي طالب بن جعفر بن أبي طالب فولدت له، ولولدها أعقاب وبقية، وأمهم زُرعة بنت مِشْرَح بن معديكرب، وأسماء بنت عبد الله؛ كانت عند عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، فَوَلَدَتْ له حَسَنًا، وحُسَينًا الفقيه، وأمها أم ولد.
كان يُصَفِّر لحيته، وقيل: كان يَخْضِبُ بالحَنَّاء، وكان جميلًا أَبيض طويلًا، مُشْرَبًا صفرة، جسيمًا وسيمًا صبيح الوجه، وروى شريك، عن أبي إسحاق، قال: رأيت ابن عباس بمكة طويل الشعر بعد ما أحل الناس، أظنه قَصَّرَ فكان إذا سجد نزل شعره حتى يقع إلى الأرض، ورأيت في إزاره بعض الإسبال، وقال حبيب بن أبي ثابت: رأيت ابن عباس وله جُمَّة فينانةٌ، وعليه قميص رقيق، وبين يديه كبة من ريحان، وقال إبراهيم الصيقل مولى عبد الله بن عباس عتاقة، قال: رأيت ابن عباس لا يغيّر ــ أي الشيب ــ وقال عطاء: رأيت ابن عباس يُصَفّرــ أي يغير الشيب إلى الصفرة ــ وروى رِشْدِين بن كُرَيب، عن أبيه، قال: رأيت ابن عباس يخضب بصفرة، أو يصفّر بالحناء، وروى شعبة مولى ابن عباس: أن ابن عباس كان يصفّر لحيته، وقال أبو إسحاق: رأيتُ ابْنَ عباس رجلًا جسيمًا، قد شاب مقدم رَأْسِه وله جُمّة، وقال أبو عَوانة، عن أبي حمزة: كان ابن عباس إذا قعد أخذ مقعد رجلين، وقال الصلت بن عبد الله بن نوفل: رأيت ابن العباس وخاتمه في يمينه؛ ولا إِخَالُهُ إلّا أنه قد كان يذكر أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم هنالك يلبسه.(*) وروى رِشْدِين بن كُرَيب، عن أبيه، أَنَّ ابنَ عباس كان يتختم في يساره، وروى عِكْرِمة، عن ابن عباس، أنه لم يكن يدخل الحمّام إلا وحده، ولم يكن يدخل إلا وعليه ثوب صفيق ويقول: إني لأستحي من الله أن يراني متجردًا في الحمّام، وقال أبو الجويرية: رأيت إزار ابن عباس إلى نصف الساق أو فوق ذلك، وعليه قطيفة رومية، يصلي مستقبل البيت، وقال أبو حمزة: رأيت عَلَى ابن عباس قميصًا مقلصًا فوق الكعب، والكُمّ يبلغ أصول الأصابع ويغطي ظهر الكف، ورأيت ابن عباس مشى يومًا في أحد العيدين في خمسة من أهله، وكان قائم البصر، وروى رِشْدِين بن كُرَيب، عن أبيه، قال: رأيت ابن عباس يعتمّ فيرخي من عمامته شبرًا بين كتفيه ومن بين يديه، وروى رِشْدِين، عن أبيه، قال: رأيت عبد الله بن عباس يعتمّ بعمامة سوداء حرقانية، ويرخيها شبرًا أو أقل من شبر، وروى عِكْرِمة مولى ابن عباس، أن ابن عباس كان إذا اتَّزَر أرخى مقدم إزاره حتى تقع حاشيته على ظهر قدميه، ويرفع الإزار مما وراءه، قال: فقلت له: لم تتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يأتزر هذه الإِزْرة.(*)، وكان ابن عبّاس رضي الله عنهما قد عمي في آخر عمره، وهو القائل في ذلك فيما روي عنه من وجوه:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي مِنْهُمَا نُورُ
قَلَبِي ذَكِيٌّ وَعَقْلِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُور
وقال سلمة بن سابور: قال رجل لعطية: ما أضيق كم قميصك؟ قال: هكذا كان كمّ ابن عباس وابن عمر، وقال عِكْرِمة: كان ابن عباس يلبس الخَزَّ ويكره المُصْمَتَ منه، وقال ثابت: ما رأيت ابن عباس يزرّ قميصه قط، وقال أبو الجُوَيرية: رأيت إزار ابن عباس إلى أنصاف ساقيه، ورأيت عليه قطيفةً.
قال ابْنُ يُونُسَ: غزا إفريقية مع عبد الله بن سعد سنة سبع وعشرين، وشهد عبد الله بن عبّاس مع عليّ رضي الله عنهما الجمل وصِفّين والنهروان، وكان على ميسرة علِي يوم صفين، وشهد معه الحسن والحسين ومحمد بنوه، وعبد الله وقَثَم ابنا العبّاس، ومحمد وعبد الله وعَوْن بنو جعفر بن أبي طالب‏، والمغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلّب، وعقيل بن أبي طالب، وعبد الله بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلّب.
روى الضّحّاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} [سورة الكهف:22]: قال: أنا من أولئك القليلِ وهم سبعةٌ، وقال عُبيد الله بن أبي يزيد: كان ابن عبّاس إذا سُئلَ عن الأمر فإن كان في القرآن أخبر به، وإن لم يكن في القرآن وكان عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أخبر به، فإن لم يكن في القرآن ولا عن رسول الله، وكان عن أبي بكر وعمر أخبر به، فإن لم يكن في شئٍ من ذلك اجتهدَ رَأيَه، وقال عطاء: كان ابن عبّاس يقال له: البحر، وكان عطاء يقول: قال البحرُ وفعل البحرُ! وقال طاوُس: ما رأيتُ رجلًا أعلم من ابن عبّاس، وقال ليث بن أبي سُليم: قلتُ لطاوُس: لزمتَ هذا الغلامَ، يعني ابن عبّاس، وتركتَ الأكابرَ من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال: إني رأيتُ سبعين من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إذا تدارءُوا في شئٍ صاروا إلى قول ابن عبّاس، وروى سعيد بن جُبير، ويوسف بن مِهْران: أنّ ابن عبّاس كان يُسأل عن القرآن كثيرًا فيقول هو كذا وكذا، أمَا سمعتم الشاعر يقول كذا وكذا؟ وقال عِكْرِمة: كان ابن عبّاس أعلمهما بالقرآن، وكان عليّ أعلمهما بالمُبْهَمَات، وقال عطاء: كان ناسٌ يأتون ابنَ عبّاس للشعر، وناسٌ للأنساب، وناسٌ لأيام العرب ووقائِعها، فما منهم مِنْ صِنْفٍ إلاّ يُقْبِلُ عليه بما شاء، وقال الحسن: أوّل من عرّف بالبصرة عبدُ الله بن عبّاس ـــ أي جمع أهل البصرة ووعظهم وعلمهم من عصر يوم عرفة وحتى الإفاضة ـــ قال: وكان مِثَجّةً ــ الثجُّ هو السيلان والكثرة ـــ كثير العلم، قال: فقرأ سورة البقرة ففسّرها آيةً آية، وروى عكرمة عن ابن عبّاس قال: لمّا قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قلتُ لرجل من الأنصار: هَلُمّ فَلْنَسْأل أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فإنّهم اليومَ كثيرٌ، قال: فقال: واعجبا لك يا بن عبّاس! أتَرَى النّاس يفتقرون إليك وفي النّاس من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مَنْ فيهم؟ قال: فتركتُ ذلك وأقبلتُ أسأل أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عن الحديث؛ فإنْ كان لَيَبْلغني الحديثُ عن الرجل، فآتِي بابَه وهو قائل، فأتوسّد رِدائى على بابه تَسفي الريحُ عليّ الترابَ، فيخرج فيراني فيقول لي: يابن عمّ رسول الله ما جاء بك؟ ألا أرسلتَ إليّ فَآتيكَ؟ فأقول:لا، أنا أحقّ أن آتيك! فأسأله عن الحديث، فعاش ذلك الرجل الأنصاريّ حتى رأني وقد اجتمع الناسُ حولي ليسألوني، فيقول: هذا الفتى كان أعقل مني! وروى أبو سلمة عن ابن عبّاس قال: وجدتُ عامّة حديث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، عند الأنصار فإن كنتُ لآتى الرجلَ فأجدُه نائمًا لو شئتُ أن يُوقَظَ لي لأوقِظَ، فأجْلِسُ على بابه تَسْفِي على وجهي الريح حتى يستيقظ متى ما استيقظ، وأسأله عَمّا أريد ثمّ أنصرف، وقال عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبْة: كان ابن عبّاس قد فات الناسَ بخصال؛ بعِلْم ماسبقَه، وفقهٍ فيما احتيجَ إليه من رأيه، وحِلْم وَنَسَب، ونائلٍ، ومارأيتُ أحدًا كان أعلمَ بما سَبقه من حديث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم منه، ولا أعلمَ بقضاء أبي بكر وعمر وعثمان مِنْه، ولا أَفْقَه في رأيٍ منه، ولا أعلَمَ بِشِعْرٍ ولا عربيّة ولا بتفسير القرآن ولا بحسابٍ ولا بفريضةٍ مِنْه، ولا أعلمَ بما مضَى وََلا أَثْقَب رأيًا فيما احتيج إليه منه، ولقَدْ كانَ يجلسُ يومًا ما يذكر فيه إلّا الفقهَ، ويومًا التأويلَ، ويومًا المغازي، ويومًا الشعر، ويومًا أيّام العرب، ومارأيتُ عالمًا قطّ جَلَسَ إليه إلّا خَضَعَ له، وما رأيت سائلًا قطّ سأله إلّا وجد عنده عِلْمًا، وقال سعيد بنَ المسيّب: ابنُ عبّاس أعلمُ النّاسِ! وقال عامر بن سعد بن أبي وقّاص: سمعتُ أبي يقول: ما رأيتُ أحدًا أحضرَ فَهمًا ولا ألبّ لُبًّا ولاأكثرَ علمًا ولا أوسعَ حلمًا من ابن عبّاس! ولقد رأيتُ عمر بن الخطّاب يدعوه للمُعْضلات ثمّ يقول: عندك قد جائتك معضلةٌ، ثمّ لا نجاوز قوله وإنّ حوله لأهلَ بدر من المهاجرين والأنصار، وقال نَبْهان: قلتُ لأمّ سلمة زوج النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم: أرى الناسَ على ابن عبّاس منقصفين، فقالت أمّ سلمة: هو أعلمُ مَن بَقِيَ، وروى طلحة بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر عن أبيه عن عائشة: أنّها نظرَت إلى ابن عبّاس ومعه الحلَقُ لياليَ الحَجّ وهو يُسأل عن المَناسك فقالت: هو أعلمُ مَن بقي بالمناسك، وروى مروان بن أبي سعيد عن ابن عبّاس قال: دخلتُ على عمر بن الخطّاب يومًا فسألَني عن مسألة كَتب إليه بها يعلى بن أميّة من اليَمَن وأجَبْتُه فيها، فقال عمر: أشْهَدُ أنّك تنطق عن بيت نُبُوّة! وقال أبو معبد: سمعتُ ابن عمر يقول: أعلمُنا ابنُ عبّاس، وقال عكرمة: سمعتُ معاوية بن أبي سفيان يقول: مَوْلاك واللهِ أفقهُ مَن مات وعاشَ، وقال عكرمة: قال كعب الأحبار: مولاك رَبّانيّ هذه الأمّة، هو أعلمُ مَن مات ومَن عاش، وروى ابن طاوس عن أبيه قال: كان ابن عبّاس من الراسخين في العِلم، وكان ابن عبّاس قد بَسق على النّاس في العلم كما تَبسق النخل السّحُوقُ على الوَدِيّ الصغار، وقال سعيد بن جُبير: إنْ كان ابنُ عبّاس ليُحدّثني الحديث فلو يأذن لي أن أُقَبّل رأسه لفَعَلتُ، وقال مالك بن أبي عامر: سمعتُ طلحة بن عُبيد الله يقول: لقد أُعطى ابنُ عبّاس فهمًا ولَقْنًا وعلمًا، ما كنتُ أرى عمرَ بن الخطّاب يُقَدّمُ عليه أحدًا، وقال محمّد بن أبيّ بن كعب: سمعتُ أبي أُبَيّ بن كعب يقول، وكان عنده ابن عبّاس، فقام فقال: هذا يكون حَبْر هذه الأمّة أوتيَ عقلًا وفهمًا، وقد دعا له رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم أن يفقّهه في الدين، وروى مجاهد عن ابن عبّاس‏ قال:‏ رأيت جبرئيل عند النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم مرّتين، ودعا لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بالحكمة مرتين.(*) وروى عبد الرّحمن بن أبي الزّناد عن أبيه: أن عمر بن الخطّاب دخل على ابن عبّاس يعوده وهو يُحَمّ فقال عمر: أخَلّ بنا مرضك فاللهُ المستعانُ، وقال أبو معبد: سمعتُ ابن عبّاس يقول: ماحدّثني أحدٌ قطّ حديثًا فاستفهمتُه ــ يعني: طلبت منه أن يفهمني؛ وذلك من سرعة فهمه ــ فلقد كنتُ آتي بابَ أُبَيّ بن كعب وهو نائم فأقيلُ على بابه، ولو علم بمكاني لأحبّ أن يوقَظ لي لِمَكاني من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ولكني أكْرَهُ أن أُمِلّه، وروى عُبيد الله بن عليّ عن جدّته سلمَى قالت: رأيتُ عبد الله بن عبّاس معه ألواحٌ يكتب عليها عن أبي رافع شيئًا من فِعْلِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال أبو سلمة الحضرميّ: سمعت ابن عبّاس يقول: كنتُ ألزمُ الأكابرَ من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار فأسألهم عن مغازي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما نزل من القرآن في ذلك، وكنت لا آتي أحدًا منهم إلاّ سُرّ بإتْياني لقُرْبي من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فجعلت أسأل أُبَيّ بن كعب يومًا، وكان من الراسخين في العلم، عمّا نزل من القرآن بالمدينة فقال: نزل بها سبع وعشرون سورة وسائرها بمكّة، وقال عِكْرِمَة: سمعتُ عبد الله بن عَمرو بن العاص يقول: ابن عبّاس أعلمُنا بما مضى، وأفقهُنا فيما نزل ممّا لم يأتِ فيه شيء، قال عِكرمة: فأخبرتُ ابنَ عبّاس بقوله فقال: إن عنده لَعِلْمًا، ولقد كان يَسألُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عن الحلال والحرام، وقال طاوس: ما رأيتُ أحدًا قَطّ خالف ابن عبّاس ففارقه حتى يقرّره، وقال زياد بن ميناء: كان ابن عبّاس وابن عُمر وأبوسعيد الخُدْريّ وأبو هُريرة وعبد الله بن عَمرو بن العاص وجابر بن عبد الله وَرَافع بن خَديج وسَلَمة بن الأكْوع وأبو واقد اللّيثي وعبد الله بن بُحينة مع أشباهٍ لهم من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يُفتون بالمدينة ويحدّثون عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من لَدُنْ تُوفيّ عثمان إلى أن تُوفّوا، والذين صارت إليهم الفتوَى منهم ابن عبّاس وابن عمر وأبو سَعيد الخُدْريّ وأبو هُريرة وجابر بن عبد الله، وقال محمد بن عمر: وكانت السنة التي ولّى عثمان فيها ابن عباس على الحج سنة خمس وثلاثين، ولما وُلّى عليّ وبويع له استعمل أيضًا ابن عباس على الحج، فحج بالناس سنة ست وثلاثين، وروى عثمان بن أبي سليمان، عن ابن عباس، أنه كان يتخذ ــ أو يبتاع ــ الرداء بألف، وروى عمرو بن أبي المقدام، عن مؤذن بني وَادِعَة، قال: دخلت على عبد الله بن عباس وهو متكئ على مرفقة من حرير، وسعيد بن جبير عند رجليه وهو يقول: انظر كيف تُحَدِّث عَنِّي فإِنّك قد حَفِظْتَ عنّي كثيرًا، وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كيف أؤمهم وهم يعدلوني إلى القبلة! وروى عطاء، أن عبد الله بن عباس كان يؤمهم وهو أعمى، وقال مجاهد: كان عبد الله بن عباس أمدَّهم قامةً وأعظمهم جَفْنة وأوسعهم علمًا، وقال شعبة: كان ابن عباس يشرب في القوارير ويتوضأ في النحاس، وقال سعيد بن جُبَيْرٍ: كان عمر يُدْنِي ابنَ عباسٍ، فقال لهُ ابن عَوْف: لنا أبناء مثله، فقال: إنه مِنْ حَيْث تَعْلَم. وقال سعيد بن جُبَير: كان أناس من المهاجرين قد وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس دونهم، قال: وكان يسأله. فقال عمر: أَمَا إِنّي سَأُرِيكم منه اليوم ما تعرفون فَضْلَه، فسألهم عن هذه السورة: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [سورة النصر: 2،1] قال: فقال بعضهم: أمر الله نبيه صَلَّى الله عليه وسلم إذا رَأَى الناسَ يدخلون في دين الله أفواجًا أن يحمده ويستغفره. قال: فقال عمر: يابن عباس أَلَا تكلّم؟ قال فقال: أعلمه متى يموت. قال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا}، فهي آتيك من الموت: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [سورة النصر: 3]. قال: ثم سألهم عن ليلة القدر فأكثروا فيها؛ فقال بعضهم: كنّا نرى أَنها في العشر الوسط، ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر، قال: فأكثروا فيها، فقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: ثلاث وعشرين، وقال بعضهم: سبع وعشرين، فقال عمر لابن عباس: أَلَا تكلّم؟ قال: والله أعلم. قال: قد نعلم أن الله أعلم، إنما نسألك عن علمك، فقال ابن عباس: الله وتْر يحب الوتْر؛ خلق من خلقه سبع سماوات فاستوى عليهن، وخلق الأرض سبعا، وخلق عدة الأيام سبعًا، وجعل طوافًا بالبيت سبعًا، ورمي الجمار سبعًا، وبين الصفا والمروة سبعًا، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع قال: فقال عمر: فكيف خلق الإنسان من سبع؟ وجعل رزقه من سبع؟ فقد فهمتَ من هذا أمرًا ما فهمتُه. قال ابن عباس: إن الله يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} حتى بلغ إلى قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [سورة المؤمنون: 12 ـ 14] قال: ثم قرأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [سورة عبس 25 ـ 31]. فأما السبعة فلبني آدم، وأما الأبّ فما أنبت الأرض للأنعام، وأما ليلة القدر فما نراها ــ إن شاء الله ــ إلا ليلة ثلاث وعشرين يمضين وسبع يبقين، وقال يعقوب بن زيد: كان عمر بن الخطاب يستشير عبد الله بن عباس في الأمر إِذَا أَهَمَّه ويقول: غُصْ غَوّاصُ، وروى الشَّعبي، أن العباس قال لعبد الله بن العباس: إني أرى هذا الرجل ــ يعني عمر بن الخطاب ــ قد أدناك وأكرمك وألحقك بقوم لست مثلهم؛ فاحفظ عني ثلاثا: لا يُجرِّبَنَّ عليك كذبًا، ولا تفشيَنَّ له سِرًّا، ولا تَغْتَابَنَّ عنده أَحَدًا، وقال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: خدمتُ عمر خدمة لم يخدُمها إياه أحد من أهله، ولطفتُ به لطفًا لم يلطفهُ أحدٌ من أهله، فخلوت معه ذات يوم في بيته، وكان يُجلني ويكرمني، فشهق شهقةً ظننتُ أنّ نفسَه سوف تخرجُ منها. فقلت: أَمِنْ جزعٍ يا أمير المؤمين؟ فقال: من جزع. فقلت: وماذا؟ فقال: اقترب، فاقتربتُ منه، فقال: لا أجدُ لهذا الأمر أحدًا، قلت: فأين أنت عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان، وفلان، وفلان فسمى له الستة أهل الشورى، فأجابه في كل واحد منهم بِقَوْلٍ، ثم قال: إنه لا يصلح لهذا الأمر إلا قويٌّ في غير عُنْفٍ، لَيِّنٌ في غير ضعفٍ، جوادٌ في غير سَرَف، ممسك في غير بُخْل، وروى عُبَيد الله بن عبد الله بن عُتْبَة، عن ابن عباس، قال: جئت عمر حين طُعِنَ في غَبَشِ السَّحَر، فاحتملته أنا ورهط معي وكنا في المسجد، حتى إذا أدخلناه بيته وأمر عمر عبد الرحمن بن عوف يصلي بالناس، وغشي على عمر من النزف فلم يزل في غشيته حتى أسفر، ثم أفاق فقال: أَصَلَّى الناسُ؟ فقلنا: نعم. فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاةَ، ثم دعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى، قال حين سلم: يا عبد الله بن عباس، اخرج فسل مَنْ قتلني؟ قال: ففتحت الباب فإذا الناس مجتمعون جاهلون بخبر عمر، فقلت: مَنْ طَعَنَ أمير المؤمنين؟ قالوا: طعنه عدو الله أبو لؤلؤة، فرجعت إلى عمر أخبره، قال: فإذَا عُمر يُبِدُّنِي النظرَ، يسألني خبر ما بعثني إليه، فقلت: أرسلتني يا أمير المؤمنين أسأل: مَنْ قَتَلَك؟ فكلمتُ الناسَ، فزعموا أنّه طعنك أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة، وطعن معك رَهْطًا، وقَتلَ نفسه، فقال عمر: الله أكبر، الحمدُ لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجّني عند الله بسجدة سَجَدها له، ولقد عرفتُ ما كانت العرب لتقتلني، أنا أحب إليها من ذلك، وروى سماك الحنفي، عن ابن عباس، قال: لما طعن عمر قال: لو أن لي ما في الأرض لافتديت به من هول المُطَّلع. فقال له ابن عباس: لم؟ فقد فتح الله بك الفتوح، ومَصَّرَ بكَ الأمصار، وولِيت الناس فعملت بالعدل، وصحبت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومات وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر فمات وهو عنك راضٍ، فقال عمر: أردد عليّ الكلمات، فرددها عليه فقال: أتشهد بها لي عند الله؟ قال: نعم أشهد لك بها عند الله، وروى شهاب بن عبد الله الخلواني، عن ابن عباس، قال: دعاني عمر حين طعن، فقال: احفظ عني ثلاث خصال، مَنْ قال عَلَيَّ فيهن شيئًا فقد كذب، من قال: إني تركت مملوكًا فقد كذب، ومن قال: إني قضيت في الكلالة بشيء فقد كذب، ومن قال: إني قد سميت الخليفة بعدي فقد كذب. قال: ثم بكى عمر فقال له ابن عباس: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: يبكيني أمر آخرتي. قال ابن عباس: فإن فيك يا أمير المؤمنين ثلاث خصال لا يعذبك الله معهن أبدًا إن شاء الله. قال عمر: وَمَا هُنَّ؟ قال: إنك إذا قلتَ صدقتَ، وإذا حكمتَ عدلتَ، وإذا استُرْحمتَ رحمتَ. فقال: أتشهد لي بهنّ عند ربي ياابن عباس؟ قال: نعم. وقال مسروق: قال عبد الله: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا ما عَشره منا من رجل، وزاد النضر بن إسماعيل في هذا الحديث: نِعم ترجمان القرآن ابن عباس! وقال عبد الله بن بريدة: شَتَمَ رجلٌ ابن عباس، فقال له ابن عباس: إنك لتشتمني وإن فيَّ ثلاث خصال: إني لأسمع بالحكم من حكام المسلمين يعدل فأفرح به ولعلّي لا أقاضي إليه أبدا، وإني لأسمع بالغيث يصيب البلد من بلدان المسلمين فأفرح به وما لي به سائمة، وإني لآتي على الآية من كتاب الله فأتمنى أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم، وقال أبو وائِل: شهدت الموسم مع ابن عباس فخطبنا، أو فخطب فقرأ سورة البقرة، ففسّرها، ووالله إني لأظن أن لو أن الترك شهدته ففقهوا ما قال لأسلموا، وقال ابن أبي مليكة: سمعت ابن عباس يقول: سلوني عن سورة البقرة، وعن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير، وقال محمد بن عباد بن جعفر: سمعت ابن عباس يقول: أكرمُ الناسِ عليّ جليسي، وقال أبو رجاء العطارِدي: رأيت في خدِّ ابن عباس مثل الشراك الأسود من البكاء، وقال سعيد بن أبي سعيد: كنت عند عبد الله بن عباس فجاءه رجل فقال: يابن عباس، كيف صومك؟ قال: أصوم الاثنين والخميس، قال: وَلِمَ؟ قال: لأن الأعمال ترفع فيهما، فأحب أن يُرفع عملي وأنا صائم، وقال عبد الله بن أبي السفر: كان ابن عباس يقول: إني لأرى رَدَّ جواب الكتاب حقًّا عليّ كردّ السلام، وروى إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر عن أبيه ـــ وكانت أمه لبابة بنت عبد الله بن عباس ـــ قال: كنت أزور جدّي ـــ ابن عباس ــــ في كل يوم جمعة قبل أن يذهب بصره، فأراه يقرأ في المصحف فأتى على هذه الأية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر 48 ـ 49] فقال: يا بني لم يأت هؤلاء بعد وليكونن، وروى سعيد بن جبير، أن ابن عباس كان ينهى عن كتابة العلم، وأنه قال: إنما أضلّ من كان قبلكم الكتب، وقال طاوُس: لما عَمِيَ ابنُ عباس جعل أناس من أهل العراق يسألونه ويكتبون، قال: فجاء إنسان من أهله فالتقم أذنه فلم يتكلم حتى قام، وروى طاوُس، أن سعيد بن جُبير كان عند ابن عباس قال: فقيل له: إنهم يكتبون، قال: يكتبون؟ ثم قام. قال: وكان حَسَنَ الخُلُق، قال: كأنه يرى أنه لولا حُسن خلقه لغيَّر بأشَدَّ من القيام، وروى الأعرج، أن ابن عباس قال: قيدوا العلم بالكتب، وقال طاوس: أشهد لسَمعتُ ابن عباس يقول: أشهد لسَمعتُ عمر يُهل وإنا لواقفون في الموقف، فقال له رجل: أرأيت حين دفع؟ فقال ابن عباس: لا أدري، فعجب الناس من ورع ابن عباس، وروى يحيى بن سعيد أن ابن عباس قال: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون، وروى عكرمة، عن ابن عباس، قال: حججت مع عمر بن الخطاب إحدى عشرة حجة، وقال وهب بن منبه: كان ابن عباس حين رقّ بصره يتوكأ على عصا، وروى سِمَاك، أن ابن عباس سقط في عينيه الماء فذهب بصره، فأتاه هؤلاء الذين يثقبون العيون ويسيلون الماء، فقالوا: خلّ بيننا وبين عينيك نسيل ماءَهُما، ولكنك تمسك خمسة أيام لا تصلي إلا على عمود! قال: لا والله ولا ركعة واحدة إني حدثت أنه من ترك صلاةً واحدةً متعمدًا لقي الله وهو عليه غضبان، وروى النعمان أن حسان بن ثابت قال: كانت لنا عند عثمان أو غيره من الأمراءِ حاجةٌ فطلبناها إليه؛ جماعة من الصحابة، منهم ابُن عباس، وكانت حاجة صعبة شديدة، فاعتلَّ علينا، فراجعوه إلى أن عذروه، وقاموا إلا ابْنَ عباس فلم يزل يُرَاجعه بكلام جامع، حتى سدَّ عليه كلَّ حاجة، فلم يرى بُدًّا من أن يقضي حاجتنا، فخرجنا من عنده وأنا آخذُ بيدِ ابن عباس؛ فمررنا على أولئك الذين كانوا عذَروا وضَعفُوا، فقلت: كان عبد الله أوْلاَكم به. قالوا: أجل. فقلت أمدحه:
إِذَا مَا ابْنُ عَبَّاسٍ بَدَا لَكَ وَجْهُهُ رَأَيْتَ لَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ فَضْلاَ
إِذَا
قَالَ
لَمْ
يَتْرُكَ
مَقَالًا لِقَائِلٍ بِمُنْتَظَمَاتٍ لاَ تَرَى بَيْنَهَا فَصْلاَ
كَفَىَ وَشَفَى مَا فِي النُفُوسِ فَلَمْ يَدَعْ لِذِي إِرْبَةٍ فِي القَوْلِ جَدًّا وَلاَ هَزْلاَ
سَمَوْتَ
إِلَى العُلْيَا بِغَيرِ
مَشَقَّةٍ فَنِلْتَ ذُرَاهَا لاَ دَنِيّا وَلاَ وَغْلاَ
خُلِقْتَ
خَلِيقًا
لِلْمَوَدَّةِ
وَالنَّدَى فَلِيجًا وَلَمْ تُخْلَقْ كَهَامَا وَلاَ جَهْلاَ
ويروى أن معاوية نظر إلى ابن عبّاس يومًا يتكلَّم، فأتبعه بصره، وقال متمثّلًا:
إِذَا قَالَ لَمْ يَتْرُُكْ مَقَالًا
لِقَائِلٍ مُصِيبٍ وَلَمْ يَثْنِ اللِّسَانَ عَلَى هُجْرِ
يُصَرِّفُ بِالقَوْلِ اللِّسَانَ إِذَا انْتَحَى وَيَنْظُرُ فِي أَعْطَافِهِ
نَظَرَ الصَّقْرِ
وقال مُسْتَقِيم بن عبد الملك: رأيت ابن عباس يستلم الحجر ثم يقبل يده، وروى عبد الله بن دينار ـــ أنَّ رجلًا سأل اْبَن عمر عن قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا فَفَتقْنَاهُما} [الأنبياء: 30] فقال: اذهب إلى ذلك الشيخ فَسلْهَ ثم تعال فأخْبِرْني. فذهب إلى ابن عباس، فسأله، فقال: كانت السماوات رتقاء لا تُمْطِر، والأرض رَتَقْاء لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات. فرجع الرجلُ فأخبر ابْنَ عمر، فقال: لقد أوتي ابْنُ عباس عِلْمًا صدقًا، هكذا، لقد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قَد علْمتُ أنه قد أوتي علمًا، وروى الضَّحَّاك، عن ابن عباس قال: "نحن أَهلَ البيت شجرةُ النبوة، وَمُخْتَلف الملائكة، وأَهل بيت الرسالة، وأَهل بيت الرحمة، ومَعْدن العلم"، وأخُرجَ الزُّبَيْرُ بسندٍ له ـــ أنَّ ابن عَبّاس كان يَغشى الناسَ في رمضان وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتى يفقّههم، وقال محمد بن سلام: سعى ساعٍ إلى ابْنِ عباس برجل، فقال: إن شئت نظرنا، فإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن كنت صادقًا نفيناك، وإن شئت أقَلْتُكَ: قال: هذه، وروى يزيد بن الأصم، عن ابن عباس، قال: قدم عَلَى عُمر رجلٌ فسأله عن الناس، فقال: قرأ منهم القرآن كذا وكذا. فقال ابن عباس: ما أحبُّ أن يسأل عن آي القرآن. قال: فزَبرني عمر، فانطلقت إلى منزلي، فقلت: ما أراني إلا قد سقطت من نفسه، فبينا أنا كذلك إذا جاءني رجل فقال: أجِبْ. فأخذ بيدي ثم خَلَا بي، فقال: ما كرهْتَ مما قال الرجل؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، إن كنت أسأتُ فأستغفر الله. قال: لتحدثني. قلت: إنهم متى تنازعوا اختلفوا، ومتى اختلفوا اقتتلوا. فقال: لله أبوك! لقد كنُتُ أكتمها الناس، وقال عليّ في ابن عباس: إنه لينظر إلى الغَيْب من ستر رقيق، لعقله وفِطْنته، وقال الشعبي: ركب زيد بن ثابت، فأخذ ابْنُ عباس بركابه، فقال: لا تفعل يا ابن عم رسول الله. فقال: هكذا أمِرْنا أن نفعل بعلمائنا. فقبَّلَ زيد بن ثابت يدَه، وقال: هكذا أمِرْنا أن نفعلَ بأهل بيت نبينا، وروى عكرمة أنَّ عليًا حرق ناسًا فبلغ ابْنَ عباس، فقال: لم أكُنْ لأحرقهم... الحديث. زَادَ سُلَيْمَانُ: فبلغ عليًّا قوله، فقال: ويح ابن أم الفضل؛ إنه لغوّاص، وقال القاسم بن محمد‏: ما رأيت في مجلس ابن عبّاس باطلًا قطّ، وما سمعْتُ فتوى أَشْبه بالسّنة من فَتْوَاه، وكان أصحابهُ يسمُّونَه البحر، ويسمُّونه الحبْر، وقال عبد الله بن أبي زيد الهلاليّ:
وَنَحْنُ وَلَدْنَا الفَضْلَ وَالحَبْرَ بَعْدَهُ عَنيـْتُ أَبَا العَبَّاسِ ذَا الفَضْلِ وَالنَّدَى
وقال أبو عمرو بن العلاء:‏ نظر الحُطَيئة إلى ابن عبّاس في مجلس عمر بن الخطّاب رضي الله عنه غالبًا عليه، فقال:‏ منْ هذا الذي برع النّاس بعلمه، ونزل عنهم بسِنِّه؟ قالوا:‏ عبد الله بن عبّاس، فقال فيه أبياتًا منها‏:
