تسجيل الدخول


عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن

عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم، قائد عربي مسلم شهير، فاتح مصر، بنى مدينة الفسطاط، وتوفي بالقاهرة ودفن بالمقطم.‏ روى أبو هُرَيْرَة أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "ابْنَا العاص مؤمنان هشامٌ وعَمْرٌو. ويكنى عمرو: أَبا عبد اللّه، وقيل: أَبو محمد. وكان لعمرو بن العاص من الولد عبدُ الله؛ قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نِعْم أهلُ البيتِ عبدُ الله وأبو عبد الله وَأُمُّ عبد الله". يعني: عبد الله بن عَمْرو بن العاص، وعَمْرو بن العاص، وأمّ عبد الله بن عمرٍو، وسَمّاهُم. أسلم بين الحديبية وخَيْبَر، وقيل: أنه أسلم في صفر سنة ثمان من الهجرة، قبل الفتح بستة أشهر، وعن قصة إسلامه يحكي عن نفسه فيقول: كنت للإسلام مُجَانِبًا مُعَانِدًا، حضرتُ بدرًا مع المشركين فنجوتُ، ثم حضرت أُحُدًا فنجوتُ، ثم حضرت الخندقَ فنجوت فقلتُ في نفسي: كم أوضِع؟ والله ليظْهَرَنّ محمدٌ على قريش، فلحقت بمالي بالوَهْطِ، وأَقْلَلْتُ من الناسِ، فلم أحضر الحُدَيْبِيَةَ، وَلاَ صُلْحَهَا، وانصرف رسول الله صَّلى الله عليه وسلم بالصلح وَرَجَعَتْ قريشٌ إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمدٌ قابلًا مكةَ بأصحابه، ما مكة لنا بمنزل ولا الطائف، وما شيء خيرٌ من الخروج، وأنا بعدُ نَاتٍ عن الإسلام، أرى لو أسلمتْ قريش كلّها لم أسلم فَقَدِمتُ مكةَ فجمعتُ رجالًا من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدِّمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذُو رأينا وَمِدْرَهُنا مع يُمن نَقِيبة وبركةِ أمرٍ قلتُ: تعلَّموا والله أَني لأرى أمر محمد أَمْرًا يعلو الأمورَ عُلوًّا مُنْكَرًا، وإني قد رأيت رأيًا، قالوا: ما هو؟ قلت: نَلْحَق بالنَّجَاشِيّ فنكون عنده، فإن يَظْهَرْ محمدٌ كنا عند النجاشي، فنكون تحت يده أحب إلينا من أن نكون تحت يَدَي محمدٍ، وإن تَظْهَر قريش فنحن مَنْ قد عَرفوا، قالوا: هذا الرأيّ! قلتُ: فاجمعُوا ما تُهْدُونه له، وكان أَحَبُّ ما يُهْدَى إليه من أرضنا الأَدم، قال: فجمعنا أَدَمًا كثيرًا، ثم خرجنا فقدمنا على النَّجاشي، فوالله إِنَّا لعنده إِذْ جاء عَمْرو بن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ، وكان رسول الله صََّلى الله عليه وسلم بعثهُ إليه بكتابين: أحدهما يدعوه فيه إلى الإسلام، والآخر يسأله فيه أن يُزَوِّجَه أُمّ حَبِيَبة بنت أبي سفيان، ويبعث إليه بأصحابه أهلِ السفينتين، فلقي عَمْرُو بن العاص عَمْرَو بن أميَّة فضربه وخنقه بردائه، ثم دخل على النجاشي فأخبره فغضب النجاشي وقال: والله لو قتلتَهُ ما أبقَيتُ منكم أحدًا، أَتَقْتُلُ رَسُولَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم؟! قال عمرو بن العاص فقلت: أَتَشْهَدُ أَنّه رسولُ الله؟ قال: نعم. أشهد أنه رسول الله. فقلت: وأنا أَشْهَدُ أنه رسول الله، ابْسُطْ يَدَك أُبَايِعْك، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجتُ إلى عَمْرو بن أُمَيّة، فَعَانَقْتُه، وَعَانَقَنِي، وأخبرته بإسلامي، وفي رواية أخرى: أنه لما رأى عَمْرو بن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ قال لأصحابه: هذا عَمْرو بن أُمَيَّةَ، ولو قد دخلتُ عَلَى النَّجاشِيّ قد سألتُه إياه فأَعطانيه فضربتُ عنقه، فإذا فعلتُ ذلك سَررْتُ قريشًا، وكنت قد أَجْزَأْتُ عنها حين قَتَلْتُ رسولَ محمدٍ، قال: فدخلتُ على النجاشي فسجدتُ له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي! أَهْدَيْتَ إِلَيَّ من بلادك شيئًا؟ فقلت: نعم أيها الملك، أَهْدَيْتُ إليك أَدَمًا كثيرًا، ثم قَرَّبْتُهُ إليهُ فَأَعْجَبَهُ، وفرَّق منه أشياء بين بَطَارِقَتِهِ، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويُتَحَفَّظ به، فلما رأيتُ طيب نفسه قلت: أَيُّها الملك، إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسولُ رجلٍ عَدُوٍّ لنا، قد وَتَرَنا، وقَتَل أَشْرَافَنَا، وخِيَارَنَا فأَعْطِنيه فأقتُلهُ! فَغَضِبَ فرفع يَدَه فضرب بها أَنْفِي ضَرْبَةً ظننتُ أنه كسرَهُ، وابتدر مَنْخِرايَ، فجعلت أَتَلَقَّى الدَّمَ بثيابي، وأصابني من الذُّلِّ ما لو انْشَقَّت لي الأرضُ دخلتُ فيها فَرَقًا منه فقلت له: أيها الملك، لو ظننتُ أنك تكره ما قلتُ ما سألتكه، قال: فاستحيا وقال: يا عَمرو، تسألني أَن أُعطيك رَسولَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم مَن يأتيه الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى بن مريم لِتَقْتُلَه؟! قال عمرو: وغَيَّر الله قلبي عَمّا كنت عليه، وقلتُ في نفسي: عَرَفَ هذا الحقَّ العَربُ والعجمُ وتُخالفُ أَنت؟! فقال النجاشي: يا عمرو، كيف يَعْزُب عنك أمْرُ ابن عمك! فوالله إنه لرسولُ الله حقًا. فقال عمرو: وتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله يا عمرو، فأَطِعني وَاتَّبِعْه، والله إنه لَعَلَى الحَقّ وليظهرنَّ على كل من خَالَفَه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعتُه على الإسلام، ودعا لي بطَسْتٍ فغسل عَنِّي الدمَ وكساني ثيابًّا، وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فأَلقيتُها، ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كُسوة الملك سُرُّوا بذلك وقالوا: هل أدركتَ من صاحبك ما أردتَ؟ فقلت لهم: كرهتُ أن أكلمهُ في أَوّلِ مَرّةٍ وقلت أعود إليه، قالوا: الرأْيُ ما رأيتَ! وفارقتُهم وكأنّي أَعْمِدُ لحاجة فعمِدتُ إلى موضع السُّفُن فوجدت سفينة قد شُحِنَتْ تَدْفَع، فركبتُ معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشُّعَيْبَةِ فخرجت بها ومعي نفقةٌ، فاتبعتُ بعيرًا وخرجتُ أريدُ المدينة حتى إذا أتيت على مَرِّ الظَّهْران، ثم مضيتُ حتى إذا كنت بالهَدَّة، إذا رجلان قد سبقاني بغير كبير يُريدان منزلًا، وأحدهما داخلٌ في خيمةٍ، والآخر قائمٌ يُمسكُ الراحلتين، فنظرت فإذا هو خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟! قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمدًا، دَخَلَ الناسُ في الإسلام فلم يبق أحدٌ به طُعمٌ والله لو أَقَمنا لأَخذ بِرِقَابِنا كما يُؤْخَذُ بِرَقَبة الضَّبُع في مَغَارتها، قلت: وأنا واللهِ قد أردتُ محمدًا وأَردت الإسلام، وخرج عُثمان بن طَلْحة فرحَّب بي فنزلنا جميعًا في المنزل، ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجلٍ لقينا بِبِئْر أَبِي عِنَبَةَ يصيح: يا رَباح! يا رَباح! فتفاءَلنا بقوله وسُرِرْنا، ثم نظر إلينا فأَسمعه يقول: قد أعطت مكَّةُ المقادةَ بعد هذين! فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، ثم وَلَّى مُدْبرًا إلى المسجد سريعًا، فظننت أنه يُبَشّر رسولَ الله صَّلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننتُ، وأَنَخنا بالحَرَّة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونُودِي بالعصر فانطلقنا جميعًا حتى طلعنا عليه صلوات الله عليه وسلامه، وإِنَّ لوجهه تهلُّلًا، والمسلمون حوله قد سُرُّوا بإسلامنا. وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهليّة مذكورًا بذلك فيهم، وكان شاعرًا حسَنَ الشّعر، حفظ عنه الكثير في مشاهد شتى وقيل لعمرو بن العاص ما المروءة؟ فقال: يُصْلِحُ الرجلُ مالَه ويُحْسن إلى إخوانه. وكان عمرو بن العاص أحدَ الدُّهاة في أمور الدّنيا المقدمين في الرأي والمكر والدّهاء، وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إذا استضعف رجلًا في رأيه وعقله قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد. وقال طلحة بن عبيد اللّه: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ" . ورَوَى عَمْرو عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرة، وقال عمرو بن العاص: جاء خَصْمَان يختصمان إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال لي: "يا عَمْرو اقْضِ بينهما"، قلتُ. أنت أولى بذلك يا رسول الله! قال: "أجل"، قلت فَعَلاَمَ أَقْضِي؟ قال: "إِنْ أصبتَ القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك حسنةٌ واحدةٌ". وروي عن عمرو بن العاص، قال: فزع أهْلُ المدينة فزَعًا فتفرقوا، فنظرت إلى سالم مولى أبي حُذيفة في المسجد عليه سَيْفٌ مختفيًا، ففعلت مِثْلَه، فخطب النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "أَلا يَكُونُ فَزَعُكُم إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، أَلَا فعلْتُم كَما فَعَلَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ المؤْمِنَانَ" قال عَمْرو بن العاص: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عمرو اشدد عليك سلاحك وثيابَك وائتني"، ففعلت، فجئتهُ وهو يتوضأ، فَصَعَّدَ فِيَّ البَصَرَ، وصوَّبَهُ، قال: "يا عمرو، إِني أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ وجهًا فَيُسَلِّمُكَ الله ويُغْنمك، وأزْعَبُ لك من المال زَعْبَةً صالحةً"، قال قلتُ: يا رسول الله! إِنِّي لم أُسْلِم رغبةً في المال، إنما أسلمت رغبةً في الجهاد والكَيْنُونَةِ معك، قال: "يا عَمْرو، نِعِمَّا بالمال الصالح للمرءِ الصّالح". فبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَميرًا على سَرِية إِلى ذات السلاسل وعَقَد له لواءً أبيض، وجعل معه رايةً سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سَراةِ المهاجرين إِلى أَخوال أَبيه العاص بن وائل، وكانت أُمه من بَلِيّ بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة يدعوهم إِلى الإِسلام، ويستنفرهم إِلى الجهاد، وبعثه يستألفهم بذلك، فسار في ذلك الجيش وهم ثلاثمائة، حتى إِذا كان على ماءٍ بأَرض جُذَام، يقال له السلاسل وبذلك سمت تلك الغزاة ذات السلاسل، فلما دخل بلادهم بعث إلى رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم رافعَ بن مَكِيث الجُهَنِيّ يستمده، ويخبره أن لهم جَمْعًا كثيرًا من بَلِيٍّ وقُضَاعَة وغيرهم، فأمدَّه بأبي عُبَيْدَة بن الجَرّاح في مائتين من سَراةِ المسلمين فيهم أبو بكر وعُمَر، وعقد له لواءً وعهد إليه "إِذَا قَدِمتَ على صاحبك فتطاوعا"، فَقَدِمَ عليه فاختلفا في الصلاةِ، فقال عَمْرو: إنما قدمتَ عَلَيَّ مددًا لي، فطاوعَهُ أبو عُبَيدة لوصية رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إياه، فكان عَمْرو يصلي بالناس كلهم ويتأَمَّرُ عليهم. وقال قيس بن أبي حازم: بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم عَمْرَو بنَ العاص في غزوة ذات السَّلاَسِل: فأصابهم بردٌ شديدٌ، فقال لهم عَمْرُو: لا يُوقِدَنَّ أَحَدٌ نارًا، قال: ثم قاتل القوم فلما قَدمُوا على النبي صَلَّى الله عليه وسلم َشكَوا ذلك إليه، فقال: يا نبي الله، كان في أصحابي قِلَّةٌ، فخشيتُ أن يَرَى العدوُّ قِلّتَهُم، ونهيتُهم أن يتبعوا العدوَّ مخافةَ أن يكون لهم مِن وراءِ الجبل كمين، قال: فأعجب ذلك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وقال عبد الله بن بُرَيْدَة: قال عُمر لأبي بكر، لَمَّا لَمْ يَدَعْ عَمْرُو بن العاص الناسَ أن يوقدوا نارًا ألا ترى إلى هذا ما صنع بالناس يَمْنَعُهم منافِعَهم؟ قال: فقال أبو بكر: دَعْهُ، فإنما ولاّهُ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم علينا لِعِلْمِهِ بالحَرْب. وروى داود بن الحُصَينْ أن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم بعثَ عَمْرَو بنَ العاص واستعمله على أصحابه في وجه من تلك الوجوه، فلما قَدِمُوا قال: "كيف وَجَدْتُم أَمِيرَكم؟ قالوا: ما وجدنا به بَأْسًا مِنْ رَجُل، صلى لنا وهو جُنُبٌ، فدعاهُ فسأله فقال: "ما يقول هؤلاء؟" قال: صَدَقُوا، أَصَابَتْنِي جنابةٌ وأنا مريضٌ شديدُ المرض، فتخوفت إن اغتسلت أَنْ أقتل نَفْسِي والله يقول: }وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا {[سورة النساء: 28] ولما فتح رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مَكّةَ بَثَّ السَّرَايا، فبعث عَمْرَو بن العاص إلى صنم هُذيل سُواع فهدمه، فكان عَمرو يقول: انتهيتُ إليه وعنده السَّادِنُ، فقال: ما تريدُ؟ فقلتُ: هَدْم سُواع، فقال: ومالك ولَهُ؟ فقلت: أمرني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم! فقال: لا تقدر على هَدْمه، فقلت: لِمَ؟ قال يمتَنِعُ، قال عمرو: حتى الآن أنت في الباطل! وَيْحَك وهل يسمع أو يُبصر؟ قال عمرو: فدنوتُ إليه فكسرتهُ، وأمرتُ أصحابي فهدموا بيت خِزَانَتِهِ، فلم يجدوا فيه شيئًا، ثم قلت للسّادنِ: كيفَ رأيتَ؟ قال: أسلمتُ لله. وقال عمرو بن العاص: أسلمت عند النَّجَاشِيّ وبايعتهُ على الإسلام، ثم قَدِمْتُ عَلَى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينَةَ فأعلمتُه أَنِّي قَدِمْتُ راغبًا في الهجرة، وفي ظهور الإسلام وأنا أحب أن ترى أثري وغناي عن الإسلام وأهله، فقد طال ما كنت عونًا عليه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "الإسلام يَحُتُّ ما كان قبله، وأنا باعثك في أُناس أَبعثهم إن شاء الله"، فلما كان بعد ذلك بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثمانية نَفَرٍ سَمّاهم، فكنت أنا المبعوث إلى جَيْفَر وعبد ابْنَي الجُلُنْدَى وكَانَا من الأَزْد، والمَلك منهما جَيْفر، وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم معي إليهما كتابا يدعوهما فيه إلى الإسلام، وكتب أُبَيُّ بن كعب الكتابَ وختمهُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فخرجتُ حتى قَدِمْتُ عُمان، فعمدتُ إلى عبد بن الجُلُنْدَى ــ وكان أحلمَ الرجلين وأسهَلهما خُلُقًا ــ فقلتُ: إني رسولُ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المُقدَّمُ عَلَيَّ بالسنِّ والمُلك وأنا أوصلكَ إليه، فمكثتُ ببابه أيامًا ثم وصلتُ إليه، فدفعتُ الكتابَ إليه مَختومًا، فَفَضَّ خاتمه ثم قرأه إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه، وقال لي: يا عَمْرو، أنت ابن سيِّد قومك، فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قُدوة؟ قلتُ: مات ولم يُؤمن بمحمد صَلَّى الله عليه وسلم، وودتُ أنه كان أسلم وصدَّق به، وقد كنتُ أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تَبِعتَه؟ قلتُ: قريبًا قال: فسألني أين كان إسلامي؟ فقلت: عند النجاشي، وقد أسلم، قال: فكيف صَنع قومه بملكه؟ قلت: أَقرُّوه واتَّبعُوهُ، قال: والأساقِفةُ والرُهبانُ تبعوهُ؟ قال: قلت: نعم، قال: فأَبَى أن يُسلم، فأقمتُ أَيّامًا ثم قلتُ: أنا خارجٌ غدًا، فلمَّا أيقن بخروجي أرسل إِلَيَّ فأجاب إلى الإسلام، فأسلَم هو وأخوه جميعًا، وصَدَّقا بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم وخَلَّيَا بيني وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، وكان عونًا لي على مَن خالفني، فأخذت الصدقةَ من أغنيائهم فرددتها على فقرائهم، وأخذت صدقات ثمارهم ما تَجرُوا به، فلم أزل مقيمًا حتى بلغنَا وفاةُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وكان عمرو بن العاص عاملًا لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على عُمَان، فجاءهُ يهوديّ من يهود عُمان فقال: أرأيتَ إن سألتك عن شيء أَتَخْشى عَلَيَّ منك؟ قال: لا، قال اليهوديُّ: أنشدُكَ بالله مَن أَرْسَلَكَ إلينا؟ قال: اللهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. فقال اليهودي: آلله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ فقال له عمرو: اللهم نعم، فقال له اليهوديّ: لئن كان ما تقول حقًّا لقد ماتَ اليومَ، فلما رأى ذلك عَمْرو جمع عليه أصحَابَه، وفَواشِية وكتب ذلك اليوم الذي قال لهُ فيهِ اليهوديُّ ما قال: ثم خرج عَمْرو معه بخُفَرَاء من الأَزْد، وعبد القيس يأمنُ بهم حتى قَدِمَ أرضَ بني حَنِيفَةَ فأخذ منهم خُفَراء، ثم جاء أرض بني تميم فَأَخذ منهم خُفَراء حتى جاء أرضَ بني عامر، فنزل على قُرّة بن هُبيرة القُشيري، فأَحْسَنَ مَنْزِله وضَيَّفَهُ، ثم إن قُرَّةَ قال له حين أراد عمرو أن يركب: إن لك عندي نصيحةً وأنا أُحِبُّ أن تسمعها، قال: وما هي؟ قال قُرَّة: إن صاحبكم قد توفي! قال عَمْرو: وصاحبنا هُوَ لاَ أمَّ لك يعني: دونك ــ وإنكم يا معشر قريش كنتم في حَرَمِكم تأمنون فيه، ويأتيكم الناس ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت: فلما بلغنا ذلك لم نكرهه، وقلنا رجل من مُضَر يَسُوق الناسَ وقد تُوفي، والناسُ إليكم سراعٌ، وإنهم غيرُ معطيكم شيئًا فَالْحَقوا بحَرَمِكم تأمنوا فيه، فإن كنتَ غير فاعل فَعِدْني حيث شئتَ آتِك، فَوَقَع به عَمرو، وقال: إني أَرُدّ عليك نَصِيحتَك، وموعدك حِفْشُ أمِّكَ! وأيّ العربِ تُوعِدنُا به؟ فأُقْسِم بالله لأُوطِئَنَّ عليك الخَيْل، قال قُرّة: إني لم أُرِدْ هَذَا، وَنَدِمَ على مقالتِه. وذكر الزهري أنه لمَّا جاء أرضَ بَني حَنيفة، سمع به مُسيلمةُ فخرج في أصحابه فعرض له فهرب عَمْرو منه، ومعه ثُمَامَة بن أُثَال في قومه من بَنِي حنيفة، واقتطع مُسَيْلِمَةُ رجلين من أصحابه: حَبِيب بن زيد بن عاصم ــ وهو ابن أم عمارة، وعبد الله بن وَهْب الأَسْلمي؛ وكانا في السائقة فأصابهما، فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ فأقرَّ الأسلميّ بما قال: فأمر به فحُبس في حديدٍ حتى أفلت بعد ذلك، فصار إلى خالدِ بن الوليد، وأما حَبِيب بن زيد فقال له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فقال: نعم، فأمر به فقُطعت يداه من المنكبين، ورِجلاه من الركبتين ثم حَرقه بالنار، قال: وأخذ عَمْرو بن العاص خفراءَ من بني تَمِيم بعثهم الزِّبْرِقَان بن بَدْرٍ وقَيْس بن عاصم المِنْقَرِي حتى وردَ على قُرَّة بن هُبَيْرَة، فخرج قُرَّةُ في مائة من قومهِ خُفَرَاء له. وقال المُنْذِرِ بن جَهم: أقبل عَمرو بن العاص يلقى الناسَ مُرْتَدِّين حتى أتى على ذي القَصَّة، فلقي عُيَيْنَةَ بن بدر خارجًا من المدينة، وذلك حين قدم على أبي بكر الصديق يقول له: إن جعلتَ لنا شيئًا كفيناك مَنْ وراءنا، فقال له عمرو: وما وراءك؟ فقال عُيَيْنَة: ابن أبي قحافة، وَالِي الناس يا عَمْرو، استوينا نحن وأنتم! قال عمرو: كذبتَ يَاابْنَ الأَخَابث مِنْ مُضَر، فلما قَدِم عَمْرو المدينةَ أخبر أبا بكر بما كان في وجهه، وبمَا قَالَهُ قُرّة بن هُبَيْرة، وبما قَالَهُ عُيَيْنة بن بَدْر، وَأَتَى عَمْرُو خالدَ بن الوليد حين بعثه أبو بكر إلى الرِّدَّةِ، فجعل يقول: يا أبا سليمان لاَ يُفْلِتَنَّ منك قُرَّةُ بن هُبَيْرة. وقال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم: لَمّا أَجْمَعَ أبو بكر عَلَى أَنْ يبعثَ الجيوشَ إلى الشام كان أول مَن سَارَ مِنْ عُمّاله عَمْرو بن العاص، وأمرهُ أن يسلك على أَيْلةَ عامدًا لفِلَسْطِين، فَقَدّم عمرو أمامه مُقَدِّمةً عليهم سعيد بن الحارث السَّهْمِيُّ، ودفع لواءهُ إلى الحجّاج بن الحارث السَّهمي، وكان جُنْدُ عمرو الذين خرجوا معه من المدينة ثلاثة آلاف، فيهم ناسٌ كثير من المهاجرين والأنصار، وخرج أبو بكر الصّديق يمشي إلى جَنبِ رَاحِلة عَمْرو بن العاص وهو يوصيه ويقول: يا عَمرو، اتق الله في سِرِّ أمرك وعَلَانِيَتِهِ، واستحييه فإنه يراك وَيَرَى عَمَلك، وقد رأيتَ تَقْدِيمي إياك على مَن هو أقدم سَابِقَةً منك ومَن كان أغنى عن الإسلام وأهله منك، فكن من عُمّال الآخرة، وأَرِدْ بما تفعل وَجْهَ الله وكُنْ وَالِدًا لمن معك، ولا تَكْشِفَنَّ الناسَ عن أستارهم، واكتَفِ بعلانيتهم، وكُنْ مُجِدًّا في أمرك، واصدُقِ اللِّقاءَ إذا لاقيتَ وَلاَ تَجبُن، وتقدم في الغلول، وعاقب عليه، وإذا وَعظْتَ أصحابَك فأَوْجز، وأصلح نفسَك تَصْلح لك رَعِيّتُك. وروى محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمِيّ، عن أبيه قال: لما رأى عَمْرُو بنُ العاص كثرةَ الجُمُوع بالشام، كتب إلى أبي بكر يَذْكر أَمْرَ الروم وَمَا جَمَعُوا، ويَسْتَمدُّه فَشَاوَرَ أبو بكر مَنْ عِنْدَهُ من المسلمين، فقال عُمَرُ بن الخطاب، يا خليفةَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم اكْتُبْ إلى خالد بن الوليد يَسِيرُ بِمَنْ معه إلى عَمْرو بن العاص فيكون له مددًا ففعل أبو بكرٍ وكتب إلى خالد بن الوليد. وكتب أبو بكر الصديق إلى عمرو بن العاص: إِنّي كتبتُ إلى خالد بن الوليد يَسِير إليك مَدَدًا لك، فإذا قَدِمَ عليك فأَحْسِنْ مُصَاحَبَتَهُ وَلاَ تَطَاوَلْ عليه، ولا تقطع الأمورَ دونه، لتقدُّمي إياك عليه، وعلى غيره، شاوِرْهم، ولا تُخالفهُم. وقال أبو العوَّام مؤذن بيت المقدس: سمعتُ عَبْدَ الله بن عَمْرو بن العاص يُحدِّث في بيت المقدس يقول: شهدنا أَجْنَادِين ونحن يومئذٍ عشرون ألفًا، وعلى الناس يومئذٍ عَمْرو بن العاص، فهزمهم الله وتفرقوا، فَفَاءت فِئة إلى فِحْل في خلافة عمر بن الخطاب، فسار إليهم عمرو بن العاص في الناس فنفاهم عن فحْل. وروى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: لما سار أُمَرَاء المسلمين إلى الشام فنزلوا بقرية يقال لها ثَادِن من قرى غزةَ مما يلي الحجاز، فلقيهم فيها بَطْريق من بطارقة الروم، فأرسل إليهم أن يُخْرِجوا إليهِ أَحَدَ القُوّاد ليكلِّمه، قال: فتواكلوا ذلك، وقال لعمرو بن العاص: أنت لذلك، فخرج إليه عمرو فلما انتهى إليه رحَّب به وأجلسه معه على سريره، ومَتّ إليه بقرابه العِيص بن إسحاق بن إبراهيم في إسماعيل بن إبراهيم، فكلّمه عَمْرو وَدعاهم إلى الدخول في الإسلام أو الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فأبَى، وضَنَّ بدينه فقال عمرو: قد أعذرت وَلَمْ يَبْقَ إلا السيف، فافترقا واقتتلوا فكانت بينهم معركة عظيمة. وفي رواية جعفر بن عبد الله بن أبي الحَكَم قال: خرج عَمرو بن العاص إلى بَطْرِيق غَزَّة في نُفَير من أصحابه، عليه قباءٌ عليه صدأ الحديد، وعِمَامة سوداء، وفي يده رمحٌ، وعلى ظهره تُرس، فلما طلع عليه ضحك وقال: ما كنتَ تصنع بحَمْلِ السلاح إلينا؟ قال: خِفْتُ أَنْ أَلقى دُونك فأكون قد فَرَّطتُ فالتفت إلى أصحابه فقال بيده ــ عقد الأَنمُلة على إبهامِه ــ ثم قال: مرحبًا بك، وأجلسه معه على سريره وحادثه فأطال، ثم كلّمه بكلام كثيرٍ، وحاجَّهُ عَمْرو ودعاهُ إلى الإسلام، فلما سمع البَطْريق كلامه وبيانه وأَداءَه قال بالرومية يَا مَعْشَرَ الرُّوم، أطِيعُونِي اليومَ واعصوني الدهر، هذا أميرُ القوم، أَلاَ تَرَوْنَ أني كلما كَلّمته كلمةً أجابني عن نفسه؟ لا يقول: أُشاور أصحابي وأَذْكُر لهم ما عرضتَ عَلَيَّ وليس الرأي إلا أن نقتله قبل أن يخرج من عندنا، فتختلف العرب بينها وَيَهِنُ أَمْرُهُم، ويفثئون عن قتالنا، فقال مَنْ حَوْلَه مِنَ الروم: ليس هذا برأي، وَكَانَ دَخَل مع عمرو بن العاص رجلٌ من أصحابه يعرف كلام الروم، فألقَى إلى عَمْرو ما قال الملك، ثم قال الملك: أَلاَ تخبرني هل في أصحابك مثلكُ يُبين بيانَك ويُؤَدّي أداءك؟ فقال عَمْرو: أنا أَكَلُّ أصحابي لسانا وأدناهم أدَاءً، وفي أصحابي مَنْ لو كلمتَه لعرفتَ أني لستُ هناك قال: فأنا أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إلَيَّ رأسَكم في البيان، والتقدم، والأداء حتى أكلمه، فقال عَمْرو: أَفعل. وخرج عَمرو من عنده، فقال البطريق لأصحابه: لَأُخَالِفنَّكم! لئن دخل عَلَيَّ فرأيتُ منه ما يقول لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ! فلما خرج عَمْرو من الباب كَبَّرَ وقال: لا أعود لمثل هذا أبدًا، وأتى منزله فاجتمع إليه أصحابه يسألونه، فَخَبَّرهم خبره وخبر البطريق، فأعظمَ القوم ذلك، وحَمَدوا الله على ما رزق من السلامة، وكتب عَمْرو بذلك إلى عُمَر، فكتب إليه عمر: الحمد لله على إحسانه إلينا، وإيّاك والتغريرَ بنفسك أو بأحدٍ من المسلمين في هذا وشبهه، وبحسب العِلج منهم، يُكَلَّمَ في مكان سواء بينك وبينه، فتأمن غائلته، ويكون أكسر له، فلما قرأ عَمْرو بن العاص كتابَ عُمَر، رَحَّم عليه ثم قال: ما الأب البار لولده بأَبَرّ من عمر بن الخطاب برعيته! ويروى أنه لما رأى عَمرو بن العاص يومَ اليَرْمُوك صَاحِبَ الرَّايةِ ينكشف بها، أخذها، ثم جَعَل يَتَقَّدمُ وهو يَصِيحُ: إِلَىَّ يا معشرَ المسلمين، فجعل يُطاعِن بها قُدُمًا وهو يقول: اصنعوا كما أصنع! حتى إنه ليرفعها وَلَكَأنَّ عليها أَلْسِنَةُ الطَّيْر مِنَ العَلَقِ. وسار بجيش إلى مصر وفتحها الله على يديه، ثم كتب إلى عمر ابن الخطاب بما فتح الله عليه، وبسلامته وَسَلاَمَةِ مَنْ معه من المسلمين مَعَ عُقبة بن عامر الجُهَنِيّ، فَحمِدَ عمرُ بن الخطاب الله على ذلك، ثم كتب إلى عَمرو بن العاص يَحْمَدُ الله على ما أبلاه وَأَبْلَى المسلمون، فأقام عمرو بن العاص بمصر ما أقام، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في مناهضة أهل الأسكندرية، فكتب إليه عمر أن يسير إليهم بمن معه من المسلمين، فسار عمرو بن العاص في سنة إحدى وعشرين، وخلف على الفسطاط خارجه بن حُذافة العدوي، وقدَّم بين يديه مُقَدّمةً عليهم عبد الله بن حُذافَة السَّهْمِيّ، وقد تجمع له ما دون الأسكندرية من الروم والقبط يقولون: لا يدخل علينا الأسكندرية أبدًا، وَزَحَفُوا إليه فَالْتَقَوا، فقاتَلهم عَمرو قتالًا شديدًا حتى هزمهم الله، وانتهوا إلى الكِرْيَون، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى صَلَّى عَمْرو بن العاص يومئذ صلاة الخوف، ثم مضى قدمًا حتى انتهى إلى الأسكندرية، فأرسل إليهم المقوقس صَالِحْنا وَمَادِّنا مُدَّة ننتهي إليها نحن وأنت وأكتب إلى صاحبي ــ يعني ملك الروم ــ وسأله مُودَاعَة سنة، فأَبَى عَمرو، فقال: فشهرًا، قال: ولا ساعةً من نهارٍ، ثم قاتلهم أشد القتال حتى فتحها عَنْوَةً ودخلها بالسيف وغَنِمَ ما فيها من الروم وغيرهم الذين في جوفها، وجعل فيها رابطةً من المسلمين عليهم عبد الله بن حُذَافة، وبَعثَ عَمْرُو بن العاص معاويَة بن حُدَيْج إلى عمر بن الخطاب بفتح الأسكندرية، قال: وبلغ قُسطنطين بن هرقل أَمْرَ الأسكندرية وَفَتْحهَا فبعث خَصِيًّا لهُ يُقال له: منويل في ثلاثمائة مركب حتى دخلوا الأسكندرية، فقتلوا من بها من روابط المسلمين وهَرَبَ مَن هرب، ونقض أهل الأسكندرية، فبلغ عمرو بن العاص الخبر فندب المسلمين فخرجَ في خمسة عشر ألفًا من المسلمين، ثم زحف إلى أهل الأسكندرية ونصب عليها المَجَانِيق، وقاتلهم أشد القتال حتى فتحها عَنْوَةً. وكان فيما كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص لما ولي مصر: وأن معك أهل ذمة وعهدٍ قد أوصى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بهم، وأوصى بالقبط فقال:"اسْتَوْصُوا بالقبط خَيْرًا فإنّ لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا"، ورحمهم: أَنّ أُمَّ إسماعيل منهم، وقد قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَن ظَلَم معاهدًا وكلّفه فوق طاقتهِ فَأَنَا خصْمُهُ يوم القيامة" ، احْذَرْ يَا عَمْرو أن يكون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لك خصمًا، فإنه من خاصمه خصمه، والله يا عمرو، لقد ابتليتُ بولايةِ هذه الأمة، وأنستُ من نفسي ضعفًا وانتشرت رعيَّتي، ورقَّ عظمي، فأسألُ الله أَنْ يقبضني إليه غير مُفرطٍ، والله إني لأخشى لو مات حَمَلٌ بأقصى عملك ضياعًا، أن أُسْأَلَ عنه يوم القيامة. وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص: أن يحمل طعامًا من مصر حتى يُرسَى بهِ إلى بَولا وكان الساحلَ، ليقسمه على الناس على حالاتِهم، وعيالاتِهم، وإن أهل المدينة قومٌ محصورون، وليست بأرض زرع، فبعث عمرو بن العاص بعشرين مركبًا في البحر، وبعث في كل مركب ثلاثة آلاف إردب وأكثر وأقلّ، حتى انتهت إلى الجار، وهو المرفأ اليوم وبلغ عمر رضي الله عنه قدومها فخرج وخرج معه الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فنظر السفن فحمد الله الذي ذَلَّلَ لهم البحرَ حتى جَرَتْ فيه منافع المسلمين إلى المدينة، وَأَمَرَ سعد الجار بِقَبْض ذلك الطعام وأَن يَسْتَوْفِيَه، فلما قدم عمر المدينة قسّم ذلك الطعامَ على الناس وكتب لهم بالصِّكاك إلى الجار، فكانوا يخرجون ويَقْبِضُونَ ذلك. وقال عبد الرحمن بن شِماسة المَهْريّ: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سِياقة الموت فحوّل وجهه إلى الحائط يبكي طويلًا وابنه يقول له: ما يُبكيك؟ أما بشّرك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشّرك بكذا؟ قال: وهو في ذلك يبكي ووجهه إلى الحائط، قال ثمّ أقبل بوجهه إلينا فقال: إنّ أفضلَ ممّا تَعُدّ عليّ شهادةُ أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولكني قد كنتُ على أطباقٍ ثلاثٍ، قد رأيتُني ما من الناس من أحدٍ أبغض إليّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولا أحبّ إليّ من أن أسْتَمْكِنَ منه فأقتله، فلو متّ على تلك الطبقة لكنتُ من أهل النار، ثمّ جعل الله الإسلام في قلبي فأتيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأبايعه فقلتُ: ابسط يمينك أبايِعْك يا رسول الله، قال: فبسط يده ثمّ إني قبضتُ يدي فقال: "ما لك يا عمرو؟" قال فقلتُ: أردتُ أن أشترط، فقال: "تشترط ماذا؟" فقلتُ: أشترط أن يُغْفَرَ لي، فقال: "أما علمتَ يا عمرو أنّ الإسلامَ يَهْدِمُ ما كان قبله وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟" فقد رأيتُني ما من الناس أحد أحبّ إليّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئِلتُ أن أنْعَتَه ما أطَقْتُ لأني لم أكن أطيق أن أملأ عيني إجلالًا له، فلو متُّ على تلك الطبقةِ رجوتُ أن أكون من أهل الجنّة، ثمّ ولينا أشياءَ بعدُ فلستُ أدري ما أنا فيها أو ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تَصْحَبْني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فسُنّوا عليّ الترابَ سَنًّا، فإذا فرغتم من قبري فامكثوا عند قبري قدر ما يُنْحَرُ جَزورٌ ويُقْسَمُ لحمها فإني أستأنس بكم حتى أعلم ماذا أراجع به رُسُلَ ربّي. وقال الحسن: بلغني أنّ عمرو بن العاص لما كان عند الموت دعا حرَسَه فقال: أيّ صاحب كنتُ لكم؟ قالوا: كنتَ لنا صاحب صِدْقٍ تُكْرمُنا وتُعْطينا وتفعل وتفعل، قال: فإنّي إنّما كنتُ أفعل ذلك لتمنعوني من الموت، وإنّ الموتَ ها هو ذا قد نزل بي فأغْنوه عنّي، فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: والله ما كنّا نَحْسِبُك تَكَلّمُ بالعَوْراءِ يا أبا عبد الله، قد علمتَ أنّا لانُغْني عنك من الموت شيئًا، فقال: أما والله لقد قلتُها وإني لأعْلَمُ أنّكم لا تُغْنُون عنّي من الموت شيئًا ولكن والله لأنْ أكون لم أتّخِذْ منكم رجلًا قطّ يمنعني من الموت أحبّ إليّ من كذا وكذا، فيا وَيْحَ ابن أبي طالب إذ يقول: حَرَسَ امرءًا أَجَلُه، ثمّ قال عمرو: اللهمّ لا بَرِيءٌ فأعتذر ولا عزيز فأنتصر وإلاّ تُدْركْني برحمةٍ أكن من الهالكين. وكان عمرو ابن العاص يقول: عَجَبًا لمَن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلمّا نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو: يا أبَتِ إنّك كنتَ تقول عجبًا لمَن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه فصِفْ لنا الموت وعقلك معك، فقال: يا بُنَيّ، الموت أَجَلُّ مِنْ أن يُوصَف ولكنّي سأصف لك منه شيئًا، أجدني كأنّ على عنقي جبالَ رَضْوَى، وأجدني كأنّ في جوفي شوك السُّلاَّء، وأجدني كأنّ نفَسي يخرج من ثَقْبِ إبْرَةٍ. وتوفّي عمرو بن العاص يوم الفِطْر بمصر سنة اثنتين وأربعين وهو والٍ عليها، توفّي وهو ابْنُ تسعين سنة. ودُفن بالمقطم من ناحية الفتح، وصلّى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع فصلّى بالنّاس صلاة العيد.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال