تسجيل الدخول


أبو بكر الصديق بن أبي قحافة

أبو بكر الصّديق:
واسمه عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمر، وقيل: اسم أبي قحافة: عثمان بن عامر بن عمرو القرشيّ التيميّ، وقيل: أبو قُحافة كان اسمه عتيقًا، وقيل: اسم أبي بكر عتيق بن عثمان.
أَخرجه أَبو عمر. وكان أبو بكر اسمه في الجاهليّة عبد الكعبة، فسمّاه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عبد الله‏، وكان يقال له:‏ عَتيق، واختلف العلماء في المعنى الذي قيل له به عتيق‏، فقال اللّيث بن سعد وجماعة معه‏: إنما قيل له عتيق جماله وعتاقة وجهه‏، ‏وقال مصعب الزّبيري، وطائفة من أهل النّسب‏: إِنما سمي أبو بكر عتيقًا؛ لأنه لم يكن في نسبه شيء يعاب به،‏ وقال آخرون:‏ كان له أخوان، أحدهما:‏ يسمى عتيقًا، والآخر فتيق مات عتيق قبله، فسُمي باسمه‏.
روت عائشة بنت طلحة، عن عائشة أمّ المؤمنين قالت: إنّي لفي بيت رسول الله، وأصحابه في الفِناء، وبيني وبينهم السّتْرُ إذ أقبل أبو بكر، فقال رسول الله: "مَنْ سَرّه أن ينظر إلى عتيقٍ من النّار فلينظر إلى هذا"، قالت: وإنّ اسمه الذي سمّاه به أهلهُ لعبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو لكن غلب عليه عتيق(*).
وروى أبو وَهْب مولى أبي هُريرة أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال ليلةَ أُسْرِيَ به: "قلتُ لجبريل إنّ قومي لا يُصَدّقونني"، فقال له جبريل: يُصَدّقك أبو بكر، وهو الصّدّيق(*). وروى عروة، عن عائشة قالت: لما أُسْرِي بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم إِلى المسجد الأَقصى، أَصبح يُحَدِّث بذلك الناس، فارتدَّ ناس مِمَّن كان آمن، وصدق به، وفُتِنُوا فقال أَبو بكر: إِني لأُصدقه فيما هو أَبعد من ذلك أُصدّقه بخبر السماءِ غَدْوَة أَو رَوْحَة، فلذلك سمي أَبو بكر الصدِّيق.
وروى عبد الرحمن بن القاسم بن محمد، عن أبيه، قال: سألتُ عائشة عن اسم أبي بكر، فقالت: عبد الله، فقلت: إنَّ الناس يقولون عتِيق؟ قالت: إن أبا قُحافة كان له ثلاثة أولاد فسمَّى واحدًا عَتِيقًا، والثاني معتقًا، والثالث عُتَيقًا؛ أي بالتصغير. وقال ابن أبي مُليكة: كان اسم أبي بكر عبد الله، وإنما كان عتيق لقبًا. وفي تاريخ الفضل بن دُكين: سمي عَتِيقًا لأنه قديم في الخير. وقال الفلاس في تاريخه: سمي عتيقًا لعتاقة وَجْهه.
وروى عيسى بن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن جده: كانت أمّ أبي بكر لا يعيش لها وَلد، فلما ولدته استقبلت به البيت، فقالت: اللهم إن هذا عتيقك من الموت، فهَبْهُ لي. وسُمي الصّديق لبداره إلى تصديق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في كل ما جاء به صَلَّى الله عليه وسلم. وُلِدَ أبو بكر بعد الفيل بسنتين وستة أشهر، وقيل: ولد بعد الفيل بثلاث سنين، وقيل: وُلد بعد الفيل بسنتين وأَربعة أَشهر إِلا أَيَّامًا، وأُم أبي بكر هي: أُم الخَيْر سَلْمَى بنت صخر بن عامر، وهي ابنة عَمّ أَبي قحافة، وقيل: اسمها: ليلى بنت صخر بن عامر، وقال محمد بن سلام‏: قلت لابن دأب‏: مَنْ أم أَبي بكر الصّديق؟ فقال‏: أم الخير، هذا اسمها.
وروى إسحاق بن يحيَى بن طلحة قال: سمعتُ مُجاهدًا يقول: كُلّمَ أبو قُحافة في ميراثه من أبي بكر الصدّيق رحمه الله، فقال: قد رَدَدتُ ذلك على ولد أبي بكر، قالوا: ثمّ لم يَعِشْ أبو قحافة بعد أبي بكر إلاّ ستّة أشهر وأيّامًا، وتوفّي في المحرّم سنة أربع عشرة بمكّة وهو ابن سبع وتسعين سنة. وكان لأبي بكر من الولد عبدُ الله، وأسْماء ذات النّطاقين؛ وأمّهما قُتيلة بنت عبد العُزّى بن عبد أسعد، وعبد الرّحمن، وعائشة؛ وأمّهما أمّ رومان بنت عامر بن عُويمر، ومحمّد بن أبي بكر؛ وأمّه أسماء بنت عُميس بن مَعْد، وأمّ كلثوم بنت أبي بكر؛ وأمّها حبيبة بنت خارجة بن زيد، وكانت بها نَسْأً ــ أي تأخر حيضها ــ فلمّا توفّي أبو بكر وَلدت بعده.
وكان أَولَ من أَسلم من الرجال، وأَسلم أَبواه له، ولوالديه، ولولده، وولد ولده صحبة ــ رضي الله عنهم. وَرُوِيَ أنّ رجلًا من أبناء أصحابِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال في مجلسٍ فيه القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّديق:‏‏ والله ما كان لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من مَوْطِن إلَّا وعليٌّ معه فيه،‏ فقال القاسم‏: يا أخي، لا تحلف،‏ قال:‏ هلم،‏ ‏قال:‏ ‏بلى، ما ترده،‏ قال الله تعالى:‏‏ {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَار} [التوبة 41‏].
روى شُعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرّحمن بن أبي بكر الصّدّيق عن أبيه عن عائشة أنها نظرت إلى رجل من العرب مارًّا وهي في هَوْدَجها، فقالت: ما رأيْتُ رجلًا أشبه بأبي بكر من هذا، فقلنا: صِفي لنا أبا بكر، فقالت: رجلٌ أبيض، نحيف، خفيف العارضين، أجْنَأ ــ والأجنأ: الذي في كاهله انحِناءُ على صدره، لا يَسْتَمْسِكُ إزارُه يَسْتَرْخي عن حَقْويْه، معروقُ الوجه ــ قليل لحم الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، هذه صفته. وروى عروة عن عائشة أنّ أبا بكر كان يخضب بالحنّاء والكتم. وروى عُمارة عن عمّه قال: مررتُ بأبي بكر وهو خليفة يومئذٍ ولحيته حمراء قانيةٌ.
وروى أبو عون، عن شيخ من بني أسد قال: رأيتُ أبا بكر في غزوة ذات السلاسل كأنّ لحيتَه لُهاب العَرْفَج، شيخًا، خفيفًا، أبيض، على ناقة له أدماءَ. وروى ثابت عن أبي جعفر الأنصاريّ قال: رأيتُ أبا بكر الصّدّيق ورأسه، ولحيته كأّنهما جَمْرُ الغَضا. وروى أبو سلمة بن عبد الرّحمن، أنّ عبد الرّحمن بن الأسود بن عبد يَغوث، وكان جليسًا لهم، كان أبيض الرأس واللحية، فغدا عليهم ذاتَ يوم وقد حمّرها فقال له القوم: هذا أحْسَنُ، فقال: إنّ أمّي عائشة أرسلتّ إليّ البارحة جاريتها نُخيلة فأقسمتْ عليّ لأصْبُغَنّ، وأخْبرَتْني أنّ أبا بكر كان يَصْبُغُ. وروى ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزّبير أنّ عائشة قالت صَبَغَ أبو بكر بالحنّاء والكتَم.
سُئل أنس بن مالك أخضب رسول الله؟ فقال: لم يَشِنْه الشّيْبُ، ولكِنْ خضب أبو بكر بالحنّاء، وخضب عمرُ بالحنّاء. وروى نافع بن جُبير بن مُطعم قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، "غيّروا ولا تَشبّهوا باليهود"(*)، قال: فصبَغَ أبو بكر بالحنّاء والكتم، وصبغ عمر فاشتَدّ صبْغُه، وصفّر عثمان بن عفّان، قال: فقيل لنافع بن جُبير: فالنّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: كان يَمَسّ السّدْرَ، قال ابن جُريج، وقال عطاء الخراسانيّ: إنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "منْ أجْمَلِ ما تَجَمَّلُونَ به الحنّاء والكتم"(*).
وروى حِبّان الصائغ قال: كان نقش خاتم أبي بكر: "نعم القادر الله"، وقيل: كان نقش خاتمه:‏ "عبد ذليل لرب جليل". وروى جعفر بن محمد، عن أبيه أنّ أبا بكر الصدّيق تختّم في اليسار. وأخرج ابنُ أبي الدنيا، عن الزّهري: كان ــ يعني: أبا بكر ــ أبيض، لطيفًا، جَعْدًا، مشرف الوركين.
وقال ميمون بن مهران: لقد آمن أبو بكر بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم مِنْ زمن بَحِيرا الراهب، واختلف بينه، وبين خديجة حتى تزوجها، وذلك قبل أن يُولد عليّ، وكان أَبو بكر رضي الله عنه من رؤُساءِ قريش في الجاهلية، مُحَبَّبًا فيهم، مَألَفًا لهم، وكان إِليه الأَشْنَاقُ ــ يعني: الدِّيَات ــ في الجاهلية، وكان إِذا حَمَل شيئًا صَدَّقته قريش وأَمضوا حَمَالَتَه، وَحَمالة من قام معه، وإِن احتملها غيره خذلوه، ولم يصدقوه، فلما جاءَ الإِسلامُ سَبَقَ إِليه، وأَسلم على يده جماعة لمحبتهم له، وميلهم إِليه، حتى إِنه أَسلم على يده خَمْسَةٌ من العشرة، وقد ذهب جماعة من العلماءِ إِلى أَنه أَول من أَسلم، منهم: ابن عباس، وقاله حسان بن ثابت في شعره، وعَمْرو بن عَبُسَة، وإِبراهيم النَّخَعِي، وغيرهم.
وروى محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللّه التَّمِيمي أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال: "مَا دَعَوْتُ أَحَدًا إِلَى الْإِسْلَامِ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ عَنْهُ كَبْوَةٌ وَتَرَدُّدٌّ وَنَظَرٌّ، إِلاَّ أَبَا بَكْرٍ مَا عَتَّمَ حِيْنَ ذَكَرْتُهُ لَهُ مَا تَرَدَّدَ فِيْهِ"(*). وروى عيسى بن يَزِيدَ قال: قال أَبو بكر الصديق: كنت جالسًا بفناءِ الكعبة، وكان زيد بن عمرو بن نُفَيْل قاعدًا، فمر به أُمَيَّة بن أَبي الصَّلْت، فقال: كيف أَصبحت يا باغي الخير؟ قال: بخير، قال: هل وجدت؟ قال: لا، ولم آلُ مِنْ طلب، فقال:
كُلُّ دِيْنٍ يَوْمَ الْقِيَامَـةِ إِلاَّ مَا قَضَى الْلَّهُ وَالْحَنِيْفَةُ، بُـورُ
أَما إِن هذا النبي الذي ينتظر مِنَّا أَو منكم، أَو من أَهل فلسطين، قال: ولم أَكن سمعتُ قبل ذلك بنَبئ يُنْتَظَر أَو يُبْعَث، قال: فخرجتُ أُريد وَرَقَةَ بن نوفل، وكان كثير النظر في السماءِ، كثير هَمْهَمَةِ الصَدر، قال: فاستوقفتُه ثم اقتصصت عليه الحديث، فقال: نَعَم يا ابن أَخي، أَبَى أَهلُ الكتاب والعلماءُ إِلا أَن هذا النبي الذي ينتظر من أَوسط العرب نسبًا، ولي علمٌ بالنسب، وقومك أَوسط العرب نسبًا، قال: قلت: يا عَمِّ، وما يقول النبي؟ قال: يقول ما قيل له إِلا أَنه لا ظُلْمَ ولا تظالمُ، فلما بُعِث النبي صَلَّى الله عليه وسلم آمنتُ وصدقتُ.
وروى عبد اللّه بن مسعود قال: قال أَبو بكر الصديق: إِنه خرج إِلى اليمن قبل أَن يبعث النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فنزلتُ على شيخ من الأَزْد عالمٍ قد قرأَ الكتب، وعَلَم من علم الناس كثيرًا، فلما رآني قال: أَحسبك حِرْمِيًّا؟ قال أَبو بكر: نعم، أَنا من أَهل الحَرم، قال: وأَحسبك قرَشِيًّا؟ قلت: نعم، أَنا من قُرَيْش، قال: وأَحسبك تَيْمِيًا، قلت: نعم، أَنا من تَيْم بن مُرَّة، أَنا عبدُ اللّه بن عثمان، من ولد كعب بن سعد بن تيم بن مُرَّة، قال: بَقِيَت لي فيك واحدة، قلت: ما هي؟ قال: تكشف عن بطنك، قلت: لا أَفعل أَو تُخْبِرَني لم ذاك؟ قال: أَجد في العلم الصحيح الصادق أَن نبيًّا يبعث في الحرم، يعاون على أَمره فتى وكهل، فأَما الفتى: فخواض غَمَرَات، ودَفَّاع مُعْضِلات، وأَما الكَهْل: فأَبيضُ، نحيفٌ، على بطنه شَامَةٌ، وعلى فخذه اليُسْرَى عَلاَمة، وما عليك أَن تريني ما سأَلتك، فقد تكاملت لي فيك الصفة إِلا ما خفي عَلَيَّ، قال أَبو بكر: فكشفتُ له عن بطني، فرأَى شَامَةً سَوْدَاءَ فـوق سُرَّتي، فقال: أَنت هو ورب الكعبة، وإِني متقدّم إِليك في أَمرِ فاحْذَره، قال أَبو بكر قلت: وما هو؟ قال: إِياك والميلَ عن الهدى، وتَمَسَّك بالطريقة المثلى الوسطى، وخَف الله فيما خَوَّلك وأَعْطاك، قال أَبو بكر: فقضيت باليمن أَربي، ثم أَتيت الشيخ لأُودِّعه، فقال: أَحَامِل عني أَبياتًا من الشعر قلتها في ذلك النبي؟ قلت: نعم، فذكر أَبياتًا، قال أَبو بكر: فقدمت مكة، وقد بُعِث النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فجاءَني عقبة بن أَبي مُعَيْط، وشَيْبَة، ورَبيعة، وأَبو جَهْل، وأَبو البختريّ، وصناديد قريش، فقلت لهم: هل نابتَكم نائبة، أَو ظهر فيكم أَمرٌ؟ قالوا: يا أَبا بكر، أَعظم الخَطْب: يتيم أَبي طالب يزعم أَنه نبي، ولولا أَنت ما انتظرنا به، فإِذ قد جئت فأَنت الغاية والكفاية، قال أَبو بكر: فصرفتهم على أَحسن مَسِّ، وسأَلت عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، فقيل: في منزل خديجة، فقرعتُ عليه البابَ، فخرج إِلي، فقلت: يا محمد، فقدت من منازل أَهلك، وتركت دين آبائك وأَجدادك؟، قال: "يا أَبا بكر، إِني رسولُ الله إِليك وإِلى الناس كلِّهم، فآمِنْ بالله"، فقلت: ما دليلك على ذلك؟ قال: "الشيخ الذي لقيت باليمن"، قلت: وكم من شيخ لقيتُ باليمن؟ قال: "الشيخ الذي أَفادك الأَبيات"، قلت: ومن خَبَّرَكَ بهذا يا حبيبي؟ قال: "المَلَكُ المعظم الذي يأَتي الأَنبياءَ قبلي"، قلت: مُدَّ يَدَك، فأَنا أَشهد أَن لا إِله إِلا الله، وأَنك رسول الله، قال أَبو بكر: فانصرفت، وما بين لاَبَتَيْها أَشد سُرورًا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بإِسلامي.
وروى الشعبي قال: سأَلت ابن عباس: من أَول من أَسلم؟ قال: أَبو بكر، أَما سمعت قول حسان:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَـةٍ فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرِ بِمَا فَعَـلَا
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَــــــا وَأَعْـدَلـَـــــهَا بَعْدَ الْنَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَـمَـلَا
الثَّانِي التَّالِي المَحْمُودَ مَشْهَـــــــدُه وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الْرُّسُـلاَ
وروى أَبو سَلاَّم الحَبَشِي: أَنه سمع عمرو بن عَبْسة السُّلَمي يقول: أُلْقِيَ في رُوعي أَن عبادة الأَوثان باطل، فسمعني رجل وأَنا أَتكلم بذلك، فقال: يا عَمْرو، بمكة رجل يقول كما تقول، قال: فأَقبلت إِلى مكة أَسأَل عنه، فأُخْبِرتُ أَنه مختف لا أَقدر عليه إِلا بالليل يطوف بالبيت، فقمت بين الكعبة وأَستارها، فما علمت إِلا بصوته يُهَلِّل الله، فخرجت إِليه فقلت: ما أَنت؟ قال: "رسول الله"، فقلت: وبم أَرسلك؟ قال: "أَن يُعبَدَ الله ولا يُشرَك به شيءٌ وتُحقَن الدِّماءَ، وتُوصَل الأَرحام"، قلت: ومن معك على هذا؟ قال: "حر وعبد". فقلت: ابسط يدك أَبايعْك، فبسط يده فبايعتُه، فلقد رأَيتني وإِني لرابع الإِسلام أخرجه أحمد في المسند 4 / 111، 114.. وروى أَبو سعيد قال: قال أَبو بكر: أَلَسْتُ أَحقَّ الناس بها؟ يَعني الخلافَة ــ أَلستُ أَولُ من أَسلمَ؟ أَلستُ صاحبَ كذا؟ أَلستُ صاحبَ كذا؟ أخرجه الترمذي في السنن 5 / 571 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3667 وقال أبو عيسى هذا حديث غريب. وقال إِبراهيم النَّخَعي: أَول من أَسلم أَبو بكر رضي الله عنه. وروت أسماء بنت أبي بكر قالت: أسلم أبي أوّل المسلمين ولا والله ما عقلت أبي إلا وهو يَدينُ الدّينَ. وروى الجريري، عن أبي نضرة، قال‏: قال أبو بكر لعلي رضي الله عنهما:‏ أَنا أَسلمت قبلك‏... ‏في حديث ذكره، فلم ينكر عليه.
وروى هشام بن عروة عن أبيه أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصّدّيق: "قد أُمِرْتُ بالخروج"، يعني: الهجرة، فقال أبو بكر: الصّحْبَةَ يا رسول الله، قال: "لك الصحبة"، قال: فخرجا حتّى أتيا ثورًا فاختبيا فيه فكان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بخبر أهل مكّة باللّيل، ثمّ يصبح بين أظهرهم كأنّه بات بها، وكان عامر بن فُهيرة يرعى غنمًا لأبي بكر، فكان يريحها عليهما، فيشربان من اللبن، وكانت أسماء تجعل لهما طعامًا فتبعث به إليهما، فجعلت طعامًا في سُفْرَةٍ فلم تجد شيئًا تربطها به، فقطعت نطاقها، فربطتها به؛ فسُمّيَت ذات النّطاقَين. وفي رواية: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إني قد أُمِرْتُ بالهجرة"، وكان لأبي بكر بعير، واشترى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعيرًا آخر فركب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعيرًا، وركب أبو بكر بعيرًا، وركب آخر ــ فيما يعلم حمّادٌ ــ عامرُ بن فُهيرة بعيرًا، فكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يَثْقُلُ على البعير فيتحَوّل رسول الله على بعير أبي بكر، ويتحوّل أبو بكر إلى بعير عامر بن فُهيرة، ويتحوّل عامر بن فُهيرة إلى بعير رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فيُثْقَلُ بعير أبي بكر حين يَرْكَبُه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فاستقبلتهما هَدِيّةٌ من الشأم من طلحة بن عُبيد الله إلى أبي بكر فيها ثياب بياض من ثياب الشأم فلبساها فدخلا المدينة في ثياب بياض(*).
روى عروة عن عائشة قالت: كان خروج أبي بكر للهجرة إلى المدينة مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ومعهما عامر بن فُهيرة، ومعهما دليل يُقال له: عبد الله بن أُرَيقِطْ الدّيليّ، وهو يومئذ على الكفر ولكنهما أمِناه. وروى أنس أنّ أبا بكر حدّثه قال: قلتُ للنّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم ونحن في الغار لو أنّ أحدهم ينظر إلى قدميه لأبْصَرَنا تحت قدميه، قال: فقال: "يا أبا بكر ما ظنّك باثنَينِ الله ثالثهما؟"(*).
وروى الزّهريّ قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، لحسان بن ثابت: "هل قلتَ في أبي بكر شيئًا؟" فقال: نعم، فقال: "قل وأنا أسمع"، فقال:
وثانيَ اثْنَينِ في الغارِ المُنيفِ وقَدْ طافَ العَـدُوّ بهِ إذْ صَعِـدَ الجَبَلا
وكان حِبُّ رسولِ اللهِ قـد عَلموا من البرِيّــــةِ لم يَعْـــــدِلْ بـهِ رَجُــــلا
قال: فضحك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى بَدَتْ نَواجذُه، ثمّ قال: "صدقتَ يا حسّان، هو كما قلت"(*). وروى إسماعيل بن عبد الله بن عطيّة بن عبد الله بن أُنيس عن أبيه قال: لمّا هاجر أبو بكر من مكّة إلى المدينة نزل على حَبيب بن يَساف، وقيل: نزل أبو بكر على خارجة بن زيد بن أبي زُهير، وقيل: نزل أبو بكر على خارجة بن زيد بن أبي زُهير، وتزوّج ابنته، ولم يزل في بني الحارث بن الخزرج بالسّنْح حتى توفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وقد آخى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر، فرآهما يومًا مُقبِلَين، فقال: "إنّ هذين لَسَيّدَا كُهول أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين كُهولهم وشبابهم إلا النبيّين والمُرسَلين"(*).
وروى عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة قال: لمّا أقطع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم الدّور بالمدينة جعل لأبي بكر موضع داره عند المسجد، وهي الدّار التي صارت لآل مَعْمَر(*). وقال فيه أبو محجن الثقفي:‏
وَسمِّيت صدِّيقًا، وَكُـلُّ مُـهَاجِـــرٍ سِوَاكَ يُسَمَّى بِاسْمِهِ غَيْرُ مُنْكَرِ
سَبـَقْت إِلَي الإِسلَامِ وَاللَّهُ شَاهِدٌ وَكُنْتَ جَلِيسًا بِالعَرِيشِ المُشَهَّرِ
وَبِالغَارِ إِذْ سُمِّيتَ بِالغَار صَاحِبًا وَكُنـــْتَ رَفِيقـــًا لِلنَّبـيِّ المُطَهَّــــرِ
وهاجر أَبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وصَحِبَه في الغار لما سارا مُهَاجرَيْن، وآنسه فيه، ووقاه بنفسه، قال بعض العلماءِ: لو قال قائل: إِن جميع الصحابة ما عدا أَبا بكر ليست لهم صحبة لم يكفر، ولو قال: إِن أَبا بكر لم يكن صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كفر، فإِن القرآن العزيز قد نطق أَنه صاحبه. وروى ابن إِسحاق قال: وأَقام رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم بمكة ينتظر أَمر الله عز وجل، فجاءَ جبريل عليه السلام وأَمره أَن يخرج من مكة بإِذن الله عز وجل له في الهجرة إِلى المدينة، فاجتمعت قريش فمكرت بالنبي صَلَّى الله عليه وسلم، فأَتاه جبريل وأَمره أَن لا يبيت مكانَه، ففعل، وخرج على القوم وهم على بابه، ومعه حفنة من تراب، فجعل يَنْثُرها على رؤوسهم، وأَخذ الله أَبصارهم، وكان مخرج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بعد العقبة بشهرين، وأَيام بويع أَوسط أَيام التشريق، وخرج لهلال ربيع الأَول، وقد كان أَبو بكر يستأَذنه في الخروج فيقول رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لاَ تَعْجَلْ، لَعَلَّ الله يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا"، فلما كانت الهجرة جاءَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم إِلى أَبي بكر وهو نائم فأَيقظه، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوْجِ"، قالت عائشة: فلقد رأَيت أَبا بكر يبكي من الفرح، ثم خرجا حتى دخلا الغار فأَقاما فيه ثلاثًا(*). وروى أَنس: أَن النبي صَلَّى الله عليه وسلم لما خرج مهاجرًا إِلى المدينة، كان أَبو بكر معه، وكان أَبو بكر أَعرف بذلك الطريق، وكان الرجل لا يزال قد عرف أَبا بكر، فيقول: يا أَبا بكر من هذا معك؟ فيقول هذا يهديني السبيل أَخرجه أَحمد في المسند 3 / 122، 211، 287..
وروى البَرَاءِ بن عازِب قال: اشترى أَبو بكر من عازب سَرْجًا بثلاثة عشر درهمًا، فقال أَبو بكر لعازب: مُرِ البراءَ فَليحمله إِلى منزلي، فقال: لا، حتى تُحَدِّثنا كيف صنعـت حيث خرج رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأَنت معه، فقال أَبو بكر: خرجنا فأَدْلَجْنا فأَحيينا يومنا وليلتنا حتى أَظهرنا، وقام قائم الظهيرة، فضربت ببصري: هل أَرى ظلًا نأوي إِليه؟ فإِذا أَنا بصخرة، فأَهويتُ إِليها فإِذا بقية ظلها، فسويته لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وفرشت له فَرْوَةً، وقلت: اضطجع يا رسول الله، فاضطجع، ثم خرجت أَنظر هل أَرى أَحدًا من الطلب؟ فإِذا أَنا براعي غنم، فقلت: لمن أَنت، فقال: لرجل من قريش، فسماه فعرفتُهُ، فقلت: هل في غنمك من لبن؟ قال: نعم، قلت: هل أَنت حالبٌ لي؟ قال: نعم، فأَمرتُهُ فاعتقل شاة منها، ثم أَمرته فنفض ضَرْعها، ثم أَمرته فنفض كفيه من الغُبَار، ومعي إِداوة على فمها خرقة، فحلب لي كُثْبَـة من اللبن، فصببت على القدح حتى برد أَسفله، ثم أَتيت رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فوافيتُهُ، وقد استيقظ، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشَرِبَ حتى رضيتُ، ثم قلت: هل آن الرحيل؟ قال: فارتحلنا، والقوم يطلبوننـا، فلم يدركنا أَحد منهم إِلا سُراقة بن مالك بن جُعْشُم على فرس له، فقلت: يا رسول الله، هذا الطَلَبُ قد لَحِقنا؟ قـال: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ الْلَّهَ مَعَنَا} حتى إِذا دنا منا فكان بيننا وبينه قدر رُمح أَو رمحين ــ أَو قال: رمحين أَو ثلاثة ــ قلت: يا رسول الله، هذا الطَّلَب قد لحقنا وبْكيتُ، قال: "لم تبكي؟" قال: قلتُ: والله، ما على نفسي أَبكي، ولكني أَبكي عليك، فدعا عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقال: "الْلُّهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ"، فساخَتْ فرسهُ إِلى بطنها في أَرض صَلْد، ووثب عنها، وقال: يا محمد، قد علمتُ أَن هذا عَمَلُك، فادع الله أَن ينجيني مما أَنا فيه، فوالله لأعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائي من الطَّلَب، وهذه كِنَانتي فَخُذْ منها سهمًا، فإِنك ستمر على إِبلي، وغنمي في موضع كذا وكذا، فَخُذْ منها حاجتك، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لاَ حَاجَةَ لِي فِيْهَا". قال: ودعا له رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فَأُطْلِقَ، ورجع إِلى أَصحابه، ومضى رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأَنا معه، حتى قدمنا المدينة، فتلقاه الناس في الطريق، وعلى الأَجَاجِير، واشتدَّ الخَدَمُ والصِّبْيَانُ في الطريق يقولون: الله أَكبر، جاءَ رسول الله، جاءَ محمد، قال: وتنازع القوم أَيُّهم ينزل عليه؟ فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَنزلُ الليلة على بني النجار، أَخوالِ عبد المطلب؛ أَكرمهم بذلك". وقال البراءُ: أَول من قَدِم علينا من المهاجرين ثم مُصْعَبُ بن عُمَيْر، أَخو بني عبد الدار، ثم قَدِم علينا ابن أُم مَكْتُوم الأَعمى، أَخو بني فهر، ثم قدم علينا عمرُ بن الخطاب في عشرين راكبًا، فقلنا: ما فعل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: هو على أَثَرِي، ثم قَدِم رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأَبو بكر معه، قال البَرَاءَ: ولم يَقْدَم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى قرأت سُوَرًا من المُفَصَّل ــ قال إِسرائيل: وكان البراءُ، من الأَنصار من بني حارثة أَخرجه أَحمد في المسند 1 /2.
وروى ابن عُمَر: أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قال لأَبي بكر: "أَنْتَ أَخِي، وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ"(*) أَخرجه الترمذي 5 /572 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3670 وأَحمد في المسند 4 / 4.. قال ابن حجر العسقاني: ومن أعظم مناقب أبي بكر قول الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40] فإنَّ المراد بصاحبه أبو بكر بلا نِزَاع؛ لأنه كان مع النبي صَلَّى الله عليه وسلم في الهجرة عامر بن فُهيرة، وعبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن أرَيقط الدليل، لأنا نقول: لم يصحَبْه في الغار سوى أبي بكر لأن عبد الله بن أبي بكر استمرَّ بمكة، وكذا عامر بن فُهيرة، وإن كان تردُّدهم إليهما مدة لُبْثهما في الغار استمرت لعبد الله مِنْ أجل الإخبار بما وقع بعدهما، وعامر بسبب ما يقوم بغذائهما من الشياه؛ والدليلُ لم يصحبهما إلا من الغار؛ وكان على دين قومه مع ذلك كما في نفس الخبر، وقد قيل: إنه أسلم بعد ذلك وثبت في الصحيحين.
وروى علي بن أَبي طالب قال: قال لي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ولأَبي بكر الصديق يوم بدر: "مع أَحَدِكما جبريل، ومع الآخر مِيكَائِيل وإِسرافيل مَلَكٌ عظيم يشهد القتال، ويكون في الصف"(*). وروى عبد اللّه بن أَبي بكر بن حَزْم: أَن سعد بن مُعَاذ قال لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ــ لما التقى الناسُ يوم بدر: يا رسول الله، أَلا نبني لك عرِيشًا، فتكون فيه، ونُنِيخَ إِليك ركائَبَك، ونَلْقَى عدونا، فإِن أَظفرنا الله وأَعزنا فذاك أَحب إِلينا، وإِن تكن الأُخرى تجلس على ركائبك، فتلحق بمن وراءَنا؟ فأَثنى عليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خيرًا، ودعا له، فبُنِي لرسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عريش، فكان فيه أَبو بكر، ما معهما غيرهما. قال ابن إِسحاق: فَجَعَل رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم يُنَاشِدُ رَبَّه، وعدَه، ونصره، ويقول: "الْلَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لاَ تُعْبَدُ"، وأَبو بكر يقول: بَعْضَ مُنَاشَدَتِك ربك، فإِن الله موفِيك ما وعَدَكَ من نَصْرِه(*). وقال محمد بن سَعْد: قالوا: وشهد أَبو بكر بدرًا، وأُحدًا، والخندق، والحديبية والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ودفع رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم رايته العظمى يوم تَبُوك إِلى أَبي بكر، وكانت سوداءَ، وأَطعمه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم من خيبر مائة وَسْق، وكان فيمن ثبت مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم أُحُد، ويوم حُنين حين ولى الناس. ولم يختلف أَهلُ السيرَ في أَن أَبا بكر الصديق، رضي الله عنه، لم يتخلف عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في مشهد من مشاهده كلها. وقام بقتال أهل الرّدة وظهر من فَضْلِ رأيه في ذلك وشدّته مع لينه ما لم يحتسب، فأظهر الله به دينَه، وقتل على يديه وببركته كلَّ من ارتَّد عن دين الله، حتى ظهر أمرُ الله وهم كارهون.
وروى أنس بن مالك عن النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "أرْحَمُ أمّتي بأمّتي أبو بكر"(*). وروى عمرو بن العاص قال: قلتُ يا رسول الله أيّ النّاس أحبّ إليك؟ قال: "عائشة"، قلت: إنّما أعني من الرّجال، قال: "أبوها"(*). وروى هشام، عن محمّد قال: كان أغْيَرَ هذه الأمّة بعد نبيّها أبو بكر. وروى الحسن قال: قال أبو بكر يا رسول الله، ما أزال أراني أطَأ في عَذِرات النّاس، قال: "لتكوننّ من النّاس بسبيل"، قال: ورأيتُ في صدري كالرّقْمَتَيْنِ، قال: "سَنَتَين"، قال: ورأيتُ عَلَيّ حُلّةً حِبَرَةً، قال: "وَلَدٌ تُحْبَرُ به"(*). وروى عطاءٌ أنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، لم يحجّ عام الفتح، وأنّه أمّر أبا بكر الصّدّيق على الحجّ(*). وروى ابن عمر قال: استعمل النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم أبا بكر على الحجّ في أوّل حجّة كانت في الإسلام، ثمّ حجّ رسول الله في السنة المّقبلة، فلمّا قُبض النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، واستُخلف أبو بكر استعمل عمر بن الخطّاب على الحجّ، ثمّ حجّ أبو بكر من قابلٍ، فلمّا قُبض أبو بكر، واستُخلف عمر استعمل عبد الرّحمن بن عوف على الحجّ، ثم لم يزل عمر يحجّ سنيه كلّها حتى قُبض، فاستُخلف عثمان، فاستعمل عبدَ الرّحمن بن عوف على الحجّ(*).
وروى ابن شهاب قال: رأى النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم رؤيا، فقصّها على أبي بكر فقال: "يا أبا بكر رأيتُ كأنّي استبقتُ أنا وأنت درجة فسَبَقْتُك بمِرْقاتين ونصف"، قال: خيرٌ يا رسول الله، يُبْقِيكَ الله حتى ترى ما يَسُرّك ويُقِرّ عَيْنَك، قال: فأعاد عليه مثل ذلك ثلاث مرّات، وأعاد عليه مثل ذلك، قال: فقال له في الثالثة: "يا أبا بكر، رأيتُ كأنّي استبقتُ أنا وأنت درجة، فسبقتُك بمرقاتين ونصف"، قال: يا رسول الله، يَقْبِضُكَ الله إلى رحمته، ومغفرته، وأعيش بعدك سنتين ونصفًا(*). وروى محمّد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ بعد النّبيّ أهْيَبَ لما لا يَعْلَمُ من أبي بكر، ولم يكن أحدٌ بعد أبي بكر أهْيَبَ لما لا يُعلَمُ من عُمَرَ، وإنّ أبا بكر نزلت به قضيّة لم نَجدْ لها في كتاب الله أصْلًا، ولا في السنة أثرًا فقال: أجْتَهِدُ رَأيي فإنْ يَكُنْ صَوابًا فمِنَ اللهِ، وإنْ يكُنْ خَطَأً فمنّي، وَأستغْفِرُ الله. وروى ابن جُبير بن مُطعم، عن أبيه أنّ امرأة أتت النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم تَسْألُه شيئًا فقال لها: "ارجعي إليّ"، فقالت: فإن رجعتُ فلم أجدْك يا رسول الله؟ تُعَرّض بالموت، فقال لها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "فإن رجعتِ، ولم تجديني فالْقَيْ أبا بكر"(*).
وروت عائشة قالت: لما ثَقُلَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم جاء بِلال يُؤذِنُه بالصلاة فقال: "مرُوا أبا بكر فليصلّ بالنّاس"، قالت: فقلت يا رسول الله، إنّ أبا بكر رجل أَسيفٌ، وإّنه متى يقم مقامك لا يُسمع النّاس، فلو أمَرْتَ عُمَرَ، قال: "مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس"، فقلت لحَفْصَة: قولي له إنّ أبا بكر رجل أسيفٌ، وإنّه متى ما يقم مقامك لا يُسمع النّاس فلو أمرت عمر، قال: فقالت له حفصة، فقال: "إنّكُنّ لأنْتُنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنتُ لأصيبَ منكِ خيرًا، قالت فأمروا أبا بكر يصلّي بالنّاس، فلمّا دخل أبو بكر في الصّلاة وَجَدَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم، من نفسه خِفّةً فقام يُهادَى بين رَجُلَين، ورِجْلاه تَخُطّان في الأرض حتى دخل المسجد، فلمّا سمع أبو بكر حسّه ذهب يتأخّر، فأوْمَأ إليه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "قُمْ كما أنْتَ"، قالت فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر فكان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، يصلّي بالنّاس جالسًا وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله والنّاس يقتدون بصلاة أبي بكر(*). وروى زرّ عن عبد الله قال: لما قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم قالت الأنصار: مِنّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ، قال فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار، ألستم تعلمون أنّ رسول الله أمر أبا بكر أن يصلّي بالنّاس؟ قالوا: بَلَى، قال: فأيّكم تطيبُ نفسه أنْ يتقدّم أبا بكر؟ قالوا: نعوذ الله أن نتقدّم أبا بكر(*). وروى الفُضيل بن عمرو الفُقيميّ قال: صلّى أبو بكر بالنّاس ثلاثًا في حياة النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم. وروى عروة عن عائشة أنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "ادْعي لي أباكِ وأخاكِ حتّى أكتب لأبي بكر كتابًا فإنّي أخاف أنْ يَقُولَ قائِلٌ وَيَتَمَنّى وَيَأبي الله والمؤمنون إلا أبا بكر"(*). وروى عبد الله بن أبي مُليكة، قال: قال النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم لعائشة لما مرض: "ادْعوا لي عبدَ الرّحمن بن أبي بكر أكْتُبْ لأبي بكر كتابًا لا يختَلفُ عليه أحدٌ من بعدي"، وقال عفّان: "لا يختلف فيه المسلمون"، ثمّ قال: "دَعيه، معَاذَ الله أنْ يختلف المؤمنون في أبي بكر"(*). وروى ابن أبي مُليكة قال: سمعتُ عائشة، وسُئلتْ: يا أمّ المؤمنين، من كان رسول الله مستخلفًا لو استخلف؟ قالت: أبا بكر، ثمّ قيل لها: من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، ثمّ قيل لها: من بعد عمر؟ قالت: أبا عُبيدة بن الجرّاح، قال: ثمّ انتهت إلى ذا. روى محمّد بن قيس قال: اشتكى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثلاثة عشر يومًا فكان إذا وجد خِفّةً صلّى وإذا ثَقُلَ صلّى أبو بكر(*).
وقال مُسلم البطين:
أَنَّـــى نُعَاتِـبُ لا أبــا لك عُصْبَةً عَلَقوا الفِرى وبَرَوْا من الصّدّيقِ
وبَرَوْا سفاهًا من وزيــر نبيّهــم تَبــــًّا لمـــــنْ يَبْـرا مِـنَ الفــــــاروقِ
إنــي علــى رَغْـمِ العُـداةِ لقائـــلٌ دانا بِدِيـنِ الصّــــادقِ المصـدوقِ
وروى إبراهيم النخعيّ قال: كان أبو بكر يسمّى الأوّاه لرأفته، ورحمته. وروى أبو سَرِيحة: سمعتُ عليًّا عليه السلام، يقول على المنبر ألا إنّ أبا بكر أَوَّاهٌ مُنيب القلب، ألا إنّ عُمَرَ ناصحَ الله فَنَصَحَه. وروى عروة، عن عائشة قالت: ما عَقَلْتُ أبَوَيّ إلا وهما يدينان الدين، وما مرّ علينا يومٌ قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بُكرة وعشيّة(*). وقال رجل لبلال: من سَبَقَ؟ قال: محمّد، قال: من صلّى؟ قال: أبو بكر، قال: قال الرجل إنّما أعني في الخيل، قال بلال: وأنا إنّما أعني في الخير. وروى هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: أسلم أبو بكر يوم أسلم وله أربعون ألف درهم. وروى أُسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: كان أبو بكر معروفًا بالتجارة، لقد بُعث النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وعنده أربعون ألف درهم فكان يُعتق منها، ويُقوّي المسلمين حتى قَدِمَ المدينة بخمسة آلاف درهم، ثمّ كان يفعل فيها ما كان يفعل بمكّة. وروى محمّد بن هلال، عن أبيه، أنّ أبا بكر الصّدّيق كان له بيتُ مال بالسُّنح معروف ليس يَحْرِسُه أحَدٌ، فقيل له: يا خليفة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ألا تَجْعَلُ على بيت المال مَنْ يحرسه؟ فقال: لا يُخافُ عليه، قلت: لِمَ؟ قال: عَلَيْهِ قُفْلٌ، قال: وكان يُعطي ما فيه حتّى لا يبقى فيه شيءٌ، فلمّا تَحَوّل أبو بكر إلى المدينة حَوّله، فجعل بيتَ ماله في الدّار التي كان فيها، وكان قَدِمَ عليه مالٌ من مَعْدِنِ القَبَليّةِ، ومن معادن جُهينة كثير، وانفتح معدن بني سُليم في خلافة أبي بكر، فَقُدِمَ عليه منه بصَدَقَته، فكان يوضعُ ذلك في بيت المال، فكان أبو بكر يَقْسِمُه على النّاس نُقَرًا نُقَرًا، فيصيب كل مائة إنسان كذا وكذا، وكان يُسَوّي بين النّاس في القَسْم الحُرّ، والعَبْد، والذَّكَر، والأُنثى، والصغير، والكبير فيه سواءٌ، وكان يشتري الإبلَ، والخَيلَ، والسلاحَ، فيَحمِلُ في سبيل الله، واشترى عامًا قطائفَ أتى بها من البادية، ففَرقَها في أرامل أهل المدينة في الشتاء، فلمّا توفي أبو بكر، ودُفِنَ دعا عمر بن الخطّاب الأمناء، ودخلَ بهم بيتَ مال أبي بكر، ومعه عبد الرّحمن بن عوف، وعثمان بن عفّان وغيرهما، ففتحوا بيت المال، فلم يجدوا فيه دينارًا ولا درهمًا، ووجدوا خَيْشة للمال فَنُفِضَتْ، فوجدوا فيها درهمًا، فرحّموا على أبي بكر، وكان بالمدينة وَزَّانٌ على عهد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان يزن ما كان عند أبي بكر من مال، فسُئل الوزّان كم بَلَغَ ذلك المال الذي وَرَدَ على أبي بكر؟ قال: مائتي ألف.
وروى عليّ، قال:‏‏ خير هذه الأمّة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر،‏ وكان عليّ رضي الله عنه يقول‏: سبق رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وثنّى أبو بكر، وثلَّث عمر، ثم حفتنا فتنة يعفو الله فيها عمن يشاء.‏ وقال عبد خير:‏ سمعْتُ عليًّا يقول:‏‏ رَحِمَ الله أبا بكر، كان أوّل من جمع بين اللّوْحين‏. وروى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من وجوه أنه قال:‏ ولينا أبو بكر، فخيرُ خليفة، أرحمه وأحناه علينا.‏ وقال مسروق‏‏: حبُّ أبي بكر وعمر، ومعرفة فضلهما من السّنة.
وروى الزهري، قال:‏ سألني عبد الملك بن مروان فقال:‏‏ أرأيت هذه الأبيات التي تُرْوى عن أبي بكر؟ فقلت له:‏‏ إنه لم يقلها، حدّثني عروة، عن عائشة: أن أبا بكر لم يقل بيت شعر في الإسلام حتى مات، وأنه كان قد حرم الخمر في الجاهليّة، هو وعثمان رضي الله عنهما‏. وفيه رضي الله عنه قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ‏"دَعُوا لِي صَاحِبيِ، فَإِنَّكُمْ قُلْتُمْ لِي:‏ كَذَبْتَ، وَقَالَ لِي‏: صَدَقْتَ"(*)‏‏. وقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في كلام البقرة والذئب‏: ‏"آمنتُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَر"، وما هما، ثم علما بما كانا عليه من اليقين والإيمان‏(*). وروى أبو سعيد الخدريّ، قال‏:‏ قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنْ آمَنِ النّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِه وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ، لا تُبْقِينَ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَة إِلَّا خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ‏"(*) ‏‏أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 126، ومسلم في الصحيح كتاب فضائل الصحابة باب (1)حديث رقم2، 3، 4، 5، 7،كتاب المساجد حديث رقم 23، والترمذي في السنن حديث رقم 3659،3660، وابن ماجه في السنن حديث رقم93،وأحمد في المسند 1/ 377،433، 439، 463،والطبراني في الكبير 3/ 278،10 / 129،130،12 / 119، والبيهقي في السنن 6/ 246، وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم 32563،32599،32600، 32602،35652 .
و‏روى ابن عُبْدوس، عن أسماء بنت أبي بكر أنهم قالوا لها:‏ ما أشدَّ ما رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقالت:‏ كان المشركون قعودًا في المسجد الحرام، فتذاكرُوا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وما يقول في آلهتهم، فبينما هم كذلك، إذ دخل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم المسجد، فقاموا إليه، وكانوا إذا سألوه عن شيء صدّقهم، فقالوا:‏‏ ألستَ تقول في آلهتنا كذا وكذا؟ قال:‏‏ ‏"بَلَى‏"،‏ قال: فتشبَّثُوا به بأجمعهم، فأتى الصريخ إلى أبي بكر، فقيل له‏:‏ أدرك صاحبَك‏، فخرج أبو بكر حتى دخل المسجد، فوجد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم والنَّاسُ مجتمعون عليه، فقال:‏ ويلكم، أتقتلون رجلًا أنْ يقولَ ربِّيَ الله، وَقَدْ جاءكم بالبيِّنات من ربكم؟ قال:‏ فلهوا عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأقبلوا على أَبي بكر يضربونه،‏ قالت:‏ فرجع إلينا، فجعل لا يمس شيئًا من غدائره إلا جاء معه وهو يقول:‏ تباركت يا ذا الجلال والإكرام‏(*). وروى عمرو بن عبسة، قال‏: أتيتُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو نازل بعُكاظ، فقلت:‏ يا رسول الله؛ من اتَّبَعَك على هذا الأمر؟ قال:‏ ‏"حُرُّ وَعَبْدٌ‏: أَبُو بَكْرٍ، وَبِلَالٌ‏"،‏‏ قال‏: فأسلمت عند ذلك‏... فذكر الحديث‏(*).
