تسجيل الدخول


عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن

عَمْرو بنُ العاص بن وائل القُرَشي السهمي:
روى أبو هُرَيْرَة أن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "ابْنَا العاص مؤمنان هشامٌ وعَمْرٌو(*). ويكنى عمرو: أَبا عبد اللّه، وقيل: أَبو محمد. وأخواه لأمّه عَمْرو بن أُثاثة بن عبّاد العَدويّ، كان من مهاجرة الحبشة، وعُرْوة بن أَبي أُثاثة، وأَرْنَبُ بنتُ عفيف بن أبي العاص، وعقبة بن نافع بن قيس؛ من بني الحارث بن فهر، وزينب بنت عفيف بن أبي العاص، وأمُّ هؤلاء، وأمُّ عمرو واحدةٌ، وهي: النَّابِغَة بنت حرملة، وقيل: بنت خُزَيمة؛ وذكروا أنه جعل لرجل ألف درهم على أَنْ يسأل عمرو بن العاص عن أمّه وهو على المنبر، فسأله فقال: أُمي سلمى بنت حَرملة، تلقّب النّابغة من بني عنزَة، ثم أحد بني جلان، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكِهُ بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جُدْعان، ثم صارت إِلى العاص بن وائل، فولدت له، فأنجبت، فإن كان جُعل لك شيء فخُذْه.
وكان لعمرو بن العاص من الولد عبدُ الله؛ وأمه رَيْطَةُ بنتُ مُنَبِّه بن الحَجّاج، ومحمد بن عَمْرو؛ وأمُّه مِنْ بَلِيّ قال ابن أَبِي مُلَيْكة، وعمرو بن دِينَار: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "نِعْم أهلُ البيتِ عبدُ الله وأبو عبد الله وَأُمُّ عبد الله"(*). قال يزيد بن هارون: يعني: عبد الله بن عَمْرو بن العاص، وعَمْرو بن العاص، وأمّ عبد الله بن عمرٍو، وسَمّاهُم.
وكان عمرو يخضِبُ بالسواد وقال ذاخر المعافري: رأيت عَمْرًا على المنبر أدْعَج أبْلج ــ أي شديد بياض العين وشديد سوادها، حسن الوجه، قصير القامة، وقيل: أسلم بين الحديبية وخَيْبَر، والصّحيحُ: أنه أسلم في صفر سنة ثمان من الهجرة، قبل الفتح بستة أشهر، وعن قصة إسلامه يحكي عن نفسه فيقول: كنت للإسلام مُجَانِبًا مُعَانِدًا، حضرتُ بدرًا مع المشركين فنجوتُ، ثم حضرت أُحُدًا فنجوتُ، ثم حضرت الخندقَ فنجوت فقلتُ في نفسي: كم أوضِع؟ والله ليظْهَرَنّ محمدٌ على قريش، فلحقت بمالي بالوَهْطِ، وأَقْلَلْتُ من الناسِ، فلم أحضر الحُدَيْبِيَةَ، وَلاَ صُلْحَهَا، وانصرف رسول الله صََّلى الله عليه وسلم بالصلح وَرَجَعَتْ قريشٌ إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمدٌ قابلًا مكةَ بأصحابه، ما مكة لنا بمنزل ولا الطائف، وما شيء خيرٌ من الخروج، وأنا بعدُ نَاتٍ عن الإسلام، أرى لو أسلمتْ قريش كلّها لم أسلم فَقَدِمتُ مكةَ فجمعتُ رجالًا من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدِّمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذُو رأينا وَمِدْرَهُنا مع يُمن نَقِيبة وبركةِ أمرٍ قلتُ: تعلَّموا والله أَني لأرى أمر محمد أَمْرًا يعلو الأمورَ عُلوًّا مُنْكَرًا، وإني قد رأيت رأيًا، قالوا: ما هو؟ قلت: نَلْحَق بالنَّجَاشِيّ فنكون عنده، فإن يَظْهَرْ محمدٌ كنا عند النجاشي، فنكون تحت يده أحب إلينا من أن نكون تحت يَدَي محمدٍ، وإن تَظْهَر قريش فنحن مَنْ قد عَرفوا، قالوا: هذا الرأيّ! قلتُ: فاجمعُوا ما تُهْدُونه له، وكان أَحَبُّ ما يُهْدَى إليه من أرضنا الأَدم، قال: فجمعنا أَدَمًا كثيرًا، ثم خرجنا فقدمنا على النَّجاشي، فوالله إِنَّا لعنده إِذْ جاء عَمْرو بن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ، وكان رسول الله صََّلى الله عليه وسلم بعثهُ إليه بكتابين: أحدهما يدعوه فيه إلى الإسلام، والآخر يسأله فيه أن يُزَوِّجَه أُمّ حَبِيَبة بنت أبي سفيان، ويبعث إليه بأصحابه أهلِ السفينتين، فلقي عَمْرُو بن العاص عَمْرَو بن أميَّة فضربه وخنقه بردائه، ثم دخل على النجاشي فأخبره فغضب النجاشي وقال: والله لو قتلتَهُ ما أبقَيتُ منكم أحدًا، أَتَقْتُلُ رَسُولَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم؟! قال عمرو بن العاص فقلت: أَتَشْهَدُ أَنّه رسولُ الله؟ قال: نعم. أشهد أنه رسول الله. فقلت: وأنا أَشْهَدُ أنه رسول الله، ابْسُطْ يَدَك أُبَايِعْك، فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجتُ إلى عَمْرو بن أُمَيّة، فَعَانَقْتُه، وَعَانَقَنِي، وأخبرته بإسلامي، وفي رواية أخرى: أنه لما رأى عَمْرو بن أُمَيَّة الضَّمْرِيّ قال لأصحابه: هذا عَمْرو بن أُمَيَّةَ، ولو قد دخلتُ عَلَى النَّجاشِيّ قد سألتُه إياه فأَعطانيه فضربتُ عنقه، فإذا فعلتُ ذلك سَررْتُ قريشًا، وكنت قد أَجْزَأْتُ عنها حين قَتَلْتُ رسولَ محمدٍ، قال: فدخلتُ على النجاشي فسجدتُ له كما كنت أصنع، فقال: مرحبًا بصديقي! أَهْدَيْتَ إِلَيَّ من بلادك شيئًا؟ فقلت: نعم أيها الملك، أَهْدَيْتُ إليك أَدَمًا كثيرًا، ثم قَرَّبْتُهُ إليهُ فَأَعْجَبَهُ، وفرَّق منه أشياء بين بَطَارِقَتِهِ، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويُتَحَفَّظ به، فلما رأيتُ طيب نفسه قلت: أَيُّها الملك، إني قد رأيت رجلًا خرج من عندك وهو رسولُ رجلٍ عَدُوٍّ لنا، قد وَتَرَنا، وقَتَل أَشْرَافَنَا، وخِيَارَنَا فأَعْطِنيه فأقتُلهُ! فَغَضِبَ فرفع يَدَه فضرب بها أَنْفِي ضَرْبَةً ظننتُ أنه كسرَهُ، وابتدر مَنْخِرايَ، فجعلت أَتَلَقَّى الدَّمَ بثيابي، وأصابني من الذُّلِّ ما لو انْشَقَّت لي الأرضُ دخلتُ فيها فَرَقًا منه فقلت له: أيها الملك، لو ظننتُ أنك تكره ما قلتُ ما سألتكه، قال: فاستحيا وقال: يا عَمرو، تسألني أَن أُعطيك رَسولَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم مَن يأتيه الناموسُ الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى بن مريم لِتَقْتُلَه؟! قال عمرو: وغَيَّر الله قلبي عَمّا كنت عليه، وقلتُ في نفسي: عَرَفَ هذا الحقَّ العَربُ والعجمُ وتُخالفُ أَنت؟! فقال النجاشي: يا عمرو، كيف يَعْزُب عنك أمْرُ ابن عمك! فوالله إنه لرسولُ الله حقًا. فقال عمرو: وتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم أشهد به عند الله يا عمرو، فأَطِعني وَاتَّبِعْه، والله إنه لَعَلَى الحَقّ وليظهرنَّ على كل من خَالَفَه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، قلت: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال: نعم، فبسط يده فبايعتُه على الإسلام، ودعا لي بطَسْتٍ فغسل عَنِّي الدمَ وكساني ثيابًّا، وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فأَلقيتُها، ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كُسوة الملك سُرُّوا بذلك وقالوا: هل أدركتَ من صاحبك ما أردتَ؟ فقلت لهم: كرهتُ أن أكلمهُ في أَوّلِ مَرّةٍ وقلت أعود إليه، قالوا: الرأْيُ ما رأيتَ! وفارقتُهم وكأنّي أَعْمِدُ لحاجة فعمِدتُ إلى موضع السُّفُن فوجدت سفينة قد شُحِنَتْ تَدْفَع، فركبتُ معهم ودفعوها من ساعتهم حتى انتهوا إلى الشُّعَيْبَةِ فخرجت بها ومعي نفقةٌ، فاتبعتُ بعيرًا وخرجتُ أريدُ المدينة حتى إذا أتيت على مَرِّ الظَّهْران، ثم مضيتُ حتى إذا كنت بالهَدَّة، إذا رجلان قد سبقاني بغير كبير يُريدان منزلًا، وأحدهما داخلٌ في خيمةٍ، والآخر قائمٌ يُمسكُ الراحلتين، فنظرت فإذا هو خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟! قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمدًا، دَخَلَ الناسُ في الإسلام فلم يبق أحدٌ به طُعمٌ والله لو أَقَمنا لأَخذ بِرِقَابِنا كما يُؤْخَذُ بِرَقَبة الضَّبُع في مَغَارتها، قلت: وأنا واللهِ قد أردتُ محمدًا وأَردت الإسلام، وخرج عُثمان بن طَلْحة فرحَّب بي فنزلنا جميعًا في المنزل، ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجلٍ لقينا بِبِئْر أَبِي عِنَبَةَ يصيح: يا رَباح! يا رَباح! فتفاءَلنا بقوله وسُرِرْنا، ثم نظر إلينا فأَسمعه يقول: قد أعطت مكَّةُ المقادةَ بعد هذين! فظننت أنه يعنيني ويعني خالد بن الوليد، ثم وَلَّى مُدْبرًا إلى المسجد سريعًا، فظننت أنه يُبَشّر رسولَ الله صََّلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننتُ، وأَنَخنا بالحَرَّة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونُودِي بالعصر فانطلقنا جميعًا حتى طلعنا عليه صلوات الله عليه وسلامه، وإِنَّ لوجهه تهلُّلًا، والمسلمون حوله قد سُرُّوا بإسلامنا، وفي رواية: فلما دخلوا على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ونظر إليهم قال: "قد رَمَتْكم مكَّةُ بأَفلاذِ كبدها".(*) فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدّم عُثمان بن طَلحة فبايع، رسول الله صََّلى الله عليه وسلم، ثم تقدمتُ، فوالله ما هو إِلاّ أَن جلستُ بين يديه فما استطعت أن أرفع طرْفي إليه حياءً منه، فبايعته على أن يغفر لي ماتقدم من ذنبي، وأن أُشْرَك في الأمر ففعل، ونسيتُ أن أقول له: يُغْفَرُ لي ما تأخّر من ذنبي. وقال: "إن الإسلامَ يَحُتُّ ما كان قبله، والهجرة تَحُتُّ ما كان قبلها". فوالله ما عَدَل بي رسول الله صََّلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أَحَدًا من أصحابه في أمرٍ حَزَبهُ منذ أَسلمنا، ولقد كنَّا عند أبي بكر بتلك المنزِلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحال(*). وفي رواية أخرى: أن جعفر استأذن رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: ائذنْ لي أن آتي أرضًا أعبدُ الله فيها لا أخافُ أحدًا إلا الله، فأَذِنَ له فأتى النَّجَاشِيَّ، فلما رأى عمرو بن العاص مكانَته حَسَده، وقال: والله لأستقتِلَنّ لهذا ولأصحابه، فأتى النجاشي فدخل عليه فقال له: إِنَّ بأرضك رجلًا ابنُ عَمِّه بأرضنا، وإنه يزعم أنه ليس للناس إلاّ إلهٌ واحدٌ، وإنك والله إنْ لم تَقْتُلْه وأصحابَه، لا أقطعُ هذه النُّطْفَةَ إليك أبدًا، أنا ولا أحدٌ من أصحابي قال: ادْعُه، فقال عمرو: إنه لا يجيء معي، فأرسلَ إليه معي رسولًا، فجاء، فلما انتهى عمرو إلى الباب نادى: ائْذَنْ لعمرو بن العاص، ونادى جعفر مِن خلفه: ائْذَنْ لحِزْبِ الله، فسمع النجاشي صوتَ جعفر فأَذِنَ له قبل عمرو فدخل جعفر وأصحابه، ثم أذِنَ لعمرو، فدخل، فوجد جعفر جالس على السرير، فلما رآه عمرو جاء فقعد بين يَدَيْه، وجعلُه خَلْفَ ظَهْرَه، وأَقْعَدَ بين كل رجلين من أصحاب جعفر رجلًا من أصحابه، ثم قال النجاشي: نَخِّرُوا، أي تكلموا، فقال عمرو: إن ابنَ عمِّ هذا بأرضنا، وإنه يَزْعُم أنه ليس للناس إلا إله واحدٌ وإنك إن لم تقتلهُ وأصحابَه لا أقطعُ هذه النُّطفَةَ إليك أبدًا أنا وَلاَ أحدٌ من أصحابي، فَتَشَهَّدَ جعفر، قال عمرو: فإنّ أول ما سمعتُ التَّشَهُّدَ يومئذ: ثم قال جعفر: صدق هو ابنُ عمِّي وأنا على دينه، فصاح النجاشي صِيَاحًا وقال: أَوَّه، فقال عمرو: ما لابن الحبشيَةِ لا يتكلم! ثم تكلم النجاشي فقال: أَنَامُوسٌ مثل نَامُوسِ موسى؟ ما يقول في عيسى بن مريم؟ قال يقول: هو رُوحُ الله وكلمته، قال: فتناول شيئًا من الأرض وقال: ما أخطأ مِنْ أَمْرِه مثلَ هذه، وقال: لولا مُلْكِي لاتَّبَعْتُكم، وقال لعمرو: ما كنتُ أبالي أَنْ لاَ تَأْتِيَنيِ أنت ولا أحدٌ من أصحابك أبدًا، وقال لجعفر: اذْهَبْ فأنت آمِنٌ بأرضي، فَمَنْ ضربك قَتَلْتُه، ومَنْ سَبَّك غَرَّمتهُ، وقال لآذِنِهِ: مَتى ما أتاك هذا يَسْتَأْذِن عَلَيَّ فأذن له إلا أن أكون عند أَهْلي، فإن كنت عند أهلي فأَخْبِره، فإن أَبَى فَأْذن له، قال عمرو: وتفرقنا، فلم يكن أحد أحبّ إليّ أن أكون قد لقيته خاليًا من جعفر، فاستقبلني في طريقٍ مَرّةً فنظرتُ خلفهُ فلم أرَ أحدًا، ونظرتُ خلفي فلم أرَ أحدًا، قال: فَدَنوتُ منه فأخذتُ بيدهِ فقلتُ: تعلم أني أشهد أن لا إله إلا الله وَأن محمدًا عبدُه ورسوله قال: فقال: هداك الله فاثبتْ، قال: فتركني وذهب قال: فأتيت أصحابي فكأنما شهدوه معي،قال: فأخذوني فألقَوا عَلَيَّ قَطِيفةً: ثوبًا قال: فجعلوا يَغُمّونَني وجعلت أُخْرِج رأسي مَرّةً من هذه الناحية، ومَرّةً من هذه الناحية، حتى أفلتُّ وما عليَّ قِشرةٌ، قال: فلقيتُ حَبَشيَّةً، فأخذتُ قِنَاعَهَا، فجعلته عَلَى عَوْرَتِي، فقالت: كذا وَكذا، فقلت: كذا وكذا، فأتيتُ جعفرًا حتى دخلتُ عليه فقال: مالك؟ فقلتُ ذُهِبَ بكل شَيءٍ لي حتّى ما تُرِكَ عَلَيَّ قشرةٌ، وما الذي ترى عليّ إلا قِناعُ حَبَشيّةٍ، قال: فقال: انطلق، فانطلقت معه حتى انتهينا إلى باب الملك فقال: ائْذَنْ لحِزْبِ الله، قال آذِنهُ: إنه معَ أهلهِ، قال: قال فاستأذِنْ لي، فاسْتأْذَنَ لهُ فقال: إن عَمْرًا قد تابعني على ديني قال: كلا، قلت: بلى، قال: كلا، قلت: بلى قال: فقال لإنسان: اذهب فإن كان قد فعل فلا يقولَنَّ لك شيئًا إلا كتبتَه، قال: فجاء، فقال: نعم، فجعل يكتب ما أقول حتى ماتركتُ شيئًا حتى القَدَحَ، ولو شئتُ أن آخذ من أموالهم إِلَى مَالِي لفعلتُ. وذكر الزُّبَيْر بْنُ بَكَّارٍ أنَّ رجلًا قال لعمرو: ما أبطأ بكَ عن الإسلام وأنتَ أنتَ في عقلك؟ قال: إنا كنا مع قوم لهم علينا تقدّم، وكانوا ممَّن يواري حلومهم الخبال، فلما بُعث النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم فأنكروا عليه فلُذْنا بهم، فلما ذهبوا وصار الأمْرُ إلينا نظرنا وتدبَّرْنا فإذا حقّ بيّن، فوقع في قلبي الإسلام، فعرَفَتْ قريش ذلك مني من إبطائي عما كنْتُ أسرع فيه من عَوْنهم عليه، فبعثوا إليَّ فتًى منهم، فناظرني في ذلك، فقلت: أنشدك الله ربك وربّ مَنْ قبلك ومَنْ بعدك، أنحن أهْدَى أم فارس والروم؟ قال: نحن أهْدى، قلت: فنحن أوسع عَيْشًا أم هم؟ قال: هم، قلت: فما ينفعنا فَضْلُنا عليهم إن لم يكن لنا فضْلٌ إلا في الدنيا، وهم أعظم منا فيها أمْرًا في كل شيء، وقد وقع في نفسي أن الذي يقولُه محمد من أنَّ البعث بعد الموت ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته حقّ، ولا خير في التمادي في الباطل. وقال عُقْبَة بن عامر: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَسْلَمَ الناسُ وآمن عَمْرُو بن العاص"(*).
صحب عمروٌ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، وقال حيّان بن أبي جَبَلة: قيل لعمرو بن العاص ما المروءة؟ فقال: يُصْلِحُ الرجلُ مالَه ويُحْسن إلى إخوانه، وقال مُجَاهِد: أعتق عمرو بن العاص كلّ مملوك له. وكان عمرو بن العاص من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهليّة مذكورًا بذلك فيهم، وكان شاعرًا حسَنَ الشّعر، حفظ عنه الكثير في مشاهد شتى، ومن شعره في أبياتٍ له يخاطب عمارة بن الوليد بن المغيرة عند النْجاشيّ:
إِذَا المْرءُ لَمْ يَتْرُكْ طَعَامًا يُحِبُّهُ وَلَمْ يَنْهَ قَلْبًا غَاوِيًا حَيْثُ يَمَّمَا
قَضَى وطَرًا مِنْهُ وَغَادَرَ سُبَّـةً إِذَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُهَا تَمْلأُ الفَمَا
وكان عمرو بن العاص أحدَ الدُّهاة في أمور الدّنيا المقدمين في الرأي والمكر والدّهاء، وكان عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إذا استضعف رجلًا في رأيه وعقله قال: أشهد أن خالقك وخالق عمرو واحد، يريد خالق الأضداد. وقال طلحة بن عبيد اللّه: سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ"(*) أخرجه الترمذي في السنن 5/ 646 كتاب المناقب (50) باب مناقب لعمرو بن العاص حديث رقم 3845.. وقال قَبيصة بن جابر: صحبْتُ عَمْرو بن العاص فما رأيْتُ رجلًا أبين قرآنًا ولا أكرم خُلقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه. وكان الشعبي يقول: دُهاة العرب في الإسلام أربعة؛ فعدَّ منهم عَمْرًا، وقال: فأما عمرو فللمعضلات. ورَوَى عَمْرو عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم أحاديثَ، وروَى عنه ولداه: عبد الله، ومحمد، وروى عنه قيس بن أبي حازم، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو قيس مولى عَمْرو، وعبد الرحمن بن شِمَاسة، وأبو عثمان النهدي، وقبيصة ابن ذؤيب، وآخرون.
وقال عمرو بن العاص: جاء خَصْمَان يختصمان إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال لي: "يا عَمْرو اقْضِ بينهما"، قلتُ. أنت أولى بذلك يا رسول الله! قال: "أجل"، قلت فَعَلاَمَ أَقْضِي؟ قال: "إِنْ أصبتَ القضاء بينهما فلك عشر حسنات، وإن اجتهدتَ فأخطأتَ فلك حسنةٌ واحدةٌ"(*). وأخرج أَحْمَدُ، والنَّسَائِيُّ، بسندٍ حسن، عن عمرو بن العاص، قال: فزع أهْلُ المدينة فزَعًا فتفرقوا، فنظرت إلى سالم مولى أبي حُذيفة في المسجد عليه سَيْفٌ مختفيًا، ففعلت مِثْلَه، فخطب النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "أَلا يَكُونُ فَزَعُكُم إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، أَلَا فعلْتُم كَما فَعَلَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ المؤْمِنَانَ"(*)
قال عَمْرو بن العاص: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "يا عمرو اشدد عليك سلاحك وثيابَك وائتني"، ففعلت، فجئتهُ وهو يتوضأ، فَصَعَّدَ فِيَّ البَصَرَ، وصوَّبَهُ، قال: "يا عمرو، إِني أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ وجهًا فَيُسَلِّمُكَ الله ويُغْنمك، وأزْعَبُ لك من المال زَعْبَةً صالحةً"، قال قلتُ: يا رسول الله! إِنِّي لم أُسْلِم رغبةً في المال، إنما أسلمت رغبةً في الجهاد والكَيْنُونَةِ معك، قال: "يا عَمْرو، نِعِمَّا بالمال الصالح للمرءِ الصّالح"(*). فبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَميرًا على سَرِية إِلى ذات السلاسل وعَقَد له لواءً أبيض، وجعل معه رايةً سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سَراةِ المهاجرين إِلى أَخوال أَبيه العاص بن وائل، وكانت أُمه من بَلِيّ بن عمرو بن الحاف بن قُضاعة يدعوهم إِلى الإِسلام، ويستنفرهم إِلى الجهاد، وبعثه يستألفهم بذلك، فسار في ذلك الجيش وهم ثلاثمائة، حتى إِذا كان على ماءٍ بأَرض جُذَام، يقال له السلاسل وبذلك سمت تلك الغزاة ذات السلاسل، فلما دخل بلادهم بعث إلى رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم رافعَ بن مَكِيث الجُهَنِيّ يستمده، ويخبره أن لهم جَمْعًا كثيرًا من بَلِيٍّ وقُضَاعَة وغيرهم، فأمدَّه بأبي عُبَيْدَة بن الجَرّاح في مائتين من سَراةِ المسلمين فيهم أبو بكر وعُمَر، وعقد له لواءً وعهد إليه "إِذَا قَدِمتَ على صاحبك فتطاوعا"، فَقَدِمَ عليه فاختلفا في الصلاةِ، فقال عَمْرو: إنما قدمتَ عَلَيَّ مددًا لي، فطاوعَهُ أبو عُبَيدة لوصية رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إياه، فكان عَمْرو يصلي بالناس كلهم ويتأَمَّرُ عليهم(*). وقال قيس بن أبي حازم: بعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم عَمْرَو بنَ العاص في غزوة ذات السَّلاَسِل: فأصابهم بردٌ شديدٌ، فقال لهم عَمْرُو: لا يُوقِدَنَّ أَحَدٌ نارًا، قال: ثم قاتل القوم فلما قَدمُوا على النبي صَلَّى الله عليه وسلم َشكَوا ذلك إليه، فقال: يا نبي الله، كان في أصحابي قِلَّةٌ، فخشيتُ أن يَرَى العدوُّ قِلّتَهُم، ونهيتُهم أن يتبعوا العدوَّ مخافةَ أن يكون لهم مِن وراءِ الجبل كمين، قال: فأعجب ذلك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم(*) وقال عبد الله بن بُرَيْدَة: قال عُمر لأبي بكر، لَمَّا لَمْ يَدَعْ عَمْرُو بن العاص الناسَ أن يوقدوا نارًا ألا ترى إلى هذا ما صنع بالناس يَمْنَعُهم منافِعَهم؟ قال: فقال أبو بكر: دَعْهُ، فإنما ولاّهُ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم علينا لِعِلْمِهِ بالحَرْب. وروى داود بن الحُصَينْ أن النبيّ صَلَّى الله عليه وسلم بعثَ عَمْرَو بنَ العاص واستعمله على أصحابه في وجه من تلك الوجوه، فلما قَدِمُوا قال: "كيف وَجَدْتُم أَمِيرَكم؟ قالوا: ما وجدنا به بَأْسًا مِنْ رَجُل، صلى لنا وهو جُنُبٌ، فدعاهُ فسأله فقال: "ما يقول هؤلاء؟" قال: صَدَقُوا، أَصَابَتْنِي جنابةٌ وأنا مريضٌ شديدُ المرض، فتخوفت إن اغتسلت أَنْ أقتل نَفْسِي والله يقول: {وَلَا تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [سورة النساء: 28](*). وقال الحارث بن حَسَّان البَكْرِيّ: خرجت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أو قال: قَدِمْتُ على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فدخلت المسجد، فإذا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على المنبر وبِلاَل بين يديه مُتَقَلِّدًا بالسيف، وإذا راياتٌ سود بين يديه، فقلت: ما هذا؟ قالوا: عَمْرو بن العاص قَدِمَ من سَفَرِه الذي بعثه النبي صَلَّى الله عليه وسلم(*).
وقال سَعيد بن عمرو الهُذَلِيّ: لما فتح رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مَكّةَ بَثَّ السَّرَايا، فبعث عَمْرَو بن العاص إلى صنم هُذيل سُواع فهدمه، فكان عَمرو يقول: انتهيتُ إليه وعنده السَّادِنُ، فقال: ما تريدُ؟ فقلتُ: هَدْم سُواع، فقال: ومالك ولَهُ؟ فقلت: أمرني رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم! فقال: لا تقدر على هَدْمه، فقلت: لِمَ؟ قال يمتَنِعُ، قال عمرو: حتى الآن أنت في الباطل! وَيْحَك وهل يسمع أو يُبصر؟ قال عمرو: فدنوتُ إليه فكسرتهُ، وأمرتُ أصحابي فهدموا بيت خِزَانَتِهِ، فلم يجدوا فيه شيئًا، ثم قلت للسّادنِ: كيفَ رأيتَ؟ قال: أسلمتُ لله(*). وقال سعيد بن عَمرو الهُذَلِيّ: لما رجع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من الجِعِرَّانَة قدم المدينة يومَ الجمعةِ لثلاث بقين من ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة، فأقام بقية ذي القعدة، وذي الحجة، فلمّا رأَى هلال المحرّم سنة تسع بعث المُصدِّقين يُصَدِّقون العربَ، فبعث عمرو بن العاص إلى بني فَزَارَة يُصَدِّقهم(*). وقال عمرو بن العاص: أسلمت عند النَّجَاشِيّ وبايعتهُ على الإسلام، ثم قَدِمْتُ عَلَى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينَةَ فأعلمتُه أَنِّي قَدِمْتُ راغبًا في الهجرة، وفي ظهور الإسلام وأنا أحب أن ترى أثري وغناي عن الإسلام وأهله، فقد طال ما كنت عونًا عليه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "الإسلام يَحُتُّ ما كان قبله، وأنا باعثك في أُناس أَبعثهم إن شاء الله"، فلما كان بعد ذلك بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ثمانية نَفَرٍ سَمّاهم، فكنت أنا المبعوث إلى جَيْفَر وعبد ابْنَي الجُلُنْدَى وكَانَا من الأَزْد، والمَلك منهما جَيْفر، وكتب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم معي إليهما كتابا يدعوهما فيه إلى الإسلام، وكتب أُبَيُّ بن كعب الكتابَ وختمهُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فخرجتُ حتى قَدِمْتُ عُمان، فعمدتُ إلى عبد بن الجُلُنْدَى ــ وكان أحلمَ الرجلين وأسهَلهما خُلُقًا ــ فقلتُ: إني رسولُ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم إليك وإلى أخيك، فقال: أخي المُقدَّمُ عَلَيَّ بالسنِّ والمُلك وأنا أوصلكَ إليه، فمكثتُ ببابه أيامًا ثم وصلتُ إليه، فدفعتُ الكتابَ إليه مَختومًا، فَفَضَّ خاتمه ثم قرأه إلى آخره، ثم دفعه إلى أخيه فقرأه، وقال لي: يا عَمْرو، أنت ابن سيِّد قومك، فكيف صنع أبوك فإن لنا فيه قُدوة؟ قلتُ: مات ولم يُؤمن بمحمد صَلَّى الله عليه وسلم، وودتُ أنه كان أسلم وصدَّق به، وقد كنتُ أنا على مثل رأيه حتى هداني الله للإسلام، قال: فمتى تَبِعتَه؟ قلتُ: قريبًا قال: فسألني أين كان إسلامي؟ فقلت: عند النجاشي، وقد أسلم، قال: فكيف صَنع قومه بملكه؟ قلت: أَقرُّوه واتَّبعُوهُ، قال: والأساقِفةُ والرُهبانُ تبعوهُ؟ قال: قلت: نعم، قال: فأَبَى أن يُسلم، فأقمتُ أَيّامًا ثم قلتُ: أنا خارجٌ غدًا، فلمَّا أيقن بخروجي أرسل إِلَيَّ فأجاب إلى الإسلام، فأسلَم هو وأخوه جميعًا، وصَدَّقا بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم وخَلَّيَا بيني وبين الصدقة والحكم فيما بينهم، وكان عونًا لي على مَن خالفني، فأخذت الصدقةَ من أغنيائهم فرددتها على فقرائهم، وأخذت صدقات ثمارهم ما تَجرُوا به، فلم أزل مقيمًا حتى بلغنَا وفاةُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم(*). وكان عمرو بن العاص عاملًا لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على عُمَان، فجاءهُ يهوديّ من يهود عُمان فقال: أرأيتَ إن سألتك عن شيء أَتَخْشى عَلَيَّ منك؟ قال: لا، قال اليهوديُّ: أنشدُكَ بالله مَن أَرْسَلَكَ إلينا؟ قال: اللهم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. فقال اليهودي: آلله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ فقال له عمرو: اللهم نعم، فقال له اليهوديّ: لئن كان ما تقول حقًّا لقد ماتَ اليومَ، فلما رأى ذلك عَمْرو جمع عليه أصحَابَه، وفَواشِية وكتب ذلك اليوم الذي قال لهُ فيهِ اليهوديُّ ما قال: ثم خرج عَمْرو معه بخُفَرَاء من الأَزْد، وعبد القيس يأمنُ بهم حتى قَدِمَ أرضَ بني حَنِيفَةَ فأخذ منهم خُفَراء، ثم جاء أرض بني تميم فَأَخذ منهم خُفَراء حتى جاء أرضَ بني عامر، فنزل على قُرّة بن هُبيرة القُشيري، فأَحْسَنَ مَنْزِله وضَيَّفَهُ، ثم إن قُرَّةَ قال له حين أراد عمرو أن يركب: إن لك عندي نصيحةً وأنا أُحِبُّ أن تسمعها، قال: وما هي؟ قال قُرَّة: إن صاحبكم قد توفي! قال عَمْرو: وصاحبنا هُوَ لاَ أمَّ لك يعني: دونك ــ وإنكم يا معشر قريش كنتم في حَرَمِكم تأمنون فيه، ويأتيكم الناس ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت: فلما بلغنا ذلك لم نكرهه، وقلنا رجل من مُضَر يَسُوق الناسَ وقد تُوفي، والناسُ إليكم سراعٌ، وإنهم غيرُ معطيكم شيئًا فَالْحَقوا بحَرَمِكم تأمنوا فيه، فإن كنتَ غير فاعل فَعِدْني حيث شئتَ آتِك، فَوَقَع به عَمرو، وقال: إني أَرُدّ عليك نَصِيحتَك، وموعدك حِفْشُ أمِّكَ! وأيّ العربِ تُوعِدنُا به؟ فأُقْسِم بالله لأُوطِئَنَّ عليك الخَيْل، قال قُرّة: إني لم أُرِدْ هَذَا، وَنَدِمَ على مقالتِه. وذكر الزهري أنه لمَّا جاء أرضَ بَني حَنيفة، سمع به مُسيلمةُ فخرج في أصحابه فعرض له فهرب عَمْرو منه، ومعه ثُمَامَة بن أُثَال في قومه من بَنِي حنيفة، واقتطع مُسَيْلِمَةُ رجلين من أصحابه: حَبِيب بن زيد بن عاصم ــ وهو ابن أم عمارة، وعبد الله بن وَهْب الأَسْلمي؛ وكانا في السائقة فأصابهما، فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ فأقرَّ الأسلميّ بما قال: فأمر به فحُبس في حديدٍ حتى أفلت بعد ذلك، فصار إلى خالدِ بن الوليد، وأما حَبِيب بن زيد فقال له مسيلمة: أتشهد أني رسول الله؟ فقال: لا أسمع، فقال: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ فقال: نعم، فأمر به فقُطعت يداه من المنكبين، ورِجلاه من الركبتين ثم حَرقه بالنار، قال: وأخذ عَمْرو بن العاص خفراءَ من بني تَمِيم بعثهم الزِّبْرِقَان بن بَدْرٍ وقَيْس بن عاصم المِنْقَرِي حتى وردَ على قُرَّة بن هُبَيْرَة، فخرج قُرَّةُ في مائة من قومهِ خُفَرَاء له. وقال المُنْذِرِ بن جَهم: أقبل عَمرو بن العاص يلقى الناسَ مُرْتَدِّين حتى أتى على ذي القَصَّة، فلقي عُيَيْنَةَ بن بدر خارجًا من المدينة، وذلك حين قدم على أبي بكر الصديق يقول له: إن جعلتَ لنا شيئًا كفيناك مَنْ وراءنا، فقال له عمرو: وما وراءك؟ فقال عُيَيْنَة: ابن أبي قحافة، وَالِي الناس يا عَمْرو، استوينا نحن وأنتم! قال عمرو: كذبتَ يَاابْنَ الأَخَابث مِنْ مُضَر، فلما قَدِم عَمْرو المدينةَ أخبر أبا بكر بما كان في وجهه، وبمَا قَالَهُ قُرّة بن هُبَيْرة، وبما قَالَهُ عُيَيْنة بن بَدْر، وَأَتَى عَمْرُو خالدَ بن الوليد حين بعثه أبو بكر إلى الرِّدَّةِ، فجعل يقول: يا أبا سليمان لاَ يُفْلِتَنَّ منك قُرَّةُ بن هُبَيْرة. وروى عيسى بن عُمَيْلَةَ الفزاريّ عن أبيه قال: لما جاءت بنو عامر إلى خالد بن الوليد ولم تكن ارتَدّت، ولم تَنصر، وكانت قد وقفت، فقال خالد: قُرَّة بن هُبَيْرة القُشَيري قال: هَأَنَذَا! قال: قَدِّمهُ فاضْرِبْ عُنُقَه! أنت المُكَلِّم عَمْرَو بن العاص بما تكلمتَ به وأنت المتُرَبِّص بالمسلمين الدوائر؟ قال: يَاابْنَ المُغِيرَةِ إِنَّ لي عند عمرو بن العاص شهادةً، فقال خالد: عَمْرو بن العاص الذي نقل عنك إلى الخليفة ما تكلمتَ به. وقال ابن عباس: أوثق خالد بن الوليد عُيَيْنَةَ بن بَدر، وقُرَّةَ بن هُبَيْرَة، وأرسل بهما إلى أبي بكر في وثاق فقُدم بهما إلى المدينة، فنظرتُ إلى عُيَيْنَة مَجْمُوعَةٌ يداه إلى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ يَنْخُسُه غلمانُ المدينة بالجَرِيد، ويضربونه ويقولون: أي عَدّو الله أكفرتَ بالله بعد إيمانك؟! فيقول: والله ما كنتُ آمنتُ بالله، قال: وأُتِيَ بِقُرَّةَ بن هُبَيْرة فقال: يا خَلِيفةَ رسول الله! والله ما كفرتُ، واسأل عَمْرَو بن العاص فإِنّ لي عنده شهادة ليالي أَقْبلَ من عُمان خرجتُ في مائة من قومي خُفَرَاءَ له، وقَبل ذلك ما أكرمت مَنزلَهُ وَنَحَرْتُ له! فسأل أبو بكر عَمْرًا فقال: نزلتُ به فَلَمْ أرَ لضَيْفٍ خيرًا منه! لَمْ يَتَّرِكْ، وخرج معي في قومه خَفِيرًا، ثم ذكر عمرو ما قال قُرَّة، فقال قُرَّة: انْزَع يا عَمْرو، فقال عمرو: لو نَزَعتَ نَزَعتُ، فلم يعاقبه أبو بكر بذلك وعفا عنه، وكتب له أمانًا، وقَبِلَ من عُيَيْنَةَ وكتب لهُ أمانًا، وروى عبد الله بن وَابِصَة العَبْسيّ، عن أبيه، عن جَده قال: كنا مع خالد بن الوليد في الرِّدَّة أعوانًا له، ثم رجع إلى المدينة، ومعه العرب رجعت العرب إلى أوطانها، ورجعت عَبْس، وطَيِّىء ومن كان معه من أسَدٍ إلى منازلهم حتى جاءهم النفير إلى الشام، فقدموا المدينة، فجعل أبو بكر يُفَرِّقُ الجيوشَ على وُلاَتِه وهم ثلاثةٌ: عَمْروُ بن العاص، وَشُرَحْبِيل بن حَسَنَةَ، ويَزِيد بن أَبِي سُفْيان، فخرجوا معهم إلى الشام. وقال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم: لَمّا أَجْمَعَ أبو بكر عَلَى أَنْ يبعثَ الجيوشَ إلى الشام كان أول مَن سَارَ مِنْ عُمّاله عَمْرو بن العاص، وأمرهُ أن يسلك على أَيْلةَ عامدًا لفِلَسْطِين، فَقَدّم عمرو أمامه مُقَدِّمةً عليهم سعيد بن الحارث السَّهْمِيُّ، ودفع لواءهُ إلى الحجّاج بن الحارث السَّهمي، وكان جُنْدُ عمرو الذين خرجوا معه من المدينة ثلاثة آلاف، فيهم ناسٌ كثير من المهاجرين والأنصار، وخرج أبو بكر الصّديق يمشي إلى جَنبِ رَاحِلة عَمْرو بن العاص وهو يوصيه ويقول: يا عَمرو، اتق الله في سِرِّ أمرك وعَلَانِيَتِهِ، واستحييه فإنه يراك وَيَرَى عَمَلك، وقد رأيتَ تَقْدِيمي إياك على مَن هو أقدم سَابِقَةً منك ومَن كان أغنى عن الإسلام وأهله منك، فكن من عُمّال الآخرة، وأَرِدْ بما تفعل وَجْهَ الله وكُنْ وَالِدًا لمن معك، ولا تَكْشِفَنَّ الناسَ عن أستارهم، واكتَفِ بعلانيتهم، وكُنْ مُجِدًّا في أمرك، واصدُقِ اللِّقاءَ إذا لاقيتَ وَلاَ تَجبُن، وتقدم في الغلول، وعاقب عليه، وإذا وَعظْتَ أصحابَك فأَوْجز، وأصلح نفسَك تَصْلح لك رَعِيّتُك. في وصيةٍ طويلةٍ وعَهِدَ عهدهُ إليه يَعْمل به. وروى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه: أن أبا بكر قال لعمرو بن العاص: إِنِّي قد استعملتك على مَنْ مررت به من بَلِيّ، وعُذرَةَ وسائر قُضاعَةَ، ومن سَقَط هناك من العرب، فاندُبهم إلى الجهاد في سبيل الله، ورغِّبهم فيه، فمن تَبعك منهم فاحْمِلْهُ وزوِّده وَرَافق بينهم، واجعل كل قبيلة على جدتها ومنزلتها. وروى مُعَاذ بن عبد الله بن حُبَيْب عن رجالٍ من قومه قال: بعث أبو بكر الصديق ثلاثة أمراء إلى الشام: عَمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشُرَحْبِيل بن حَسَنَةَ، فكان عمرو هو الذي يصلّي بالناس إذا اجتمعوا وإِنْ تفرقّوا كان كل رجلٍ منهم على أصحابه. وروى محمد بن إبراهيم بن الحارث التَّيْمِيّ، عن أبيه قال: لما رأى عَمْرُو بنُ العاص كثرةَ الجُمُوع بالشام، كتب إلى أبي بكر يَذْكر أَمْرَ الروم وَمَا جَمَعُوا، ويَسْتَمدُّه فَشَاوَرَ أبو بكر مَنْ عِنْدَهُ من المسلمين، فقال عُمَرُ بن الخطاب، يا خليفةَ رسولِ الله صَلَّى الله عليه وسلم اكْتُبْ إلى خالد بن الوليد يَسِيرُ بِمَنْ معه إلى عَمْرو بن العاص فيكون له مددًا ففعل أبو بكرٍ وكتب إلى خالد بن الوليد. وقال المطلب بن السائب بن أَبِي وَدَاعَة: كتب أبو بكر الصديق إلى عمرو بن العاص: إِنّي كتبتُ إلى خالد بن الوليد يَسِير إليك مَدَدًا لك، فإذا قَدِمَ عليك فأَحْسِنْ مُصَاحَبَتَهُ وَلاَ تَطَاوَلْ عليه، ولا تقطع الأمورَ دونه، لتقدُّمي إياك عليه، وعلى غيره، شاوِرْهم، ولا تُخالفهُم. وقال أبو العوَّام مؤذن بيت المقدس: سمعتُ عَبْدَ الله بن عَمْرو بن العاص يُحدِّث في بيت المقدس يقول: شهدنا أَجْنَادِين ونحن يومئذٍ عشرون ألفًا، وعلى الناس يومئذٍ عَمْرو بن العاص، فهزمهم الله وتفرقوا، فَفَاءت فِئة إلى فِحْل في خلافة عمر بن الخطاب، فسار إليهم عمرو بن العاص في الناس فنفاهم عن فحْل. وروى عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قال: لما سار أُمَرَاء المسلمين إلى الشام فنزلوا بقرية يقال لها ثَادِن من قرى غزةَ مما يلي الحجاز، فلقيهم فيها بَطْريق من بطارقة الروم، فأرسل إليهم أن يُخْرِجوا إليهِ أَحَدَ القُوّاد ليكلِّمه، قال: فتواكلوا ذلك، وقال لعمرو بن العاص: أنت لذلك، فخرج إليه عمرو فلما انتهى إليه رحَّب به وأجلسه معه على سريره، ومَتّ إليه بقرابه العِيص بن إسحاق بن إبراهيم في إسماعيل بن إبراهيم، فكلّمه عَمْرو وَدعاهم إلى الدخول في الإسلام أو الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، فأبَى، وضَنَّ بدينه فقال عمرو: قد أعذرت وَلَمْ يَبْقَ إلا السيف، فافترقا واقتتلوا فكانت بينهم معركة عظيمة. وفي رواية جعفر بن عبد الله بن أبي الحَكَم قال: خرج عَمرو بن العاص إلى بَطْرِيق غَزَّة في نُفَير من أصحابه، عليه قباءٌ عليه صدأ الحديد، وعِمَامة سوداء، وفي يده رمحٌ، وعلى ظهره تُرس، فلما طلع عليه ضحك وقال: ما كنتَ تصنع بحَمْلِ السلاح إلينا؟ قال: خِفْتُ أَنْ أَلقى دُونك فأكون قد فَرَّطتُ فالتفت إلى أصحابه فقال بيده ــ عقد الأَنمُلة على إبهامِه ــ ثم قال: مرحبًا بك، وأجلسه معه على سريره وحادثه فأطال، ثم كلّمه بكلام كثيرٍ، وحاجَّهُ عَمْرو ودعاهُ إلى الإسلام، فلما سمع البَطْريق كلامه وبيانه وأَداءَه قال بالرومية يَا مَعْشَرَ الرُّوم، أطِيعُونِي اليومَ واعصوني الدهر، هذا أميرُ القوم، أَلاَ تَرَوْنَ أني كلما كَلّمته كلمةً أجابني عن نفسه؟ لا يقول: أُشاور أصحابي وأَذْكُر لهم ما عرضتَ عَلَيَّ وليس الرأي إلا أن نقتله قبل أن يخرج من عندنا، فتختلف العرب بينها وَيَهِنُ أَمْرُهُم، ويفثئون عن قتالنا، فقال مَنْ حَوْلَه مِنَ الروم: ليس هذا برأي، وَكَانَ دَخَل مع عمرو بن العاص رجلٌ من أصحابه يعرف كلام الروم، فألقَى إلى عَمْرو ما قال الملك، ثم قال الملك: أَلاَ تخبرني هل في أصحابك مثلكُ يُبين بيانَك ويُؤَدّي أداءك؟ فقال عَمْرو: أنا أَكَلُّ أصحابي لسانا وأدناهم أدَاءً، وفي أصحابي مَنْ لو كلمتَه لعرفتَ أني لستُ هناك قال: فأنا أُحِبُّ أَنْ تَبْعَثَ إلَيَّ رأسَكم في البيان، والتقدم، والأداء حتى أكلمه، فقال عَمْرو: أَفعل. وخرج عَمرو من عنده، فقال البطريق لأصحابه: لَأُخَالِفنَّكم! لئن دخل عَلَيَّ فرأيتُ منه ما يقول لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهُ! فلما خرج عَمْرو من الباب كَبَّرَ وقال: لا أعود لمثل هذا أبدًا، وأتى منزله فاجتمع إليه أصحابه يسألونه، فَخَبَّرهم خبره وخبر البطريق، فأعظمَ القوم ذلك، وحَمَدوا الله على ما رزق من السلامة، وكتب عَمْرو بذلك إلى عُمَر، فكتب إليه عمر: الحمد لله على إحسانه إلينا، وإيّاك والتغريرَ بنفسك أو بأحدٍ من المسلمين في هذا وشبهه، وبحسب العِلج منهم، يُكَلَّمَ في مكان سواء بينك وبينه، فتأمن غائلته، ويكون أكسر له، فلما قرأ عَمْرو بن العاص كتابَ عُمَر، رَحَّم عليه ثم قال: ما الأب البار لولده بأَبَرّ من عمر بن الخطاب برعيته! وروى موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: كانت رايةُ عَمْرو بن العاص يوم اليَرْمُوك يحملها ابنه عبد الله بن عَمْرو. وقال عَمرو بن شُعَيب: كانت رايةُ عمرو بن العاص يوم اليَرْمُوك سَوْدَاء. وقال موسى بن عِمْران بن مَنَّاحِ: لما رأى عَمرو بن العاص يومَ اليَرْمُوك صَاحِبَ الرَّايةِ ينكشف بها، أخذها، ثم جَعَل يَتَقَّدمُ وهو يَصِيحُ: إِلَىَّ يا معشرَ المسلمين، فجعل يُطاعِن بها قُدُمًا وهو يقول: اصنعوا كما أصنع! حتى إنه ليرفعها وَلَكَأنَّ عليها أَلْسِنَةُ الطَّيْر مِنَ العَلَقِ. وروى يَعْلى بن شَدّاد، عن أبيه قال: لما سمع المسلمون بمسير عمر بن الخطاب إلى الجَابِيَة، تلقاهُ الأمراءُ: أبو عُبَيْدة بن الجَرّاح، وعَمْرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان حتى لقوه من وراء الجابية إلى المدينة بقليل. وروى يعقوب ابن عُتبة، عن مشيخة من أهل مِصْر، أن عمرو بن العاص كان واليًا لعمر بن الخطاب على فلسطين وما والاها، فَنَدَبَ أصحابَه إلى المسير إلى مصر، فخرج بالمسلمين وهم ثلاثة آلاف وخمسمائة، وسار بغير أَمْرِ عُمر، وخَلَفَ ابنَه عبد الله بن عَمْرو على عمله، فكتب معاوية بن أَبِي سُفْيان إلى عُمَر بن الخطاب يخبره بمسير عمرو بن العاص إلى مصر في أصحابه، فلما ورد الكتاب عَلَى عُمَر شَقَّ عليه، فَدَعَا عُقْبَة بن عامر الجُهَنِيّ، فكتب معه إلى عَمْرو بن العاص، وقال انطلق في طلب عَمرو فادفع إليه كتابي، فَلَحِقه عُقْبةُ وهو ينظر إلى أرض مصر، فَحَرَّك دَابَّتَه ولَحِقَهُ عُقبةُ، فسألَهُ عَمْرو عن ماله وكيف تركه؟ والكتاب في يد عقبة لا يمد عَمْرو يده إليه حتى دخل أرض مصر، فقال له بعض مَن كان معه: هذه أرض مصر، فقال: اللهم بارك لنا في أرض مصر، ونزل فقال: هات كتاب أمير المؤمنين، فقرأه على طمأنينة فدفعه إليه فقرأه فإذا فيه: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ}: أما بعد، فإنه لم يَحضُرك رُشْدُك ولا ما كان يُنْسَبُ إليك من العقل والتجربة بإقْدَامِكَ عَلَىَّ بما أقدمتَ به، وقطع الأمور دوني بمن معك من المسلمين تسوقهم حيث تريد، وأقسِم بالله لولا أني أظن أن ذلك على النظر منك للمسلمين، لَبَعَثْتُ إليك من يُقدِمُك عَلَيَّ مَاشِيًا من حيث أدركك أو يَحْمِلك عَلَى أَوْعَرِ ما يَجِدُ من المراكب، فيكون ذلك أشد عليك من المشي، تخرج في نُفَير يسيرٍ، ولعمري لو كان ثُكلُ أمك ما تقدمتَ بهم، ويحك لَوْ أَتَى ذُو أتيّ على من معك من المسلمين بتغريرك بهم، ألم تكن قد هَلَكْتَ وأَهْلَكْت! فإذا جاءكَ كتابي هذا ولم تدخل أرض مصر فارجع بمن معك إلى عملك حتى يأتيك أمري، قال: فجعل وَجْهُ عَمْرو يتغيّر وهو يقرأ الكتاب حتى كان آخر ذلك، فقال: قد دخلنا أرض مصر، فانتهى إلى الفَرَمَا، فوجدَ بها قومًا قد أعدُّوا للقتال، فقاتَلهم فهزمهم، ومضى قُدمًا حتى انتهى إلى الفُسْطَاط، فوجدَ قومًا قد أعدُّوا للقتال وخَنْدَقوا حول حِصْنِهم، فنزل من وراء خَندقِهم، وبعثَ عُمَرُ بنُ الخطاب الزبيرَ بن العوام مَدَدًا لعمرو بن العاص في عشرة آلاف من المسلمين، فَقَدِمَ عليه وهو مُحَاصِرُهم، وأقاموا أيامًا يقاتلون ثمّ هرب العدو، فدخلوا الحصن وغلقوهُ عليهم، فقال الزبير: أما إذا صاروا إلى حصنهم فَلاَبُدَّ مِنْ مُنَاهَضَتِهم، فأمر بِسُلَّمٍ فَأُتِي به ونصبهُ على الحصن ثم صعد عليه فكبّر وتبعه المسلمون، فدخل الحصن ودخل المسلمون على أثره فَفُتح عَنْوَةً، واستباحوا ما فيه، فعزل مغنمًا للمسلمين، ثم صالحَهم عَمْرو بن العاص على الجزية في رقابهم وعلى خَراج الأرض. ثم كتب إلى عمر ابن الخطاب بما فتح الله عليه، وبسلامته وَسَلاَمَةِ مَنْ معه من المسلمين مَعَ عُقبة بن عامر الجُهَنِيّ فَحمِدَ عمرُ بن الخطاب الله على ذلك، ثم كتب إلى عَمرو بن العاص يَحْمَدُ الله على ما أبلاه وَأَبْلَى المسلمون، ويقول: قد كنت عندي غير حميدٍ، فإياك إياك أن تفتاتَ عليّ بمثل هذا، إلا أن يكون أمرٌ يَحضُرك تخاف على المسلمين فيه فتناهضه بمن معك، فكتب عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب: مِنْ عَمْرو بن العاص، سلامٌ إليك، فإني أحمدُ إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: قرأت كتاب أمير المؤمنين وما عَصَّبَني من اللائمة وأضاف إِلَيَّ مِنْ سُوْءِ التدبير، فقد كان ما كان من الافتيات عليك لما رجوت من الفرصة والنصر، فرزق الله ذلك، ورزق الله السلامة، فنحمده على ذلك، ولست بعائدٍ إلى ما خالفك، ولا قوة إلا بالله، والسلام عليك ورحمة الله، فأقام عمرو بن العاص بمصر ما أقام، ثم كتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في