1 من 2
معاوية بن أبي سفيان بن حَرْب
ابن أُميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، وأمّه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، ويكنى معاوية أبا عبد الرّحمن، وله عقب، وكان يذكر أنّه أسلم عامَ الحديبية، وكان يكتم إسلامه من أبي سفيان، قال: فدخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مكّة عام الفتح فأظهرتُ إسلامي ولقيته فرحّب بي، وكتب له،
وشهد معاوية مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، حُنينًا والطائف وأعطاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من غنائم حُنين مائة من الإبل وأربعين أوقيّة وزنها له بلال، وروى عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أحاديث، وولاّه عمر بن الخطّاب دمشق عمل أخيه يزيد بن أبي سفيان حين مات يزيد فلم يزل واليًا لعُمَر حتّى قُتل عمر، رضي الله عنه، ثمّ ولاّه عثمان بن عفّان ذلك العمل وجمع له الشأم كلّها حتّى قُتل عثمان، رضي الله عنه، فكانت ولايتُه على الشأم عشرين سنة أميرًا، ثمّ بويع له بالخلافة واجْتُمِعَ عليه بعدَ عليّ بن أبي طالب، عليه السلام، فلم يزل خليفة عشرين سنة حتّى مات ليلة الخميس للنصف من رجب سنة ستّين وهو يومئذٍ ابن ثمان وسبعين سنة.
(< جـ9/ص 410>)
2 من 2
معاوية بن أبي سفيان
ابن حَرب بن أُمَيّة بن عَبْد شَمْس بن عبد مَنَاف بن قُصَيّ، وأمه هند بنت عُتْبَة بن رَبِيعة بن عَبْد شَمْس بن عَبْد مَنَاف بن قُصَيّ، ويكنى أبا عبد الرحمن.
فولد معاويةُ: يزيدَ وأمه مَيْسُون بنت بَحْدَل بن أُنَيْف بن دَلْجَة بن قُنَافَة بن عَدِيّ بن زُهير بن حارثة بن جَنَاب بن ذُهل بن عبد الله بن كِنَانة بن بكر بن عوف بن عُذْرَة بن زيد اللَّات بن رُفَيْدَةَ بن ثور بن كلب، وعبد الله وهو مبقث دَرَجَ.
وعبدَ الرحمن. وهندًا تزوجها عبد الله بن عامر بن كُرَيْز بن ربيعة بن حبيب بن عَبْد شمس، وأُمهم فاخته بنت قَرَظَةَ بن عَبْد عَمْرو بن نَوْفَل بن عبد مَنَاف بن قُصَيّ.
ورملةَ تزوجها عَمرو بن عثمان بن عفّان، فولدت له خالدًا وعثمان، وأمها كنود بنت قَرَظَةَ بن عبد عَمرو، وصَفيةَ تزوجها محمد بن زياد بن أبي سفيان، وأمها أم ولد.
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني أبو بكر بن عبد الله بن أَبِى سَبْرَةَ عن عُمر بن عبد الله العَنْسِيّ قال: قال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية وصدّت قريش رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، عن البيت ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرتُ ذلك لأُمي هند بنت عتبة فقالت: إياك أن تخالف أباك أو أن تقطع أمرًا دونه فيقطع عنك القوت، فكان أبي يومئذ غائبًا في سوق حُبَاشَة، قال: فأسلمتُ وأخفيتُ إسلامي، فوالله لقد رَحَلَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مِن الحديبية وإني مصدّق به وأنا على ذلك أكتمه مِن أبي سفيان، ودخَل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مكة عام عُمرة القضية وأنا مسلم مصدق به وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يومًا: لكن أخوك خَير منك فهو على ديني، قلت: لم آل نفسي خيرًا، قال: فدخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مكة عام الفتح فأظهرتُ إسلامي ولقيته فرحّب بي وكتبتُ له.(*)
قال محمد بن عمر: وشَهِدَ معاوية بن أبي سفيان مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، حُنينًا وأعطاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مِن غنائم حنين مائة مِن الإبل وأربعين أوقية وَزَنـَها له بلال.(*)
قال: أخبرنا الوليد بن عطاء بن الأَغَر المكي قال: حدّثنا عَمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جَدِّه قال: كانت إداوة يحملها أبو هريرة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فاشتكى أبو هريرة فحملها معاوية، فبينما هو يوضىء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، رفع رأسه فقال: "يا معاوية: إن وليتَ مِن أمور المؤمنين شيئًا فاتّق الله واعدل"، فما زلت أظن أني مُبتلى حتى وليت لقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.(*)
قال: أخبرنا سليمان بن حرب والحسَن بن موسى قالا: حدّثنا أبو هلال محمد بن سُليم قال: حدّثنا جَبلة بن عطية عن مَسْلَمَة بن مُخَلّد قال الحسن بن موسى الأَشْيَب قال أبو هلال أو عن رجل عن مَسْلَمَة بن مُخَلَّد، وقال سليمان بن حرب أو حدثه مسلمة عن رجل: أنه رأى معاوية يأكل فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لَمِخْضَد، ثم قال: أما إني أقول هذا وقد سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "اللهم علّمه الكتاب ومكّن له في البلاد وقِهِ العذاب".(*)
قال: أخبرنا المُعَلَّى بن أسد قال: حدّثنا وُهَيْب عن عَمرو بن يحيى عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن عَلْقمة بن وقّاص الليْثي عن أبيه قال: كنتُ عند معاوية، فسمع المؤذن يؤذن فقال مثل قوله حتى بلغ حيّ على الصلاة، فقال: لا حولَ ولا قوة إلا بالله، ثم قال: هكذا سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول.(*)
قال: أخبرنا يحيى بن حمّاد قال: أخبرني شُعبة عن سعد بن إبراهيم عن مَعْبَد الجُهَنِيّ قال: كان معاوية لا يكاد يحدث عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، شيئًا، قال: وكان لا يكاد يدع هؤلاء الكلمات أن يقولهن يوم الجمعة على المنبر عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "أن الله إذا أرادَ بعبد خيرًا يفقّهه في الدين، وأن هذا المال حُلو خضر، مَن يأخذ بحقه يبارك له فيه وإياكم والتمادح فإنه الذبح".(*)
قال: أخبرنا يحيى بن حمّاد قال: أخبرنا شُعبة عن رجل مِن بني تميم يقال له جراد عن رجاء بن حَيْوَة عن معاوية بن أبي سفيان أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "مَنْ يُرد الله به خيرًا يفقِّهه في الدين".(*)
قال: أخبرنا خالد بن مَخْلَد البَجَلِيّ قال: حدّثنا سليمان بن بلال قال: حدّثني عَلْقمة ابن أبي عَلْقمة عن أمه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيانِ المدينة فأرسل إلى عائشة أن أرسلي إليّ بأَنـْبِجَانِيَّة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وشَعره، فأرسلت به معي أحمله حتى دَخلتُ به عليه فأخذ الأنبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله فشَربه وأفاضَ على جلده.
قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأَزْرَقِيّ والوليد بن عطاء بن الأغر المكِّيان قالا: حدّثنا عَمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جَدّه قال: دَخَل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حُلة خضراء، فنظر إليها أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك عمر وثَب إليه ومعه الدّرّة فجعل ضربًا لمعاوية، ومعاوية يقول: اللَّه اللَّه يا أمير المؤمنين! فيم! فيم؟! قال: فلم يكلمه حتى رَجَع فجلَس في مجلسه، فقال له القوم: لم ضربتَ الفَتَى يا أمير المؤمنين؟ ما في قومك مثله! فقال: والله ما رأيت إلاّ خيرًا وما بلغني إلا خير ولكني رأيته - وأشار بيده - فأحببت أن أضع منه.
قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي والوليد بن عطاء بن الأغر قالا: حدّثنا عَمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جَده: أن أبا سفيان دَخل على عمر بن الخطاب فعزَّاه عمر بابنه يزيد بن أبي سفيان. قال: آجرك الله في ابنك يا أبا سفيان، فقال: أيّ بَنِيَّ يا أمير المؤمنين؟ قال: يزيد بن أبي سفيان، قال: فمن بعثت على عمله؟ قال: معاوية أخاه، وقال عمر: إنه لا يحل لنا أن نَنْزِعَ مُصْلِحًا.
قال: أخبرنا عارم بن الفضل قال: حدّثنا حماد بن زيد عن مَعْمَر عن الزُّهْرِيّ أن معاوية عمل سنتين ما يحزم عمل عمر، ثم إنه بَعُد.
قال: أخبرنا وَكيع بن الجَرّاح وأبو معاوية الضَّرِير قالا: حدّثنا الأَعْمَش عن أبي صالح قال: كان الحادي يحدو بعثمان وهو يقول:
إِنَّ الأميرَ بعده عَلِيُّ وفي الزُّبير خَلَفٌ رَضِيُّ
قال: فقال كعب: لا بل هو صاحب البغلة الشهباء، قال: يعني معاوية، قال: فأُتِيَ معاوية. فقيل له: إن كَعبًا يقول كذا وكذا، فأتى كعبًا فقال: يا أبا إسحاق: وأنَّى يكون هذا وها هنا أصحاب محمد: عليّ والزبير! قال: أنت صاحبها.
قال: أخبرنا محمد بن مُصعب القَرْقَسَانِيّ قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى سفيان قال: سمعتُ معاوية يقول: إني والله لستُ بخيركم، وإن فيكم مَن هو خير مني، عبد الله بن عمر وعبد الله بن عَمرو بن العاص وغيرهما مِن الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأنعتكم لكم ولاية وأحسنكم خلقًا.
قال: أخبرنا يَعْلَى بن عُبيد، قال: حدّثنا الأعمش عن عَمرو بن مُرّة عن سعيد بن سُوَيد قال: خَطَبنا معاوية بالنُّخَيْلَة فقال: يا أهل العراق أترون أني إنما قاتلتكم لأنكم لا تُصلون؟ والله إني لأعلم أنكم تُصلون! أو أنكم لا تغتسلون من الجنابة؟! ولكن إنما قاتلتكم [[لأتأمّر]] عليكم، فقد أمّرني الله عليكم.
قال: أخبرنا عفّان بن مسلم قال: حدّثنا حَمّاد بن سَلَمَة عن علي بن زيد عن زُرَارةَ ابن أَوْفَى: أن معاوية خطَب الناس فقال: يا أيها الناس إنا نحن أحق بهذا الأمر، نحن شجرة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وبَيضته التي انفَلَقَت عنه، ونحن ونحن، فقال صَعْصَعة: فأين بنو هاشم منكم؟ قال: نحن أسوس منهم وهم خير منا، قال: أمرنا بالطاعة، الطاعة. وقال فيها: أنا لكم جُنَّة، قال: فقال صَعْصَعة: فإذا احترقت الجُنَّة فكيف نصنع؟ قال يا أيها الناس: ها، إِنّ هذا تُرَابي. فقال: إِنِّي ترابي، خُلِقْتُ مِن التراب وإلى التراب أَصِير.
قال: أخبرنا سليمان بن حرب قال: حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قِلاَبَة قال: قال كَعْب: لن يملك أحد مِن هذه الأمة ما مَلَك معاوية.
قال: أخبرنا أبو أُسامة حمّاد بن أسامة عن مجالد عن عامر عن الحارث قال: لما رَجَع عليّ مِن صِفِّين علم أنه لا يملك، فتكلم بأشياء لم يكن يتكلم بها قبل ذاك، وقال أشياء لم يكن يقولها قبل ذاك، فقال: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية فوالله لو قد فقدتموه لقد رأيتم الرءوس تندر مِن كواهلها كالحَنْظَل.
قال: أخبرنا الفضل بن دُكَين قال: حدّثنا موسى بن قيس الحَضْرَمِيّ عن قيس بن رُمانة عن أَبِي بُرْدَة قال: قال معاوية بن أبي سفيان: إن كان يقاتل على الأمر إلا من أجل دم عثمان.
قال: أخبرنا موسى بن إسماعيل قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك عن مَعْمَر عن ابن مُنَبِّه قال: سمعتُ ابن عباس يقول: ما رأيتُ رجلًا كان أخلق للملك مِن معاوية، إن كان الناس لَيَرِدُون منه على أرجاء وادٍ رَحْبٍ، ولم يكن بالضيق الحصر العُصْعُص المُتَغَضِّب - يعني ابن الزبير.
قال: أخبرنا الفَضْلُ بن دُكَيْن قال: حدّثنا أبو بكر بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق قال: كان معاوية وكان وكان وما رأينا بعد مثله. قال أبو بكر: ما ذكر عمر بن عبد العزيز.
قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزُّهري عن أبيه عن صالح بن كَيْسان عن ابن شِهَاب قال: حدّثني عُرْوَة بن الزُّبَير، أن المِسْوَر بن مَخْرَمة أخبره أنه: قدم وافدًا على معاوية أمير المؤمنين فقضى حاجته، ثم دعاه فقال: يَا مِسْوَر! ما فعل طَعْنُك على الأَئِمَّة؟ قال المِسْوَر: دَعْنَا مِن هذا وأحسِن فيما قدمنا له. قال معاوية: لا أدعك حتى تكلم بذات نفسك والذي تعيبُ عَلَيَّ. قال المِسْوَر: فلم أدع شيئًا أعيبه عليه إلا بَيَّنتْه. فقال معاوية: لا أبرأ مِن الذنب فهل تَعُدُّ لنا يا مِسْوَر ممّا نلي مِن الإصلاح في أمر الناس شيئًا؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان! قال المِسْور: لا والله ما نذكر إلا ما نرى مِن هذه الذنوب قال معاوية: فإنا نعترف بكل ذنب أذنبناه فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أنْ تهلكك إن لم يغفرها الله لك! قال المِسْور: نعم. قال معاوية: فما يجعلك بأحقّ برجاء المغفرة مني؟! فوالله لما ألي مِن الإصلاح أكثر ما تَلِي، ولكني والله لا أخيّر بين أمرين بين الله وغيره إلّا أخترتُ الله على ما سواه، وإنّي لَعَلَى دين يُقْبَلُ فيه العمل وَيُجْزَى فيه بالحسنات ويُجْزَى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، وإني لَأَحْتَسِبُ كلَّ حَسنةٍ عملتها بأضعافها مِن الأجر، وإني لَأَلي أُمُورًا عِظَامًا لا أحصيها، ولا يحصيها مَن عمل لله بها في الدنيا: إقامة الصلوات للمسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل الله. والأمور التى لستُ أحصيها وإن عددتها فتكفر في ذلك. قال المسْور: فعرفت أن معاوية قد خَصَمني حين ذكر ما قال. قال عروة فلم أسمع المِسْوَر بعد يذكر معاويةَ إلا صَلّى عليه.
قال: أخبرنا عَمرو بن عاصم الكِلَابِيّ قال: حدّثنا نافع بن عمر عن عبد الله بن أَبِي مُلَيْكَة قال: أُتى ابن عباس، فقيل له: هل لك في أمير المؤمنين معاوية؟ أوتر قبل بركعة. فقال: أحسن، إنه فقيه.
قال: أخبرنا عارم بن الفضل، قال: حدّثنا حَمّاد بن زيد عن أيوب قال: قيل لابن عباس، إن معاوية لم يوتر حتى أصبح فأوتر بركعة فقال: إن أمير المؤمنين عالم.
قال: أخبرنا الفَضْل بن دُكَين عن ابن عُيَيْنَة عن عبد الله بن أَبي يَزِيد عن كُرَيب قال: رأيت معاوية صلى العشاء، ثم صلى بعدها ركعة. فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أصاب.
قال: أخبرنا سعيد بن منصور، قال: حدّثنا فَرج بن فَضَالة عن خالد بن يزيد عن ابن حَلْبَس قال: خَطَبنا معاوية بدمشق فقال يا أيها الناس: اعقلوا عني، فإنكم لا تَجدون بعدي أحدًا أعلم بأمر الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصُفُوفكم في الصلاة قبل أن يُخَالفَ الله بين قلوبكم، وخُذوا على أيدي سُفهائكم قبل أن يُسَلّطهم الله عليكم فَيَسُومُونَكم سُوء العذاب، وتَصَدّقوا، ولا يقولن أحدكم إِنّي مُقِلّ، فإن صَدَقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وإياي ورمي المحصنات، فوالله لو رَمَى رجل مُحصنة كانت في زمن نوح لسأله الله عنها، ولا يقولن أحدكم سمعتُ وبلغني.
قال: أخبرنا سعيد بن منصور ومحمد بن معاوية النَّيْسَابُورِىّ قالا: حدّثنا عبد الرحمن ابن أَبِي الزِّناد عن أبيه عن خارجة بن زيد أن زَيد بن ثابت كتَب إلى معاوية فبدأ به، وكتَب: لعبد الله معاوية.
قال: أخبرنا أبو أُسامة عن هشام بن عُرْوَة عن أبيه قال: سمعتُ معاوية يقول على المنبر: لا حلم إلا التجربة.
قال: أخبرنا أبو أسامة عن إسماعيل بن أَبِي خالد عن قيس بن أَبِي حازم قال: مَرض معاوية مرضًا شديدًا فحَسَر عن ذراعيه كأنهما عسيبا نخل فقال: ما الدنيا إلا كما قد ذُقنا وجربنا، والله لَودِدتُ أنى لا أعبر فيكم فوق ثلاث ليال حتى ألحق بالله تعالى، فقال جلساؤه: بِرَحْمَةِ الله يا أمير المؤمنين، فقال: ما شاء الله أن يقضي لأمير المؤمنين قضاء أنه قد علم أني لم آلُو، وما كَرِه الله غَيْرَه.
قال: أخبرنا الفَضْل بن دُكَين قال: حدّثنا عبد السلام بن حرب عن إسحاق بن عبد الله بن أَبِي فَرْوَة قال: خَطَبنا معاوية وعليه بُرد أخضر.
قال: أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف قال: نَظَرَ أبو سفيان يومًا إلى معاوية وهو غلام، فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لَخَلِيق أن يسود قومه! فقالت هند: قومه فقط؟! ثَكِلْتُهُ! إنْ لم يَسُد العرب قاطبة! وكانت هند تحمل معاوية وهو صغير وتقول:
إنّ بُنَيَّ مُعـــــرقٌ كريـــــــم مُحَبَّب في أهلـه حَلِيـــــمُ
ليس بفَحَّـــاش ولا لَئِيــــم ولا بِطحــرور ولا شَئـوم
صخرُ بَنيِ فِهر به زَعيم لا يخلف الظن ولا يخيـــم
قال: فلما ولى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاّه مِن الشام خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت؟ صار ابنك تابعًا لابني!، فقالت: إن اضطربَ حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني مَعْمَر عن الزُّهْري قال: توفي يزيد بن أبي سفيان بدمشق، فَكُتِبَ إلى عمر بن الخطاب بنَعِيِّه، فجاء عمر بن الخطاب إلى أبي سفيان، فإذا هند بنت عُتبة امرأته تهنى أهبة لها في المَنِيئَة فقال: أين أبو سفيان؟ فقالت هند: ها هو ذا ــ وكان ناحية مِن البيت ــ فقال: احتسبا واصبرا. قالا: مَنْ يا أمير المؤمنين؟ قال يزيد بن أبي سفيان. فقالا مَن استعملت على عمله؟ قال: معاوية بن أبي سفيان. قالا: وَصَلَتْكَ رَحِم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الزهري: إنما ولّاه عمل يزيد ولم يفرد له الشام، حتى كان عثمان فأفردَ له الشام.
قال محمد بن عمر: هذا الأمر المجتمع عليه عندنا لا اختلاف فيه.
قال محمد بن عمر: وقد روى لنا ابن أّبِى سَبْرَة عن إسماعيل بن أمية: أن عمر أفرد معاوية بالشام ورزقه ثمانين دينارًا في كل شهر. قال محمد بن عمر: والأول أثبت.
قال ابن أَبِى سَبْرة: وقد أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حَزْم: أن عمر استعمل معاوية بن أبي سفيان على عمل أخيه، وكتب إليه: إني قد وَلَّيْتُك عملَ يزيد بن أبي سفيان الذي كان يلي ــ في كتاب طويل أمره فيه ــ بتقوى الله وما يعمل به في عمله. فكتَب إليه معاوية جواب كتابه. فلم يزل معاوية واليًا لعمر حتى قُتل عمر واستخلف عثمان بن عفّان، فأقره على عمله وأفرده بولاية الشام جميعًا، فاستقضى فضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري.
وشخص أبو سفيان بن حرب إلى معاوية بالشام ومعه ابناه عُتبة وعَنبسة، فكتبت هند إلى معاوية، قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل معاوية ذلك، فقال أبو سفيان: اشهد بالله أَنَّ هذا لَعَنْ رأي هند.
فلما قُتل عثمان كتبت نَائِلَةُ بنت الفُرَافِصَة إلى معاوية كتابًا تصف فيه كيف دُخِلَ على عثمان وكيف قُتِل، وبعثت إليه بقميصه الذي قتل وهو عليه فيه دمه. فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام، وأمر بقميص عثمان فَطِيفَ به في أجناد الشام، ونَعَى إليهم عثمان، وأخبرهم بما أُتي واستحل مِن حرمته، وحرضهم على الطلب بدم عثمان، فبايعوه على الطلب بدم عثمان.
وبويع عليّ بن أبي طالب بالمدينة فقال له عبد الله بن العباس والحسن بن علي: اكتب إلى معاوية، فَأَقِرُّه على عمله ولا تحركه، وأَطْمِعه فإنه سيطمع ويكفيك نَفْسَه وناحيته، فإذا بايع الناسُ لك أَقْرَرْتَه أَوْ عَزَلْتَه، قال: فإنه لا يرضى حتى أعطيه عهد الله وميثاقه أن لا أعزله، فقالا: لَا نُعْطِه عَهْدًا ولا ميثاقًا. فبلغ ذلك معاوية فقال: والله لاَ أَلِي له شيئًا أبدًا ولا أُبايعه ولا أقدم عليه، وأظهر بالشام أن الزبير بن العوام قدم عليهم وأنه يبايع له.
فلما بلغه خروج الزبير وطَلْحة إلى الجَمَل أمسك عن ذكره، فلما بلغه قتل الزبير قال: يرحم الله أبا عبد الله، أما أنه لو قدم علينا لبايعنا له وكان أهلًا أن نقدمه لها.
فلما انصرف عَلِيٌّ من البصرة أرسل جرير بن عبد الله البَجَلي إلى معاوية، فكلّمه، وعظم عليه أمر عليّ وسابقته في الإسلام ومكانه مِن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، واجتماع الناس عليه. وأراده على الدخول في طاعته والبيعة له، فأبى، وجرى بينه وبين جرير كلام كثير، فانصرف جرير إلى علي بن أبي طالب فأخبره بذلك، فذلك حين أجمع عَلِيٌّ عَلَى الخروج إلى صِفِّين.
وبعثَ معاوية أبا مُسلم الخولاني إلى علي بأشياء منه، ويسأله أن يدفع إليه قَتَلة عثمان حتى يقتلهم به، فإنه إن لم يفعل ذلك أنهج للقوم ــ يعني أهل الشام ــ بصائرهم لقتاله فَأَبَى عَلِيٌّ أن يفعل، فرجع أبو مسلم إلى معاوية فأخبره بما رأى مِن عليّ وأصحابه، وجرت بين علي ومعاوية كتب ورسائل كثيرة.
ثم أجمعَ عليّ على الخروج مِن الكوفة يريد معاوية بالشام، وبلغ ذلك معاوية فخرج في أهل الشام يريد عليًا، فالتقوا بصفين لسبع ليال بقين من المحرم سنة سبع وثلاثين، فلما كان هلال صفر نشبت الحرب بينهم فاقتتلوا أيام صفين قتالًا شديدًا حتى هرّ الناس القتال وكرهوا الحرب، فرفع أهل الشام المصاحف، وقالوا: ندعوكم إلى كتاب الله والحكم بما فيه وكان ذلك مكيدة من عَمرو بن العاص، فاصطلحوا وكتبوا بينهم كتابًا على أن يوافوا رأس الحول أَذْرُح، ويحكّموا حَكَمَين ينظران في أمر الناس، فيرضون بحُكمها، فَحَكَّم عَلِيٌّ أبا موسى الأشعري، وحَكَّم معاويةُ عَمْرَو بن العاص.
وتفرق الناس، فرجع علي إلى الكوفة بالاختلاف والدَّغَلَ. واختلف عليه أصحابه، فخرج عليه الخوارج مِن أصحابه ومَن كان معه وأنكروا تَحْكِيمَه وقالوا: لاَ حُكْمَ إلا الله. ورجع معاوية إلى الشام بالألفة واجتماع الكلمة عليه.
ووافى الحَكَمان بعد الحول بأذْرُح، في شعبان سنة ثمانٍ وثلاثين، واجتمع الناس إليهما، فكان بينهما كلام، اجتمعا عليه في السر ثم خالفه عَمرو بن العاص في العلانية، فَقَدّم أبا موسى فتكلم وخلع عليًا ومعاوية، ثم تكلم عَمرو بن العاص فخلع عليًا وأقر معاوية، فتفرق الحكمان ومَن كان اجتمع إليهما، وبايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين.
وبعث معاوية على الحج ــ سنة تسع وثلاثين ــ يزيدَ بن شَجَرَة الرَّهَاوِىّ، وبعث علي ابن أبي طالب في هذه السنة على الموسم عُبَيْدَ الله بن العباس، فاجتمعا بمكة وسأل كل واحد منهما صاحبه أن يسلم إليه، فأبيا جميعًا واصطلحا على أن يصلي بالناس ويحج بهم تلك السنة شَيْبةُ بن عثمان العَبْدَرِىّ، فحج بالناس تلك السنة.
وكان معاوية يبعث الغارات فيقتلون مَنْ كان في طاعة علي، وَمَنْ أعان على قتل عثمان، فبعث بُسْرَ بن أَرْطَاة العامري إلى المدينة ومكة واليمن يستعرض الناس، فقتل باليمن عبد الرحمن وقُثم ابني عُبيد الله بن العباس.
ثم قُتل علي بن أبي طالب عليه السلام في شهر رمضان سنة أربعين، فحج بالناس تلك السنة المُغِيرَةُ بن شُعْبَة بكتاب افتعله من معاوية بن أبي سفيان، وصالح الحسنُ بن على معاوية بن أبي سفيان، وسلّم له الأمر، وبايعه الناس جميعًا فسمي عام الجماعة.
واستعمل معاويةُ المغيرةَ بن شعبة تلك السنة على الكوفة على صلاتها وحربها، واستعمل عَلَى الخراج عبد الله بن دَرَّاج مولاه، واستعمل على البصرة عبد الله بن عامر ابن كُرَيْز، واستعمل على المدينة أخاه عتبة بن أبي سفيان ثم عزله، واستعمل مروان بن الحَكَم سنة اثنتين وأربعين، واستعمل عَمرو بن العاص على مصر، وَأَقَرَّ فَضَالَةَ بن عُبَيد على قضائه بالشام.
وكان يولي الحج كل سنة رجلًا من أهل بيته، ويولي المصائف والمشاتي بأرض الروم كل سنة رجلًا. وحجّ معاوية بالناس سنة خمسين ومرّ بالمدينة، وولى يزيد بن معاوية الموسم فحج بالناس سنة إحدى وخمسين.
ثم اعتمر معاوية في رجب سنة ست وخمسين، وقدم المدينة، فكان بينه وبين الحسين ابن علي وعبد الله بن عُمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير ما كان من الكلام في البيعة ليزيد بن معاوية، وقال: إني أتكلم بكلام فلا تردوا عليّ شيئًا فأقتلكم. فَخَطَب الناس فأظهرَ أنهم قد بايعوا، وسكتَ القوم فلم يقروا ولم ينكروا خوفًا منه، وَرَحَل معاوية من المدينة على هذا وادّعى معاويةُ زِيَادَ بن أبي سفيان، فولّاه الكوفة بعد المغيرة بن شُعبة، فكتب إليه في حُجْرِ بن عَدِيّ الكندي وأصحابه، وحملهم إليه فَقَتَلَهم معاوية بالشام بمرج عَذْرَاء، ثم ضَمّ معاويةُ البصرةَ إلى زِيَاد، ثم مات زياد، فولّى معاويةُ الكوفةَ والبصرة ابنه عُبيد الله بن زياد.
قال: أخبرنا علي بن محمد عن مَسلمة بن مُحارب قال: مرض معاوية فأرجفَ به مَصقلة بن هُبيرة وساعده قومٌ على ذلك، ثم تماثلَ معاوية وهم يرجفون به، فحمل زياد مَصقلة إلى معاوية، وكتب إليه: إن مصقلة كان يجمع مُرّاقَ أهل العراق فيرجفون بأمير المؤمنين، وقد حملته إليك ليرى عافية الله إياك. فقدم مَصْقَلَةُ وجلس معاوية للناس، فلما دَخل مصقلة قال له معاوية: ادنُ. فدنا فأخذ بيده وجبذه فسقط مصقلة فقال معاوية:
أبقّى الـحوادثُ مِنْ خليـ ـلك مثلَ جَنْدلة المُرَاجِمْ
قَدْ رَامَنِى الأقوامُ قَبْـــــ ـلَك فامتنعتُ مِـنَ المظالِمْ
فقال مصقلة: يا أمير المؤمنين قد أبقى الله منك ما هو أعظم مِن ذلك، حلمًا وكلأ ومَرعى لأوليائك، وسُما ناقعًا لعدوك فمن يَرومك؟ كانت الجاهلية وأبوك سيد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين. وأقام مصقلة فوصله معاوية وأذن له في الانصراف إلى الكوفة فقيل له: كيف تركتَ معاوية؟ قال: زعمتم أنه لما بِهِ، والله لَغَمَزَ يَدِي غَمْزة كَادَ يَحْطِمُهَا وَجَبذَنِي جَبْذَة كاد يَكْسِر منّي عضوًا.
قال: أخبرنا علي بن محمد عن أبي عبيد الله عن عُبَادة بن نُسَيّ قال: خطب معاوية الناس فقال: إِنّي مِن زَرْعٍ قد استَحصد، وقد طالت إِمْرَتِي عليكم حتى مَلَلْتكم ومَلَلَتْموني، وتمنيتُ فراقكم وتمنيتم فراقي، ولا يأتيكم بعدي خير مني، كما أن مَن كان قبلي خير مني، وقد قيل: مَن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، اللهم أني قد أحببتُ لقاءك فأحبب لقائي.
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني عبد الرحمن بن عبد العزيز الأنصاري عن حَكيم بن حَكيم بن عباد بن حُنَيْف: أن معاوية حين حُضِرَ، دعا ابنَه يزيدَ فأوصاهُ بتقوى الله، ثم قال: إني قد أحكمتُ هذا الأمرَ فعليك بالجِدِّ في أمرك والرفقِ بالناس، فإنك إذا رفقتَ بهم أخذت ثمرةَ قلوبهم ما لم يكن رفقك ضعفًا تركب فيجترئ عليك.
وقد خلفت بعدي ثلاثة هم أخوف مَن أخاف عليك أن يسفه عليك ما في يديك: حسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أحب الناس إلى الناس، فَصِلْ رَحِمَه وارفُق به يصلح لك أمره، وعبد الله بن الزبير لا هو رطبٌ فَتَعصره ولا يابسًا فَتَكِسِره، فارفق به وَصِلْ رَحِمَه يصلح لك أمره. وعمرو بن سعيد بن العاص هو أطوع الناس عند أهل الشام، فارفق به وأكرمه يصلح لك أمره. الزم عهدي ووصيتي ولا تلقى هذا الكلام منك بظهر.
أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني أبو بكر بن عبد الله بن أَبِى سَبْرَة عن مروان بن أبي سعيد بن المعلَّى قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عن الموت: يا يزيد: اتق الله، فقد وَطَّأْتُ لك هذا الأمر، ووليت من ذلك ما وليتُ، فإنْ يكُ خيرًا فأنا أسعدُ به، وإن كان غيرَ ذلك شقيتُ به، فارفق بالناس، وأغض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطَأْ عليه يهنك عيشك وتصلح لك رعيتك.
وإياك والمناقشة وحمل الغضب فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإيّّاك وَجَبْهَ أهل الشرف واستهانتهم والتكَبُّر عليهم، لِنْ لهم لِينًا لا يَرون منك ضعفًا ولا خورًا، وأوطئهم فَرْشك وقَرّبهم فإنه يُعلمَ لك حقّك، ولا تَهِنْهُم وتَسْتَخِفّ بحقهم فيهينونك ويستخفّون بحقك ويقولون فيك.
فإذا أردت أمرًا فادع أهل السِّنّ والتجربة مِن أهل صنائعي والانقطاع إليّ، فشاوِرهم ثم لا تخلفهم، وإياك والاستبداد برأيك، فإن الرأي ليس في صدر واحد. أصدق مَن أشار عليك حتى يجيبك على ما يعرف، ثم أطعه فيما أشار به، واخزن ذلك عن نسائك وخَدَمك.
وَشَمِّر إِزَارَك، وتعاهدْ جُنْدَك، وأصلْح نفسك يصلح لك الناس، لا تَدَع لهم فيك مقالًا، فإن الناس سِراع إلى الشرّ، واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلتَ ما أوصيتك به عُرِفَ لك حقك، وَعُظِّمْت مع مملكتك.
وَشَرِّف أهلَ المدينة ومكة، فإنهم أصلُك وعشيرتُك ونسبُك، وَشَرِّف أهلَ الشام، فإنهم أنصارُك وحُمَاتُك وجندُك الذين تصولُ بهم أهل طاعة. واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعدهم منك المعروفَ، فإن ذلك يبسط آمالَهم، ووفّد عليك من الكُوَر كلها، فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن وراءَهم، ولا تسمعن قول قَارِفٍ ولاَ مَاحِل، فإني رأيتهم وزراء سوء.
قال: أخبرنا يحيى بن مَعِين قال: حدّثنا العباس بن الوليد النَّرْسِيّ، قال: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول: جاء يزيد بن معاوية في مَرَضِ معاوية فوجد عمَّه محمدَ بن أبي سفيان قاعدًا على الباب لم يُؤْذَنْ له، فأخذ بيده فَأَدْخَلَه، قال: فَاطَّلَعَ في وجه معاوية وقد أُغْمِيَ عليه فقال:
لَوْ أَنَّ حَيًّا يَفُوتُ فَاتَ أبو حَيَّان لا عاجِزٌ وَلاَ وَكِلُ
الحُوَّلُ القُلَّب الأَرِيب وهل يَدْفَعُ وَقْتَ المنية الحِيَلُ
قال: ففتح معاوية عينيه وقال: أي شيء تقول يا يزيد؟ قال: خيرًا يا أمير المؤمنين، أنا مقبل على عمّي أحدثه، فقال معاوية: نعم.
لو أن حَيًا يفوت فات أبو حيان لا عاجز ولا وكلُ
الحوّل القلّب الأريب وهل يدفع وقت المنية الحيلُ
إن أخوف ما أخاف عليَّ شيئًا عملتُه في أمرِك، شهدتُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، يومًا قَلَّمَ أظفاره وأخذَ مِن شَعره، فجمعتُ ذلك فهو عندي، فإذا أنا مِتّ فاحشوا به فمي وأنفي فإنْ نَفَعَ شيء نَفَعَ أو كما قال.(*)
قال: أخبرنا علي بن محمد عن سليمان بن أيوب عن الأَوْزَاعِيّ، وعلي بن مجاهد عن عبد الأعلى بن ميمون بن مهران عن أبيه: أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه: كنتُ أُوَضِّىءُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال لي: "ألا أكسوك قميصًا؟" قلت: بَلَى، بأبي أنت وأمي. فنزع قميصًا كان عليه فكسانيه فلبسته لبسة ثم رفعته، وقَلَّم أَظْفَارَه فأخذتُ القُلَامَةَ فجعلتها في قارورة، فإذا متّ فاجعلوا قميص رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يَلي جلدي وقطعوا تلك القلامة واسحقوها واجعلوها في عيني فَعَسى.(*)
قال: أخبرنا علي بن محمد عن أَبِى طَيْبَة الحِمَّانِي عن شَبّة بن عقال قال: أغمي على معاوية في مرضه الذي مات فيه، فقالت ابنته رملة أو امرأة من أهله متمثلة شعرًا للأَشْهَب بن رُمَيْلَة النَّهْشَلِيّ يمدح القُباع وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:
إنْ مــات مــات الجُــــود وانقطــــع النَّدَى مــن الناس إلّا مـــن قليـــل مُصَـــــرَّدِ
وَرُدَّتْ أَكُــــــفُّ الســــائليــن وأَمْسَكُــــوا مـــن الدِّين والدنيـــا بخُلْفٍ مُجَــــدَّدِ
قال: أخبرنا علي بن محمد عن محمد بن الحكم عمَّن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كأنه أراد أن يَطِيبَ له، لأن عمر بن الخطاب قاسَم عُماله.
قال: أخبرنا علي بن محمد عن سليمان بن المغيرة حُمَيد بن هلال عن أَبِي بُرْدَة بن أبي موسى قال: دَخلتُ عَلَى معاوية حين أصابته قَرْحَتُه فقال: هَلُمَّ ابنَ أَخِي، تَحَوَّل فانظر. فتحولت فنظرت فإذا هي قد سُبِرَتْ.
أخبرنا أبو عُبيد عن أبي يعقوب الثَّقَفِىّ عن عبد المالك بن عمير قال: لما ثقل معاوية، وتحدث الناس أنه بالموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمِدًا، وأوسِعوا رأسي دهنًا. ففعلوا وبَرَّقُوا وجهه بالدّهن، ثم مُهِّدَ له فجلس، ثم قال: أئذنوا للناس فليسلموا قيامًا ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائمًا فيراه مُتَكَحِّلًا مدهنًا فيقول: يقول الناس: هو لِمَا به، وهو أَصَحُّ الناس، فلما خرجوا مِن عنده قال معاوية:
وَتَجَلـُّدِى للشَّــــــامِتِينَ أرِيهـــــم أَنِّى لِرَيب الدَّهْــرِ لاَ أَتَضَعْضَــعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّـةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَـارَهَا أَلْفَيْتَ كُلُّ تَمِيمَـــــةٍ لاَ تَنْفَــــــــعُ
قال: وكان به النَّقَّابة فمات من يومه ذلك.
قال: أخبرنا علي بن محمد عن سليمان بن أيوب عن عَمرو بن ميمون وعن غيره قالوا: لما مات معاوية أُخرجت أكفانه فوضعت على المنبر، ثم قام الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْرِيّ خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أمير المؤمنين معاوية كان في جَدّ العرب وَعَوَذ العرب، وَحَدّ العرب قطع الله به الفتنة، وملَّكه على العباد وَسَيَّر جنوده في البر والبحر وبسط به الدنيا، وكان عبدًا من عَبِيد الله، دعاه الله فأجابه، فقد قضى نحبه، رحمة الله عليه وهذه أكفانه، فنحن مُدْرِجُوه فيها، ومُدْخلوه قبره، ومُخلوه وعمله، فيما بينه وبين ربه، إن شاء رحمه وإن شاء عذّبه، ثم هو الهَرْج إلى يوم القيامة، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضره، فإنا رائحون به.
وصلى عليه الضَّحّاك بن قَيْس الفِهْرِيّ، قال: وكان يزيد غائبًا ــ حين مات ــ بِحُوَّارِين، فلما ثقل معاوية أرسل إليه الضحاك فقدم، وقد مات معاوية ودفن، فلم يأتِ منزله حتى أتى قبره، فصلّى عليه ودعا له، ثم أتى منزله فقال:
جــاء البَرِيــــدُ بِقِـرْطَــاسٍ يَخُــــبّ بـه فَأَوْجَـس القَلْبُ مِـنْ قِـرْطَـاسِه فَـزَعَا
قُلْنَا: لَكَ الـوَيـْلُ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكم؟ قــال الخليفـة أمسَـى مثبتًـا وَجعَـا
فَمَـادَت الأرضُ أو كَـادَتْ تَمِيدُ بنـا كَــأَنَّ أَعْيَــنَ مِـنْ أركـانهـا انْقَلَعَــــــــا
لمـــــا انتَهَيْنَــا وبــابُ الـدَّارِ مُنْصَفِـقٌ لِصَــــوْتِ رَمْلَةَ رِيعَ الْقَلْبُ فَانْصَــدَعَا
مَــنْ لَا تَزَلْ نَفْسُه تُوفي على شرفٍ توشـكُ مقاديرُ تلك النفـس أن تَقَعَـا
أودى ابنُ هند وأودى المجـدُ يَتْبَعـُه كانـــا يكــونـــا جميعًــا قَـاطِنَيْــنِ مَعَـــا
أَغَــــرّ أَبْلَـــج يُسْتَسْقَى الغَمــــامُ بــــه لـــو قــارعَ النـاسَ عـن أحلامهم قَرَعا
ومـــــا أُبــــالي إذا أَدْرَكْـــن مُهجتَــــه مَـــن مــات منهنَّ بالبَيـــداء أو ظلعــا
ثم خطَب يزيد الناس فقال: إن معاوية كان عبدًا من عبيد الله، أنعم الله عليه، ثم قَبَضَه إليه، وهو خيرٌ ممن بعده ودون مَن فوقه، ولا أزكيه على الله هو أعلم به، إِنْ عَفَا عنه فبرحمته وإن عاقَبه فبذنبه، وقد وُلِّيتُ الأمرَ من بعده، ولستُ آسى على طلب ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئًا كان. اذكروا الله واستغفروه، فقال أَبُو الوَرْد العنبري يرثي معاوية:
أَلا أَنْعَــى معاويـةَ بن حَـــــرْبٍ نَعَــاهُ الحِــــلُّ للشهـــــــــر الحـــــــرامِ
نَعَــاهُ النَّاعِجــَاتُ بكل فَـــــــجّ خواضـــــع في الأَزِمَّـــةِ كالسِّهَــــامِ
هَاتِيك النُّجــوم وهُنّ خُـــرْسٌ يَنُحْـــــنَ على مُعاويـــــة الشــآمي
وقال أيمن بن خريم:
رَمَى الحَدَثانُ نِسْوَةَ آل حرب بمقــــــدارٍ سَمَـدْن لــــه سُمُـــــودا
فَــرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّـــودَ بِيضًا وردّ وجــــوهَهُنَّ البيــــضَ سُــودا
فإنَّك لَــوْ شَهِدْتَ بكاءَ هِنْــدٍ وَرَمْلــةَ إِذْ يُصَفِّقْـــــنَ الخُـــــــدَودَا
بكيتَ بكــاءَ مُعْــــوِلةٍ قَــرِيــحٍ أصاب الدَّهْرُ وَاحِدَها الفقيدا
قال: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني يحيى بن سعيد بن دينار السعدي عن أبيه قال: توفي معاوية ليلة الخميس للنصف مِن رجب سنة ستين وهو يومئذ ابن ثمان وسبعين سنة.
قال: أخبرنا علي بن محمد عن أبي محمد القرشي قال: دَخل علي بن عبد الله بن عباس على عبد الملك بن مروان في يوم بارد، وبين يديه وقود قد ألقى عليه عود وقد دُخِّنَ، فقال عبد الملك: ها هنا، إليّ يا أبا محمد! فأجلَسه معه، فقال عَلِيٌّ: أحمد الله يا أمير المؤمنين فيما أنت فيه مِن الإِدْفَاء، والناس فيما هم فيه من شدة البرد. فقال: يا أبا محمد! أَبَعْدَ ابن هندٍ بالشام أربعين سنة أميرًا وخليفة، أمسى تهتز على قبره يَنْبُوتة؟! ثم دعا بالغداء فتغديا جميعًا. قال: وكانت خلافة معاوية تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وسبعة وعشرين يومًا.
(< جـ6/ص 15>)