إنِّي وَجَدْتُ بَيَانَ المَرْءِ نَافِلَةً تُهْدَى لَهُ وَوَجَدْتُ العَيَّ كَالصَّمَمِ
وَالمَرْءُ يَفْنَى وَيَبْقَى سَائِرُ الكَلِمِ وَقَدْ يُلاَمُ الفَتَى يَوْمًا وَلَمْ يُلَمِ
ورُوي أن عبد الله بن صفوان بن أمية مرَّ يومًا بدار عبد الله بن عبّاس بمكَّة، فرأى جماعَة من طالبي الفقه، ومرَّ بدار عبيد الله بن عبّاس، فرأى فيها جماعة ينتابونها للطّعام، فدخل على ابن الزّبير‏، فقال له:‏ أصبحت والله كما قال الشاعر:
فَإِنْ تُصِبْكَ مِنَ الأَيَّامِ قَارِعَةٌ لَمْ نَبْك مِنْكَ عَلَى دُنيّا وَلاَ دِيْنِ
قال:‏ وما ذاك يا أعرج؟ قال:‏ هذان ابْنَا عبّاس، أحدهما يفقه النّاس، والآخر يطعم النّاس، فما أبقيَا لك مكرمة، فدعا عبد الله بن مطيع، وقال:‏ انطلق إِلى ابني عبّاس، فقل لهما:‏ يقول لكما أميرُ المؤمنين‏:‏ اخرُجا عني، أنتما ومن أصْغَى إليكما من أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت.‏ فقال عبد الله بن عبّاس لابن الزبير‏:‏ والله ما يأتينا من النّاس إلا رجلان‏، رجل يطلب فِقْهًا‏، ورجل يطلب فَضْلًا، فأيّ هذين تمنع؟ وكان بالحضرة أبو الطّفيل عامر بن واثلة الكناني، فجعل يقول:
لاَ دَرَّ دَرُّ اللَّيَالي كَيْفَ تُضْحِكُنَا مِنْهَا
خُطُوبٌ
أَعَاجِيبٌ
وَتُبْكِينَا
وَمِثْلُ مَا تُحْدِثُ الأَيَّامُ مِنْ عِبْرٍ فِي ابْنِ الزُّبَيرِ عَنِ
الدُّنْيَا
تُسَلِّينَا
كُنَّا نَجِيءُ ابْنَ عَبَّاس فَيُسْمِعُنَا فِقْهًا
وِيُكْسِبُنَا
أَجْرًا
وَيَهْدِينَا
وَلاَ
يَزَالُ
عُبِيدُ اللَّهِ
مُتْرَعَةً جِفَانُهُ
مُطْعِمًا
ضَيْفًا
وَمِسْكِينَا
فَالبِرُّ وَالدِّينُ وَالدُّنْيَا بِدَارِهِمَا نَنَالُ مِنْهَا الَّذِي
نَبْغِي
إِذَا
شِينَا
إِنَّ النَّبِيَّ هُوَ النُّورُ الَّذِي كُشِطَتْ بِهِ
عَمَايَاتُ
مَاضِينَا
وَبَاقِينَا
وَرَهْطَهُ عِصْمَةٌ فِي دِينِهِ
لَهُمُ فَضْلٌ
عَلَيْنَا وَحَقٌّ
وَاجِبٌ
فِينَا
فَفِيمَ
تَمْنَعُنَا
مِنْهُمْ
وَتَمْنَعُهُمْ مِنَّا
وَتُؤْذِيهِم
فِينَا وَتُؤْذِينَا
وَلَسْتَ
بِِِأوْلاَهُمْ
بِهِ
رحما يَا بْنَ الزُّبَيرِ
وَلاَ
أَوْلَى
بِهِِ
دِينَا
لَنْ
يُؤْتِيَ
اللَّهُ إِنْسَانًا بِبُغْضِهِمُ فِي الدِّينِ عِزًّا وَلاَ فِي الأَرْضِ تِمْكِينَا
روى ابن عباس عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وعن عُمَر، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأَبي ذر، وروى عنه عبد اللّه بن عُمَر، وأَنس بن مالك، وأَبو الطُّفَيْل، وأَبو أمامة بن سهل بن حُنَيْف، وأَخوه كَثِير بن عباس، وولدُه عليُّ بن عبد اللّه بن عباس، ومواليه؛ عِكْرِمة، وكُرَيب، وأَبو مَعْبَد نَافِذ، وعطاء بن أَبي رَبَاح، ومُجَاهد، وابن أَبي مُلَيْكَة، وعَمْرو بن دِينار، وعُبَيْد بن عُمَيْر، وسَعِيد بن المُسَيَّب، والقاسم بن محمد، وعُبَيْد اللّه بن عبد اللّه بن عُتْبَة، وسليمان بن يَسَار، وعُرْوَة بن الزبير، وعلي بن الحُسَين، وأَبو الزُّبَيْر، ومحمد بن كَعْب، وطَاوُس، ووهب بنُ مُنَبِّه، وأَبو الضُّحى، وخلق كثير غير هؤلاء، وروى سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان في بيت ميمونة، فوضعتُ له وضوءًا من الليل. قال: فقالت ميمونة: يارسول الله وضع لك هذا عبد الله بن عباس، فقال صَلَّى الله عليه وسلم: "اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمهُ التأويل".(*)، وروى طاوس عن ابن عبّاس قال: دعاني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فمسح على ناصيتي وقال: "اللهمّ عَلّمْهُ الحكمة وتأويلَ الكتاب!"(*)، وروى إبراهيم بن مسلم بن أبي حرة، عن ابن عباس قال: ماندمت على شيء ماندمت على مافاتني في شبابي ألا أكون حججت ماشيا؛ إني سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تبارك وتعالى في كتابه: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}ِ [سورة الحج: 27].فبدأ بالراجل قبل الراكب".(*)، وروى سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: والله ما آسى على شيء لم أعمله كما آسى على أني لم أحج ماشيًا، فقيل له: من أين؟ قال: من مكة حتى ترجع إليها، فإني سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إن للراكب سبعين حسنة، وإن للماشي بكل قدم سبعمائة حسنة من حسنات الحرم" فقيل: ما حسنات الحرم؟ قال: بكل مائة ألف حسنة، وإنما هو بكل حسنة ألف حسنة، ولكنه هكذا حدثني.(*) وروى الحسني العُرَني عن ابن عباس، قال: قَدَّمَنا رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أُغَيْلِمَة بني عبد المطلب على حُمُرات فجعل يَلْطَحُ أَفْخَاذَنا ويقول: "أُبَيْنِيَّ لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".(*)، وروى كريب أن ابْنَ عباس قال: صليتُ خَلْفَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأخذ بيدي فجرَّنِي حتى جعلني حِذاءَه، فلما أقبل على صلاته خنست. فلما انصرف قال لي: "ما شَأنُكَ؟" فقلت: يا رسول الله، أو ينبغي لأحَدٍ أنْ يصلِّي حِذَاءك، وأنتَ رسول الله! فدعا لي أن يزيدني الله علمًا وفهمًا.(*)، وروى حَنَشِ الصَّنْعَانِي، عن ابن عباس قال: كنت خَلْفَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "يَا غُلَامُ، إِنِّي أَعَلِّمُكَ كَلامَاتٍ: احْفَظِ الله يَحْفَظَكَ، احْفَظ الله تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ الله، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوْكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوْكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرّوكَ، لَمْ يَضروكَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتِ الْصُّحُفُ"(*) أخرجه الترمذي في السنن 4/575 كتاب صفة القيامة (38) باب (59) حديث رقم 2516 وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح وأحمد في المسند 1/307، والطبراني في الكبير 11/123، 178، 12، 238، والحاكم في المستدرك3/541، 542، وأورده الهيثمي في الزوائد 7/192.، وروى رِشْدِين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: أتيت خالتي ميمونة بنت الحارث فقلـت: إني أريد أن أبيت عندكم الليلة، فقالت: وكيف تبيت؟ وإنما الفراش واحدٌ، واللحاف واحدٌ، والوساد واحد! قال: فقلت: لا حاجة لي في فراشكم، أفرش نصف إزاري، وأما الوساد فإني أضع رأسي مع رءوسكما من وراء الوساد، فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فحدثته ميمونة بما قال ابن عباس، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "هذا شيخ قريش".(*)
روى عمرو بن دينار، أن أهل المدينة كَلَّمُوا ابن عباس أن يحج بهم وعثمان بن عفان محصور، فدخل على عثمان فأخبره بذلك فأمره أن يحج بالناس، فحج بهم ثم انصرف إلى المدينة، فوجد عثمان قد قتل، فقال لعلي: إن أنت قمت بهذا الأمر الآن ألزمك الناس دم عثمان إلى يوم القيامة، وروى عبيد الله بن عبد الله بن عبتة، عن ابن عباس، قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج، فخرجت إلى مكة فأقمت للناس الحج، وقرأت عليهم كتاب عثمان إليهم، ثم قدمت المدينة وقد بويع لعليّ، فقال: سِرْ إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي! معاوية رجلٌ من بني أمية، وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم عليّ. فقال له عليّ: وَلِمَ؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وأن كل من حمل عليك حمل عليّ، ولكن اكتب إلى معاوية فَمَنِّهِ وعِدْهُ، فأبى عليٌّ وقال: والله لا كان هذا أبدًا، قال محمد بن عمر: وكانت السنة التي ولّى عثمان فيها ابن عباس على الحج سنة خمس وثلاثين، ولما ولّى عليّ وبويع له استعمل أيضًا ابن عباس على الحج، فحج بالناس سنة ست وثلاثين، وروى أبو جناب الكلبي، عن شيخ من بني مجاشع، أخبره أن عبد الله بن عباس شهد الجمل مع عليّ بن أبي طالب، وهو كان رسوله إلى طلحة والزبير يسألهما عن خروجهما في هذا الأمر وما يريدان، ورجع إلى عليّ بجوابهما، وقال الشعبي: أقام عليّ بعد وقعة الجمل بالبصرة خمسين ليلة، ثم أقبل إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عباس على البصرة، ووجه الأشتر على مقدمته إلى الكوفة فلحقهُ رجل فقال: من استخلف أمير المؤمنين على البصرة؟ قال: عبد الله بن عباس، قال: ففيم قتلنا الشيخ بالمدينة أمس؟ قال: فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى سار إلى صفين، فاستخلف أبا الأسود الدِّيلي على الصلاة بالبصرة، واستخلف زيادًا على الخراج وبيت المال والديوان، وقد كان استكتبه قبل ذلك، فلم يزالا على البصرة حتى قدم من صفين، فرجع ابن عباس إلى البصرة فأقام بها، فلم يزل بها حتى قتل عليّ رحمه الله، فحمل ما حمل من المال ثم مضى إلى الحجاز، واستخلف عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب على البصرة، وقال عِكْرِمة: لما كان يوم الحكمين فحكم معاوية من قبله عمرو بن العاص، قال الأحنف بن قيس لعليّ: يا أمير المؤمنين، حَكِّم ابنَ عباسٍ فإنه نحوه، وابن عباس رجل مجرب، قال علي: فأنا أفعل، فحكَّم ابن عباس فأبت اليمانية وقالوا: حتى يكون منا رجلٌ، ودعوا إلى أبي موسى الأشعري، فجاء ابن عباس إلى عليّ فقال: علام تحكم أبا موسى؟ فوالله لقد عرفت رأيه فينا، فوالله ما نصرنا وهو يَرْجُو ما نحن فيه. فَنُدْخِلُه الآن في معاقد الأمر مع أن أبا موسى ليس بصاحب ذاك، فإذا أبيت أن تجعلني مع عَمرو فاجعل الأحنف بن قيس، فإنه مجرب من العرب، وهو قِرْن لعمرو، فقال عليّ: فأنا أجعل الأحنف، فأبت اليمانية أيضًا، وقالوا: لا يكون فيها إلا يماني، فلما غُلِبَ عليّ جعل أبا موسى، وقال عِكْرِمة: سمعت ابن عباس يقول: قلت لعليّ يوم الحكمين: لا تُحكم الأشعري فإن معه رجلًا حَذِرًا، مَرسًا، قارحًا من الرجال، فَلُزَّني إلى جنبه، فإنه لا يحل عقدةً إلا عقدتها، ولا يعقد عقدةً إلا حللتها. قال: يا ابن عباس! فما أصنع؟ إنما أُوتَى من أصحابي، قد ضَعُفَتْ نِيَّتُهُمْ، وكَلُّوا في الحرب؛ هذا الأشعث بن قيس يقول: لا يكون فيها مُضَرِيَّان أبدًا حتى يكون أحدهما يمانيّ. قال ابن عباس: فعذرته وعرفت أنه مضطهد، وأن أصحابه لا نِيَّةَ لهم، وقال عِكْرِمة أيضا: سمعت ابن عباس يحدث عبد الله بن صفوان عن الخوارج الذين أنكروا الحكومة فاعتزلوا عليّ بن أبي طالب، قال: فاعتزل منهم اثنا عشر ألفًا فدعاني عليّ فقال: اذهب إليهم فخاصمهم وادعهم إلى الكتاب والسُّنّة، ولا تُحاجّهم بالقرآن فإنه ذو وجوه، ولكن خَاصِمْهم بالسُّنَّة، فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين فأنا أعلم بكتاب الله منهم، في بيوتنا نزل، فقال عليّ: صدقت، ولكن القرآن حَمَّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاجّهم بالسنن فإنهم لن يجدوا عنها محيصًا، فخرج ابن عباس إليهم، وعليه حلّة حبرة، فحاجّهم بالسنن فلم تبق بأيديهم حُجّةٌ، وروى شرحبيل بن أبي عون، عن أبيه، قال: لما كلمهم ابن عباس تفرقوا ثلاث فرق: منهم فرقة رجعت إلى مصرهم ومنازلهم التي بها قرارهم، وأقامت الفرقة الثانية فقالوا: لا نعجل على عليّ وننظر إلى ما يصير أمره وهم أصحاب النُّخَيْلَة، ومضت الفرقة الثالثة الذين شهدوا عَلَى عَلِيٍّ وأصحابه بالشرك واستعرضوا الناس بالقتل، أولئك أصحابُ النَّهروان، وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، هم الذين اعتزلوا فقاتلهم عليّ حتى قتلهم.
وروى محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، وغيره، قالوا: جاء نعي معاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن عباس يومئذ غائب بمكة، فلمّا صدر الناس من الحج سنة ستين، وتكلم عبد الله بن الزبير وأظهر الدعاء، خرج ابن عباس إلى الطائف، فلما كانت وقعة الحَرَّة وجاء الخبرُ ابنَ الزبير، كان بمكة يومئذ عبد الله بن عباس وابن الحنفية، ولما جاء الخبر بنعي يزيد بن معاوية وذلك لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، قام ابن الزبير فدعا إلى نفسه وبايعه الناس، دعا ابن عباس وابن الحنفية إلى البيعة فأبيا أن يبايعا وقالا: حتى تجتمع لك البلاد ويأتسق لك الناس وما عندنا خلافٌ، فأقاما على ذلك ما أقاما فمرة يكاشرهما، ومرة يلين لهما، ومرة يباديهما، فكان هذا من أمره حتى إذا كانت سنة ست وستين غلظ عليهما ودعاهما إلى البيعة فأبيا، وروى سعيد بن محمد بن جُبير بن مُطعم، عن أبيه قال: كان ابن عباس وابن الحنفية بالمدينة، وعبد الملك يومئذ بالشام يغزو مصعب بن الزبير، فرحلا حتى نزلا مكة، فأرسل ابن الزبير إليهما أن يبايعا، قالا: حتى يجتمع الناس على رجل ــ وأنت في فتنة ــ فغضب من ذلك، ووقع بينهُ وبينهما شرٌّ، فلم يزل الأمر يغلظ حتى خافا منه خوفًا شديدًا ومعهما الذريّة، فبعثا رسولًا إلى العراق يخبران بما هما فيه، فخرج إليهما أربعة آلاف فيهم ثلاثة رؤساء؛ عطية بن سعد، وابن هانئ، وأبو عبد الله الجُدلي، فخرجوا من الكوفة، فبعث والي الكوفة في أثرهم خمسمائة ليردّوهم، فأدركوهم بِوَاقِصَةَ فامتنعوا منه فانصرفوا راجعين، فمرُّوا وقد أخفوا السلاح حتى انتهوا إلى مكة، لا يعرض لهم أحدٌ، وإنهم ليمرُّوا على مسالح ابن الزبير ما يعرض لهم أحدٌ، فدخلوا المسجد، فكبروا تكبيرةً سمعها أهل مكة، فسمع بهم ابن الزبير حين دخلوا فدخلَ منزله، ويقال: فانطلق هاربًا حتى دخل دار الندوة، ويقال: تعلق بأستار الكعبة؛ وقال: أنا عائذ الله، ثم مال العراقيون إلى ابن عباس وابن الحنفية وأصحابهما، وهم في دور قريب من المسجد قد جُمع الحطبُ، فأحاط بهم حتى بلغ رءوس الجُدُر، لو أنّ نارًا تقع فيه مَا رُئِي منهم أحدٌ حتى تقوم الساعة، فأخروه عن الأبواب، وقالوا لابن عباس: ذَرْنَا نُرح الناس منه، فقال: لا، هذا بلدٌ حرامٌ حرّمه الله، ما أحله لأحد إلا للنبي صَلَّى الله عليه وسلم ساعةً، فامنعونا وأجيرُونا، فتحملوا، وإن مناديًا ينادي في الجبل: ما غنمت سريةٌ بعد نبيها ما غنمت هذه السرية، إن السرايا تغنم الذهب والفضة، وإنما غنمتم دماءنا، فخرجوا بهم حتى أنزلوهم منًى، فأقاموا ما شاء الله، ثم خرجوا بهم إلى الطائف، فمرض عبد الله بن عباس. فبينا هم عنده إذ قال في مرضه: إني أموت في خير عصابة على وجه الأرض، أحبهم إلى الله، وأكرمهم عليه، وأقربهم إلى الله زُلفى، فإن متّ فيكم فأنتم هم، فما لبث إلا ثمان ليالٍ بعد هذا القول حتى توفي رحمه الله، فصلّى عليه محمد بن الحنفية، وولوا حمله ودفنه، وقال شقيق أبو وائل:‏ خطبنا ابن عبّاس، وهو على الموسم، فافتتح سورة النّور، فجعل يقرأ ويفَسِّر، فجعلت أقول:‏ ما رأيتُ ولا سمعْتُ كلَام رجل مثله، ولو سَمِعَتْهُ فارس، والرّوم، والترك، لأسلمت.
قال أبو سلمة الحضرمي: رأيت قبر ابن عباس، وابنُ الحنفية قائم يأمر به أن يُسطّح، وقال أبو كلثوم: لمّا دُفن ابن عبّاس قال ابن الحَنَفيّة: اليومَ مات رَبّانيّ هذه الأمّة! وقال أبو سلمة: لو كنت أرفق ابن عباس أَصبت سنه عِلْمًا كثيرًا، وروى يعقوب بن زيد عن أبيه قال: سمعتُ جابر بن عبد الله يقول حين بلغه موتُ ابن عبّاس وصَفَقَ بإحدى يدَيه على الأخرى: مات أعلم النّاس وأحلمُ النّاسِ، ولقد أصيبتْ به هذه الأمّة مصيبةً لا تُرْتَقُ! وقال أبو بكر بن محمّد بن عمرو بن حَزْم: لمّا مات ابنُ عبّاس قال رافع بن خَديج: مات اليومَ مَن كان يَحتاج إليه مَن بينَ المشرِق والمغرِب في العلم، وقال شعبة: سمعت ابن عباس يقول: وُلدت قبل الهجرة بثلاث سنين ونحن في الشعب، فتوفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، وتوفي ابن عباس سنة ثمان وستين؛ وهو الصحيح في قول الجمهور، وقيل: سنة خمس وستين، وقيل: سنة سبع وستين، وقيل: مات سنة سبعين، وقيل: سنة ثلاث وسبعين؛ قال ابن الأثير: وهذا القول غريب، وكان عمره إحدى وسبعين سنة؛ وهو القول الأقوى، وقيل: وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقيل: وهو ابن سبعين سنة، وقال أبو حمزة: شهدت ابن الحنفية صلّى على ابن عباس، فكبَّر عليه أربعًا وأدخله قبره من قبل القبلة، وضرب على قبره فسطاطا ثلاثة أيام، وروى عبد الله بن يامين أنه لما مرّ بجنازة عبد الله بن عباس، جاء طائر أبيض يقال له الغرْنُوق، فدخل في النعش فلم يُرَ بعد، وقال بجير بن عبد الله: لما خرج نَعْشُ ابن عباس جاء طائر أبيض عظيم، من قبل وَجّ حتى خالط أكفانَه فلم يَدْر أين ذهب؛ فكانوا يرون أنه علمه، وقال سعيد بن جُبَير: مات ابْنُ عباس بالطائف، فشهدت جنازته، فجاء طائر أبيض لم يُرَ على خلقته، فدخل في نعشه ولم يُرَ خارجًا منه؛ فلما دفن تليت هذه الآية: {يَا أيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلَى رَبِّكِ...} إلى آخر السورة [الفجر: 27، 28].
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال