تسجيل الدخول

حادثة يوم الرجيع

وفي شهر صفر من سنة ثلاث من الهجرة، قدم على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد أحد وفدٌ من عُضَل والقارّة، فقالوا: يا رسول الله؛ إن فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا من أصحابك، يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام.
فبعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم معهم نفرًا من أصحابه؛ وهم: مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البكير، وعاصم بن ثابت، وخُبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق. وأمَّر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على القوم مرثد بن أبي مرثد، فخرج مع القوم، حتى إذا كانوا على الرجيع، وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز، غدروا بهم، وسلموهم لهذيل في كمين أعدوه لهم.
ففوجىء المسلمون، وهم في رحالهم، بالرجال وفي أيديهم السيوف، ومعهم ما يقرب من مائة رامٍ، وأحاطوا بهم، فأخذ المسلمون أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: إنا والله ما نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئًا من أهل مكة، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم.
فأما مرثد بن أبي مرثد، وخالد بن البَكير، وعاصم بن ثابت، فقالوا: والله لا نقبل من مشرك عهدًا ولا عقدًا أبدًا.
فقاتل عاصم بن ثابت القومَ حتى قُتِل، وقُتِل صاحباه. فلما قُتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه؛ ليبيعوه من سُلَافة بنت سعد بن شهيد؛ وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفهِ (جمجمته) الخمرَ، فحالت بينه وبينهم النحل والزنابير، فقالوا: دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث الله الريح في الوادي، فاحتمل عاصمًا فذهب به.
وكان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك، ولا يمس مشركًا أبدًا؛ لأنهم نجس، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول، حين بلغه أن النحل منعه: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته.
وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق، فلانوا ورقّوا ورغبوا في الحياة، فاستسلموا فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة، ليبيعوهم بها، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القيد ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة، فقُبِرَ رحمه الله بالظهران.
وأما خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة، فقدموا بهما مكة، فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة، فابتاع خبيبًا حجير بن أبي إهاب لعقبة بن الحارث بن عامر، ليقتله بأبيه.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف. وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له، يقال له نسطاس إلى التنعيم، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه، واجتمع رهط من قريش، فيهم أبو سفيان بن حرب، فقال له أبو سفيان، حين قُدم ليقتل: أنشدك الله يا زيد (أي: أستحلفك بالله) أتحب أن محمدًا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ قال: والله ما أحب أن محمدًا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وإني جالس في أهلي. يقول أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمدٍ محمدًا.ثم قتله نسطاس.
عن ماويّة مولاة حجير بن أبي إهاب ــ وكانت قد أسلمت ــ قالت: كان خبيب بن عدى حُبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يومًا، وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في أرض الله عنبًا يُؤكل ذلك الحين، قال لي حين حضره القتل: ابعثي إليّ بحديدة (أي: موسي أو سكين أو ما شابه) أتطهر بها للقتل، فأعطيت غلامًا من الحي الموسي.
فقلت: ادخل بها على هذا الرجل البيت. قالت: فوالله ما هو إلا أن ولى الغلام بها إليه، فقلت (في نفسي): ماذا صنعت؟! أصاب والله الرجل ثأره بقتل هذا الغلام، فيكون رجلًا برجل، فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: لعمرك ما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة إليّ؟! ثم خلى سبيله.
ثم خرجوا بخبيب حتى إذا جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه قال لهم: إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا. قالوا: دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما، ثم أقبل على القوم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعًا من القتل لاستكثرت من الصلاة، فكان خبيب بن عدي أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين.
ثم صلبوه على خشبة، فلما أوثقوه قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة الرسول، فبلغه الغداة ما يُصنع بنا، ثم قال: اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا (أي: واحدا واحدا، فلا يفلت منهم أحد) ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه رحمه الله، ووكّلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري فأخذه منهم ليلًا بخدعة، وذهب به فدفنه.
فكان معاوية بن أبي سفيان يقول: حضرته يومئذ فيمن حضره مع أبي سفيان، فلقد رأيت أبا سفيان يلقيني على الأرض فَرَقًا (أي: خوفًا) من دعوة خبيب، وكانوا يقولون: إن الرجل إذا دُعي عليه فاضطجع على جنبه زالت عنه.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل سعيد بن عامر بن حذيم الجمحى على بعض بلاد الشام، فكانت تصيبة غشية وهو بين وسط القوم، فذُكِرَ ذلك لعمر بن الخطاب، وقيل: إن الرجل مصاب، فسأله عمر عندما قدم عليه، فقال: سعيد، ما هذا الذي يصيبك؟ فقال سغيد: والله يا أمير المؤمنين ما بي من بأس، ولكني كنت فيمن حضر خبيب بن عدى حين قتل، وسمعت دعوته، فوالله ما خطرت على قلبي وأنا في مجلس قط إلا غُشي عليّ، فزادته عند عمر خيرا.
قال ابن عباس: لما أُصيبت السرية التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع، قال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهلهم، ولاهم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل الله تعالى في ذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، أي: لما يُظهر من الإسلام بلسانه: {وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} وهو مخالف لما يقوله بلسانه: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك: {وَإِذَا تَوَلَّى}، أي: خرج من عندك: {سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، أي: لا يحب عمله ولا يرضاه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ. وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 204 ــ 207]، أي: قد شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله، والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك، يعني: تلك السرية.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال