تسجيل الدخول


معاوية بن صخر بن أبي سفيان

معاوية بن أبي سفيان بن حَرْب القرشي الأمويّ.
يكنى معاوية أبا عبد الرّحمن، وُلد قبل البعثة بخمس سنين، وقيل: بسبع، وقيل: بثلاث عشرة، قال ابن حجر العسقلاني: والأول أشهر، وأمه هند بنت عُتْبَة بن رَبِيعة، وأَسلم معاوية هو وأَبوه أبو سفيان، واسم أبي سفيان: صخر، وأَخوه يزيد، وأُمه هند في الفتح، وروى محمد بن سلام الجمَحيّ، عن أبَان بن عثمان: كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر؛ فقالت: قم لا رفعك الله؛ فقال لها أعرابي: لم تقولين له هذا؟ والله إني لأراه سيسود قومَه، فقالت: لا رفعه الله، إن لم يسد إلا قومه.
وَلَدَ معاويةُ: يزيدَ؛ وأمه مَيْسُون بنت بَحْدَل بن أُنَيْف، وعبد الله، توفي ولم يترك عقبا، وعبدَ الرحمن، وهندًا تزوجها عبد الله بن عامر بن كُرَيْز؛ وأُمهم فأخته بنت قَرَظَةَ بن عَبْد عَمْرو، ورملةَ تزوجها عَمرو بن عثمان بن عفّان، فولدت له خالدًا وعثمان، وأمها كنود بنت قَرَظَةَ بن عبد عَمرو، وصَفيةَ تزوجها محمد بن زياد بن أبي سفيان؛ وأمها أم ولد.
وكان معاوية أَبيضَ جميلًا، إِذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يَخضِبُ، وروى سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد ربه، قال: رأيت معاوية يصفّر لحيته كأنها الذّهب، وقال إسحاق بن عبد الله بن أَبِي فَرْوَة: خَطَبنا معاوية وعليه بُرد أخضر، وخرج معاوية إلى الحج مع عمر بن الخطاب، وكان عمر ينظر إليه فيتعجب منه، ثم يضع أصبعه على جبينه ثم يرفعها عن مثل الشراك، فيقول: بخ بخ؛ إذًا نحن خَيْرُ الناس أنْ جُمع لنا خَيْرُ الدنيا والآخرة.
وقال معاوية بن أبي سفيان: لما كان عام الحديبية وصدّت قريش رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، عن البيت ودافعوه بالراح، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرتُ ذلك لأُمي هند بنت عتبة فقالت: إياك أن تخالف أباك أو أن تقطع أمرًا دونه فيقطع عنك القوت، فكان أبي يومئذ غائبًا في سوق حُبَاشَة، قال: فأسلمتُ وأخفيتُ إسلامي، فوالله لقد رَحَلَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مِن الحديبية وإني مصدّق به وأنا على ذلك أكتمه مِن أبي سفيان، ودخَل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مكة عام عُمرة القضية وأنا مسلم مصدق به وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يومًا: لكن أخوك خَير منك فهو على ديني، قلت: لم آل نفسي خيرًا، فدخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، مكة عام الفتح فأظهرتُ إسلامي ولقيته فرحّب بي وكتبتُ له.(*) قال ابن حجر العسقلاني: حكى الْوَاقِدِيُّ أن معاوية أسلم بعد الحديبية وكتم إسلامه حتى أظهره عامَ الفتح، وأنه كان في عُمرة القضاء مسلمًا.
وشهد معاوية مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، حُنينًا والطائف وأعطاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، من غنائم حُنين مائة من الإبل وأربعين أوقيّة وزنها له بلال، ولما سير أَبو بكر رضي الله عنه الجيوش إِلى الشام سار معاوية مع أَخيه يزيد بن أَبي سفيان، ونَظَرَ أبو سفيان يومًا إلى معاوية وهو غلام، فقال لهند: إن ابني هذا لعظيم الرأس، وإنه لَخَلِيق أن يسود قومه! فقالت هند: قومه فقط؟! ثَكِلْتُهُ! إنْ لم يَسُد العرب قاطبة! وكانت هند تحمل معاوية وهو صغير وتقول:
إنّ بُنَيَّ مُعـــــرقٌ كريـــــــم مُحَبَّب في أهلـه حَلِيـــــمُ
ليس بفَحَّـــاش ولا لَئِيــــم ولا بِطحــرور ولا شَئـوم
صخرُ بَنيِ فِهر به زَعيم لا يخلف الظن ولا يخيـــم
فلما ولى عمر بن الخطاب يزيد بن أبي سفيان ما ولاّه مِن الشام خرج إليه معاوية فقال أبو سفيان لهند: كيف رأيت؟ صار ابنك تابعًا لابني!، فقالت: إن اضطربَ حبل العرب فستعلم أين يقع ابنك مما يكون فيه ابني.
وقال المَدَائِنِيُّ: كان زيد بن ثابت يكتب الوَحْي؛ وكان معاوية يكتب للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فيما بينه وبين العرب، وروى عَمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جَدّه قال: دَخَل معاوية على عمر بن الخطاب وعليه حُلة خضراء، فنظر إليها أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما رأى ذلك عمر وثَب إليه ومعه الدّرّة فجعل ضربًا لمعاوية، ومعاوية يقول: اللَّه اللَّه يا أمير المؤمنين! فيم! فيم؟! قال: فلم يكلمه حتى رَجَع فجلَس في مجلسه، فقال له القوم: لم ضربتَ الفَتَى يا أمير المؤمنين؟ ما في قومك مثله! فقال: والله ما رأيت إلاّ خيرًا وما بلغني إلا خير ولكني رأيته ــ وأشار بيده ــ فأحببت أن أضع منه.
وقيل لابن عباس، إن معاوية لم يوتر حتى أصبح فأوتر بركعة فقال: إن أمير المؤمنين عالم، وروى خالد بن يزيد عن ابن حَلْبَس قال: خَطَبنا معاوية بدمشق فقال يا أيها الناس: اعقلوا عني، فإنكم لا تَجدون بعدي أحدًا أعلم بأمر الدنيا والآخرة مني، أقيموا وجوهكم وصُفُوفكم في الصلاة قبل أن يُخَالفَ الله بين قلوبكم، وخُذوا على أيدي سُفهائكم قبل أن يُسَلّطهم الله عليكم فَيَسُومُونَكم سُوء العذاب، وتَصَدّقوا، ولا يقولن أحدكم إِنّي مُقِلّ، فإن صَدَقة المقل أفضل من صدقة الغني، وإياكم وإياي ورمي المحصنات، فوالله لو رَمَى رجل مُحصنة كانت في زمن نوح لسأله الله عنها، ولا يقولن أحدكم سمعتُ وبلغني. وروى ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أَبي عَمِيرةَ ــ وكان من أَصحاب النبي صَلَّى الله عليه وسلم ــ أَنه قال لمعاوية: "الْلَّهُمَّ، اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًا، وَاهْدِ بِهِ"(*)ـــ أخرجه الترمذي (3842) وأحمد 4 / 216، 365، والطبراني في الكبير 2 / 399 وابن أبي شيبة 12 / 153..
وروى حُمَيد بن عبد الرحمن: أَنه سمع معاوية خطب بالمدينة فقال: أَين علماؤُكم يا أَهل المدينة؟! سمعت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ينهى عن هذه القُصَّة ويقول: "إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيْلَ حِيْنَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ"(*) أخرجه البخاري 4 / 211، 7 / 212 ومسلم في اللباس (122) والشافعي في المسند 1778.. وروى أَبو حَمزَة القَصَّاب، عن ابن عباس قال: كنت أَلعبُ مع الصِّبيان، فجاء رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فتواريتُ خلف باب، قال: فجاء فَحَطأَني حَطْأَةً، وقال: "اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ". قال: فجئت فقلت: هو يأْكل، ثم قال: "اذْهَبْ، فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ". قال: فجئت فقلتُ: هو يأكل، فقال: "لاَ أَشْبَعَ الله بَطْنَهُ"(*). أَخرج مسلم هذا الحديث بعينه لمعاوية، وأَتبعه بقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إِنِّي اشْتَرَطْتُ عَلَى رَبِّي فَقُلْتُ: إَنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، أَرْضَي كَمَا يَرْضَى الْبَشَرُ، وَأَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا أَحَدٍ دَعَوْتُ عَلَيْهِ مِنْ أُمَّتِي بِدَعْوَةٍ أَنْ يَجْعَلَهَا لَهُ طَهُورًا وَزَكَاةً وَقُرْبَةً يُقَرِّبُهُ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (*)أخرجه مسلم في البر والصلة باب 25 (95) والبيهقي في الدلائل 6 / 243..
وقال ابن عباس: معاوية فقيه. وقال ابن عمر: ما رأَيت أَحدًا بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَسوَدَ من معاوية ــ من السيادة ــ فقيل له: أَبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؟ فقال: كانوا ــ والله ــ خيرًا من معاوية وأَفضل، ومعاوية أَسود ــ من السيادة ــ ولما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام، ورأَى معاوية، قال: هذا كسرى العرب، وقال ابن عباس: ما رأيتُ رجلًا كان أخلق للملك مِن معاوية، إن كان الناس لَيَرِدُون منه على أرجاء وادٍ رَحْبٍ، ولم يكن بالضيق الحصر العُصْعُص المُتَغَضِّب، وروى أبو بكر بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق قال: كان معاوية وكان وكان وما رأينا بعده مثله.
وروى عَمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جَده: أن أبا سفيان دَخل على عمر بن الخطاب فعزَّاه عمر بابنه يزيد بن أبي سفيان، قال: آجرك الله في ابنك يا أبا سفيان، فقال: أيّ بَنِيَّ يا أمير المؤمنين؟ قال: يزيد بن أبي سفيان، قال: فمن بعثت على عمله؟ قال: معاوية أخاه، وقال عمر: إنه لا يحل لنا أن نَنْزِعَ مُصْلِحًا، وروى عامر عن الحارث قال: لما رَجَع عليّ مِن صِفِّين علم أنه لا يملك، فتكلم بأشياء لم يكن يتكلم بها قبل ذاك، وقال أشياء لم يكن يقولها قبل ذاك، فقال: أيها الناس لا تكرهوا إمارة معاوية فوالله لو قد فقدتموه لقد رأيتم الرءوس تندر مِن كواهلها كالحَنْظَل.
وروى أيوب عن أبي قِلاَبَة قال: قال كَعْب: لن يملك أحد مِن هذه الأمة ما مَلَك معاوية، وروى الأَعْمَش عن أبي صالح قال: كان الحادي يحدو بعثمان وهو يقول:
إِنَّ الأميرَ بعده عَلِيُّ وفي الزُّبير خَلَفٌ رَضِيّ
فقال كعب: لا بل هو صاحب البغلة الشهباء ــ يعني: معاوية، فأُتِيَ معاوية، فقيل له: إن كَعبًا يقول كذا وكذا، فأتى كعبًا فقال: يا أبا إسحاق: وأنَّى يكون هذا وها هنا أصحاب محمد: عليّ، والزبير! قال: أنت صاحبها، وذُمّ معاوية عند عمر يومًا، فقال: دعونا من ذم فتى قريش من يضحك في الغضب، ولا ينال ما عنده إلَّا على الرَّضا، ولا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه، وقيل لنافع: ما بال ابن عمر بايع معاوية ولم يبايع عليًّا؟ فقال: كان ابن عمر لا يعطي يدًا في فرقة، ولا يمنعها من جماعة، ولم يبايع معاوية حتى اجتمعوا عليه. وروى أبو بكر بن أبي مريم عن ثابت مولى سفيان قال: سمعتُ معاوية يقول: إني والله لستُ بخيركم، وإن فيكم مَن هو خير مني، عبد الله بن عمر وعبد الله بن عَمرو بن العاص وغيرهما مِن الأفاضل، ولكني عسيت أن أكون أنكاكم في عدوكم وأنعتكم لكم ولاية وأحسنكم خلقًا، وكان يقول: أنا أوَّل الملوك، وقال الأوزاعيّ: أدركَتْ خلافة معاوية جماعة من أصحابِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لم ينتزعوا يدًا مِنْ طاعةٍ ولا فارقوا جماعةً، وكان زيد بن ثابت يأخذ العطاء من معاوية.
وروى عُرْوَة بن الزُّبَير، أن المِسْوَر بن مَخْرَمة أخبره أنه: قدم وافدًا على معاوية أمير المؤمنين فقضى حاجته، ثم دعاه فقال: يَا مِسْوَر! ما فعل طَعْنُك على الأَئِمَّة؟ قال المِسْوَر: دَعْنَا مِن هذا وأحسِن فيما قدمنا له، قال معاوية: لا أدعك حتى تكلم بذات نفسك والذي تعيبُ عَلَيَّ، قال المِسْوَر: فلم أدع شيئًا أعيبه عليه إلا بَيَّنتْه، فقال معاوية: لا أبرأ مِن الذنب فهل تَعُدُّ لنا يا مِسْوَر ممّا نلي مِن الإصلاح في أمر الناس شيئًا؟ فإن الحسنة بعشر أمثالها، أم تعد الذنوب وتترك الإحسان! قال المِسْور: لا والله ما نذكر إلا ما نرى مِن هذه الذنوب قال معاوية: فإنا نعترف بكل ذنب أذنبناه فهل لك يا مسور ذنوب في خاصتك تخشى أنْ تهلكك إن لم يغفرها الله لك! قال المِسْور: نعم، قال معاوية: فما يجعلك بأحقّ برجاء المغفرة مني؟! فوالله لما ألي مِن الإصلاح أكثر ما تَلِي، ولكني والله لا أخيّر بين أمرين بين الله وغيره إلّا أخترتُ الله على ما سواه، وإنّي لَعَلَى دين يُقْبَلُ فيه العمل وَيُجْزَى فيه بالحسنات ويُجْزَى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها، وإني لَأَحْتَسِبُ كلَّ حَسنةٍ عملتها بأضعافها مِن الأجر، وإني لَأَلي أُمُورًا عِظَامًا لا أحصيها، ولا يحصيها مَن عمل لله بها في الدنيا: إقامة الصلوات للمسلمين، والجهاد في سبيل الله، والحكم بما أنزل الله، والأمور التي لستُ أحصيها وإن عددتها فتكفر في ذلك، قال المسْور: فعرفت أن معاوية قد خَصَمني حين ذكر ما قال، قال عروة: فلم أسمع المِسْوَر بعد يذكر معاويةَ إلا صَلّى عليه.
ومعاوية هو أول من جعل وليّ العهد خليفة بعده في صحته وقال الزّبير: هو أول من اتخذ ديوان الخاتم، وأمر بهدايا النّيروز والمهرجان، واتخذ المقاصير في الجوامع، وأوّل مَنْ أقام على رأسه حرسًا، وأول من قيدت بين يديه الجنائب، وأول من اتخذ الخصيان في الإسلام، وأول من بلغ درجات المنبر خمس عشرة رِقْاة، وروى هشام بن عُرْوَة عن أبيه قال: سمعتُ معاوية يقول على المنبر: لا حلم إلا التجربة، وروى إسماعيل بن أَبِي خالد عن قيس بن أَبِي حازم قال: مَرض معاوية مرضًا شديدًا فحَسَر عن ذراعيه كأنهما عسيبا نخل فقال: ما الدنيا إلا كما قد ذُقنا وجربنا، والله لَودِدتُ أنى لا أعبر فيكم فوق ثلاث ليال حتى ألحق بالله تعالى، فقال جلساؤه: بِرَحْمَةِ الله يا أمير المؤمنين، فقال: ما شاء الله أن يقضي لأمير المؤمنين قضاء أنه قد علم أني لم آلُو، وما كَرِه الله غَيْرَه، وروى سفيان، عن شيخ؛ قال: قال عمر: إياكم والفرقة بعدي، فإن فعلتم فاعلموا أن معاوية بالشام؛ فإذا وكلتم إلى رأيكم كيف يستبزها منكم.
وروى محمد بن الحكم عمَّن حدثه أن معاوية لما احتضر أوصى بنصف ماله أن يرد إلى بيت المال، كأنه أراد أن يَطِيبَ له، لأن عمر بن الخطاب قاسَم عُماله.
وأخرج ابْنُ شَاهِينَ؛ عن ابن أبي داود بسنده إلى معاوية حديث: "الخير عادة؛ والشر لَجَاجة". وقال: قال ابنُ أبي داود: لم يحدّث به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا معاوية.
روى معاوية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وأخته أم المؤمنين أم حَبِيبة بنت أبي سفيان، وروى عن معاوية من الصحابة: ابن عباس، وأَبو الدرداءِ، وابن عمر، وجَرير البجلي، ومعاوية بن حُديج، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن الزبير، والنعمان بن بشير، وغيرهم، ومن كبار التابعين: مروان بن الحكم، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وقيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، وأبو إدريس الخولاني، وممن بعدهم: عيسى بن طلحة، ومحمد بن جُبير بن مطعم؛ وحميد بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو سِجْلز، وجُبير بن نُفير، وحُمْران مولى عثمان، وعبد الله بن مُحَيْرِيز، وعلقمة بن وقّاص، وعُمير بن هاني، وهمام بن مُنَبّه، وأبو العُرْيان النخعيّ، ومطرف بن عبد الله بن الشخِّير؛ وآخرون.
وروى عبد الله بن عَلْقمة بن وقّاص الليْثي عن أبيه قال: كنتُ عند معاوية، فسمع المؤذن يؤذن فقال مثل قوله حتى بلغ حيّ على الصلاة، فقال: لا حولَ ولا قوة إلا بالله، ثم قال: هكذا سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول.(*) وروى سعد بن إبراهيم عن مَعْبَد الجُهَنِيّ قال: كان معاوية لا يكاد يحدث عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم شيئًا، قال: وكان لا يكاد يدع هؤلاء الكلمات أن يقولهن يوم الجمعة على المنبر عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم: "أن الله إذا أرادَ بعبد خيرًا يفقّهه في الدين، وأن هذا المال حُلو خضر، مَن يأخذ بحقه يبارك له فيه وإياكم والتمادح فإنه الذبح".(*) وروى عَمرو بن يحيى بن سعيد الأموي عن جَدِّه قال: كانت إداوة يحملها أبو هريرة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فاشتكى أبو هريرة فحملها معاوية، فبينما هو يوضئ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، رفع رأسه فقال: "يا معاوية: إن وليتَ مِن أمور المؤمنين شيئًا فاتّق الله واعدل"، فما زلت أظن أني مُبتلى حتى وليت لقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وروى مسلمة عن رجل: أنه رأى معاوية يأكل فقال لعمرو بن العاص: إن ابن عمك هذا لَمِخْضَد، ثم قال: أما إني أقول هذا وقد سمعتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يقول: "اللهم علّمه الكتاب ومكّن له في البلاد وقِهِ العذاب".(*) وروى عَمرو بن حَزْم: أن عمر استعمل معاوية بن أبي سفيان على عمل أخيه، وكتب إليه: إني قد وَلَّيْتُك عملَ يزيد بن أبي سفيان الذي كان يلي، وذلك في كتاب طويل أمره فيه بتقوى الله وما يعمل به في عمله، فكتَب إليه معاوية جواب كتابه، فلم يزل معاوية واليًا لعمر حتى قُتل عمر واستخلف عثمان بن عفّان، فأقره على عمله وأفرده بولاية الشام جميعًا، فاستقضى فضالة بن عبيد بن نافذ الأنصاري. وشخص أبو سفيان بن حرب إلى معاوية بالشام ومعه ابناه عُتبة وعَنبسة، فكتبت هند إلى معاوية: قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحمل عتبة على بغل وأعطه ألفي درهم، واحمل عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل معاوية ذلك، فقال أبو سفيان: اشهد بالله أَنَّ هذا لَعَنْ رأي هند.
وكان عمر إذ دخل الشّام ورأى معاوية قال: هذا كسرى العرب، وكان قد تلقَّاه معاوية في موكب عظيم، فلما دنا منه قال له: أنْتَ صاحب الموكب العظيم؟ قال: نعم يا أميرَ المؤمنين قال: مع ما يبلغني عنك مِنْ وقوف ذوي الحاجات ببابك! قال: مع ما يبلغك من ذلك، قال: ولم تفعل هذا؟ قال: نحن بأَرْضٍ جواسيسُ العدوِّ بها كثيرة، فيجب أن نظْهِر من عِزِّ السّلطان ما نرهبهم به؛ فإِن أمرتني فعلت، وإن نَهيْتَنِي انتهيت، فقال عمر لمعاوية: ما أسألك عن شيء إِلا تركتني في مِثْل رواجب الضّرس، إن كان ما قلْت حقًا إنه لرأي أريب، وإن كان باطلًا إنه لخدعة أديب، قال: فمرني يا أمير المؤمنين، قال: لا آمُرُك ولا أنهاك، فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، ما أَحْسَنَ ما صدَر الفتى عما أوردته فيه! قال: لحُسْنِ مصادِره وموارده جشمناه ما جشمناه.
وروى الوليد بن مسلم: أَنّ فَتْحَ بيت المقدس كان سنة ست عشرة صلحًا، وأنَّ عمر شهد فَتْحَها في حين دخوله الشّام، قال: وفي سنة تسع عشرة كان فتح جَلُولاء، وأميرُها سعد بن أبي وقّاص، ثم كانت قيسارية في ذلك العام، وأميرُها معاوية بن أبي سفيان.
ولما قُتل عثمان كتبت نَائِلَةُ بنت الفُرَافِصَة إلى معاوية كتابًا تصف فيه كيف دُخِلَ على عثمان وكيف قُتِل، وبعثت إليه بقميصه الذي قتل وهو عليه فيه دمه، فقرأ معاوية الكتاب على أهل الشام، وأمر بقميص عثمان فَطِيفَ به في أجناد الشام، ونَعَى إليهم عثمان، وأخبرهم بما أُتي واستحل مِن حرمته، وحرضهم على الطلب بدم عثمان، فبايعوه على الطلب بدم عثمان، وبويع عليّ بن أبي طالب بالمدينة فقال له عبد الله بن العباس والحسن بن علي: اكتب إلى معاوية، فَأَقِرُّه على عمله ولا تحركه، وأَطْمِعه فإنه سيطمع ويكفيك نَفْسَه وناحيته، فإذا بايع الناسُ لك أَقْرَرْتَه أَوْ عَزَلْتَه، قال: فإنه لا يرضى حتى أعطيه عهد الله وميثاقه أن لا أعزله، فقالا: لَا نُعْطِه عَهْدًا ولا ميثاقًا، فبلغ ذلك معاوية فقال: والله لاَ أَلِي له شيئًا أبدًا ولا أُبايعه ولا أقدم عليه، وأظهر بالشام أن الزبير بن العوام قدم عليهم وأنه يبايع له، فلما بلغه خروج الزبير وطَلْحة إلى الجَمَل أمسك عن ذكره، فلما بلغه قتل الزبير قال: يرحم الله أبا عبد الله، أما أنه لو قدم علينا لبايعنا له وكان أهلًا أن نقدمه لها، فلما انصرف عَلِيٌّ من البصرة أرسل جرير بن عبد الله البَجَلي إلى معاوية، فكلّمه، وعظم عليه أمر عليّ وسابقته في الإسلام ومكانه مِن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، واجتماع الناس عليه، وأراده على الدخول في طاعته والبيعة له، فأبى، وجرى بينه وبين جرير كلام كثير، فانصرف جرير إلى علي بن أبي طالب فأخبره بذلك، وكان بينهما من أحداث الفتنة ما كان، وكلٌ مجتهدٌ قصدَ الحق، فرضي الله عن الجميع.
بايع أهل الشام معاوية بالخلافة في ذي القعدة سنة ثمان وثلاثين، وبعث معاوية على الحج ــ سنة تسع وثلاثين ــ يزيدَ بن شَجَرَة الرَّهَاوِىّ، وبعث علي بن أبي طالب في هذه السنة على الموسم عُبَيْدَ الله بن العباس، فاجتمعا بمكة وسأل كل واحد منهما صاحبه أن يسلم إليه، فأبيا جميعًا واصطلحا على أن يصلي بالناس ويحج بهم تلك السنة شَيْبةُ بن عثمان العَبْدَرِىّ، فحج بالناس تلك السنة.
ولما قتل علي واستخلِفَ الحسن بن علي، سار معاوية على العراق، وسار إِليه الحسن بن علي، فلما رأَى الحسن الفتنة وأَن الأَمر عظيم تُرَاق فيه الدماءُ، ورأَى اختلاف أَهل العراق، سَلَّم الأَمر إِلى معاوية، وعاد إِلى المدينة، وتسلم معاوية العراق، وأَتى الكوفة فبايعه الناس، واجتمعوا عليه، فسمي عام الجماعة، فبقي خليفة عشرين سنة، وأَميرًا عشرين سنة، لأَنه ولي دمشق أَربع سنين من خلافة عمر، واثنتي عشرة سنة خلافة عثمان مع ما أَضاف إِليه من باقي الشام، وأَربع سنين تقريبًا أَيام خلافة علي، وستة أَشهر خلافة الحسن، وسلم إِليه الحسن الخلافة سنة إحدى وأَربعين، وقيل: سنة أَربعين، وقال أبو عمر: كان معاوية أميرًا بالشّام نحو عشرين سنة، وخليفةً مثل ذلك، كان من خلافة عمر أميرًا نحو أربعة أعوام، وخلافة عثمان كلّها ــ اثنتي عشرة سنة، وبايع له أَهْلُ الشّام خاصة بالخلافة سنة ثمان أو تسع وثلاثين، واجتمع النّاسُ عليه حين بايع له الحسَنُ بن علي وجماعة ممن معه، وذلك في ربيع أو جمادى سنة إحدى وأربعين، فيسمّى عام الجماعة، وروى عَمرو بن مُرّة عن سعيد بن سُوَيد قال: خَطَبنا معاوية بالنُّخَيْلَة فقال: يا أهل العراق أترون أني إنما قاتلتكم لأنكم لا تُصلون؟ والله إني لأعلم أنكم تُصلون! أو أنكم لا تغتسلون من الجنابة؟! ولكن إنما قاتلتكم لأتأمّر عليكم، فقد أمّرني الله عليكم.
وروى علي بن زيد عن زُرَارةَ بن أَوْفَى: أن معاوية خطَب الناس فقال: يا أيها الناس إنا نحن أحق بهذا الأمر، نحن شجرة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وبَيضته التي انفَلَقَت عنه، ونحن ونحن، فقال صَعْصَعة: فأين بنو هاشم منكم؟ قال: نحن أسوس منهم وهم خير منا، قال: أمرنا بالطاعة، وقال فيها: أنا لكم جُنَّة، فقال صَعْصَعة: فإذا احترقت الجُنَّة فكيف نصنع؟ قال يا أيها الناس: ها، إِنّ هذا تُرَابي، فقال: إِنِّي ترابي، خُلِقْتُ مِن التراب وإلى التراب أَصِير.
واستعمل معاويةُ المغيرةَ بن شعبة على الكوفة على صلاتها وحربها، واستعمل عَلَى الخراج عبد الله بن دَرَّاج مولاه، واستعمل على البصرة عبد الله بن عامر بن كُرَيْز، واستعمل على المدينة أخاه عتبة بن أبي سفيان ثم عزله، واستعمل مروان بن الحَكَم سنة اثنتين وأربعين، واستعمل عَمرو بن العاص على مصر، وَأَقَرَّ فَضَالَةَ بن عُبَيد على قضائه بالشام، وكان يولي الحج كل سنة رجلًا من أهل بيته، ويولي المصائف والمشاتي بأرض الروم كل سنة رجلًا، وحجّ معاوية بالناس سنة خمسين ومرّ بالمدينة، وولى يزيد بن معاوية الموسم فحج بالناس سنة إحدى وخمسين، ثم اعتمر معاوية في رجب سنة ست وخمسين، وقدم المدينة، فكان بينه وبين الحسين بن علي وعبد الله بن عُمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير ما كان من الكلام في البيعة ليزيد بن معاوية.
وروى علي بن محمد عن مَسلمة بن مُحارب قال: مرض معاوية فأرجفَ به مَصقلة بن هُبيرة وساعده قومٌ على ذلك، ثم تماثلَ معاوية وهم يرجفون به، فحمل زياد مَصقلة إلى معاوية، وكتب إليه: إن مصقلة كان يجمع مُرّاقَ أهل العراق فيرجفون بأمير المؤمنين، وقد حملته إليك ليرى عافية الله إياك، فقدم مَصْقَلَةُ وجلس معاوية للناس، فلما دَخل مصقلة قال له معاوية: ادنُ، فدنا فأخذ بيده وجبذه فسقط مصقلة فقال معاوية:
أبقّى الـحوادثُ مِنْ خليـ ـلك مثلَ جَنْدلة المُرَاجِمْ
قَدْ رَامَنِى الأقوامُ قَبْـــــ ـلَك فامتنعتُ مِـنَ المظالِمْ
فقال مصقلة: يا أمير المؤمنين قد أبقى الله منك ما هو أعظم مِن ذلك، حلمًا وكلأ ومَرعى لأوليائك، وسُما ناقعًا لعدوك فمن يَرومك؟ كانت الجاهلية وأبوك سيد المشركين، وأصبح الناس مسلمين وأنت أمير المؤمنين، وأقام مصقلة فوصله معاوية وأذن له في الانصراف إلى الكوفة فقيل له: كيف تركتَ معاوية؟ قال: زعمتم أنه لما بِهِ، والله لَغَمَزَ يَدِي غَمْزة كَادَ يَحْطِمُهَا وَجَبذَنِي جَبْذَة كاد يَكْسِر منّي عضوًا.
وروى عَلْقمة بن أبي عَلْقمة عن أمه قالت: قدم معاوية بن أبي سفيانِ المدينة فأرسل إلى عائشة أن أرسلي إليّ بأَنـْبِجَانِيَّة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وشَعره، فأرسلت به معي أحمله حتى دَخلتُ به عليه فأخذ الأنبجانية فلبسها، وأخذ شعره فدعا بماء فغسله فشَربه وأفاضَ على جلده.
وروى أبو عبيد الله عن عُبَادة بن نُسَيّ قال: خطب معاوية الناس فقال: إِنّي مِن زَرْعٍ قد استَحصد، وقد طالت إِمْرَتِي عليكم حتى مَلَلْتكم ومَلَلَتْموني، وتمنيتُ فراقكم وتمنيتم فراقي، ولا يأتيكم بعدي خير مني، كما أن مَن كان قبلي خير مني، وقد قيل: مَن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه، اللهم أني قد أحببتُ لقاءك فأحبب لقائي. وروى حَكيم بن حَكيم بن عباد بن حُنَيْف: أن معاوية حين حُضِرَ، دعا ابنَه يزيدَ فأوصاهُ بتفوى الله، ثم قال: إني قد أحكمتُ هذا الأمرَ فعليك بالجِدِّ في أمرك والرفقِ بالناس، فإنك إذا رفقتَ بهم أخذت ثمرةَ قلوبهم ما لم يكن رفقك ضعفًا تركب فيجترئ عليك، وقد خلفت بعدي ثلاثة هم أخوف مَن أخاف عليك أن يسفه عليك ما في يديك: حسين بن علي ابن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، أحب الناس إلى الناس، فَصِلْ رَحِمَه وارفُق به يصلح لك أمره، وعبد الله بن الزبير لا هو رطبٌ فَتَعصره ولا يابسًا فَتَكِسِره، فارفق به وَصِلْ رَحِمَه يصلح لك أمره، وعمرو بن سعيد بن العاص هو أطوع الناس عند أهل الشام، فارفق به وأكرمه يصلح لك أمره، الزم عهدي ووصيتي ولا تلقي هذا الكلام منك بظهر.
وروى أبو بكر بن عبد الله بن أَبِي سَبْرَة عن مروان بن أبي سعيد بن المعلَّى قال: قال معاوية ليزيد وهو يوصيه عن الموت: يا يزيد: اتق الله، فقد وَطَّأْتُ لك هذا الأمر، ووليت من ذلك ما وليتُ، فإنْ يكُ خيرًا فأنا أسعدُ به، وإن كان غيرَ ذلك شقيتُ به، فارفق بالناس، وأغض عما بلغك من قول تؤذي به وتنتقص به، وطَأْ عليه يهنك عيشك وتصلح لك رعيتك، وإياك والمناقشة وحمل الغضب فإنك تهلك نفسك ورعيتك، وإيّّاك وَجَبْهَ أهل الشرف واستهانتهم والتكَبُّر عليهم، لِنْ لهم لِينًا لا يَرون منك ضعفًا ولا خورًا، وأوطئهم فَرْشك وقَرّبهم فإنه يُعلمَ لك حقّك، ولا تَهِنْهُم وتَسْتَخِفّ بحقهم فيهينونك ويستخفّون بحقك ويقولون فيك، فإذا أردت أمرًا فادع أهل السِّنّ والتجربة مِن أهل صنائعي والانقطاع إليّ، فشاوِرهم ثم لا تخلفهم، وإياك والاستبداد برأيك، فإن الرأي ليس في صدر واحد، أصدق مَن أشار عليك حتى يجيبك على ما يعرف، ثم أطعه فيما أشار به، واخزن ذلك عن نسائك وخَدَمك، وَشَمِّر إِزَارَك، وتعاهدْ جُنْدَك، وأصلْح نفسك يصلح لك الناس، لا تَدَع لهم فيك مقالًا، فإن الناس سِراع إلى الشرّ، واحضر الصلاة، فإنك إذا فعلتَ ما أوصيتك به عُرِفَ لك حقك، وَعُظِّمْت مع مملكتك. وَشَرِّف أهلَ المدينة ومكة، فإنهم أصلُك وعشيرتُك ونسبُك، وَشَرِّف أهلَ الشام، فإنهم أنصارُك وحُمَاتُك وجندُك الذين تصولُ بهم أهل طاعة، واكتب إلى أهل الأمصار بكتاب تعدهم منك المعروفَ، فإن ذلك يبسط آمالَهم، ووفّد عليك من الكُوَر كلها، فأحسن إليهم وأكرمهم فإنهم لمن وراءَهم، ولا تسمعن قول قَارِفٍ ولاَ مَاحِل، فإني رأيتهم وزراء سوء.
وروى يحيى بن مَعِين قال: حدّثنا العباس بن الوليد النَّرْسِيّ، قال: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول: جاء يزيد بن معاوية في مَرَضِ معاوية فوجد عمَّه محمدَ بن أبي سفيان قاعدًا على الباب لم يُؤْذَنْ له، فأخذ بيده فَأَدْخَلَه، قال: فَاطَّلَعَ في وجه معاوية وقد أُغْمِيَ عليه فقال:
لَوْ أَنَّ حَيًّا يَفُوتُ فَاتَ أبو حَيَّان لا عاجِزٌ وَلاَ وَكِلُ
الحُوَّلُ القُلَّب الأَرِيب وهل يَدْفَعُ وَقْتَ المنية الحِيَلُ
ففتح معاوية عينيه وقال: أي شيء تقول يا يزيد؟ قال: خيرًا يا أمير المؤمنين، أنا مقبل على عمّي أحدثه، فقال معاوية: نعم.
لو أن حَيًا يفوت فات أبو حيان لا عاجز ولا وكلُ
الحوّل القلّب الأريب وهل يدفع وقت المنية الحيلُ
إن أخوف ما أخاف عليَّ شيئًا عملتُه في أمرِك، وأفاق معاوية، وقال: يا بني؛ إني صحبتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فخرج لحاجةٍ فاتبعته بإداوة، فكساني أحَدَ ثوبيه الذي كان على جِلْدِه، فخبأته لهذا اليوم، وأخذ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من أظفاره وشعره ذات يوم، فأخذْتُه وخبأته لهذا اليوم، فإذا أنا مِتّ فاجعل ذلك القميصَ دون كَفَني مما يلي جلدي، وخُذْ ذلك الشّعر والأظفارَ فاجعَلْه في فمي، وعلى عيني ومواضع السّجود منّي، فإن نفع شيء فذاك، وإلا فإِنَّ الله غَفورٌ رحيم(*).
وروى عبد الأعلى بن ميمون بن مهران عن أبيه: أن معاوية قال في مرضه الذي مات فيه: كنتُ أُوَضِّىءُ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقال لي: "ألا أكسوك قميصًا؟" قلت: بَلَى، بأبي أنت وأمي، فنزع قميصًا كان عليه فكسانيه فلبسته لبسة ثم رفعته، وقَلَّم أَظْفَارَه فأخذتُ القُلَامَةَ فجعلتها في قارورة، فإذا متّ فاجعلوا قميص رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يَلي جلدي وقطعوا تلك القلامة واسحقوها واجعلوها في عيني فَعَسى(*).
وكان يتمثَّلُ وهو قد احتضر:
فَهَلْ مِنْ خَالِدٍ إِمَّا هَلَكْنَا وَهَلْ بِالمَوْتِ يَا للَنَّاسِ عَار
وروى سليمان بن المغيرة حُمَيد بن هلال عن أَبِي بُرْدَة بن أبي موسى قال: دَخلتُ عَلَى معاوية حين أصابته قَرْحَتُه فقال: هَلُمَّ ابنَ أَخِي، تَحَوَّل فانظر، فتحولت فنظرت فإذا هي قد سُبِرَتْ. وروى أبو يعقوب الثَّقَفِىّ عن عبد المالك بن عمير قال: لما ثقل معاوية، وتحدث الناس أنه بالموت، قال لأهله: احشوا عيني إثمِدًا، وأوسِعوا رأسي دهنًا، ففعلوا وبَرَّقُوا وجهه بالدّهن، ثم مُهِّدَ له فجلس، ثم قال: أئذنوا للناس فليسلموا قيامًا ولا يجلس أحد، فجعل الرجل يدخل فيسلم قائمًا فيراه مُتَكَحِّلًا مدهنًا فيقول: يقول الناس: هو لِمَا به، وهو أَصَحُّ الناس، فلما خرجوا مِن عنده قال معاوية:
وَتَجَلـُّدِى للشَّــــــامِتِينَ أرِيهـــــم أَنِّى لِرَيب الدَّهْــرِ لاَ أَتَضَعْضَــعُ
وَإِذَا الْمَنِيَّـةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَـارَهَا أَلْفَيْتَ كُلُّ تَمِيمَـــــةٍ لاَ تَنْفَــــــــعُ
قال: وكان به النَّقَّابة فمات من يومه ذلك.
وروى أَبوطَيْبَة الحِمَّانِي عن شَبّة بن عقال قال: أغمي على معاوية في مرضه الذي مات فيه، فقالت ابنته رملة أو امرأة من أهله متمثلة شعرًا للأَشْهَب بن رُمَيْلَة النَّهْشَلِيّ يمدح القُباع وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:
إنْ مــات مــات الجُــــود وانقطــــع النَّدَى مــن الناس إلّا مـــن قليـــل مُصَـــــرَّدِ
وَرُدَّتْ أَكُــــــفُّ الســــائليــن وأَمْسَكُــــوا مـــن الدِّين والدنيـــا بخُلْفٍ مُجَــــدَّدِ
وتُوفِّي في النّصف من رجب سنة ستين بدمشق، ودُفِن بها، وهو ابنُ ثمان وسبعين سنة، وقيل: ابن ستّ وثمانين، وقيل: مات معاوية في رجب سنة ستين، وكانت خلافتُه تسع عشرة سنة ونصفًا، وقيل: تُوفِّي معاوية بدمشق، ودفن بها يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب سنة تسع وخمسين، وهو ابنُ اثنتين وثمانين سنة، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وعشرين يومًا.
وروى سليمان بن أيوب عن عَمرو بن ميمون وعن غيره قالوا: لما مات معاوية أُخرجت أكفانه فوضعت على المنبر، ثم قام الضَّحَّاك بن قَيْس الفِهْرِيّ خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أمير المؤمنين معاوية كان في جَدّ العرب وَعَوَذ العرب، وَحَدّ العرب قطع الله به الفتنة، وملَّكه على العباد وَسَيَّر جنوده في البر والبحر وبسط به الدنيا، وكان عبدًا من عَبِيد الله، دعاه الله فأجابه، فقد قضى نحبه، رحمة الله عليه وهذه أكفانه، فنحن مُدْرِجُوه فيها، ومُدْخلوه قبره، ومُخلوه وعمله، فيما بينه وبين ربه، إن شاء رحمه وإن شاء عذّبه، ثم هو الهَرْج إلى يوم القيامة، فمن أراد حضوره بعد الظهر فليحضره، فإنا رائحون به، وصلى عليه الضَّحّاك بن قَيْس الفِهْرِيّ، وكان يزيد غائبًا ــ حين مات ــ بِحُوَّارِين، فلما ثقل معاوية أرسل إليه الضحاك فقدم، وقد مات معاوية ودفن، فلم يأتِ منزله حتى أتى قبره، فصلّى عليه ودعا له، ثم أتى منزله فقال:
جــاء البَرِيــــدُ بِقِـرْطَــاسٍ يَخُــــبّ بـه فَأَوْجَـس القَلْبُ مِـنْ قِـرْطَـاسِه فَـزَعَا
قُلْنَا: لَكَ الـوَيـْلُ مَاذَا فِي صَحِيفَتِكم قــال الخليفـة أمسَـى مثبتًـا وَجعَـــــــا
فَمَـادَت الأرضُ أو كَـادَتْ تَمِيدُ بنـا كَــأَنَّ أَعْيَــنَ مِـنْ أركـانهـا انْقَلَعَـــــــــــــا
لمـــــا انتَهَيْنَــا وبــابُ الـدَّارِ مُنْصَفِـقٌ لِصَــــوْتِ رَمْلَةَ رِيعَ الْقَلْبُ فَانْصَــدَعَا
مَـــــنْ لَا تَزَلْ نَفْسُه تُوفي على شرفٍ توشـكُ مقاديرُ تلك النفـس أن تَقَعَـا
أودى ابنُ هند وأودى المجـدُ يَتْبَعـُه كانـــا يكــونـــا جميعًــا قَـاطِنَيْــنِ مَعَـــا
أَغَــــرّ أَبْلَـــج يُسْتَسْقَى الغَمــــامُ بــــه لـــو قــارعَ النـاسَ عـن أحلامهم قَرَعا
ومـــــا أُبــــالي إذا أَدْرَكْـــن مُهجتَــــه مَـــن مــات منهنَّ بالبَيـــداء أو ظلعــا
ثم خطَب يزيد الناس فقال: إن معاوية كان عبدًا من عبيد الله، أنعم الله عليه، ثم قَبَضَه إليه، وهو خيرٌ ممن بعده ودون مَن فوقه، ولا أزكيه على الله هو أعلم به، إِنْ عَفَا عنه فبرحمته وإن عاقَبه فبذنبه، وقد وُلِّيتُ الأمرَ من بعده، ولستُ آسى على طلب ولا أعتذر من تفريط، وإذا أراد الله شيئًا كان، اذكروا الله واستغفروه، فقال أَبُو الوَرْد العنبري يرثي معاوية:
أَلا أَنْعَــى معاويـةَ بن حَـــــرْبٍ نَعَــاهُ الحِــــلُّ للشهـــــــــر الحـــــــرامِ
نَعَــاهُ النَّاعِجــَاتُ بكل فَـــــــجّ خواضـــــع في الأَزِمَّـــةِ كالسِّهَــــامِ
هَاتِيك النُّجــوم وهُنّ خُـــرْسٌ يَنُحْـــــنَ على مُعاويـــــــــة الشــآم
وقال أيمن بن خريم:
رَمَى الحَدَثانُ نِسْوَةَ آل حرب بمقــــــدارٍ سَمَـدْن لــــه سُمُـــــودا
فَــرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّـــودَ بِيضًا وردّ وجــــوهَهُنَّ البيــــضَ سُــودا
فإنَّك لَــوْ شَهِدْتَ بكاءَ هِنْــدٍ وَرَمْلــةَ إِذْ يُصَفِّقْـــــنَ الخُـــــــدَودَا
بكيتَ بكــاءَ مُعْــــوِلةٍ قَــرِيــحٍ أصاب الدَّهْرُ وَاحِدَها الفقيدا
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال