تسجيل الدخول

إسلام أبي سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم

كان الله قد عمَّى أخبار المسلمين عن قريش فهم على وجل وترقب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار.
قال العباس: والله إني لأسير على بغلة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة، حمشتها الحرب (أي خرجوا للحرب غضابا) فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها.
قال العباس فعرفت صوته، فقلت: أبا حنظلة؟ فعرف صوتي، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم، قال: مالك؟ فداك أبي وأمي، قلت: هذا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظُفِر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي، ورجع صاحباه.
قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نيران المسلمين، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله وأنا عليها قالوا: عم رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقت، فاقتحمتُ عن البغلة (أي نزلت) فدخلت على رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان فدعني أضرب عنقه، قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فأخذت برأسه فقلت: والله لا يناجيه (أي يكلمه سرا) الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه قلت: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا، قال (أي عمر): مهلا يا عباس، فوالله لإسلامك كان أحب إلى من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب.
فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به"، فذهبت، فلما أصبحت غدوت به إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله"؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغني عني شيئا بعد. قال: "ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله"، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ أما هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، قبل أن تضرب عنقك، فأسلَمَ وشهد شهادة الحق.
قال العباس: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا، قال: "نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن".
وفي ذلك الصباح ــ صباح يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان سنة 8هـ ــ غادر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم مر الظهران إلى مكة، وأمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل (هو جزء يخرج من الجبل يضيق به الطريق) حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس من هذه؟ فيقول: ــ مثلا ــ سليم، فيقول: مالي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة فيقول: يا عباس من هؤلاء؟ فيقول: مزينة، فيقول: ما لي ولمزينة؟ حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سأل العباس عنها، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق (أي العيون) من الحديد، قال: سبحان الله يا عباس، من هؤلاء؟ قال:هذا رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار، قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما، قال العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذن.
وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأبي سفيان قال له: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، فلما حاذى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول الله ألم تسمع ما قال سعد؟ قال: "وما قال؟" فقال: كذا وكذا، فقال عثمان وعبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله ما نأمن أن يكون له في قريش صولة (أي تجاوز واعتداء) فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "بل اليوم يوم تعظم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز الله فيه قريشا"، ثم أرسل إلى سعد فنزع منه اللواء، ودفعه إلى ابنه قيس.
ولما مر رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم بأبي سفيان قال له العباس: النجاء إلى قومك، فأسرع أبو سفيان حتى دخل مكة، وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس، قبح من طليعة قوم. (الحميت: وعاء السمن، الأحمس: كثير اللحم، طليعة القوم: حارسهم) قال أبو سفيان: ويلكم، لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله، وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وقدموا عبيدهم، وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا.
فتجمع سفهاء قريش وأخفاؤها (جمع خفيف) مع عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين، وكان فيهم رجل من بني بكر اسمه حماس بن قيس، وكان يعد قبل ذلك سلاحا، فقالت له امرأته: لماذا تعد ما أرى؟ قال: لمحمد وأصحابه، قالت: والله ما يقوم لمحمد وأصحابه شئ، قال: إني والله لأرجو أن أخدمك بعضهم. ثم قال:
إن يقبلوا اليوم فما لي علة هذا سلاح كامل وآله
وذو غرارين سريع السلة
الغرار: حد السيف أو الرمح، وسريع السلة: سريع الخروج للقتل) فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا في الخندمة لحرب المسلمين.
الاسم :
البريد الالكتروني :
عنوان الرسالة :
نص الرسالة :
ارسال