ومن أعظم مناقب أبي بكر أن ابن الدُّغُنَّة سيد القارة لما ردّ إليه جِوَاره بمكة وصفه بنظير ما وصفَتْ به خديجةُ النبي صَلَّى الله عليه وسلم لما بعث، فتواردا فيهما على نعتٍ واحد من غير أن يتواطآ على ذلك؛ وهذا غايةٌ في مَدْحه؛ لأن صفات النبي صَلَّى الله عليه وسلم منذ نشأ كانت أكْمَلَ الصفات، وقد أطنب أبو القاسم بن عساكر في ترجمة الصديق حتى إن ترجمته في تاريخه على كبره تجيء قَدْر ثُمْن عشره، وهو مجلد من ثمانين مجلدًا، وقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كان ــ يعني: أبا بكر ــ أنسب العرب، وقال ابن إسحاق في "السيرة الكبرى": كان أبو بكر رجلًا مؤلفًا لقومه محببًا سهلًا، وكان أنْسَب قريش لقريش، وأعلمهم مما كان منها مِن خير أو شر، وكان تاجرًا ذا خُلق ومعروف، وكانوا يألَفونَه لعلمه، وتجاربه، وحُسْنِ مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام مَنْ وَثق به، فأسلم على يديه عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عَوْف. وروى سالم بن أبي الجعد: قلت لمحمد بن الحنفية: لأي شيء قُدم أبو بكر حتى لا يذكر فيهم غيره؟ قال: لأنه كان أفضلهم إسلامًا حين أسلم؛ فلم يزل كذلك حتى قبضه الله.
وروى هشام، عن أبيه: أسلم أبو بكر وله أربعون ألفًا فأنفقها في سبيل الله، وأعتق سبعةً كلهم يعذّب في الله: أعتق بلالًا، وعامر بن فُهيرة، وزنيرة، والنهدية، وابنتها، وجارية بني المؤمل، وأم عُبَيس. وفي المجالسة للدينوري مِن طريق الأصمعي: أعتق سبعة، فذكرهم؛ لكن قال: وأم عُبَيس، وجارية بن عمرو بن المؤمل. وروى أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبيه: كان أبو بكر معروفًا بالتجارة، ولقد بُعث النبيُّ صَلَّى الله عليه وسلم وعنده أربعون ألفًا فكان يعتق منها، ويَعُول المسلمين حتى قدم المدينة بخمسة آلاف، وكان يفعل فيها كذلك.
وروى أبو يحيى قال: لا أحصي كم سمعتُ عليًّا يقول على المنبر: إن الله عز وجل سَمَّى أبا بكر على لسان نبيه صَلَّى الله عليه وسلم صِدّيقًا. ومناقب أبي بكر رضي الله عنه كثيرة جدًّا، وقد أفرده جماعة بالتصنيف، وترجَمَتُه في تاريخ ابن عساكر قَدْر مجلدة، وروى شَهْر بن حَوْشب، عن أبي تميم أن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعُمر: "لَو اجْتَمَعْتُمَا فِي مَشُورَةٍ مَا خَالَفْتُكُمَا"(*).
وروى معاذ بن جبل: أنَّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لما أراد أن يُرْسل معاذًا إلى اليمن استشار؛ فقال كلٌّ برأيه، فقال: "إنَّ الله يَكْرَهُ فَوقَ سَمَائِه أنْ يُخَطَّأَ أبُو بَكْرٍ"(*). وروى جُنْدَب ــ هو ابن عبد اللّه: أَنه سمع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول قبل أَن يُتَوفَّى بيوم: "قد كان لي فيكم إِخوة، وأَصدقاءٌ، وإِني أَبرأُ إِلى الله أَن أَكون اتخذت منكم خليلًا، ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أَبا بكر خليلًا، وإِن ربي اتخذني خليلًا، كما اتخذ إِبراهيم خليلًا"(*) أَخرجه الترمذي في السنن 5 / 568 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3661 وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.. وروى عروة بن الزبير قال: سأَلت عبد اللّه بن عمرو بن العاص قلت: أَخبرني بأَشد شيءٍ رأَيتَه صنعه المشركون برسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: أَقبل عقبة بن أَبي مُعَيْط، ورسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه في عُنُقِه فخنقه خنقًا شديدًا، فأَقبل أَبو بكر، فأَخذ مَنْكِبَه فدفعه عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم قال أَبو بكر: يا قوم، أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يقولَ رَبِّي اللّهُ وَقَدْ جَاءَكمْ بالبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم أَخرجه أَحمد في المسند 2 / 204..
وروى عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلَيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْزُّبيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الْرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصِ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيْدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ" (*)أَخرجه أَحمد في المسند 1 / 193.. وقال ابن عيينة: عاتب الله سبحانه المسلمين كلَّهم في رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم إِلا أَبا بكر، فإِنه خرج من المعاتبة: {إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}(*) [التوبة/ 40]. وروى أَبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِي وَزِيْرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْسَّمَاءِ، وَوَزِيْرَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، فَأَمَّا وَزِيْرَايَ مِنْ أَهْلِ الْسَّمَاءِ فَجِبْرِيْلُ وَمِيْكَائِيْلُ صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَسَلَّمْ وَأَمَّا وَزِيْرَايَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ" (*)أَخرجه الترمذي في السنن 5 / 576 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3680 قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب وأحمد في المسند 3 / 26، 27.، ثم رفع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم رأسه إِلى السماء، فقال: "إِنَّ أَهْلِ عِلِّيْيِنَ لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ كَمَا تَرُوْنَ الْنَّجْمَ ــ أَوْ الْكَوْكَبَ ــ فِي الْسَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا" ــ قلت لأَبي سعيد: وما "أَنْعَمَا"؟ قال: أَهل ذاك هما(*). روى أَبو هُرَيرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَرْكَبُ بَقَرَةً إِذْ قَالَتْ: لَمْ أَخْلَقْ لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ"، فَقَالَ رَسُولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم: "آمَنْتُ بِذَلِكَ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وعُمَرُ"(*) أخرجه مسلم 4 / 1857 كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل أبي بكر الصديق (13 ـــ 2388). قال أَبو سلمة: وما هما في القوم.
وروى ابن عمر قال: كنا نتحدَّث أَنَّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خير هذه الأُمة، ثـم أَبو بكر، ثم عمر، ولقد أعطي علي بن أَبي طالب ثلاث خصال لأَن أَكون أَعطيتهن أَحبُّ إِليّ من حُمْر النَّعَم: زَوَّجـه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم ابنته، وأَعطاه الراية يوم خيبر، وسد الأَبواب من المسجد إِلا باب علي. وروى أَنس قال: صعد النبي صَلَّى الله عليه وسلم أُحدًا ومعه أَبو بكر، وعمر، وعثمان، فرجف بهم الجبل، فقال: "اثْبُتْ فَمَا عَلَيْكَ إِلاَّ نَبِيٌّ وَصَدِيْقٌ وَشَهِيْدَانِ" (*)أخرجه البخاري في الصحيح 5 / 11، وأحمد في المسند 5 / 331، 346، وابن ماجة في السنن 1 / 48 المقدمة حديث رقم 134.. وروى علي بن أَبي طالب: أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم نظر إِلى أَبي بكر وعمر فقال: "هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الْأَوَّلِيْنَ وَالْآخِرَيْنَ، إِلاَّ الْنَّبِيْيِنَ وَالْمُرْسَلِيْنَ، لاَ تُخْبِرْهُمَا يَا عَلِيُّ"(*) أخرجه الترمذي في السنن 5 / 570 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3664، 3665 قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وابن ماجة في السنن 1 / 36 المقدمة حديث رقم 95، 1 / 38 المقدمة حديث رقم 100، وأحمد في المسند 1 / 80..
وروى جُوَيْبر، عن الضحاك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة/ 119] مع أَبي بكر وعمر(*). وروى أَبو جُحَيْفة السُّوَائِي قال: قال علي: يا وهب، أَلا أَخبرك بخير هذه الأُمة بعد نبيها؟ أَبو بكر، وعُمَر، ورجل آخر. وروى أَنس قال: تناول النبي صَلَّى الله عليه وسلم من الأَرض سبع حصيات، فسبحن في يده، ثُم ناولهن أَبا بكر، فسبحن في يده، كما سبحن في يد النبي صَلَّى الله عليه وسلم، ثم ناولهن النبي صَلَّى الله عليه وسلم عمر، فسبحن في يده كما سبحن في يد أَبي بكر، ثم ناولهن عثمان، فسبحن في يده كما سبحن في يد أَبي بكرأورده الهيثمي في الزوائد 8 / 302.. وروى عطاء بن يسار، عن أَبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ صَائِمًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ شَهِدَ جَنَازَةً"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ أَطْعَمَ الْيَوْمَ مِسْكِيْنًا"؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا، قَالَ: "مَنْ جَمَعَهُنَّ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَجَبَتَّ لَهُ ـــ أَوْ غُفِرَ لَهُ ــ"(*) أخرجه مسلم في الصحيح 4 / 1857 كتاب فضائل الصحابة (44) باب (1) حديث رقم (12 / 1028)..
وروى عبد الرحمن بن أَبي ليلى قال: وفد ناس من أَهل الكوفة، وناس من أَهل البصرة إِلى عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، قال: فلما نزلوا المدينة تحدّث القوم بينهم إِلى أَن ذكروا أَبا بكر وعمر، ففضل بعضُ القوم أَبا بكر على عمر، وفضل بعضُ القوم عمر على أَبي بكر، وكان الجارود بن المعلى ممن فضل أَبا بكر على عمر، فجاء عمر ومعه دِرَّته، فأَقبل على الذين فضلوه على أَبي بكر، فجعل يضربهم بالدِّرَّة، حتى ما يتقي أَحدُهم إِلا برجله، فقال له الجارود: أَفِقْ أَفِقْ يا أَمير المؤمنين، فإِن الله عز وجل لم يكن يرانا نفضلك على أَبي بكر؛ وأَبو بكر أَفضل منك في كذا، وأَفضل منك في كذا، فَسُرِّيَ عن عمر، ثم انصرف، فلما كان من العَشِيِّ صعد المنبر، فحمد الله وأَثنى عليه، ثم قال: أَلا أن أَفضل هذه الأُمة بعد نبيها أَبو بكر، فمن قال غير ذلك بعد مقامي هذا فهو مُفْتَرٍ، عليه ما على المفتري. وروى النَّزَّال بن سَبْرَة الهلالي قال: وافقنا من عَلِيٍّ طيب نفس ومزاح، فقلنا: يا أَمير المؤمنين، حدثنا عن أَصحابك، قال: كل أَصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَصحابي، قلنا: حدثنا عن أَصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: سَلُوني، قلنا: حدثنا عن أَبي بكر، قال: ذاك امرؤٌ سماه الله عز وجل صِدِّيقًا على لسان جبريل، ولسان محمد صَلَّى الله عليه وسلم، كان خليفةَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على الصلاة، رضيه لِدِيننا، فرضيناه لدُنْيانا.
وروى عكرمة بن خالد، عن ابن عمر أَنه سئل: من كان يُفْتِي الناس في زمان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ فقال: أَبو بكر وعُمَر، ما أَعلم غيرهما. وروى أَبو سعيد الخُدْرِي: أَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم خطب يومًا فقال: "إِنَّ رَجُلًا خَيَّرَهُ الله بَيْنَ الْدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ"، فبكى أَبو بكر، فتعجَّبْنا لبكائه أَن يُخْبِرَ النبي صَلَّى الله عليه وسلم عن رجل قد خُيِّر ــ وكان من المُخَيَّر صَلَّى الله عليه وسلم، وكان أَبو بكر أَعلمنا به ــ فقال: "لا تَبْكِ يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ أَمَنَّ الْنَّاس فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيْلًا لاتَخَذْتُهُ خَلِيْلًا، وَلَكِن أُخُوَةُ الْإِسْلَامِ وَمَوَدَتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ في الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ، إِلاَّ بَابَ أَبِي بَكْرٍ" أخرجه البخاري في الصحيح 7 / 227 كتاب مناقب الأنصار (63) باب (45) حديث رقم 3904 وأخرجه مسلم في الصحيح 4 / 1854، 1855 كتاب فضائل الصحابة (44) باب (1) حديث رقم (2 / 2382)، (3 / 2383) والترمذي في السنن 5 / 609 كتاب المناقب (50) باب (15) حديث رقم (3661) وابن ماجه في السنن 1 / 36 المقدمة باب (11) حديث رقم 94، وأحمد في المسند 2 / 253، 1 / 270 وذكره المتقي الهندي في كنز العمال 12 / 505 حديث رقم 35648..
وروى زيد بن أَرقم قال: دعا أَبو بكر بشراب، فأُتِيَ بماء وعسل، فلما أَدناه من فيه نَحَّاه، ثم بكى حتى بكى أَصحابه، فسكتوا وما سكت، ثم عاد فبكى حتى ظنوا أَنهم لا يَقْوَوْن على مسأَلته، ثم أَفاق، فقالوا: يا خليفة رسول الله، ما أَبكاك؟ قال: كنت مع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فرأَيته، يدفع عن نفسه شيئًا، ولم أَر أَحدًا معه، فقلت: يا رسول الله، ما هذا الذي تدفع، ولا أَرى أَحدًا معك؟ قال: "هذه الدنيا تَمَثَّلَت، فقلت لها: إِليكِ عَنِّي، فتنحت، ثم رجعت، فقالت: أَما إِنك إِن أَفْلَتَّ، فلن يُفْلِتَ مَنْ بعدك"، فذكرت ذلك فَمَقَتُّ أَن تَلْحَقَنِي(*). وروى الأَصْمَعِي قال: كان أَبو بكر إِذا مُدِحَ قال: اللهم أَنت أَعلم بي من نفسي، وأَنا أَعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون. وروى أَبو أُسامة، عن مالك بن مِغْوَل سمع أَبا السَّفر قال: دخلوا على أَبي بكر في مرضه، فقالوا: يا خليفة رسول الله، أَلا ندعوا لك طبيبًا ينظر إِليك؟ قال: قد نظر إِليَّ، قالوا: ما قال لك؟ قال: إِني فعال لما أُريد.
وروى أَبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ، مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ"، فبكى أَبو بكر وقال: وهل أَنا ومالي إِلا لَكَ يا رسول الله؟(*) أخرجه أحمد في المسند 2 / 253، 366.. وروى الشعبي قال: لما نزلت: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}... [البقرة/271] إِلى آخر الآية قال: جاءَ عمر بنصف ماله يحمله إِلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على رءوس النـاس، وجاءَ أَبو بكر بماله أَجمع يكاد يخفيه من نفسه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "مَا تَرَكْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: عِدَةُ الله وَعِدَةُ رَسُولِهِ، قال: يقول عمر لأَبي بكر: بنفسي أَنت، وبأَهلي أَنتَ، ما استبقنا باب خير قَطُّ إِلا سبقتنا إِليه(*). وفي رواية: عن عمر قال: أَمرنا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أَن نتصدق، ووافق ذلك مالًا عندي، فقلت، اليوم أَسْبق أَبا بكر إِن سَبَقْته، فجئت بنصف مالي، فقال ــ يعني: النَّبي صَلَّى الله عليه وسلم: "ما أَبقيت لأَهلك؟" قلت: مِثْله، وجاءَ أَبو بكر بكلِّ ما عنده، فقال النَّبي صَلَّى الله عليه وسلم: "يا أَبا بكر، ما أَبقيت لأَهلك؟" قال: أَبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر: لا أَسبقه إِلى شيء أَبدًا أخرجه أبو داود في السنن 2 / 312 ـــ 313 كتاب الزكاة (3) باب (40) حديث رقم 1678 وأخرجه الترمذي في السنن 5 / 614 ـــ 615 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3675 وقال حديث حسن صحيح، وأخرجه الدارمي في السنن 1 / 391 ـــ 392 كتاب الزكاة باب الرجل يتصدق بجميع ما عنده وأخرجه الحاكم في المستدرك 1 / 414 وقال على شرط مسلم وأقره الذهبي..
وروى أَبو صالح الغفاري: أَن عمر بن الخطاب كان يتعاهد عَجُوزًا كبيرة عمياء، في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها، ويقوم بأَمرها، فكان إِذا جاءَ وجد غيره قد سبقه إِليها، فأَصلح ما أَرادت، فجاءها غير مرة كُلًّا يُسْبَقُ إِليها، فرصده عمر، فإِذا هو بأَبي بكر الصديق الذي يأْتيها، وهو يومئذ خليفة، فقال عمر: أَنت هو لَعَمْري!!.
وروى ابن عمر قال: بويع أَبو بكر الصديق يوم قبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم الاثنين، لاثنتي عشرة ليلةً خلت من ربيع الأَول، سنة إِحدى عشرة، وكان منزله بالسُّنْحِ عند زوجته حَبِيبة بنت خارجة بن زيد، من بني الحارث بن الخزرج، وكان قد حجر عليه حُجْرة من شَعْر، فما زاد على ذلك حتى تحول إِلى المدينة، وأَقام هناك بالسُّنْح بعد ما بويع له سبعة أَشهر، يَغْدُو على رِجْلَيه وربما ركب على فرس له، فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس فإِذا صلى العشاءَ الآخرة رجع إِلى أَهله، وكان يحلب للحَيِّ أَغنامهم، فلما بويع له بالخلافة، قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا مَنَائِحنا، فسمعها أَبو بكر، فقال: بلى، لَعَمْرِي لأَحلبنَّها لكم، وإِني لأَرجو أَلا يغيرني ما دخلتُ فيه عن خُلُق كنتُ عليه، فكان يحلب لهم، فربما قال للجارية: أَتحبين أَن أَرْغِيَ لك أَو أَن أُصَرِّح؟ فربما قالت: أَرغ، وربما قالت: صَرِّح، فأُيَّ ذلك قالت فعل.
وأخرج ابن البَرْقِيّ مِنْ حديث عائشة: تذاكر رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم وأبو بكر ميلادَهما عندي، فكان النبي صَلَّى الله عليه وسلم أكبر(*). وروى أبو بكر، عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم، وروى عنه عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عمرو، وابن عباس، وحذيفة، وزيد بن ثابت، وعقبة بن عامر، ومعقل بن يسار، وأنس، وأبو هريرة، وأبو أمامة، وأبو بَرْزَة، وأبو موسى، وابنتاه: عائشة، وأسماء، وغيرهم من الصحابة، وروى عنه من كبار التابعين الصُّنَابحي، ومُرّة بن شَراحيل الطيّب، وأَوْسط البَجلي، وقيس بن أبي حازم، وسُوَيد بن غَفَلة، وآخرون.
روى أَسماءُ بن الحَكَم الفَزَاري قال: سمعت عليًّا يقول: كنت إِذا سمعت عن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاءَ أَن ينفعني، فإِذا حدثني عنه غيره أَستحلفه، فإِذا حلف لي صدقته، وإِنه حدثني أَبو بكر ــ وصدق أَبو بكر ــ أَنه سمع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ فَيَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ ــ قال مِسْعَرٌ: وَيُصَلِّي، وَقَالَ سُفْيَانُ: ثُمَّ يُصَلِّي ــ رَكْعَتَيْنِ فَيَسْتَغْفِرُ الله إِلاَّ غُفِرَ لَهُ"(*) أخرجه أحمد في المسند 1 / 2.. وروى إبراهيم التيميّ قال: لمّا قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أتى عمرُ أبا عُبيدة بن الجرّاح فقال: ابْسُط يدك فَلأبايعك فإنّك أمين هذه الأمة على لسانِ رسول الله، فقال أبو عُبيدة لعمر: ما رأيتُ لك فَهّةً قَبْلَها منذ أسلمتَ، أتبايعني وفيكم الصّدّيقُ وثاني اثنين؟!.
وروى أبو عون، عن محمّد قال: لما توفي النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، أتوا أبا عُبيدة فقال: أتأتوني وفيكم ثالث ثلاثة؟ قال أبو عون: قلتُ لمحمّد ما ثالثُ ثلاثة؟ قال: ألم تر تلك الآية: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [سورة التوبة: 40]. وروى عبد الله بن عبّاس قال: سمعتُ عمر بن الخطّاب، وذكر بيعةَ أبي بكر فقال: ولَيْسَ فيكم مَنْ تُقْطَعُ إليه الأعْناقُ مثلُ أبي بكر. وروى الجُرَيْري، عن أبي نَضْرة قال: لمّا أبْطَأ النّاسُ عن أبي بكر قال: من أحقّ بهذا الأمر مني؟ ألَسْتُ أوّلَ من صَلّى؟ ألَسْتُ ألستُ؟ قال فذكر خصالًا فعلها مع النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم. وروى القاسم بن محمّد أنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم لمّا توفّي اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عُبادة فأتاهم أبو بكر، وعمر، وأبو عُبيدة بن الجرّاح، قال: فقام حُباب بن المُنْذر، وكان بدرِيًّا، فقال: مِنّا أميرٌ، ومنكم أميرٌ فإنّا واللِّه ما نَنْفَسُ هذا الأمرَ عليكم أيّها الرهط، ولكنّا نخاف أن يَلِيَها، أو قال: يَلِيَهُ أقْوَامٌ قتلنا آباءهم وإخْوَتَهم، فقال له عمر: إذا كان ذلك فمُتْ إن اسْتَطَعْتَ، فتكلّمَ أبو بكر، فقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمرُ بيننا وبينكم نصفين كَقَدّ الأُبْْلُمَة ــ يعني: الخوصة، فبايَعَ أوّلَ النّاس بَشيرُ بن سعد أبو النعمان، قال: فلمّا اجتمعَ النّاس على أبي بكر قَسَمَ بين النّاس قَسْمًا فَبَعَثَ إلى عَجُوزٍ من بني عَديّ بن النّجّار بقِسْمِها مع زيد بن ثابت، فقالت: ما هذا؟ قال: قِسْمٌ قَسَمَه أبو بكر للنساء، فقالت: أتُراشُوني عن ديني؟ فقالوا: لا، فقالت: أتخافون أن أدَعَ ما أنا عليه؟ فقالوا: لا، قالت: فوالله لا آخُذُ منه شيئًا أبدًا، فرجع زيد إلى أبي بكر فأخبره بما قالت، فقال أبو بكر: ونحن لا نأخُذُ ممّا أعطيناها شيئًا أبدًا.
وروى هشام بن عروة، قال عُبيد الله أظُنّه عن أبيه، قال: لمّا وَليَ أبو بكر خَطَبَ النّاسَ فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ أيّها النّاس قد وَليتُ أمْرَكم ولستُ بخيْرِكم، وَلكن نَزَلَ القُرآنُ، وسنّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم السّنَنَ، فعَلّمنا فعَلِمْنا، اعْلَموا أنّ أكْيسَ الكيس التّقوى، وأنّ أحْمَقَ الحُمْق الفُجور، وأنّ أقواكم عندي الضّعيف حتّى آخُذَ له بحقّه، وأنّ أضعفكم عندي القويّ حتى آخذَ منه الحقّ، أيّها النّاس إنّما أنا مُتّبِعٌ، ولستُ بمُبْتَدِعٍ، فإنْ أحْسَنْتُ فأعينوني، وإنْ زُغْتُ فقَوّموني.
وروى طَلْحَة بن مصرِّف قال: سألتُ عبد الله بن أبي أوْفى أوْصى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قلتُ: فكيف كَتَبَ على النّاس الوصّية، وأُمروا بها؟ قال: أوصى بكتاب الله، قال: وقال هُزَيْلٌ: أكان أبو بكر يَتَأمّرُ على وصيّ رسول الله؟ لَوَدّ أبو بكر أنّه وَجَدَ من رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عَقْدًا، فَخَزَم أنْفه بخزامَةٍ.
وروى الحسن قال: قال عليّ لمّا قُبض النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا، فوجدنا النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم قد قدّمَ أبا بكر في الصلاة، فَرَضينا لدنيانا مَنْ رضيَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم لديننا، فقدّمنا أبا بكر. وروى ابن أبي مُليكة قال: قال رجل لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: لستُ بخليفة الله، ولكنّي خليفةُ رسول الله، أنا راضٍ بذلك. وروى سعيد بن المسيّب قال: لمّا قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ارْتَجّتْ مكّةُ، فقال أبو قُحافة: ما هذا؟ قالوا: قُبض رسول الله، قال: فمن وَلِيَ النّاسَ بعده؟ قالوا: ابنك، قال: أرَضِيَتْ بذلك بنو عبد شمس، وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم، قال: فإنّه لا مانع لما أعطى الله، ولا مُعْطي لما مَنَعَ الله، قال: ثمّ ارْتَجّتْ مكّة برَجّةٍ هي دون الأولى، فقال أبو قُحافة: ما هذا؟ قالوا: ابنك مات، فقال أبو قُحافة: هذا خبرٌ جَليلٌ.
وروى عطاء بن السائب قال: لما استُخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق، وعلى رَقَبَتِهِ أثْوابٌ يَتّجِرُ بها، فلَقِيَهُ عمرُ بن الخطّاب، وأبو عُبيدة بن الجرّاح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق قالا: تَصْنَعُ ماذا وقَدْ وليتَ أمرَ المسلمينَ؟ قال: فمِنْ أين أُطْعِمُ عِيالي؟ قالا له: انْطَلِقْ حتّى نَفْرِضَ لكَ شَيْئًا، فانطلق معهما، ففرضوا له كلّ يوم شَطْرَ شاة، وما كسوه في الرأس والبَطْن، فقال عمر: إليّ القضاء، وقال أبو عُبيدة: وإليّ الفَيْءُ، قال عمر: فلقد كان يأتي عَليّ الشّهْرُ ما يَخْتَصِمُ إليّ فيه اثْنَان. وروى عُمير بن إسحاق أنّ رجلًا رأى على عُنق أبي بكر الصّدّيق عباءةً فقال: ما هذا؟ هاتِها أكْفِيكَها، فقال: إليك عنّي، لا تَغُرّني أنتَ وابنُ الخطّاب من عيالي. وروى حُميد بن هلال قال: لمّا وَليَ أبو بكر قال أصحاب رسول الله: افْرضوا لخليفة رسول الله ما يُغْنيه، قالوا: نَعَمْ، بُرْداه إذا أخْلَقَهُما وَضَعَهما، وأخذ مثلَهما، وظهره إذا سافر، ونَفَقَتُه على أهله كما كان يُنْفِقُ قبل أن يستُخلف، قال أبو بكر: رَضيت. وروى عروة، عن عائشة قالت: لما وليَ أبو بكر قال: قد عَلِمَ قومي أنّ حِرْفَتي لم تكن لتعجِزَ عن مَئُونَةِ أهْلي، وقد شُغِلْتُ بأمْرِ المُسلمين، وسأحْتَرِفُ للمسلمين في مالهم وسيأكُلُ آلُ أبي بكر من هذا المال. وروى عمرو بن ميمون، عن أبيه قال: لما استُخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فإنّ لي عيالًا، وقد شغَلْتُموني عن التجارة، قال فزادوه خمسمائة، قال: إمّا أن تكون ألفين فزادوه خمسمائة أو كانت ألفين وخمسمائة فزادوه خمسمائة.
وبويع أبو بكر الصّدّيق يومَ قُبضَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من مُهاجَرِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكان منزله بالسُّنْح عند زوجته حَبيبةَ بنت خارجة، وكان قد حجّر عليه حُجْرة من شَعْر فما زاد على ذلك حتَى تحوّل إلى منزله بالمدينة، فأقام هناك بالسّنْح بعدما بويع له ستّة أشهر يغدو على رجليه إلى المدينة، وربمّا ركب على فرس له وعليه إزارٌ ورداءٌ مُمَشَّّقٌ فيوافي المدينة فيصلّي الصلوات بالنّاس فإذا صلّى العشاء رجع إلى أهله بالسّنح، فكان إذا حَضَرَ صلّى بالنّاس وإذا لم يَحْضُرْ صلّى عمر بن الخطّاب، وكان يقيم يوم الجمعة في صدر النّهار بالسّنْح يصْبُغُ رأسَه، ولحيته، ثمّ يروح لقَدَر الجمعة، فيُجَمّع بالنّاس، وكان رجلًا تاجرًا، فكان يغدو كلّ يوم السوق، فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو نفسه فيها، ورُبّما كُفيَها فرُعِيَتْ له، ومكث بالسّنح ستّة أشهر، ثمّ نزل إلى المدينة، فأقام بها ونظر في أمره فقال: لا والله ما يُصْلحُ أمرَ النّاس التجارة، وما يصْلُحُ لهم إلاّ التفَرّغُ، والنظر في شأنهم، وما بدٌّ لعيالي ممّا يُصْلحهم، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يُصْلِحُهُ، ويُصْلحُ عياله يومًا بيومٍ، ويَحُجّ، ويعتمر، وكان الذي فرضوا له كلّ سنة ستّة آلاف درهم، فلمّا حضرته الوفاةُ قال: رُدّوا ما عندنا من مال المسلمين فإنّي لا أُصيب من هذا المال شيئًا، وإنّ أرْضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبتُ من أموالهم، فدُفع ذلك إلى عمر، ولَقوحٌ، وعَبْدٌ صَيْقَلٌ، وقطيفةٌ ما يساوي خمسة دراهم، فقال عمر: لقد أتْعَبَ مَنْ بعده. واستعمل أبو بكر على الحج سنةَ إحدى عشرة عمر بن الخطّاب، ثمّ اعتمر أبو بكر في رجب سنة اثنتي عشرة، فدخل مكّة ضَحْوَةً فأتى منزله وأبو قُحافة جالس على باب داره معه فتيان أحداث يحدّثهم إلى أن قيل له: هذا ابنك، فنهض قائمًا وعَجِلَ أبو بكر أن يُنيخ راحلته، فنزل عنها وهي قائمة، فجعل يقول: يا أبتِ، لا تقم، ثمّ لاقاه فالتزمه وقبّل بين عينْي أبي قحافة وجعل الشيخ يبكي فرحًا بقدومه، وجاءَ إلى مَكّة عَتّاب بن أَسِيد، وسُهيل بن عمرو، وعِكْرمة بن أبي جَهل، والحارث بن هشام فسلّموا عليه: سلامٌ عليك يا خليفة رسول الله، وصافحوه جميعًا فجعل أبو بكر يبكي حين يذكرون رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ سلّموا على أبي قُحافة، فقال أبو قحافة: يا عتيقُ، هؤلاء الملأ فأحسِنْ صُحْبَتهم، فقال أبو بكر: يا أبتِ، لا حول ولا قوة إلاّ بالله! طُوّقتُ عظيمًا من الأمر لا قوّة لي به، ولا يَدَانِ إلاّ بالله، ثمّ دخل فاغتسل، وخرج وتبعه أصحابه فنحاهم، ثمّ قال: امْشوا على رِسْلكم، ولقيه النّاس يتمشّون في وجهه، ويُعزّونَه بنبيّ الله صَلَّى الله عليه وسلم، وهو يبكي حتّى انتهى إلى البيت فاضطبّع بردائه، ثمّ استلم الرّكن، ثمّ طاف سبعًا، وركع ركعتين، ثمّ انصرف إلى منزله، فلمّا كان الظهر خرج فطاف أيضًا بالبيت، ثمّ جلس قريبًا من دار الندوة فقال: هل من أحدٍ يتشكّى من ظلامة أو يطلب حقًّا؟ فما أتاه أحد، وأثنْى النّاس على واليهم خيرًا، ثمّ صلّى العصر، وجلس فودّعه النّاس، ثمّ خرج راجعًا إلى المدينة، فلمّا كان وقت الحج سنة اثنتي عشرة حجّ أبو بكر بالنّاس تلك السنة وأفْرَدَ الحجّ، واستُخلف على المدينة عثمان بن عفّان. وقال فيه أَبو الهيثم بن التّيهان فيما ذكروا:
وَإنِّـِي لأَرْجُو أَنْ يَقُومَ بِــأَمْرِنَــا وَيَحْفَظَهُ الصِّدِّيقُ والمَرْءُ مِنْ عدِي
أَوْلَاكَ خِيَارُ الحَيِّ فْهِرُ بْنُ مَالِكٍ وَأَنْصَـارُ هَذَا الدِّينِ مِنْ كُلِّ مُعْتَـدِي
وروى إياس بن سلمة، عن أبيه قال: بعث رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبا بكر إلى نَجْد وأمّره علينا، فبيّتنا ناسًا من هوازن، فقتلتُ بيدي سبعةً أهْل أبيات، وكان شعارنا أمتْ أمتْ. وروى وهب بن جرير قال: أخبرنا أبي سمعت الحسن قال: لمّا بويع أبو بكر قام خطيبًا فلا والله ما خَطَبَ خُطْبَتَه أحدٌ بعدُ، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّي وَليتُ هذا الأمر وأنا له كارهٌ، ووالله لوَدِدْتُ أنّ بعضكم كَفانيه، ألا وإنّكم إنْ كلّفتموني أنْ أعْمَلَ فيكم بمثل عَمَل رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لم أقُمْ به، كان رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم عَبْدًا أكرمه اللُّه بالوَحْي وعَصَمَهُ به، ألا وإنّما أنا بشَرٌ ولستُ بخير من أحَدٍ منكم فراعوني، فإذا رأيتموني استقمتُ، فاتْبَعوني وإنْ رأيتموني زُغْتُ فقوّموني، واعلموا أنّ لي شيطانًا يعتريني، فإذا رأيتموني غضبتُ، فاجْتَنبوني لا أؤثّرُ في أشعاركم وأبْشاركم.
وروى أبو سعيد الخدريّ قال: لمّا توفي رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، قامت خطباء الأنصار، فجعل الرجل منهم يقول: يا معشر المهاجرين، إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان إذا استعملَ رجلًا منكم قَرَنَ معه رجلًا منّا، فنرَى أن يَليَ هذا الأمر رجُلان أحدهما منكم والآخر منّا، قال: فتتابعت خطباء الأنصار على ذلك، فقام زيد بن ثابت، فقال: إنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم كان من المهاجرين، وإنّ الإمام إنّما يكون من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنّا أنصار رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقام أبو بكر فقال: جَزاكم الله من حَيٍّ خَيرًا يا معشر الأنصار، وثبّت قائلكم، ثمّ قال: أما والله لو فعلتم غير ذلك لما صَالحَناكم، وبُويع لأبي بكر بالخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في سقيفة بني ساعدة، ثم بُويع البيعة العامّة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم، وتخلَّف عن بَيْعَتِه سعد بن عبادة، وطائفة من الخزرج، وفِرقةٌ من قريش، ثم بايعوه بَعْدُ غير سعد‏،‏ وقيل:‏ لم يتخلف عن بيعته يومئذ أحدٌ من قريش، وقيل:‏ إنه تخلف عنه من قريش:‏ عليّ، والزّبير، وطلحة، وخالد بن سعيد بن العاص، ثم بايعوه بَعْدُ، وقد قيل: إن عليًّا لم يبايعه إلّا بعد موت فاطمة رضي الله عنها، ثم لم يزل سامعًا مطيعًا له يُثْني عليه ويفضله.
روى عكرمة، قال:‏‏ لما بويع لأبي بكر تخلَّف عليٌّ رضي الله عنه عن بيعته، وجلس في بيته، فلقيه عمر، فقال:‏ تخلّفت عن بيعة أبي بكر؟ فقال:‏ إِني آليت بيمين حين قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ألّا أرتدي بردائي إلا إلى الصّلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن، فإني خشيتُ أَن ينفلت، ثم خرج فبايعه‏.
وروى مالك بن مِغْوَل، عن أبي الخير، قال‏: لما بُويع لأبي بكر جاء أبو سفيان بن حرب إلى عليٍّ، فقال:‏ غلبكم على هذا الأمر أرذلُ بيت في قريش، أما والله لأملأنّها خيلًا ورجالًا، فقال عليّ‏: ما زلتَ عدوًّا للإسلام وأهله، فما ضرَّ ذلك الإسلام وأهله شيئًا، وإنا رأَينا أَبا بكر لها أَهلًا. وروى زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عليًّا والزّبير كانا حين بُويع لأبي بكر يدخلان على فاطمة رضي الله عنهم، فيشاورانها ويتراجعان في أمرهم، فبلغ ذلك عمر، فدخل عليها عمر، فقال:‏ يا بنت رسول الله، والله ما كان من الخلق أحدٌ أحبّ إلينا من أبيك، وما أحد أحبّ إلينا بعده منك، ولقد بلغني أنّ هؤلاء النّفَر يدخلون عليك، ولئن بلغني لأفعلنَّّّّّّّّّّّّّّّ، ولأفعلنَّ، ثم خرج وجاءوها، فقالت لهم‏: إن عمر قد جاءني، وحلف لئن عدتم ليفعلنَّ، وايم الله ليفينّ بها، فانظروا في أمركم، ولا ترجعوا إليَّ، فانصرفوا، فلم يرجعوا حتى بايعوا لأبي بكر‏. وروى عبد الله بن أبي بكر، أنّ خالد بن سعيد لما قدم من اليمن بعد وفاةِ رسول الله صَلَّّّى الله عليه وسلم تربّص ببيعته لأبي بكر شهرين، ولقي عليّ بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وقال‏:‏ يا بَنِي عبد مناف، لقد طبتُم نفسًا عن أمركم يليه غيركم، فأما أبو بكر فلم يحفل بها، وأما عمر فاضطغنها عليه، فلما بعث أبو بكر خالد بن سعيد أميرًا على ربع من أرباع الشّام، وكان أول من استعمل عليها، فجعل عمر يقول:‏‏ أتؤمّرُهُ، وقد قال ما قال، فلم يزل بأبي بكر حتى عزله، وولّى يزيد بن أبي سفيان، وقال ابن أبي عزة القرشيّ الجمحيّ‏:
شُكْرًا
لِمَنْ هُوَ بِالثَّنَـاءِ خَلِيقُ ذَهَبَ اللّجَاجُ وَبُويِع الصَّدّيقُ
مِنْ بَعْدِ مَا رَكَضَتْ بِسَعْـدٍ بَغَْلُـــهُ وَرَجَا رَجَاءً دُونَـهُ العَيُّــوقُ
جَاءَتْ بِهِ الأنَْصَارُ عَاصِبَ رَأْسِهِِ فَأَتَـاهُـمُ الصِّـدِّيـقُ وَالفَـارُوقُ
وَأَبُـو
عُبـَيدَة َ
وَالَّذين َ
إِلَيْهِمُ نَفْسُ الـمُؤَمّـلِ لِلْبـَقَـاءِ تَتُوقُ
كُنـَّا نَقـُـول
لَهَا عَلِـيٌّ
وَالـرِّضَا
عُمَرٌ، وَأَوْلـَاهُـمْ بِتِلْـكَ عَتِيـقُ
فَدَعَتْ قُرَيـشٌ بِاسْمِهِ فَأَجَابَهَـــــا إِنَّ المُنَـوّهَ بِاسـْمِـهِ المَوْثُوقُ
ومكث أبو بكر في خلافته سنتين وثلاثة أشهر إلا خمس لَيَالٍ، وقيل‏: سنتين وثلاثة أشهر وسبع ليالٍ، وهو أَوَّل خَلِيفة ورثه أَبوه. وروى بسطام بن مسلم قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "لا يَتَأمّرُ عليكما أحدٌ بعدي"(*). وروى ابن عون، عن محمّد أنّ أبا بكر قال لعمر: ابْسطْ يدك نبايعْ لك، فقال له عمر: أنت أفضل منّي، فقال له أبو بكر: أنت أقوى منّي، فقال له عمر: فإنّ قوّتي لك مع فَضْلك، قال فبايعه.
روى أَنس بن مالك: أَن النبي صَلَّى الله عليه وسلم قال: "رَأَيْتُنِي عَلَى حَوْضٍ، فَوَرَدَتْ عَلَيَّ غَنَمٌ سُودٌ وَبِيْضٌ، فَأَوّلْتُ الْسُّوْدَ: الْعَجَمَ، وَالْعُفْرَ: الْعَرَبَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ الْدَّلْوَ مِنِّي، فَنَزَعَ ذَنُوبًا أَوْ ذَنُوْبَيْنِ، وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ، وَالله يَغْفِرُ لَهُ، فَجَاءَ عُمَرُ فَمَلَأَ الْحَوْضَ وَأَرْوَى الْوَارِدُ"(*) أخرجه البخاري في الصحيح 9 / 49 وأحمد في المسند 2 / 28، 29، 39، 104، 107، 2 / 318، 319، 368، 450، 5 / 554.. وروى عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اقْتَدُوا بِالْلَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ" (*)أخرجه الترمذي في السنن 5 / 570 كتاب المناقب (50) باب (16) حديث رقم 3663 وابن ماجة في السنن 1 / 37 المقدمة باب (11) حديث رقم 97 وأحمد في المسند 5 / 382، 385، 399، 402.. وروى محمد بن الزبير قال: أَرسلني عمر بن عبد العزيز إِلى الحسن البصري أَسأَله عن أَشياءَ، فصعدت إِليه فإِذا هو متكئَ على وسادة من أَدَم، فقلت: أَرسلني إِليك عمر أَسأَلك عن أَشياءَ، فأَجابني فيما سأَلته عنه، وقلت: اشفني فيما اختلف الناس فيه: هل كان رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم استخلف أَبا بكر؟ فاستوى الحسن قاعدًا فقال: أَوَفِي شك هو لا أَبا لك؟ إِيْ والله الذي لا إِله إِلا هو، لقد استخلفه، ولهو كان أَعلم بالله، وأَتقى له، وأَشد مخافة من أَن يموت عليها لو لم يأَمره.
وروت عائشة بنت سعد، عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "لِيُصَلِّ أَبُو بَكْرٍ بِالْنَّاسِ"، قَالُوا: لَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ؟ قَالَ: "لاَ يَنْبَغِي لأُمَّتِي أَنْ يَؤُمَّهُمْ إِمَامٌ وَفِيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ"(*). وروى سالم بن عُبَيْد ــ وكان من أَصحاب الصُّفَّة: أَن النبي صَلَّى الله عليه وسلم لما اشتدّ مرضه أُغْمِي عليه، فلما أَفاق قال: "مُرُوا بِلَالًا فَلْيُؤَذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالْنَّاسِ" ـــ قَالَ: ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبِي رَجُلٌ أَسِيْفٌ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ؟ فَقَالَ: "أُقِيْمَتِ الْصَّلَاةُ"؟ فَقَالَتْ عَائِشَةَ: يَا رَسُوْلَ الله، إِنَّ أَبِي رَجُلٌ أَسِيْفٌ، فَلَوْ أَمَرْتَ غَيْرَهُ؟ قَالَ: "إِنَّكُنَّ صَوَاحِبَاتُ يُوْسُفَ، مُرُوا بِلَالًا فَلْيُؤذِّنْ، وَمُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالْنَّاسِ"، ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "أُقِيْمَتِ الْصَّلَاةُ"؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "ادْعُو إِلَيَّ إِنْسَانًا أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ"، فَجَاءَتْ بُرَيْرَةُ، وَإِنْسَانٌ آخَرَ، فَانْطَلِقُوا يَمْشُوْنَ بِهِ، وَإِن رجليه تَخُطَّان في الأَرض قال: فأَجلسوه إِلى جنب أَبي بكر، فذهب أَبو بكر يتأَخر، فحبسه حتى فرغ الناس(*)، فلما توفي قال ــ وكانوا قومًا أُميين لم يكن فيهم نبي قبله ــ: قال عمر: لا يتكلم أَحد بموته إِلا ضربته بسيفي هذا! قال: فقالوا له: اذهب إِلى صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فادعه ــ يعني: أَبا بكر، قال: فذهبتُ فوجدتُه في المسجد، قال: فأَجهشت أَبكي، قال: لعل نبي الله توفي؟ قلت: إِن عمر قال: لا يتكلم أَحد بموته إِلا ضربته بسيفي هذا! قال: فأَخذ بساعدي، ثم أَقبل يمشي، حتى دخل، فأَوسعوا له، فأَكب على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم حتى كاد وجهه يَمَسّ وجه رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فنظر نَفَسَهُ حتى استبان أَنه توفي، فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر/ 30] قالوا: يا صاحب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، توفي رسول الله صَلَّى الله عليـه وسلم؟ قال: نعم، فَعَلِموا أَنه كما قال، قالوا: يا صاحب رسول الله، هل يُصَلَّى على النبي صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: يجيءَ نَفَرٌ مِنْكُم فيُكَبِّرُون فيَدْعُون، ويذهبون حتى يَفْرَغَ الناس، فعلموا أَنه كما قال، قالوا: يا صاحب رسول الله، هل يُدْفَن النبي صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: أَين يدفن؟ قال: حيث قَبَضَ الله رُوحَه، فإِنه لم يقبضه إِلا في موضع طَيِّب، فعرفوا أَنه كما قال، ثم قال: عندكم صاحبكم، ثم خرج، فاجتمع إِليه المهاجرون ــ أَو من اجتمع إِليه منهم ــ فقال: انطلقوا إِلى إِخواننا من الأَنصار، فإِن لهم في هذا الحَقّ نصيبًا، فذهبوا حتى أَتوا الأَنصار، قال: فإِنهم ليتآمرون إِذ قال رجل من الأَنصار: منا أَمِيرٌ ومنكم أَمِير، فقام عُمَر وأَخذ بيد أَبي بكر، فقال: سيفان في غمد إِذَنْ لا يصطحبان، ثم قال: من له هذه الثلاث: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة/ 40] مع مَن؟ فبسط يد أَبي بكر فضرب عليها، ثم قال للناس: بايعوا، فبايع الناسُ أَحسن بَيْعَة.
روى عبد اللّه قال: كان رجوع الأَنصار يوم سقيفة بني ساعِدَةَ بكلامٍ قاله عمر، قال: "أَنْشُدُكم بالله، أُمِر أَبُو بكر أَن يصلي بالناس؟ قالوا: اللهم نعم، قال: فأَيكم تطيب نفسه أَن يُزيله عن مُقَامِه الذي أَقامه فيه رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قالوا: كلنا لا تطيب أَنفسنا، نستغفر الله! أخرجه البخاري في الصحيح 5 / 127.. قال ابن الأثير: وقد ورد في الصحيح حديث عمر في بيعة أَبي بكر، وهو حديث طويل، تركناه لطوله وشهرته. وكان عمر بن الخطاب أَولَ من بايعه، وكانت بَيْعَته في السَّقيفة يوم وفاة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ثم كانت بيعة العامة من الغَدِ.
وذكر ابن سعد في كتاب "الطبقات الكبير" أنَّ استخلاف رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم لأبي بكر على أمّته من بعده من أظهر الدّلائل البيِّنة على محبته، وبالتعريض الذي يقوم مقام التّصريح، ولم يصرِّحْ بذلك لأنه لم يؤمَر فيه بشيء، وكان لا يصنع شيئًا في دين الله إلَّا بوَحي، والخلافةُ ركنٌ من أركانِ الدّين، ومن الدّلائل الواضحة على ما قلنا ما رواه محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال:‏ أتت امرأةٌ إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فسألته عن شيء، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت‏: يا رسول الله، أرأيت إن جئت فلم أجدِك، تعني الموت‏، فقال لها رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: ‏"‏إِنْ لَمْ تَجِدِيني فَأْتِي أَبَا بَكْر‏"(*)‏‏، قال الشّافعي‏:‏ في هذا الحديث دليلٌ على أَنَّ الخليفةَ بعد رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبو بكر.‏ وروى عبد الله بن زَمْعة بن الأسود، قال:‏ كنت عند رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم وهو عليل، فدعاه بِلالٌ إلى الصّلاة، فقال لنا:‏ ‏"مُرُوا مَنْ يُصَلِّيِ بِالنَّاسِ‏"‏‏،‏ قال:‏ فخرجْتُ فإذا عمر في النّاس، وكان أبو بكر غائبًا، فقلت‏: قم يا عمر، فصلِّ بالنّاس، فقام عمر، فلما كبَّر سمع رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم صَوْتَه؛ وكان مجهرًا، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:‏ ‏"‏فَأَيْنَ أَبُو بَكْرٍ؟ يَأْبَى اللَّهُ ذَلِكَ وَالْمُسْلِمُونَ‏"‏‏ أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 477.‏ فبعث إلى أبي بكر، فجاءه بعد أن صلَّى عمر تلك الصّلاة، فصلَّى بالنّاس طولَ عِلَّتِه حتى قُبض رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم(*)‏. وهذا أيضًا واضحٌ في ذلك. وروى حذيفة قال:‏ قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم:‏‏ "اقْتَدُوا بِالّلذَيْن مِنْ بَعدِي‏‏: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهدي عَمَّارٍ، وَتَمَسّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ أُمَّ عَبْدٍ"(*)أخرجه الترمذي في السنن حديث رقم 3662،3805، وابن ماجه في السنن حديث رقم 97،وأحمد في المسند 5/ 382، 385، 399،401،402، والبيهقي5/ 12،8/ 153، والحاكم في المستدرك 3/ 75، وابن حبان في صحيحه حديث2193، وأبو نعيم في الحلية 9/ 109، والبخاري في التاريخ الكبير 8/ 209، 9/ 50، وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم 3656، 32646،32657، 33117،33679،36746،36853.. وكان أبو بكر يقول:‏ ‏أَنا خليفة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وكذلك كان يُدْعى: يا خليفةَ رسول الله‏، وكان عمر يُدْعى خليفة أبي بكر صَدْرًا من خلافته حتى تسمَّى بأمير المؤمنين.
وأبو بكر هو أَول خليفة كان في الإِسلام، وأَول من حج أَميرًا في الإِسلام، فإِن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فتح مكة سنة ثمان، وسَيَّر أَبا بكر يحج بالناس أَميرًا سنة تسع. وروى مسروق، عن عائشة قالت: لمّا مرض أبو بكر مَرَضَه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلتُ الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة من بعدي فإنّي قد كنتُ أستحلّه قال: وقال: عبد الله بن نُمير أستصلحه جَهْدي، وكنتُ أصيبُ من الوَدَك نحوًا ممّا كنتُ أصيب في التجارة، قالت عائشة: فلمّا مات نظرنا فإذا عَبْدٌ نوبيّ كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح كان يَسني عليه، قال عبد الله بن نُمير: ناضح كان يسقي بُسْتانًا له، قالت فبعثنا بهما إلى عمر، قالت فأخبرني جدّي أنّ عمر بكَى وقال: رحمة الله على أبي بكر لقد أتْعَبَ مَنْ بَعْدَه تَعَبًا شديدًا.
وروت عائشة أنّ أبا بكر حين حضره الموت قال: إنّي لا أعلم عند أبي بكر من هذا المال شيئًا غير هذه اللقحة، وغيرَ هذا الغلام الصّيْقَل كان يعمل سيوف المسلمين ويَخْدُمنا فإذا مِتُّ فادْفَعِيه إلى عمر، فلمّا دفعته إلى عمر قال: رحمَ اللهُ أبا بكر لقد أتعَبَ مَنْ بَعْدَه. وروى أنس قال: أطَفْنا بغرفة أبي بكر الصّدّيق في مَرْضَتِه التي قُبض فيها، قال: فقلنا: كيف أصبح أو كيف أمسى خليفة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قال: فاطّلع علينا اْطّلاعَةً فقال: ألَسْتُمْ تَرْضَوْنَ بما أصْنَعُ! قلنا: بلى قد رضينا، قال: وكانت عائشة هي تُمَرّضُه، فقال: أما إني قد كنت حريصًا على أن أُوَفّرَ للمسلمين فَيْئَهم مع أني قد أصبتُ من اللحم واللبن، فانظروا إذا رجعتم منّي فانظروا ما كان عندنا فأبْلِغوه عُمَرَ، قال: فذاك حيث عرفوا أنّه استخلفَ عمر، قال: وما كان عنده دينارٌ ولا درهم، ما كان إلا خادم، ولقحة، ومِحْلَب، فلمّا رأى ذلك عمر يُحْمَلُ إليه قال: يرحم الله أبا بكر لقد أتْعَبَ مَنْ بَعْدَه.
روى ابن عون، عن محمّد قال توفّي أبو بكر الصّدّيق وعليه ستّة آلاف كان أخذها من بيت المال، فلمّا حضرته الوفاة قال: إنّ عمرَ لم يَدَعْني حتّى أصبتُ من بيت المال ستة آلاف درهم، وإن حائطي الذي بمكان كذا وكذا فيها، فلمّا توفّي ذُكر ذلك لعمر فقال: يرحم الله أبا بكر لقد أحَبّ أن لا يَدَعَ لأحَدٍ بعده مقالًا وأنا والي الأمر من بعده وقد رددتُها عليكم. وروى عليّ قال: يرحم الله أبا بكر هو أوّل من جمع اللّوْحَين. وروى نِيارُ الأسلمي، عن عائشة قالت: قسم أبي أوّل عامٍ الفَيءَ فأعطى الحُرّ عشرة، وأعطى المملوك عشرة، والمرأة عشرة، وأمَتها عشرة، ثمّ قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين. وروى أبو عِمْران الجَوْني، عن أسير قال: قال سَلْمان دخلتُ على أبي بكر الصّدّيق في مرضه فقلت: يا خليفة رسول الله، اعْهَدْ إليّ عَهْدًا، فإنّي لا أراك تَعْهَدُ إليّ بعد يومي هذا، قال: أجل يا سلمان، إنّها ستكون فتوحٌ فلا أعْرِفَنّ ما كان من حظّك منها ما جعلتَ في بطنك أو ألقيته على ظهرك، واعلم أنّه من صلّى الصلوات الخمس فإنه يُصْبحُ في ذِمّةِ الله، ويُمسي في ذمّة الله، فلا تَقْتُلَنّّ أحدًا من أهل ذمّة الله فيَطلُبك اللَّه بذمَّته فيُكِبّك الله على وجهك في النّار.
روى قتادة قال: قال أبو بكر لي من مالي ما رَضي ربّي من الغنيمة، فأوْصى بالخُمس. وروى عروة، عن عائشة قالت: لما حضر أبا بكر الوفاة جلس فتشهّد، ثمّ قال: أمّا بعدُ يا بُنيّة، فإنّ أحَبّ النّاسِ غِنًى إليّ بعدي أنْتِ، وإنّ أعَزّ النّاسِ عليّ فَقرًا بعدي أنْتِ، وإنّي كنتُ نَحَلْتُكِ جدادَ عشرين وسقًا من مالي فوَدِدْتُ واللهِ أنّكِ حُزْته وأخذته، فإنّما هو مال الوارث وهما أخَواكِ وأخْتاكِ، قالت: قلتُ هذا أخَوَايَ فمَنْ أُخْتايَ؟ قال: ذات بَطْنِ ابنْةِ خارجةَ فإنّي أظُنّها جاريةً.
وروى محمّد بن الأشعث أنّ أبا بكر الصّدّيق لمّا أنْ ثقُل قال لعائشة: إنّه ليس أحدٌ من أهلي أحَبّ إليّ منك وقد كنتُ أقْطَعْتُكِ أرْضًا بالبحرَين ولا أراك رَزَأتِ منها شيئًا، قالت له: أجَلْ، قال: فإذَا أنا مِتّ فابْعَثي بهذه الجارية، وكانت تُرْضعُ ابْنَه، وهاتَين اللِّقْحَتَين وحالبهما إلى عُمَرَ، وكان يسقي لَبَنَهما جُلساءَه، ولم يكن في يده من المال شَيءٌ، فلمّا مات أبو بكر بعثت عائشة بالغلام، واللقحتين، والجارية إلى عمر فقال عمر: يرحم الله أبا بكر لقد أتْعَبَ من بعده، فقَبل اللقحتين والغلام، وردّ الجارية عليهم. وروى أفْلح بن حُميد، عن أبيه قال: كان المال الذي نَحَلَ عائشة بالعالية من أموال بني النضير بئر حجر كان النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم أعطاه ذلك المال فأصلحه بعد ذلك أبو بكر وغرس فيه وَدِيًّا.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: ما ترك أبو بكر دينارًا، ولا درهمًا ضَرَبَ الله سِكّتَه. وقالت عائشة: لمّا حُضِرَ أبو بكر قلتُ كلمةً من قول حاتم:
لَعمرُكَ ما يُغني الثراءُ عن الفَتى
إذا حشرَجتْ يوْمًا وضاقَ بها الصدرُ
فقال: لا تقولي هكذا يا بُنيّة، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[سورة ق: 19]، انْظُروا، مُلاءَتَيّ هاتَيْنِ فإذا مِتّ فاغسِلوهما، وكفّنوني فيهما فإنّ الحيّ أحوْج إلى الجديد من الميّت. قالَ: أخبرنا يَعْلى ومحمّد ابنا عُبيد قالا: أخبرنا موسى الجُهَني عن أبي بكر بن حفص بن عمر قال: جاءت عائشة إلى أبي بكر وهو يعالج ما يُعالجُ الميّتُ ونفَسُه في صدره، فتمثّلتْ هذا البيت:
لعمرُكَ ما يُغْني الثراءُ عن الفَتى
إذا حشرَجتْ يومًا وضاق بها الصّدرُ
فنظر إليها كالغضبان ثمّ قال: ليس كذلك يا أمّ المؤمنين ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[سورة ق: 19]، إني قد كنتُ نَحَلْتُكِ حائطًا وإنّ في نفسي منه شيئًا فرُدّيه إلى الميراث، قالت: نعم فرددتُه، فقال: أما إنّا منذ وَلِينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهًما ولكنّا قد أكلنا من جَريشِ طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خَشِنِ ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيءِ المسلمين قليلٌ ولا كثيرٌ إلاّ هذا العبدَ الحبَشيّ، وهذا البعير الناضح، وجَرْدَ هذه القطيفة، فإذا مِتّ فابْعثي بهنّ إلى عمر، وأبْرَئي منهنّ، ففعلتُ، فلمّا جاء الرسول عمرَ بكى حتّى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتْعَبَ من بعده، رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده، يا غلام ارفعهنّ، فقال عبد الرّحمن بن عوف: سبحان الله تَسْلُبُ عيالَ أبي بكر عبدًا حبَشيًّا وبعيرًا ناضحًا وجَرْدَ قطيفةٍ ثَمَن خمسة الدراهم؟ قال: فما تأمُرُ؟ قال: تَرُدّهنّ على عياله، فقال: لا والذي بعث محمّدًا بالحقّ، أو كما حلف، لا يكون هذا في ولايتي أبدًا ولا خرج أبو بكر منهنّ عند الموت وأرُدّهُنّ أنا على عياله، الموتُ أقربُ من ذلك.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت لمّا مرض أبو بكر‏:
مَـنْ لا يَـزَالُ دَمْعُــه مُقَنَّـعـًا
فـإنــه في مـرة مـدفـــوقُ
فقال أبو بكر: ليس كذاك أي بُنيّة ولكن: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[سورة ق: 19]. وروى عبد الله بن عُبيد أنّ أبا بكر أتته عائشة وهو يجود بنفسه فقالت: يا أبتاه هذا كما قال حاتم:
إذا حَشْرَجَتْ يوْمًا وضاقَ بها الصّدْر
فقال: يا بُنيّة قول الله أصْدق: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، إذا أنا مِتّ فاغْسلي أخْلاقي فاجْعليها أكْفاني، فقالت: يا أبتاه قد رزق الله وأحسن، نُكَفّنُك في جديد، قال: إنّ الحَيّ هو أحْوَجُ يَصُونُ نفسه وَيَضَعُهَا من الميّت، إنّما يصير إلى الصديد وإلى البِلى. وروى بكر بن عبد الله المُزَني قال: بلغني أنّ أبا بكر الصّدّيق لمّا مرض فثقل قعدت عائشة عند رأسه فقالت:
وكُـلُّ ذِي إبِـلٍ مـوروثُهـا وكـلّ ذي سَلَـبٍ مَسْـلُـوبُ
فقال: ليس كما قلت يا بنتاه ولكن كما قال الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}[سورة ق: 19]. وروى القاسم بن محمّد، عن عائشة أنّها تمثّلت بهذا البيت وأبو بكر يقضي‏:
وَأبيضَ يُستَسقى الغمـامُ بوَجهه رَبيـعُ اليتـامى عصْمـةٌ لِلأرامِلِ
فقال أبو بكر: ذاك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم. وروت سُمَيّة أنّ عائشة قالت:
مـن لا يـزالُ دمْعُـه مُقَنَّـعًا لا بـدّ يومـا أنـه يُهْـرَاقُ
فقال أبو بكر: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}. وروى ثابت قال: كان أبو بكر يتمثّل بهذا البيت‏:
لا تَـزالُ تَنْعى حَبيـبًا حتّى تكونَه وَقَدْ يرْجُو الفَتَى الرّجَا يموتُ دونَه
قال قتادة: بلغني أنّ أبا بكر قال: وَدِدْت أني خضرة تَأكُلُني الدّواب. وروى ابن شهاب أنّ أبا بكر والحارث بن كَلَدَة كانا يأكلان خزيرة أُهديت لأبي بكر، فقال الحارث لأبي بكر: ارْفَعْ يدك يا خليفة رسول اللَّه، والله إنّ فيها لَسَمّ سَنَةٍ وأنا وأنت نموت في يوم واحد، قال: فرفع يده، فلم يَزَالا عَليلين حتّى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة. وروى هشام بن عروة، عن أبيه قال: قال أبو بكر: لأنْ أُوصي بالخُمْس أحَبّ إليّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالرّبع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثلث، ومَنْ أوْصى بالثلث فلم يَتركْ شيئًا. وَرُوِي أنّ أبا بكر الصّدّيق لمّا استُعِزّ به دعا عبد الرّحمن بن عوف فقال: أخبرني عن عمر بن الخطّاب، فقال عبد الرّحمن: ما تَسْألني عن أمر إلا وأنت أعلم به منّي، فقال أبو بكر: وإنْ، فقال عبد الرّحمن: هو والله أفْضَلُ من رأيك فيه، ثمّ دعا عثمان بن عفّان فقال: أخْبِرْني عن عمر، فقال: أنت أخبرُنا به، فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللّهُمّ عِلْمي به أنّ سريرته خير من علانيته، وأنّه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تَرَكْتُه ما عَدَوْتُك، وشاوَرَ معهما سعيد بن زيد أبا الأعور، وأُسَيْدَ بن الحُضَير وغيرهما من المهاجرين والأنصار فقال أُسَيْدٌ: اللّهمّ أعْلَمُه الخِيَرَةَ بعدك يَرْضى للرّضا ويَسْخَطُ للسّخْطِ، الذي يُسِرّ خيرٌ من الّذي يُعلنُ، ولم يَلِ هذا الأمر أحَدٌ أقوى عليه منه، وسَمعَ بعضُ أصحاب النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم بدخول عبد الرّحمن وعثمان على أبي بكر وخَلْوَتِهِما به، فدخلوا به فدخلوا على أبي بكر، فقال له قائلٌ منهم: ما أنت قائلٌ لربّك إذا سألك عن استخلافك عُمَرَ علينا، وقد تَرى غِلْظَتَه؟ فقال أبو بكر: أجْلِسوني، أبالله تُخَوفوني؟ خابَ مَنْ تَزَوَّد من أمركم بظُلم، أقولُ: اللّهمّ استخلفتُ عليهم خير أهلك، أَبْلِغ ما قلت لك مَنْ وَرَاءَك، ثمّ اضطجع ودعا عثمان بن عفّان فقال: اكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، هذا ما عَهِدَ أبو بكر بن أبي قُحافة في آخر عهده بالدنيا خارجًا منها، وعند أوّل عهده بالآخرة داخلًا فيها حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويَصْدُقُ الكاذب، إني استخلفتُ عليكم بعدي عمر بن الخطّاب فاسمَعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسولَه ودينَه ونفسي وإيّاكم إلاّ خيرًا، فإنْ عَدَل فذلك ظنَّي به وعلمي فيه، وإنْ بدّل فلكلّ امرئ ما اكتَسَبَ من الإثم، والخير أردتُ، ولا أعلم الغَيْبَ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون} [الشعراء: من الآية227]، والسّلامُ عليكم ورحمةُ الله، ثمّ أمر بالكتاب فختمه، ثمّ قال بعضهم لمّا أمْلى أبو بكر صدرَ هذا الكتاب: بَقيَ ذكرُ عُمَرَ فذُهِبَ به قبل أنْ يُسَمّيَ أحَدًا، فكتب عثمان: إني قد استخلفتُ عليكم عمرَ بن الخطّاب، ثمّ أفاق أبو بكر فقال: اقْرَأ عَلَيّ ما كَتَبْتَ، فقَرَأ عليه ذِكْرَ عُمَرَ فكَبّرَ أبو بكر، وقال: أراك خِفْتَ إنْ أقْبَلَتْ نفسي في غَشْيَتي تلك يَخْتَلِف النّاسُ فجزاك الله عن الإسلام وأهله خيرًا، والله إنْ كنتَ لها لأهْلًا، ثمّ أمره فخرج بالكتاب مختومًا ومعه عمر بن الخطّاب، وأُسَيْد بن سعيد القُرَظيّ، فقال عثمان للنّاس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، وقال بعضهم: قد عَلِمْنَا به، قال ابن سعد: عليّ القائل وهو عمر، فأقَرّوا بذلك جميعًا، ورَضوا به، وبايعوا، ثمّ دعا أبو بكر عمر خاليًا فأوصاه بما أوصاه به، ثمّ خرج من عنده فرفع أبو بكر يديه مَدًّا، فقال: اللهمّ إني لم أُرِدْ بذلِك إلاّ صلاحَهم، وخِفْتُ عليهم الفتنةَ، فعملتُ فيهم بما أنت أعْلَمُ به، واجتهدتُ لهم رَأيي، فوَلّيْتُ عليهم خَيْرَهم، وأقواهم عليهم، وأحرَصهم على ما أرشدهم، وقد حَضَرَني من أمرِكَ ما حضر، فاخْلُفني فيهم فَهُمْ عبادُك، ونَوَاصيهم بيدك أصْلِحْ لهم وإليهم واجْعَلْه من خُلفائك الراشدين يَتّبعْ هُدى نبيّ الرّحْمَةِ، وهُدى الصالحين بعده، وأصْلِحْ له رَعيّتَه.
وروى هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لمّا ثقل أبو بكر قال: أيّ يوم هذا؟ قالت: قلنا يوم الاثنين، قال: فأيّ يومٍ قُبضَ رسولُ الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قالت: قلنا قُبض يومَ الاثنين، قال: فإني أرجو ما بيني وبَينَ الليل، قالت: وكان عليه ثوب فيه رَدْعٌ من مِشْقٍ فقال: إذا أنا مِتّ فاغسلوا ثوبي هذا، وضمّوا إليه ثوبَين جديدين، وكفّنوني في ثلاثة أثواب، فقلنا ألا نَجْعَلُها جُدُدًا كلّها؟ فقال: لا، إنّما هو للمُهْلَةِ، الحَيّ أحَقّ بالجديد من الميّت، قالت فمات ليلة الثلاثاء، رحمه الله. وروى هشام بن عروة عن عروة عن عائشة أنّ أبا بكر قال لها: في أيّ يوم مات رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم؟ قالت: في يوم الاثنين، قال: ما شاء الله إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، قال: ففيمَ كَفّنْتُمُوه؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سَحُوليّة يَمانِيَة ليس فيها قميص ولا عِمامَة، فقال أبو بكر: انْظري ثَوْبي هذا فيه رَدْعُ زَعْفَرَان أو مِشْقٍ فاغسليه، واجعلي معه ثوبين آخَرَين، فقالت عائشة: يا أبتِ، هو خَلَقٌ، فقال: إنّ الحيَ أحقّ بالجديد، وإنّما هو للمُهْلة، وكان عبد الله بن أبي بكر أعْطاهم حُلّةً حِبَرَةً فأُدْرِجَ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فيها، ثمّ استخرجوه منها، فكُفّن في ثلاثة أثواب بيض، فأخذ عبد الله الحُلّة فقال: لأكَفّنَنّ نفسي في شيءٍ مَسّ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ثمّ قال بعد ذلك: والله لا أكَفّنُ في شيءٍ مَنَعَهُ اللُّه نبيّه أنْ يُكَفّنَ فيه، ومات أبو بكر ليلة الثلاثاء ودفن ليلًا، وماتت عائشة ليلًا فدفنها عبد الله بن الزُّبير ليلًا.
وروى عروة، عن عائشة قالوا: كان أوّلُ بَدْءِ مرض أبي بكر أنّه اغتسل يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة، وكان يومًا باردًا فحُمّ خمسة عشر يومًا لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بن الخطّاب يصلّي بالنّاس، ويَدْخُلُ النّاس عليه يعودونه، وهو يثقل كل يومٍ، وهو نازل يومئذ في داره التي قطع له النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وجاهَ دار عثمان بن عفّان اليوم، وكان عثمان ألْزَمَهُم له في مرضه، وتوفي أبو بكر ــ رحمه الله ــ مساء ليلة الثلاثاء لثمّاني ليالٍ بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من مُهاجَر النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليالٍ، وكان أبو معشر يقول: سنتين وأربعة أشهر إلاّ أربع ليالٍ، وتوفي رحمه الله، وهو ابن ثلاثٍ وستّين سنة، مُجْمَعٌ على ذلك في الروايات كلّها، استوفى سِنّ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم.
وروى أنس قال: كان أسنّ أصحاب رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبو بكر، وسُهيل بن بيضاء. وروى القاسم بن محمّد أنّ أبا بكر الصّدّيق أوصى أن تغسله امرأتُه أسماءُ فإن عجزت أعانَها ابنُها منه، محمّدٌ. قال محمّد بن عمر: وهذا وَهَلٌ، وقال محمّد بن سعد: هذا خَطَأٌ. قال محمّد بن عمر: أخبرنا ابن جُريج عن عطاء قال: أوصى أبو بكر أن تغسله امرأتُه أسماء بنت عُميس فإن لم تستطع استعانت بعبد الرّحمن بن أبي بكر. قال محمّد بن عمر: وهذا الثبت، وكيف يُعينُها محمّدٌ ابنها وإنّما وَلَدَتْه بذي الحُليفة في حجّة الوداع سنةَ عشرٍ، وكان له يومَ توفي أبو بكر ثلاث سنين أو نحْوها؟. وروى مالك بن عبد الله بن أبي بكر أنّ أسماءَ بنت عُميس امرأة أبي بكر الصّدّيق غسلت أبا بكر حين توفي، ثمّ خرجت فسَألَتْ من حَضَرَهَا من المهاجرين فقالت: إني صائمة، وهذا يومٌ شديدُ البرد فهل عليّ غُسْلٌ؟ قالوا: لا.
روى القاسم بن محمّد قال: كُفّن أبو بكر في رَيْطَتَين، ريطة بيضاء وريطة ممصّرة، وقال: الحيّ أحوج إلى الكسوة من الميّت، إنّما هو الكفن لِما يَخْرُجُ من أنْفه وفيه. وروى سُويد بن غَفَلَةَ قال: كُفّن أبو بكر في ثوبين، قال شريك: معقّدين، وقال سُويد بن غَفَلَة: أنّ أبا بكر كُفّن في ثوبين من هذه الثياب الموصولة. وروى كثير بن زيد، عن المطّلب بن عبد الله أنّ أبا بكر أمرهم أن يَرْحَضوا أخْلاقه فيدفنوه فيها، قال: ودُفن ليلًا.
وروى القاسم بن محمّد قال: قال أبو بكر حين حَضَرَه الموت: كفّنوني في ثوبيّ هذين اللّذين كنتُ أصَلّي فيهما واغسلوهما فإنّهما للمُهْلة والتراب. وروى صالح بن أبي حَسّان أنّ عليّ بن الحسين سأل سعيد بن المسيّب أيْنَ صُلّيَ على أبي بكر؟ فقال: بين القبر والمنبر، قال: من صَلّى عليه؟ قال: عمر، قال: كم كَبّرَ عليه؟ قال: أربعًا. وروى المطّلب بن عبد الله بن حَنْطَب أنّ أبا بكر وعُمر صُلّيَ عليهما في المسجد تُجاه المنبر. وروى محمّد بن فلان بن سعد أنّ عمر حين صَلّى على أبي بكر في المسجد رَجّعَ. وروى المطّلب بن عبد الله بن حَنْطَب قال: الذي صلّى على أبي بكر عمرُ بن الخطّاب، وصلّى صُهَيْبٌ على عمر. وروى هشام بن عروة قال: حدّثني أبي أنّ عائشة حدّثته قالت: توفي أبو بكر ليلًا فدفنّاه قبل أنْ نصبح.
وروى ابن السبّاق أنّ عمر دَفَنَ أبا بكرٍ ليلًا، ثمّ دخل المسجد، فأوْتَرَ بثلاث. وروى ابن عمر قال: حضرتُ دفن أبي بكر، فنزل في حُفرته عمرُ بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وطلحة بن عبد الله، وعبد الرّحمن بن أبي بكر، قال ابن عمر: فأرَدتُ أن أنزل، فقال عمرُ: كُفيتَ. وروى سعيد بن المسيّب قال: لمّا توفّي أبو بكر أقامت عليه عائشة النّوْح، فبلغ عُمَرَ فجاءَ فنهاهنّ عن النوح على أبي بكر، فأبَينَ أن يَنْتَهِينَ، فقال لهشام بن الوليد: أخْرِجْ إليّ ابنةَ أبي قُحافة، فعلاها بالدِّرّةِ ضَرَباتٍ فتفرّق النوائح حين سَمِعْنَ ذلك، وقال: تُرِدْنَ أنْ يعَذَّبَ أبو بكر ببُكائكنّ؟ إنّ رسولَ الله صَلَّى الله عليه وسلم، قال: "إنّ الميّت يُعَذَّبُ ببُكاءِ أهْله عليه"(*).
روى عمر بن عبد الله بن عروة أنّه سمع عروة، والقاسم بن محمّد يقولان: أوصى أبو بكر عائشةَ أن يدْفَنَ إلى جَنْبِ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلمّا توفّي حُفر له وجُعل رأسُه عند كَتِفَيْ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وأُلصِقَ اللّحدُ بقبر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فقُبر هناك. وروى عامر بن عبد الله بن الزُّبير قال: رَأسُ أبي بكر عند كَتِفَيْ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ورأسُ عمر عند حَقْوَيْ أبي بكر. وروى المطّلب بن عبد الله بن حَنْطَب قال: جُعِلَ قبرُ أبي بكر مثلَ قبر النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، مُسَطّحًا ورُشّ عليه الماء. وروى القاسم بن محمّد قال: دخلت على عائشة فقلت: يَا أُمَّتِ اكْشِفي لي عن قبر النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، وصاحبَيْه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مُشْرِفَةٍ ولا لاطئةٍ مبطوحةٍ ببَطْحاءِ العَرْصَةِ الحمراءِ، قال: فرأيتُ قبر النّبيّ صَلَّى الله عليهَ وسلم، مُقَدّمًا وقبرَ أبي بكر عند رأسه، ورأسَ عمر عندَ رِجْلِ النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، قال عمرو بن عثمان: فوصف القاسمُ قبورهم.
وروى عبد الله بن دينار أنّه قال: رأيتُ عبد الله بن عمر يقف على قبر النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، فيصلّي على النّبيّ صَلَّى الله عليه وسلم، ويدعو لأبي بكر وعمر. وروى أبو عَقيل، عن رجل قال: سئل عليّ عن أبي بكر وعمر فقال: كانا إمامَيْ هدًى راشدَيْن مُرْشِدَيْن مُصْلِحَيْن مُنْجِحَيْن خَرَجا من الدّنيا خَميصَيْن. وروى ابن المسيّب قال: سمع أبو قُحافة الهائعة بمكّة فقال: ما هذا؟ قال: توفّي ابنك، قال: رُزْءٌ جليل، مَنْ قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر، قال، صاحبُه.
وروى شُعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه قال: وَرِثَ أبا بكر الصديّق أبوه أبو قُحافة السّدْسَ ووَرِثَه معه ولده عبدُ الرحمن، ومحمد، وعائشةُ، وأسماءُ، وأمّ كلثوم بنو أبي بكر، وامرأتاهُ أسْماءُ بنت عميس، وحبَيبةُ ابنة خارجةَ بن زيد، وهي أمّ أمّ كلثوم وكانت بها نَسْأً حين توفّي أبو بكر رحمه الله. وقال ابن إسحاق:‏‏ تُوفِّي أبو بكر على رأس سنتين وثلاثة أشهر واثنتي عشرة ليلة من متوفّى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم‏، وقال غيره‏: وعشرة أيام، وقال غيره أيضًا: وعشرين يومًا، واختلف في السّبب الذي مات منه، فذكر الواقديّ أنه اغتسل في يوم بارد فحمّ، ومرض خمسة عشر يومًا.‏ ‏وقال الزّبير بن بكّار:‏ كان به طرف من السّل. ‏وروى عن سلم بن أبي مطيع أنه سُمَّ، واختلف أيضًا في حين وفاته، فقال ابن إسحاق‏: تُوفِّي يوم الجمعة، لتسع ليالٍ بقين من جمادى الآخرة، سنة ثلاث عشرة‏، وقال غيره من أهل السّير:‏ مات عشيّ يوم الاثنين،‏ وقيل: ليلة الثّلاثاء، وقيل: عشيّ يوم الثَّلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة‏.
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال