تسجيل الدخول

مكة تتلقى نبأ الهزيمة

فرَّ المشركون من ساحة بدر في صورة غير منظمة، تبعثروا في الوديان والشعاب، واتجهوا صوب مكة مذعورين، لا يدرون كيف يدخلونها خجلًا.
وكان أول من قدم بمصاب قريش: الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال: قُتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف. فلما أخذ يعد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية، وهو قاعد في الحجر: والله إن يعقل هذا، فاسألوه عني! قالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال: ها هو ذا جالس في الحجر، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.
وقال أبو رافع ــ مولى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم ــ كنت غلامًا للعباس، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أم الفضل، وأسلمت، وكان العباس يكتم إسلامه، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر، فلما جاءه الخبر كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوةً وعزًا، وكنت رجلًا ضعيفًا أعمل الأقداح، أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة ــ وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ــ إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب (أي وتد) الحجرة، فكان ظهره إلى ظهري.
فبينما هو جالس، إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال له أبو لهب: هلم إلى، فعندك لعمري الخبر، قال: فجلس إليه، والناس قيام عليه. فقال: يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وأيم الله، مع ذلك ما لمت الناس، لقينا رجال بيض على خيل بلق (الأبلق: ما في لونه بياض وسواد) بين السماء والأرض، والله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شيء (أي: لا يقدر أحد عليها).
قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. فرفع أبو لهب يده، فضرب بها وجهي ضربة شديدة، فثاورته (أي: فعاركته)، فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك على يضربني، وكنت رجلًا ضعيفًا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة، فعلت في رأسة شجة منكرة، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده، فقام موليًا ذليلًا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته (وهي: قرحة تتشاءم بها العرب)، فتركه بنوه، وبقي ثلاثة أيام لا تقرب جنازته، ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم دفعوه بعود في حفرته، وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه.
هكذا تلقت مكة أبناء الهزيمة الساحقة في ميدان بدر، وقد أثر ذلك فيهم أثرًا سيئا جدًا، حتى منعوا النياحة (أي: البكاء) على القتلى؛ لئلا يشمت بهم المسلمون.
ومن الطرائف، أن الأسود بن المطلب أصيب ثلاثة من أبنائه يوم بدر، وكان يحب أن يبكي عليهم، وكان ضرير البصر، فسمع ليلا صوت نائحة، فبعث غلامه، وقال: انظر هل أحل النحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة (ابنه) فإن جوفي قد احترق، فرجع الغلام وقال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فلم يتمالك الأسود نفسه، وقال:
أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم
السهود
فلا تبكي على بكر ولكن على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكي إن بكيت على عقيل وبكي حارثا أسد الأسود
وبكيهم، ولا تسمي جميعا وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال ولولا يوم بدر لم يسودوا
الاسم :
البريد الالكتروني :  
عنوان الرسالة :  
نص الرسالة :  
ارسال