مناهضة أهل الإسكندرية، فكتب إليه عمر أن يسير إليهم بمن معه من المسلمين، فسار عمرو بن العاص في سنة إحدى وعشرين، وخلف على الفسطاط خارجه بن حُذافة العدوي، وقدَّم بين يديه مُقَدّمةً عليهم عبد الله بن حُذافَة السَّهْمِيّ، وقد تجمع له ما دون الإسكندرية من الروم والقبط يقولون: لا يدخل علينا الإسكندرية أبدًا، وَزَحَفُوا إليه فَالْتَقَوا، فقاتَلهم عَمرو قتالًا شديدًا حتى هزمهم الله، وانتهوا إلى الكِرْيَون، فقاتلوا قتالًا شديدًا حتى صَلَّى عَمْرو بن العاص يومئذ صلاة الخوف، ثم مضى قدمًا حتى انتهى إلى الاسكندرية، فأرسل إليهم المقوقس صَالِحْنا وَمَادِّنا مُدَّة ننتهي إليها نحن وأنت وأكتب إلى صاحبي ــ يعني ملك الروم ــ وسأله مُودَاعَة سنة، فأَبَى عَمرو، فقال: فشهرًا، قال: ولا ساعةً من نهارٍ، ثم قاتلهم أشد القتال حتى فتحها عَنْوَةً ودخلها بالسيف وغَنِمَ ما فيها من الروم وغيرهم الذين في جوفها، وجعل فيها رابطةً من المسلمين عليهم عبد الله بن حُذَافة، وبَعثَ عَمْرُو بن العاص معاويَة بن حُدَيْج إلى عمر بن الخطاب بفتح الإسكندرية، قال: وبلغ قُسطنطين بن هرقل أَمْرَ الإسكندرية وَفَتْحهَا فبعث خَصِيًّا لهُ يُقال له: منويل في ثلاثمائة مركب حتى دخلوا الإسكندرية، فقتلوا من بها من روابط المسلمين وهَرَبَ مَن هرب، ونقض أهل الإسكندرية، فبلغ عمرو بن العاص الخبر فندب المسلمين فخرجَ في خمسة عشر ألفًا من المسلمين، ثم زحف إلى أهل الإسكندرية ونصب عليها المَجَانِيق، وقاتلهم أشد القتال حتى فتحها عَنْوَةً وخَرَّب جُدرَها، وَرُئِي عمرُو بن العاص يخرب بيده.
وقال عمرو بن الحارث: كان عمرو بن العاص يبعث بجزية أهل مصر وخَراجها إلى عمر بن الخطاب كل سنة، بعد حبس ما كان يحتاج إليه، ثم إنه اسْتَبْطَأَ عَمْرَو بن العاص في الخراج فكتب إليه كتابًا يلومه في ذلك، ويُشدِّد عليه ويقول له في كتابه: فلا تجذع أبا عبد الله أن تُؤخذ بالحق وتُعطيه، فإنّ الحق أَبْلَج، فَذَرْني وما عنه تُلَجْلِج فقد بَرح الخفَا، فكتب إليه عمرو بن العاص يجيبه على كتابه وكتب إليه: إنّ أهلَ الأرض استنظروا إلى أن تدرك غَلَّتُهُم، فنظرت للمسلمين وكان التَّرفُق بهم خيرًا من أن نخرق بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه، فينكسر الخراج، وقد صدقتُ والله أَمِيرَ المؤمنين والسلام. وروى موسى بن جُبَيْر، عن شيوخٍ من أهل المدينة قالوا: كتب عُمر بن الخطاب إلى عَمْرو بن العاص: أما بعد، فإني قد فرضت لمن قبلي في الديوان ولذريتهم ولمن وَرَدَ علينا بالمدينة من أهل اليمن وغيرهم ممن توجه إليك وإلى البُلدان، فانظر من فرضتُ له ونزل بك، فادْررْ عليه العطاءَ وعلى ذريته، ومن نزل بك ممن لم أفرض له فافرض له على نحوٍ ممّا رأيتني فرضتُ لأشباهه، وخُذ لنفسك مائتي دينار، فهذه فرائض أهل بدرٍ من المهاجرين والأنصار، ولم أبلغ بهذا أحدًا من نُظَرائك غيرك، لأنك من عمال المسلمين، فألحقتك بأرفع ذلك، وقد علمتُ أَنّ مُؤَنًا تَلْزَمُك، فَوَفِّر الخراجَ وخذه من حَقِّهِ ثم عِفَّ عنه بعد جمعه، فإذا حصل إليك وجمعتَه أخرجتَ عطاءَ المسلمين وذريتهم وما تحتاج إليه ممّا لا بد منه، ثم انظر فيما فضل بعد ذلك فَاحْمِلْهُ إِلَيَّ، واعلم أنّ ما قبلك من أرض مصر ليس فيه خُمسٌ، وإنما هي أرض صلح وما فيها للمسلمين فيءٌ، تبدأ بمن أغنى عنهم في ثغورهم وأجزأ عنهم في أعمالهم، ثم تَفُضّ ما فَضَل بعد ذلك عَلَى مَنْ سَمَّى الله. واعلم يا عَمْرو أن الله يراك ويرى عملك ويعلم من سريرتك ما يعلم من علانيتك، فليكن مُقْتَدًى بك في سِيرَتِك وعملك، فإنه قال تبارك وتعالى في كتابه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [سورة الفرقان: 74] يريد أن يُقْتدى وأن معك أهل ذمة وعهدٍ قد أوصى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بهم، وأوصى بالقبط فقال: "اسْتَوْصُوا بالقبط خَيْرًا فإنّ لهم ذِمَّةً وَرَحِمًا"(*)، ورحمهم: أَنّ أُمَّ إسماعيل منهم، وقد قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَن ظَلَم معاهدًا وكلّفه فوق طاقتهِ فَأَنَا خصْمُهُ يوم القيامة" (*)، احْذَرْ يَا عَمْرو أن يكون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لك خصمًا، فإنه من خاصمه خصمه، والله يا عمرو، لقد ابتليتُ بولايةِ هذه الأمة، وأنستُ من نفسي ضعفًا وانتشرت رعيَّتي، ورقَّ عظمي، فأسألُ الله أَنْ يقبضني إليه غير مُفرطٍ، والله إني لأخشى لو مات حَمَلٌ بأقصى عملك ضياعًا، أن أُسْأَلَ عنه يوم القيامة.
وقال أبو الخَير قال: لما فتح المسلمون مصر، بعث عَمْرُو بن العاص إلى القُرى التي حولها، الخيلَ تَطَؤُهم، فبعث عُقبةَ بن نافع بن عَبْد القَيْس، وكان أخَا العاص بن وائل لأمّه، فدخلتْ خُيُولهم أرض النُّوبَة غزاةً، غَزْوًا كصوائف الروم، فلقي المسلمون من النُّوبة قتالًا شديدًا، لقد لاقوهم أول يومٍ، فَرَشَقُوهم بالنّبل، حتى جُرِحَ عامتهم جراحاتٍ كثيرةٍ، وحَدَق مَفْقُوءةٌ، فسمَّوهم رُماةَ الحَدق، فلم يزالوا على ذلك حتى وَلَّى عثمانُ بن عفان عَبْدَ الله بن سعد بن أبي سَرح مصر، فسأله النُوبةُ الصُّلْحَ والموادعة، فأجابهم إلى ذلك، فاصطلحوا على غير جِزْية، على هدية ثلاثمائة رأس في كل سنة، ويُهدي إليهم المسلمون طعامًا مثل ذلك. وقال عبد الله بن هُبَيْرة: لما فتح عَمْرُو بن العاص الإسكندريةَ سار في جُنْدِه يريد المغرب حتى قدم برقة فصالح أهلها على الجزية وهي ثلاثة عشر ألف دينار، وأن يبيعوا من أبنائهم من أَحَبّوا في جِزْيتهم. وقال محمد بن عمر: وكتب عَمْرُو بن العاص إلى عُمَرَ بن الخطاب يُخْبِره أَنّه وَلَّى عُقْبَةَ ابن نافع الفِهْرِي، وأنه قد بلغ زَوِيلَةَ، وأَنَّ ما بين بَرْقَةَ وزَوِيلةَ سِلْم كلهم قد أطاع مُسْلِمُهم بالصَّدَقَة، وأَقَرَّ مُعَاهِدُهُم بالجِزْية. وقد وضعتُ على أهل برقة صلحًا صالحتهم عليه، ووضعنا على زَوِيلَةَ وما بيننا وبين زَوِيلَةَ ما نراهم يُطِيقُونه، وقد أمرت عمالي أن يأخذوا الصدقات من أغنياء المسلمين فيردّوها على فقرائهم، وأَنْ تُؤْخَذَ الجزيةُ من أهل الذمَّة فتحمل إِلَىَّ، ولا يقسم فيهم منها شيء، وأمرتُ في أرضيهم بمثل ما أمرتُ به في عين أموالهم أن يؤخذ من المسلمين رُبع عُشور مَا تَجَرُوا به، ويُؤخذ من زروعهم العُشُور ممّا سَقَتِ السماء، ونصف العُشر مِمّا سُقِي بالغَرْب، ويؤخذ من أهل الذمة الصلح الذي صالحنا عليه، ومن لم يُصالِح وُضِع على أرضه ما تُطِيق وَمَا يَقْوَى عليه فكتب إليه عمر يُصَوِّبُ رأيه، وكتب إليه: وإن رأيتَ ضَعْفًا فَخَفِّفْ عنهم، واحْمِلْ جِزْيَتَهم إلى بيت مال المسلمين، وروى أبو بكر بن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مَخْرَمَة وغيرهما، أَنَّ عَمْرَو بنَ العاص سار حتى نزل أطرابلس فافتتحها، وكتب إلى عمر بذلك، وأن بين أطرابلس، وإفريقية تسعة أيام، ويُخبرهُ بكثرة أموالها، وأنها معادن، إنما يَحثُون منها حثيًا، فإنْ رَأَى أميرُ المؤمنين أن يأذن للمسلمين في دخولها فعل. فكتب إليه عُمر: إنها ليست بإفريقية، ولكنها مفرقة غادرةٌ ومغدورٌ بها، لا يغذوها أحدٌ من المسلمين ما بقيتُ، فلم يأذن له في غزوها فكان عمرو بن العاص يبعثَ الجَرِيدَةَ من الخيلِ إلى أدنى القرى بإفريقية فيصيبون غنائم ويرجعون. وروى يحيى بن عبد الله بن مالك الدار، أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمرو بن العاص: أن يحمل طعامًا من مصر حتى يُرسَى بهِ إلى بَولا وكان الساحلَ، ليقسمه على الناس على حالاتِهم، وعيالاتِهم، وإن أهل المدينة قومٌ محصورون، وليست بأرض زرع، فبعث عمرو بن العاص بعشرين مركبًا في البحر، وبعث في كل مركب ثلاثة آلاف إردب وأكثر وأقلّ، حتى انتهت إلى الجار، وهو المرفأ اليوم وبلغ عمر رضي الله عنه قدومها فخرج وخرج معه الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فنظر السفن فحمد الله الذي ذََلَّلَ لهم البحرَ حتى جَرَتْ فيه منافع المسلمين إلى المدينة، وَأَمَرَ سعد الجار بِقَبْض ذلك الطعام وأَن يَسْتَوْفِيَه، فلما قدم عمر المدينة قسّم ذلك الطعامَ على الناس وكتب لهم بالصِّكاك إلى الجار، فكانوا يخرجون ويَقْبِضُونَ ذلك.
روى أُسَامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، قال: سمعتُ عَمْرَو بن العاص يومًا وَذَكَرَ عُمَرَ فَتَرَحَّم عليه ثم قال: ما رأيتُ أحدًا بعد نَبِيّ اللهِ وأَبِي بكر أَخْوَفَ للهِ من عُمَرَ، لا يبالي على من وقع الحقُّ، عَلَى وَلَدٍ أَوْ وَالدٍ، ثم قال: واللهِ إِنِّي لَفِي منزلي ضُحًى بمصرَ إِذْ أَتانى آتٍ فقال: قدم عبد الله وعبد الرحمن ابنا عُمَر غَازِيَيْنِ، فقلت للذي أخبرني: أين نَزَلاَ؟ قال: في موضع كذا وكذا ـ لأقصى مصر ـ وقد كَتَبَ إِلَىَّ عُمَرُ: إياك أَنْ يَقدم عليك أحدٌ من أهل بيتي فَتحبُوهُ بأمرٍ لا تصنعهُ بغيره، فَأَفعلُ بِكَ ما أنت أهله، فأنا لا أستطيع أن أُهْدِي لهما، ولا آتيهما في منزلهما للخوف من أبيهما، فوالله إني لَعَلَى ما أنا عليه إلى أن قال قائِلٌ: هذا عبد الرحمن ابن عمر، وأَبُو سِرْوَعَةَ على الباب يستأذنان، فقلت: يدخلان، فدخلا وهم مُنْكَسِرَان، فقالا: أقم علينا حَدَّ الله، فإنّا قد أصَبنا البارحة شرابًا، فسكِرنا. قال: فَزَبَرْتُهما وطَرَدْتُهما، فقال عبد الرحمن: إن لَمْ تفعلْ أخبرتُ أَبِي إِذا قَدِمت عليه، قال: فحضرني رأي وعلمت أني إن لم أقم عليهما الحدَّ غضبَ عليَّ عمر في ذلك وعزلني، وخالفه ما صنعت، فنحن على ما نحن عليه إذ دخل عبد الله بن عمر، فقمتُ إليه، فرحبتُ به، وأردتُ أن أجلسه على صدر مجلسي، فَأَبَى عَلَيَّ وقال: إن أبي نهاني أن أدخل عليك إِلاَّ أَلاَّ أجِد بدّا، فإني لم أجد بدًّا من الدخول عليك، إن أخي لا يُحلَقُ على رءوس الناس أبدًا، فأمّا الضرب فاصنع مَا بَدَا لَك، قال: وكانوا يحلقُونَ مع الحدِّ، قال: قال: فأخرجتهما إلى صحن الدار، فضربتهما الحد، ودخل ابن عمر بأخيه عبد الرحمن إلى بيتٍ مِن الدار، فحلق رأسه ورأس أبي سِرْوَعَةَ. فوالله ما كتبت إلى عمر بحرفٍ مما كان، حتى إذا تَحينتُ كتابهُ إذا هو يَطِمُّ فيه: بسم اللَّهِ الرحمنالرَّحيم، من عبد الله عُمَرَ أميرِ المؤمنين إلى العاصي بن العاصي، فَعجبتُ لك ياابن العاصي ولجرءتك عَلَيَّ! وخلاف عهدِي، أما إِنّي قد خالفت فيك أصحاب بَدْرٍ ممن هو خيرٌ منك واخترتك لجرأتك عنِّي، وإنفاذ عهدي، فأراك تَلَوَّثْت بما قد تلوثت، فما أُراني إلا عَازِلُكَ فَمُسِيءٌ عَزْلَك، تَضْرِبُ عبدَ الرحمن بن عمر في بيتك وتَحلق رأسَه في بيتك، وقد عرفتَ أن هذا يخالفني؟! إِنَّما عبدُ الرحمن رجل مِن رَعِيَّتكِ تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلتَ: هو ولدُ أميرِ المؤمنين، وقد عرفتَ أن لا هوادةَ لأحدٍ من الناس عندي في حقٍّ يجبُ للهِ عليه، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءَةٍ على قَتَب حتى يُعْرَف سوء ما صنع، فبعثت به كما قال أبوه، وأقرأتُ ابنَ عمر كتاب أبيه، وكتبت إلى عمر كتابًا أعتذرُ فيه. وأخبره أني ضربته في صحن داري، وبالله الذي لا يُحلَفُ بأعظم منه إِني لأقيم الحدودَ في صحن داري على الذِّمِّيّ والمسلم، وبعثتُ بالكتاب مع عبد الله بن عمر، فقال أسلم: فَقُدِمَ بعبد الرحمن على أبيه، فدخل عليه، وعليه الحدّ مرة فما عليه عباءةٌ، ولا يستطيع المشي من مَرْكَبه، فقال: يا عبد الرحمن، فعلتَ وفعلتَ! السِّيَاط! فكَلَّمَه عبدُ الرحمن بن عَوفٍ، فقال: يا أميرَ المؤمنينَ قد أقيم عليه الحدّ مرّة فما عليه أن تُقِيمَهُ ثانيةً! فلم يلتفت إلى هذا عُمَرُ، وبرّزَهُ، فجعل عبد الرحمن يصيح! إِنِّي مريضٌ، وأنت قاتلي فضربَهُ الثانيةَ الحَدّ، وحَبسهُ ثم مرِضَ فمات. وروى يَزِيد بن أَبِي حَبِيب: أنّ عمر بن الخطّاب كتب إلى عمرو بن العاص: انظر من كان قبلك ممّن بايع النبّي صَلَّى الله عليه وسلم تحت الشجرة فأتِمّ له مائتي دينار، وأتمّ لنفسك بإمارتك مائتي دينار، ولخارجة بن حُذافة لشجاعته، ولقيس بن أَبِي العاص لضيافته. وأخرج ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ مِنْ طريق الليث، قال: نظر عُمر إلى عَمْرٍو يمشي، فقال: ما ينبغي لأبي عبد الله أَن يمشي على الأرض إلا أميرًا. وهو الذي افتتح قنّسرين، وصالحَ أهْلَ حلب، ومنْبِج، وأنطاكية.
وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن المِسْوَر بن مَخْرَمةَ: لما تُوفي عمر بن الخطاب وولي عثمان بن عفان كَتَبَ إلى عمرو بن العاص فَأَقَرّهُ عَلَى مصر، فكتب إليه عَمْرو يُخبره بما نال المسلمون من المغرب، وأنهم بلغوا باب قَاِبس فأصابوا أموالًا عظامًا، وأنه ليس بين باب قابس وإفريقية إلا أربع ليال، فإن رأى أمير المؤمنين أن يغزيها المسلمين فعل، فكتب إليه عثمان: إني غيرُ فاعل، فأضرب عَمْرو عن ذكرها. وقال يزيد بن أبي حبيب، وعبد الواحد بن أبي عون: لما صار الأمر في يَدَيْ معاوية استكثر طُعْمَةَ مصر لعمرو ما عاش، ورأى عَمْرو أنّ الأمر كلّه قد صلح به وبتدبيره وعنائه وسَعْيه فيه، وظنّ أنّ معاوية سيزيده الشأم مع مصر فلم يفعل معاوية، فتنكَّر عَمْرو لمعاوية فاختلفا وتغالظا، وتَمَيَّز الناس وظنُّوا أنّه لا يجتمع أمرهما، فدخل بينهما معاوية بن حُديج فأصلح أمرهما وكتب بينهما كتابًا، وشرط فيه شروطًا لمعاوية وَعَمْرو خاصّةً وللناس عَامَّة، وأنّ لعمرو ولايةَ مصر سبع سنين، وأنّ على عمرو السمع والطاعة لمعاوية، وتواثقا وتعاهدا على ذلك، وأشهد عليهما به شُهودًا، ثمّ مضى عمرو بن العاص على مصر واليًا عليها وذلك في آخر سنة تسعٍ وثلاثين، فوالله ما مكث بها إلاّ سنتين أو ثلاثًا حتى مات. وذُكر: أن عثمان أَبقاهُ قليلًا على مصر ثم عزله، ووَلّى عبد الله بن أبي سَرْح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فآل أَمْرُ عثمان بسبب ذلك إلى ما اشتهر؛ ثم لم يزَلْ عَمْرو بغير إمْرَةٍ إلى أن كانت الفتنةُ بين عليّ ومعاوية.
لما أتاه الخبر بأن طَلْحة، والزُّبَيْر قد قُتلا، فأُرتجَ عليه أمرُه، فقال له قائل: إن معاوية لا يُريدُ أن يبايع لعليٍ، فَلَو قاربت معاويةَ! فقال: ارحَل ياوردان، فدعا ابنيه عبد الله ومحمدًا وقال: ما تريان؟ فقال عبد الله: تُوُفِّي رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو عنك رَاضٍ، وتُوفي أبو بكر وهو عنك راضٍ، وتُوفي عمر وهو عنك راضٍ، أَرَى أَنْ تَكُفَّ يَدَك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناسُ على إمام فتُبايعه، فقال: حُطّ يا وردان، وقال ابنه محمد: أنتَ نابٌ من أنيابِ العربِ، فلا أرى أن يجمع هذا الأمر وليس لك فيه صوتٌ ولا ذكر، فقال: أما أنت يا عبد الله فَأَمَرْتَني بالذي هو خيرٌ لي في آخرتي وأسلَمُ لي في ديني وأمّا أنت يا محمد فَأَمَرْتَني بالذي أنْبَهُ لي في دنيايَ وأشرّ لي في آخرتي وإنّ عليًّا قد بويع له وهو يُدِلّ بسابقته وهو غير مُشْرِكي في شيء من أمره، ارحلْ يا ورْدان، ثمّ خرج ومعه ابناه حتى قَدِمَ على معاوية بن أبي سفيان فبايعه على الطلب بدم عثمانُ، وكتَبا بينهما كتابًا نُسْخَتُه: {بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيمِ}، هذا ما تعاهد عليه معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص ببيت المقدس من بعد مقتل عثمان بن عفّان، وحمل كلّ واحد منهما صاحبَه الأمانةَ، إنّ بيننا عهد الله على التناصر، والتخالص، والتناصح، في أمر الله والإسلام، ولا يَخْذُلُ أحدُنا صاحبه بشيء، ولا يتّخذ من دونه وَليجةً، ولا يحول بيننا ولدٌ ولا والدٌ أبدًا ما حَيينا فيما استطعنا، فإذا فُتِحَتْ مصر فإنّ عَمْرًا على أرضها، وإمارته التي أمّره عليها أمير المؤمنين، وبيننا التناصح، والتوازر، والتعاون على ما نابنا من الأمور، ومعاوية أمير على عمرو بن العاص في الناس، وفي عامّة الأمر، حتى يجمع الله الأمّةَ، فإذا اجتمعت الأُمّةُ فإنّهما يدخلان في أحسن أمرها على أحسن الذي بينهما في أمر الله الذي بينهما من الشرط في هذه الصحيفة. وكتب وردان سنة ثمانٍ وثلاثين.
وقال عبد الرحمن بن شِماسة المَهْريّ: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سِياقة الموت فحوّل وجهه إلى الحائط يبكي طويلًا وابنه يقول له: ما يُبكيك؟ أما بشّرك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشّرك بكذا؟ قال: وهو في ذلك يبكي ووجهه إلى الحائط، قال ثمّ أقبل بوجهه إلينا فقال: إنّ أفضلَ ممّا تَعُدّ عليّ شهادةُ أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولكني قد كنتُ على أطباقٍ ثلاثٍ، قد رأيتُني ما من الناس من أحدٍ أبغض إليّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولا أحبّ إليّ من أن أسْتَمْكِنَ منه فأقتله، فلو متّ على تلك الطبقة لكنتُ من أهل النار، ثمّ جعل الله الإسلام في قلبي فأتيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأبايعه فقلتُ: ابسط يمينك أبايِعْك يا رسول الله، قال: فبسط يده ثمّ إني قبضتُ يدي فقال: "ما لك يا عمرو؟" قال فقلتُ: أردتُ أن أشترط، فقال: "تشترط ماذا؟" فقلتُ: أشترط أن يُغْفَرَ لي، فقال: "أما علمتَ يا عمرو أنّ الإسلامَ يَهْدِمُ ما كان قبله وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله؟" فقد رأيتُني ما من الناس أحد أحبّ إليّ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولا أجلّ في عيني منه، ولو سُئِلتُ أن أنْعَتَه ما أطَقْتُ لأني لم أكن أطيق أن أملأ عيني إجلالًا له، فلو متُّ على تلك الطبقةِ رجوتُ أن أكون من أهل الجنّة، ثمّ ولينا أشياءَ بعدُ فلستُ أدري ما أنا فيها أو ما حالي فيها، فإذا أنا متّ فلا تَصْحَبْني نائحةٌ ولا نار، فإذا دفنتموني فسُنّوا عليّ الترابَ سَنًّا، فإذا فرغتم من قبري فامكثوا عند قبري قدر ما يُنْحَرُ جَزورٌ ويُقْسَمُ لحمها فإني أستأنس بكم حتى أعلم ماذا أراجع به رُسُلَ ربّي(*). وزاد في رواية أخري: ولا تجعلن في قبري خَشَبة ولا حَجَرًا. وقال الحسن: بلغني أنّ عمرو بن العاص لما كان عند الموت دعا حرَسَه فقال: أيّ صاحب كنتُ لكم؟ قالوا: كنتَ لنا صاحب صِدْقٍ تُكْرمُنا وتُعْطينا وتفعل وتفعل، قال: فإنّي إنّما كنتُ أفعل ذلك لتمنعوني من الموت، وإنّ الموتَ ها هو ذا قد نزل بي فأغْنوه عنّي، فنظر القوم بعضهم إلى بعض فقالوا: والله ما كنّا نَحْسِبُك تَكَلّمُ بالعَوْراءِ يا أبا عبد الله، قد علمتَ أنّا لانُغْني عنك من الموت شيئًا، فقال: أما والله لقد قلتُها وإني لأعْلَمُ أنّكم لا تُغْنُون عنّي من الموت شيئًا ولكن والله لأنْ أكون لم أتّخِذْ منكم رجلًا قطّ يمنعني من الموت أحبّ إليّ من كذا وكذا، فيا وَيْحَ ابن أبي طالب إذ يقول: حَرَسَ امرءًا أَجَلُه، ثمّ قال عمرو: اللهمّ لا بَرِيءٌ فأعتذر ولا عزيز فأنتصر وإلاّ تُدْركْني برحمةٍ أكن من الهالكين. وقال الشّافعي: دخل ابن عبّاس على عمرو بن العاص في مرضه فسلّم عليه، وقال: كيف أصبحْتَ يا أبا عبد الله؟ قال: أصلحتُ من دنياي قليلًا، وأفسدتُ من ديني كثيرًا، فلو كان الّذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدْتُ هو الذي أصلحت لفُزْتُ، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب هربت؛ فصرْتُ كالمنجنيق بين السّماء والأرض، لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين، فعِظْني بعظةٍ أنتفع بها يابْنَ أخي. فقال له ابن عبّاس: هيهات يا أبا عبد الله! صار ابْنُ أخيك أخاك، ولا تشاء أنْ أبكى إلّا بكيت، كيف يؤمن برحيل مَنْ هو مقيم؟ فقال عمرو‏: على حينها من حين ابن بضع وثمانين سنة، تقنطني من رحمة ربي، اللّهم إن ابن عبّاس يقنطني من رحمتك، فخُذْ مني حتى ترضى. قال ابن عبّاس: هيهات يا أبا عبد الله! أخذت جديدًا، وتُعطي خلَقًا، فقال عمرو: ما لي ولك ياابْنَ عبّاس! ما أرْسِل كلمة إلا أرسلت نقيضها. وقال معاوية بن حُدَيْج: عُدْتُ عمرو بن العاص وقد ثقل فقلتُ: كيف تجدك؟ قال: أذوب ولا أثوب وأجد نَجْوِي أكثر من رُزْئي، فما بقاء الكبير على هذا؟ وقال عَوانة بن الحكم، قال: كان عمرو ابن العاص يقول: عَجَبًا لمَن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه، فلمّا نزل به قال له ابنه عبد الله بن عمرو: يا أبَتِ إنّك كنتَ تقول عجبًا لمَن نزل به الموت وعقله معه كيف لا يصفه فصِفْ لنا الموت وعقلك معك، فقال: يا بُنَيّ، الموت أَجَلُّ مِنْ أن يُوصَف ولكنّي سأصف لك منه شيئًا، أجدني كأنّ على عنقي جبالَ رَضْوَى، وأجدني كأنّ في جوفي شوك السُّلاَّء، وأجدني كأنّ نفَسي يخرج من ثَقْبِ إبْرَةٍ. وروى أبو حرب بن أبي الأسود عن عبد الله بن عَمْرو أنّه حدّثه أنّ أباه أوصاه قال: يا بُنَيّ إذا مِتّ فاغسلني غَسْلَةً بالماء، ثمّ جَفّفْني في ثوب، ثمّ اغسلني الثانية بماءٍ قَراح، ثمّ جَفّفْني في ثوب، ثمّ اغسلني الثالثة بماء فيه شيء من كافور ثمّ جَفّفْني في ثوب، ثمّ إذا ألبستني الثياب فأزِرّ عَلَيّ فإنّي مُخاصم، ثمّ إذا أنت حملتَني على السرير فامْشِ بي مَشْيًا بين المِشْيَتَيْنِ، وكن خلف الجنازة فإنّ مُقَدّمَها للملائكة وخلفها لبني آدم، فإذا أنت وضعتَني في القبر فسُنّ عَلَيّ التراب سَنًّا، ثمّ قال: اللهم إنّك أمرتنا فرَكِبْنا ونهيتَنا فأضَعْنا فلا بريءٌ فأعتذر ولا عزيزٌ فأنتصر ولكن لا إله إلاّ الله. ما زال يقولها حتى مات. وذُكر أنه قال أيضًا لما حضرته الوفاة: اللّهم إنك أمرتني فلم أأتمر، وزجرتني فلم أنزجر، ووضع يده في موضع الغلّ، وقال: اللّهم لا قويّ فأنتصر، ولا بريء فاعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنْتَ‏. فلم يزل يردِّدها حتى مات. وقال عمرو بن شُعيب: "توفّي عمرو بن العاص يوم الفِطْر بمصر سنة اثنتين وأربعين وهو والٍ عليها"، وقيل: توفّي سنة ثلاثٍ وأربعين، وقيل: توفّي سنة إحدى وخمسين. وروى يحيى بن بكير، عن الليث: توفّي وهو ابْنُ تسعين سنة. وقال ابن حجر العسقلاني: قد عاش بعد عُمر عشرين سنة. وقال العِجلي: عاش تسعًا وتسعين سنة. وكان عُمر عُمِّر ثلاثًا وستين. وقد ذكروا أنه كان يقولُ: أذكر ليلة وُلد عمر بن الخطاب؛ أخرجه البَيْهَقيُّ بسندٍ منقطع، فكأن عمره لما ولد عمر سبع سنين. ودُفن بالمقطم من ناحية الفتح، وصلّى عليه ابنه عبد الله، ثم رجع فصلّى بالنّاس صلاة العيد، وولي مكانه، ثم عزله معاوية.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال