تسجيل الدخول

مسجد الضرار

سلك النبي صَلَّى الله عليه وسلم مع الذين يتظاهرون بالإسلام طريق الملاينة والإغضاء، يقبل منهم أعذارهم ويتكرم عن فضحهم، وهم يتفلتون من قيود السمع والطاعة، فإذا تلبّس أحدهم بخيانة تهدر دمه، رغب في التجاوز عنه حتى لا يقال: إن محمد يقتل أصحابه، وما هم في صحبته من شيء، ولكن هكذا سيقول الناس.
ولو أن هؤلاء المنافقين كانوا على قليل من الخير، لأسرهم هذا الحلم وانخلعوا من خداعهم الصغير وأقبلوا على الإسلام طيبين خالصين، بيد أن هذا الأسلوب العالي في معاملتهم لم يزدهم على الله ورسوله إلا جرأة، فزاد إجرامهم وكثرت شرورهم، ولم يبق بد من كشف خبثهم، وإشعار جمهور الأمة بما تنطوى عليه نفوسهم وأعمالهم.
وقد نزلت الآيات تندد بما فعل ويفعل أولئك المنافقون، وتمزّق الأستار التى يتوارون خلفها، وكانت ألاعيبهم قبل تبوك وبعدها هي النهاية الحاسمة للسماحة التى مرحوا في سعتها طويلا ولم يقدروها حق قدرها، فأُمر النبي صَلَّى الله عليه وسلم أن يعلن على الناس ارتيابهم في الحق وبعدهم عن الصدق، وكُلف ألا يقبل منهم وألا يصلي عليهم، بل عرف أن استغفاره لهم لن يجاب.
روى نفرٌ من الصحابة أنه كان في المدينة رجل من الخزرج اسمه أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية وله مكانة كبيرة في الخزرج، فلما قدم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام كلمة عالية، شرق أبو عامر بريقه وأظهر العداوة لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم خرج فارًّا إلى كفار مكة من مشركي قريش يشاركهم في حرب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم أنه لما رأى أمر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في تقدم وارتفاع، ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فوعده ومناه، فأقام عنده وكتب إلى جماعة من قومه من منافقي المدينة يعدهم بما وعده به هرقل، وأمرهم أن يتخذوا له مَعْقِلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لتوصيل كتبه، ويكون مرصدًا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.
فشرعوا في بناء مسجد قريب من مسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته، وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلّة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه وقال: "إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله" فلما عاد عليه الصلاة والسلام راجعًا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين، فبعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هَدَمه قبل مقدمه إلى المدينة، ونزل قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 107. 108].
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال